أرشيف المدونة الإلكترونية

الأحد، 3 أكتوبر 2010

خطبة 5: الرحلة بين الأمس واليوم



الخطبة ( 5 ) 
الهدف: نوِّع الصوت

الرحلة بين الأمس واليوم

...أشعث أغبر... مهلهل الثياب...تكاد لا تتبيَّن ملامـحه...هكذا كانت حال المسافر قديماً كما صوَّرَتْـها الكتب لنا، كان المسافر أو الرحالة يسمع بأقصى الأرض وأدناها فيعزم أمره على أن يضرب في الأرض تجوالاً وسفرا، فكيف كان يستعد لمثل ذلك الأمر؟ وكيف يستعد المسافرُ اليومَ لمثله؟ 
..كان المسافرُ يسمع بالبلاد الأخرى وآثارها وسكانها، لكنه كان يرسم لها صورة في ذهنه ليقرّبها إلى نفسه، وليس في ذهنه عنها إلا ما يجودُ به خياله ..وقراءاته..لا صورة (فوتوغرافية) ولا تقارير (تلفزيونية) ولا رحلات (افتراضية).
واليوم.. معظمكم عاد من الإجازة الصيفية وفي جعبته أخبار من رحلة قضاها هنا أو هناك برفقة الأهل أو الأصدقاء. فكيف كان استعدادكم للسفر؟
..هناك تفاصيل في حياتنا اليومية لا نتوقف عندها طويلاً بحكم الاعتياد والألفة، لكنها في الحقيقة -وفي موضوع السفر خاصة- تفاصيل مثيرة ، ولو تخيلتَ أنكَ تحدِّث بأخبارها إنساناً من القرون الخالية لظنَّ أن مساً من الجنون أصابك أو أنك على رأي المصريين (تاكل بعقله حلاوة)!
فنحن في هذا الزمان نعرف قبل أن نسافر إلى أي بلد صورةَ تلك البلاد، وهي متاحة لنا بوسائل عديدة، نشكر عليها العم (جوجل إيرث)؛ الذي جعل من الأماكن والطرق المؤدية إليها وخرائط تحديد المواقع وغيرها...بين أيدينا.
ثم إننا يمكن لنا كذلك أن نجلس إلى الحاسوب، في البيت ونقوم بعمليات الإعداد للسفر جميعها قبل أن نسافر: نشتري التذاكر.. ونختار أماكن الإقامة ابتداء من الغرف والشقق والمرافق الصحية ..ونعاينها بالصور العادية أو الزيارة الافتراضية .. وربما في المستقبل نتمكن من معاينة حتى مرتبة السرير أمريحة هي أم لا؟ 
كما يمكن لنا اليوم أن نعرف الأماكن المحيطة بالمكان الذي سننـزل فيه أثناء السفر من مطاعم وأماكن للتسلية والترفيه ومواقع تاريخية...وغيرها مما يستحق الزيارة.
ويتاح لنا اليوم أيضاً فرصة قراءة آراء الناس الذين زاروا تلك الأماكن ونزلوا فيها، فنستفيد من تجاربهم ونسترشد بآرائهم في اختيار المكان الملائم للإقامة أو لبدء الرحلة... أو اختيار وسائط النقل المناسبة... وغيرها من خيارات لا تنتهي يحتار المسافر أيها يسلك.
إننا اليوم نسافر إلى أي مكان في الدنيا ونحن نعرف عنه كل شيء تقريبا ..وقد خبِرْنا ربما أهله ومأكولاته وما يمتاز به ..وبقي علينا فقط أن نوجد في المكان نفسه على الحقيقة لا على الافتراض، وأن نشتمَّ روائحه التي لا تستطيع الصور المتوافرة حتى الآن أن تحتفظ بها وتنقلها لنا.
فهل فقدْنا في رحلاتنا اليوم متعة الاكتشاف وروعته التي كان المسافرون قبل عصر الصورة يعيشونها؟!؟ وهل فاتتْنا التفاصيلُ الصغيرة التي كانوا يعيشونها في أثناء رحلة السفر وعند الإقامة في الأماكن الجديدة؟
فهل كان خطَرَ في بال ابن بطوطة مثلا –قبل نحو 600سنة تقريبا- وهو ينوي زيارة بيت الله الحرام ..هل خطر بباله أننا اليومَ نرى الحرم كل لحظة وفي كل حين، وأننا نسمع صوت المؤذن فيه لكل صلاة من صلوات اليوم والليلة، ونستمتع بجولة افتراضية فيه يحملها إلينا الإنترنت والفضاء الرقمي الذي طوى المسافات وقدم لنا الأماكن على طبق من فضاء..
ومع ذلك كله فما زال السفر والترحال قادراً على أن يمنحنا متعة الانتقال ودهشة الحضور وروعة التواجد .. في أماكن جديدة برفقة أناسٍ آخرين؛ فالناس مختلفون باختلاف بقاع الأرض، والناس وحدهم هم الذين يضيفون تلك النكهة المميزة على المكان الذي نزوره في أي بقعة كان.

قال الشافعي :
سافِـرْ تجد عِوَضاً عمن تفارقهُ
وانْصَبْ فإنَّ لذيـذَ العيشِ في النَّـصَبِ
إني رأيتُ وقوفَ الماءِ يفسده
إنْ سالَ طابَ، وإنْ لم يَـجْـرِ لم يطبِ
والشمسُ لو وقفتْ في الفُلْكِ دائمةً
لَـمَـلَّها الناسُ من عجـمٍ ومن عربِ