منشور في الملحق الثقافي جريدة الدستور (الأردن) الجمعة 25/6/2010
تزهو كثيرٌ من الجامعات الأوروبية بتاريخها العريق في
تدريس اللغة العربية منذ قرون، لكن مئات السنين من تدريس اللغة العربية في
الجامعات الأوروبية لم تكن حافلة جميعها بما نعرف اليوم من إجراءات تدريس اللغات؛
فقد كانت الجامعات الأوروبية ما تزال غضّة العود، وكانت الأنظمة والمناهج
والأساتذة والطلبة... وحتى المباني الجامعية ما تزال هي الأخرى في طور نشأتها، هذا
إذا لم نغفل عن جانب مهم وهو أن التعليم في ذلك الحين لم يكن منتشراً إلا بين
جدران الأديرة وقصور الأغنياء.
لقد بدأ إنشاء الجامعات الأوروبية على نطاق محدود في
القرن الثاني عشر تقريباً، على غرار كثير من الأنظمة التعليمية المتبعة في
الجامعات الإسلامية منذ القرن التاسع على الأقل، وكانت مناهجها عادةً تنحو نحو
الدراسات "الكلاسيكية" واللاهوتية، أما تدريس العربية في أوروبا الذي
يمكن أن يكون بداية التأريخ الحقيقي للاستشراق فيعود إلى القرار الذي أصدره مجمع
فيينّا الكنسي أوائل القرن الرابع عشر، ويدعو إلى تدريس اللغات الشرقية -ومنها
العربية- في جامعات باريس وأكسفورد وبولونية وشلمنقة، استجابةً للدوافع الدينية وتحت
تأثير ازدهار دراسات الكتاب المقدس، إلى جانب دوافع أخرى لا تقلّ عنها أهمية.
كانت أكسفورد إحدى الجامعات التي شملها القرار، ومن منا
لم يسمع بأكسفورد؟ وهي أقدم الجامعات على الإطلاق في العالم الناطق بالإنجليزية،
وتتمتع بسمعة علمية ومكانة رفيعة على مستوى العالم منذ مئات السنين، وهي في نفوس
طلبة العلم -حتى اليوم- حلمٌ عزيزُ المنال لا يقدر على تحقيقه إلا المتميزون.
بيد أن بدايات تدريس اللغة العربية في هذه الجامعة كانت
من الأمور الطريفة، شأن كل البدايات تأتي من مستصغر الشرر، لكنها مع ذلك تدعو حقاً
إلى التأمل في الجهد الذي بذله أهلُ الجامعة، من الأساتذة والإداريين، حتى نالت
سمعتَها تلك على مستوى العالم.
************
ظهرت أكسفورد أول أمرها في القرن الثاني عشر، وهي واحدة
من الجامعات الأوروبية التي نـمَتْ تلقائياً من مدارس وكليات كانت موجودة من قبل، وكان
مما ساهم في نموها منعُ الطلبةِ الإنجليز سنة 1167 من الالتحاق بجامعة باريس، التي
كانت مقصدهم للدراسة، فعاد الطلبةُ أدراجهم واستقروا في أكسفورد. وهي تضم أقدم
مكتبة في بريطانيا، مكتبة سانت ماري التي بنيت عام 1320 ثم تحولت إلى مكتبة
بودليانا الشهيرة.
ولكنْ حين صدر قرار مجمع فيينّا يبدو أنه لم يؤخذ على
محمل الجد ولم يوضع موضع التنفيذ في أكسفورد أول الأمر؛ واستمر ذلك حتى تأسيس كرسي
اللغة العربية في الجامعة سنة 1636، الذي جاء بعد أربع سنوات على تأسيس كرسيٍّ مماثل
في جامعة كامبردج المنافسِة.
وتنبغي الإشارة إلى أن عدداً من الملحوظات يجب أن تحضر
في البال حين الحديث عن تدريس العربية في أكسفورد، منها ملحوظة عامة وهي أن تدريس اللغة
العربية هناك أو اللغات الشرقية عامة لم يكن يعني –كما يعني اليوم- الحصول على درجة
جامعية في مثل هذا التخصص؛ لأن ذلك لم يكن ممكناً في إنجلترا حتى سنة 1873 حين
منحت كامبردج مثل هذه الدرجة.
