أرشيف المدونة الإلكترونية

الاثنين، 4 أكتوبر 2010

"هنا يسكن قلبي" ..في أمسية موسيقية أندلسية

كان محبّو الموسيقا في أبو ظبي على موعد مساء السبت 3/10/2009 مع أمسية موسيقية أندلسية (عربية-إسبانية) قدَّمتْها هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث على هامش مؤتمر "لماذا نصون تراثنا الموسيقي للمستقبل؟" الذي نُظِّم بمناسبة انطلاق (مركز العين للموسيقى في العالم الإسلامي).
وفي تلك الأمسية أطربتْ الفنانة وعد بوحسون بأناملها العذبة وصوتها الشجيّ جمهورَها، على نغمات العود بكلماتٍ منتقاة بعناية من أجمل ما جاد به كبارُ شعراء الأندلس، وقد رافقها في هذه التحفة الفنية المتألقة مغني الفلامنكو "كرو بينانا" بمصاحبة العازفيْن "كارلوس بينانا" و"ميجل آنجل أورينجو" لتملأ ألحانُهم أجواءَ المسرح، وتتردد في جنباته الأشعارُ العربية باللغة الإسبانية، في مشهد احتفالي استغرق ساعة من الزمان، كان قطعةً من حلمٍ مرَّ سريعا وما بقي منه إلا حلوُ مذاقه يحدّث عن أخباره!


…لا يستطيع المتابعُ لهذه الأمسية، التي حضرتْ فيها الأندلسُ بقوة، إلا أن يرى في الأندلس ما يرفضه بعضُنا، بدعوى جلد الذات ومحاكمة التراث وإعادة قراءة تاريخنا من جديد والنظر إليه بعينٍ لا تغضُّ الطَّرْفَ عن أيٍّ من عيوبه؛ فالأندلس تظل صفحة مضيئة في تاريخ صلة الشرق بالغرب، حتى وإن عكَّرتْ صفوها بعضُ نقاطٍ قاتمة هنا وهناك.


يشهد على ذلك هذه الأمسية الموسيقية التي كان جمهورها خليطاً من الناس، جمعتْهم -على اختلاف ألسنتهم وألوانهم- الأندلسُ والموسيقا بحضورها القوي على أرض الإمارات: الإمارات التي نرى فيها أندلساً جديدةً بوجهٍ من الوجوه في احتضانها هذا التنوع الثقافي والحضاري، البشري واللغوي على أرضها. ويشهد على ذلك أيضاً ما نراه اليوم وقبل اليوم من إنزال التجربة الأندلسية منزلتها من الحضارة الإنسانية لدى كثير من الباحثين المنصفين في الغرب قبل الشرق؛ إذ كانت الأندلس مثالاً قلَّ نظيرُه في التعايش بين الناس، سواء على مستوى تفاصيل الحياة اليومية أو على المستويات الحضارية والعلمية الأخرى.


ولم يمنع الاستمتاع بأجواء الأمسية الموسيقية الأندلسية، من الإحساس بذلك التناغم الذي خلقه الغناءُ بالعربية حيناً وبالإسبانية آخر… مرةً على نغمات العود ثم أخرى على نغمات القيثارة ومعازف أخرى كانت حاضرةً بنعومة في ألحان الفلامنكو، في مزيجٍ سحري بين الشرق والغرب.


لقد كانت تلك اللحظات، التي عشناها في مسرح الظفرة في المجمع الثقافي بأبو ظبي، بعضاً مما عرفَتْه الأندلس في عالم الموسيقا والغناء الذي أبدع الفن الجديد الذي ندعوه "الموشحات الأندلسية". ولئن اختلفت آراءُ الباحثين واتجاهاتهم في تحديد أصول الموشحات الأندلسية ما بين الشرق والغرب، فإنه لا يمكن إنكار أن هذا الفن الجميل يحمل المذاقيْن في الآن نفسه، ولا مفر أمامنا من الإحساس بمزيجٍ خاص يجعل للموشحات الأندلسية طعمها، وللأشعار الأندلسية حين تُغَنَّى بمصاحبة الموسيقا (الشرقية والغربية) مذاقاً يعرفه كل من يقدر على ملاحظة أثر المغرب في المشرق، بما ينهض دليلاً على تميّز التجربة الأندلسية في التعايش الحضاري والتنوع الثقافي.


ولا تخلو تجربة التعايش مع الآخر في الأندلس من عيوب اقتضتها طبيعةُ النفس البشرية؛ إذ كان من المستحيل - في الأندلس كما في غيرها- أن تكون تجارب المسلمين في صلتهم بالآخر على صعيد واحد، بل إن هذه التجارب متفاوتة من عصر إلى عصر وفق طبائع الأمور.


ولو نظرنا إلى أمثلةٍ بسيطة من الصلات بالآخر التي تمتلئ بها مصادر التاريخ الأندلسي، لوجدناها من الكثرة بحيث تدل على ما وصلت إليه النظرة المنفتحة لدى المسلمين في تلك الديار تجاه الآخر، وما التعامل اليومي في مناحي الحياة المختلفة بين المسلمين وغيرهم هناك: كالبيع والشراء، والعمل، والزواج، وعلاقات الجوار، والمناسبات الاجتماعية والدينية، والموسيقا والرقص والغناء، وتولّي مناصب رفيعة المقام في الحكومة الإسلامية…وغيرها مما يصعب استقصاؤه - إلا أمثلة على ما كانت عليه صلةُ المسلمين في الأندلس بغيرهم على تلك الأرض من المسيحيين واليهود. هذا إذا أخذنا في الحسبان أن منطق التعايش واحترام الآخر الذي يطغى في عالمنا المعاصر، لم يكن متداولاً في الأزمان الماضية، وما كان مفهوماً لأهل تلك الأزمان كيف يمكن قبول الآخر المختلف دينياً بالدرجة الأولى.


فشكراً لهيئة أبو ظبي للثقافة والتراث على تلك الأمسية الأندلسية الرقيقة التي أهدتْنا سكوناً في أرواحنا بقدر ما أثارت من شجون وذكرى.