ومن الملحوظات كذلك أنه كان من المعتاد للأستاذ الذي
يشغل كرسي العربية أن يبقى بلا محاضرات وبلا طلبة مدةً من الزمن قد تمتد لسنوات؛
ففي ذلك الوقت لم يكن من وظيفة الأساتذة الأساسية تعليم الطلبة، بل كان الأساتذة
عادة ما ينهمكون في بحوثهم الخاصة، ويصرفون جلّ اهتمامهم ومعظم وقتهم في الإفادة
من المصادر والكتب العربية المتاحة.
وتثير الملحوظة الثالثة قدراً من التساؤلات عن أعداد
الطلبة الذين أقبلوا على دراسة اللغة العربية، والمواد والمناهج التي اعتمدوا
عليها في دراستهم، والأساتذة الذين اضطلعوا بأعباء تدريس العربية في أرضٍ غير
أرضها ولغير أبنائها وفي زمن غير زماننا... زمن لم تكن فيه القواميس والمعاجم
متوافرة للطالب كي تُعِـينَه على تعلُّم اللغات، ولا كتب مطالعة أو غيرها من أدوات
ووسائل يستعين بـها طالبُ العربية غير العربي على تعلُّم هذه اللغة. في زمن كانت
فيه صناعةُ النشر وطباعة الكتب ما تزال حديثة نوعاً ما، وخاصة ما يتصل منها بطباعة
الحروف العربية التي ظهرت في ثمانينات القرن السادس عشر، وفي زمنٍ كانت الكتبُ فيه
تُربَط بالسلاسل على نحوٍ معين في مكتبات الأديرة، وفي زمنٍ لم تكن المكتبات
الجامعية أو العامة قد تأسست بعدُ، وكانت الكتب في أغلبها ذات مواضيع دينية، وفي
زمن كانت فيه نسبة القراء ما تزال محدودة جداً ومحصورة في طبقات بعينها.
ويضاف إلى هذا كله، أنه على الرغم من تأسيس منصب كرسي
اللغة العربية في أكسفورد منذ القرن السابع عشر، إلا أن تأسيس كلية منفصلة للغات
الشرقية جرى أواخر القرن التاسع عشر، وأصبحت بعد الحرب العالمية الثانية كليةً للدراسات
الشرقية، من أجل توسيع نطاق الاهتمام ليشمل التاريخ والثقافة وسواهما من آثار
الشرق لا اللغات والآداب فقط.
ومع ما قد تشير إليه مثل هذه التفاصيل من ضعف تدريس
العربية في أكسفورد، عكس الصورة التي نتخيلها، إلا أن القرن السابع عشر مع هذا كله
كان عصراً ذهبياً للعربية بلا منازع في تاريخ الاستشراق في إنجلترا تحديداً،
ممثلاً في جامعتيْها آنذاك: كامبردج وأكسفورد. فحين أطل القرن السابع عشر -قبل نحو
أربعمائة سنة- لم يكن في أكسفورد ما يكفي من استعدادات لتدريس اللغة العربية، لكن
العمل على إعادة تفسير الكتاب المقدس من جديد -إبّان حركة الإصلاح الديني- دفع إلى
قراءة نصوصه المكتوبة بالعبرية، فوجد اللاهوتيون أن العربية تمدُّ لهم يد العون في
فهم العبرية. فكان مبتدأ أمر الاعتناء بمعرفة اللغة العربية.
*************
من اللافت للنظر أن اهتمام أوروبا الشديد بمعرفة اللغة
العربية والاطلاع على آثار العرب المكتوبة كان من ورائه أحياناً بعضُ الشخصيات المشرقية
التي ساهم حضورها على مسرح الاستشراق في دفع تعليم العربية في أوروبا، ولها كذلك
فضلٌ كبير حتى اليوم؛ ذلك بأن من المظاهر المهمة في عالم الاستشراق دخول العرب
والشرقيين أنفسهم في الهيئات التدريسية في الجامعات الأوروبية، مما أثَّر في تنشيط
تدريس الإسلام واللغة العربية.
وكان من تلك
الشخصيات في أكسفورد يوسف "أبو ذقن" القبطي المصري، الذي قدِمَ إليها
سنة 1610 وطال مقامه فيها لثلاث سنوات، وكان أول مَن علَّم اللغةَ العربية هناك،
وهو من الشخصيات الشرقية المثيرة؛ فقد كان عددٌ من الرهبان اللبنانيين قد زاروا
أوروبا من قبل، لكنهم لم يتجاوزوا -إلا نادراً- في مقامهم مدينة روما مقر
البابوية، ولم يرتحلوا أبعد منها، لكن "أبو ذقن" اتخذ من روما منطلقاً
لتنقلاته في القارة الأوروبية، متخِذاً من تدريس اللغات الشرقية وسيلةً يعرض بـها
خدماته على (مضيفيه) في البلدان الأوروبية.
وقد أسعده الحظ أن كانت رحلته إلى أوروبا قد وافقت
بدايات القرن السابع عشر الذي شهد نمو الاهتمام بمعرفة اللغات الشرقية، التي كان
المسيحيُّ الشرقي فيها موضع ترحيب وإجلال في أوروبا بسبب معرفته اللغة العربية.
كان يوسف "أبو ذقن" قد وصل روما سنة 1595
وفيها تحول إلى الكاثوليكية وتعلم الإيطالية وأتقنها، وتعلَّم كذلك اللاتينية
واليونانية، ومن روما انتقل بعد سنوات إلى بلدان أوروبية عديدة، عمل فيها معتمداً
على معرفته باللغات الشرقية التي لم تكن كافية على أي حال. وقد سنحت له الفرصة في
البلدان الأوروبية التي زارها أن يلتقي عدداً من المستشرقين المعروفين، فقد انتقل
من روما إلى باريس مترجماً في البلاط الملكي، والتقى هناك بالهولندي إربينوس سنة
1609، والتقى كذلك بالفرنسي إسحق كازوبون أمين المكتبة الملكية، واستيفان هوبرت طبيب
الملك هنري الرابع، الذي كان مهتماً باللغة العربية كونه يعمل طبيباً...وقد وجد
هؤلاء في "أبو ذقن" فرصة مواتية لا تصحّ إضاعتها لتعلّم العربية حتى وإن
كانت بالعامية!!
استطاع "أبو ذقن" بفضل مواهبه أن يحصل من
باريس على توصية من أجل الذهاب إلى إنجلترا، وهو أمر متعارف عليه في أوروبا آنذاك
وحتى اليوم، وقد حمل توصية أخرى من أسقف كانتربري في إنجلترا، ومن أمين مكتبة
أكسفورد (بودليانا) توماس بودلي، الذي كان متحمساً لكي يعمل "أبو ذقن"
في تدريس العربية في الجامعة. وكانت مكتبة بودليانا مثلاً حين تولى أمرها بودلي هذا
سنة 1600 غرفةً واحدةً فقط، وليس فيها كتاب بأي لغة قط؛ بسبب الاضطرابات الدينية
التي أصابت البلاد منذ منتصف القرن السادس عشر!!، لكنْ حين عادت المكتبة وفتحت
أبوابها من جديد سنة 1602 كانت تضم مخطوطة شرقية واحدة هي نسخة من القرآن الكريم،
أما في نهاية القرن السابع عشر فقد ازدادت مقتنياتها الشرقية في مختلف حقول
المعرفة إلى نحو ألف وأربعمائة كتاب.
ومن المثير أن نعرف أن يوسف "أبو ذقن" قد قدَّم
بعض الدروس في تعليم العربية، لكن اللغة العربية التي أعطاها لبعض الطلبة في
أكسفورد كانت العامية المصرية؛ إذ إنه لم يكن يتقن الفصحى ولا يملك من أمرها
شيئاً، وهذا ظاهر جليّ في بعض رسائل له ملآى بالأخطاء من كل نوع، كتَبَها بخط يده غير
الرشيق وبأسلوبه الركيك، أرسلها إلى المستشرق ويليام بدويل في أكسفورد، وظاهرٌ
كذلك في رسائل أخرى متبادلة بينه وبين المستشرق الهولندي توماس إربينوس.
أمضى "أبو ذقن" في إنجلترا ثلاث سنوات تقريباً
درَّس فيها العربية لبعض المهتمين، لكننا لا نعرف من هم هؤلاء، ولا تسعفنا الوثائق
القليلة الموجودة في تبيان أعدادهم، فهو يشير في رسالةٍ إلى إربينوس إلى أن لديه
بعض مَن يدرّسهم العربية، لكنه لا يذكر سوى واحد منهم كان قد وصفه أنه عالمٌ بكثير
من العلوم والألسن، هذا إلى جانب أنه ليس هناك ما يؤكد عدد الدروس والمحاضرات التي
ألقاها فعلاً وماذا قدم فيها، ويظهر من بعض رسائله الأخرى أنه أمضى معظم وقته في
لندن لا في أكسفورد، مما يجعل عمله الفعليّ هناك موضع نظر.
*********
ثم غادر "أبو ذقن" إنجلترا سنة 1613 ولم يعد
إليها، وحين ترك أكسفورد بقيت الجامعة دون دروس في اللغة العربية لثلاث عشرة سنة، حين
قدوم أستاذ الرياضيات الألماني ماتياس باسُرْ، الذي كان قد نُفي من ألمانيا بسبب
الحرب، وانتقل إلى ليدن، حيث أمضى بصحبة إربينوس شهراً تعلَّم فيه اللغة العربية،
ومن ليدن قدِم إلى إنجلترا سنة 1624، ثم غادرها إلى باريس في عملٍ قصير، وقد استغل
وجوده هناك في تعلّم العربية لبضعة شهور على يد أحد الرهبان اللبنانيين وهو جبرايل
الصهيوني.
ثم عاد ماتياس
باسُرْ ثانية إلى إنجلترا فألقى بعض المحاضرات العامة في أكسفورد عن أهمية تعليم
اللغة العربية لفائدتها في دراسة الكتاب المقدس، فهي برأيه ابنة العبرية، هذا إلى
جانب انتشارها الجغرافي الواسع؛ إذ كانت العربية في ذلك الزمان لغة الأرض من الهند
حتى المغرب، وعلى ذلك فمعرفتها ضرورية من أجل الحوار مع الشرقيين وتفنيد
معتقداتهم! ومعرفتها مفيدة كذلك لطلبة العلم؛ لأن معظم مصنفات الطب والرياضيات
والفلسفة ... مكتوبةٌ بها. كما قدّم باسُرْ مجموعةً من الدروس في تعليم العربية،
اعتمد فيها على كتاب (النحو العربي) الذي وضعه إربينوس، وكتاب (الأمثال العربية)
التي نشرها إربينوس كذلك.
ولكن ألا يحق لنا أن نتساءل: ما هو نوع تعليم اللغة
العربية الذي يمكن أن يقدمه أستاذٌ تعلَّمَ اللغة العربية في شهر واحد بصحبة
إربينوس؟ وإربينوس نفسه هو المستشرق الذي تكشِف بعضُ رسائله التي كتبها بالعربية
عن محدودية إتقانه لها. وما هو نوع العربية التي يمكن أن يقدمها مَنْ تعلَّمَها في
بضعة شهور على أحد الرهبان اللبنانيين في باريس؟ يبدو أن ماتياس باسُرْ -حسب رأي
بعض المؤرخين- كان مستعداً للقيام بتدريس أي موضوع يمكن للجامعة أن تسمح له
بتدريسه، سواء أكان في الرياضيات أو اللاهوت أو الجغرافيا أو الفلسفة أو اللغات
الشرقية.
إلا أن عمله في
تدريس العربية في أكسفورد لم يكن سيئاً على أي حال؛ إذ قام مثلاً بتعداد الكتب
العربية الموجودة في مكتبة بودليانا، وهذه المحاولة من جانبه تقفنا على فقر المكتبة
في ذلك الوقت وعدم كفايتها لتكون مُعِيناً له أو لغيره في تدريس العربية تماشياً
مع قرار فيينّا السابق ذكره. وجدير بالذكر أن ماتياس باسُرْ قد طالَب بتأسيس كرسيٍّ
دائم للغة العربية في أكسفورد، لكن طلبه لم يلق تجاوباً حينها، فسبَـقَـتْها إلى
ذلك جامعةُ كامبردج.
ثم غادر باسُرْ أكسفورد إلى جروننخن سنة 1629، وعمل فيها
أستاذاً للفلسفة حتى وفاته بعدها بنحو ثلاثين سنة،لم يُعرف عنه خلالها أنه اهتم
بالدراسات الشرقية أو باللغة العربية!! فعادت أكسفورد بعد مغادرته إلى ما كانت
عليه قبل وصوله؛ إذ لم يكن هناك استعداد كافٍ لتدريس العربية، ولا مصادر كافية
مطبوعة أو مخطوطة.
********
أما المرحلة التي شهدت نموَّ الدراسات العربية في
أكسفورد، فتبدو في العمل الذي أنجزه رئيس الجامعة الأسقف وليام لود الذي تولى
رئاستها بين 1630-1641 ومنَحَ الدراسات الشرقية فيها الكثير مما أينعت ثماره لاحقاً:
فقد أولاها عناية خاصة مع أنه لم يكن مستشرقاً، لكنّ الصداقات التي جمعتْه مع عدد
من المستشرقين جعلتْه يهتم بالدراسات الشرقية، وتجلى هذا الاهتمام في إنشاء كرسي
العربية في الجامعة -الذي ما زال يحمل اسمه-، والعملِ على جمع المخطوطات الشرقية، التي
كانت سبباً فيما تلا من اعتناءٍ بدراسة اللغة العربية وازدهارٍ لها في أكسفورد. ونجح
في استصدار قرار ملكي يقضي بألا تعود أي سفينة من المشرق إلا وهي تحمل مخطوطة
شرقية واحدة على الأقل، بالعربية أو بالفارسية، غير القرآن الكريم الذي تتوفر
المكتبةُ على نسخٍ عديدة منه. كما عمل أيضاً على ابتعاث بعض المستشرقين إلى الشرق
في سبيل هذا الهدف، وقد نجح في مسعاه، فكانت المخطوطات التي جمعوها نواة المجموعة
الشرقية في بودليانا، وكانت أولاها مجموعةُ لود نفسه التي تضمنت 127 كتاباً
عربياً. وقد فكر لود بتأسيس مطبعة للكتب الشرقية في أكسفورد التي كانت ما تزال تعتمد
على غيرها من المطابع الأوروبية لطباعة الحروف العربية أو القيام بذلك بخط اليد
مثلاً.
وكان لود قد عمل كذلك على إقرار تعليمات صارمة نوعاً ما
بشأن تعليم اللغة العربية، منها إجبار طلبة البكالوريوس من مختلف التخصصات على
حضور محاضرةٍ في اللغة العربية مرة في الأسبوع، هذا إلى جانب فرض غرامة مالية على
كل طالب يتغيب عن تلك المحاضرات، وتُستعمل هذه الغرامات في تزويد المكتبة بكتب عربية.
ولا ينبغي أن تكون تلك التعليمات مستغربة لديكم -أيها
القراء- لأن اللغة العربية في ذلك الزمان كانت لغة مصنفات العلوم البحتة
والتطبيقية، وكانت تلك المصنفات قد بقيت مناهجَ للتدريس في الجامعات الأوروبية
لعدة قرون، إلى أن استوت ثمار النهضة الأوروبية على سوقها، فأنكرت فضل من سبقها من
حضارات!
************
إن الجهد المبذول في محاولات تدريس اللغة العربية في
أكسفورد يبدو جميلاً، ويكتسي لوناً وردياً ينتشي لسماعه أبناءُ العربية، ولكنْ هل
نُفِّذت مثل هذه التعليمات حقاً؟ تبدو الإجابة عن ذلك غير إيجابية! فما نعرفه هو
أن معظم الطلبة لم يعرفوا عن العربية شيئاً، واقتصرت محاضراتها على الطلبة الراغبين في دراستها.
لكنّ ذلك لا
يمنع أن تأسيس كرسي العربية في الجامعة هو إنجاز تحقَّق به للجامعة الكثير مما
يمكن أن يقال في دعم تعليم اللغة العربية، وفعلاً استطاعت الجامعةُ ذلك بفضل أول
من تولى هذا المنصب وهو المستشرق إدوارد بوكوك الأب.
ثم حدث أن ضعفت العناية بالعربية هناك أخريات القرن
السابع عشر؛ في ظل ظروفٍ سياسية لحقت البلاد، وفي ظل تراجع الاهتمام بدراسات
الكتاب المقدس التي أخذت تفقد مكانتها أمام العلوم التجريبية ومناهج البحث العلمي
الناشئة، فطُويت بذلك صفحة مشرقة من تاريخ اهتمام أكسفورد بتعليم العربية، ولكن
حتى حين.