نص الكلمة التي ألقيتُها في لقاء مناقشة كتاب الأدب الأندلسي في الدراسات الاستشراقية البريطانية
التي عُقدت في منتدى الفكر العربي في عمان مساء الإثنين 10/2/2014 بإدارة أد. صلاح جرار، تعقيب أ. د فايز القيسي وبمشاركة نائب أمين عام المنتدى الأستاذ كايد هاشم
بسم الله الرحمن الرحيم وبه
أستعين
حكايتي مع
هذا الكتاب
..كمثل طلبة
الدكتوراه نبحث عن موضوعٍ معين للأطروحة حين يحين أوانُها .. وما زالت ترنُّ في
أذني كلمات أستاذنا العلامة ناصر الدين الأسد -حفظه الله- (اكتبوا في مواضيع
تصبحون أنتم مرجعاً لها) .. لكنْ من أين يأتي طالب دكتوراه - على ما أوتي من علم
وأسباب - بموضوعٍ كمثل هذا ؟ وهل يقدر عليه كثيرون ؟
هذه الليلة وفي مقام إسداء الشكر
إلى أهله أبدأ أولاً بشكر أستاذي الكبير أ.دصلاح جرار الذي اقترح عليّ الاستشراق
البريطاني عنوانا للبحث عن صلته بالتراث الأندلسي... وهكذا كانت البداية.
لقد كان الموضوع مثيراً لكثير من التساؤلات؛ حين استوقفني أنــه " ليس لاسم بريطانيا – للوهلة الأولى - صدىً في مقامٍ تُذكر فيه الأندلس والتراث الأندلسي إلا فيما ندر" وكان ذلك دافعاً لمزيدٍ من البحث والتنقيب في تراث المستشرقين، وباباً لأبوابٍ كثيرة ولجتُ منها ، لأخرج في بداية المطاف بخطة عمل مقترحة لفصول الكتاب الذي بين أيديكم.
وكان من طرائف دراستي بمجملها
أنها كانت على مرحلتين : مرحلةٌ في الجامعة الأردنية في السنة الأولى والثانية ، ومرحلة
ثانية لدى كتابة الأطروحة التي كانت - بحكم
إقامتي - في الإمارات العربية المتحدة، وهنا في هذا المقام أزجي الشكر لأهله من
الجنود المجهولين في المكتبات : مكتبة الجامعة الأردنية في عمّان، ومكتبة دار
الكتب الوطنية في أبوظبي، وكانت لي خير معين، وهي إحدى مؤسسات الجهة الناشرة لهذا
الكتاب: هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة..
فكان مشوار المكتبة اليومي فرصة
للقاء الكتب المطبوعة منذ قرون في أوربا بأغلفتها الجلدية وزخرفها المميز ... وفرصة
للتنقيب في صفحات الكتب الكثيرة القابعة على الرفوف، بانتظار من يحنو عليها،
يحملها بين يديه، ويقلّب صفحاتها، وينظر في سطورها.
وقد اضطرتني قلة المادة التي
تربط الأندلس ببريطانيا إلى أن ألتمس أدنى الإشارات وأصغرها إلى الأدب الأندلسي في
السجلات البريطانية حتى وصلتُ إلى البدايات ، وكانت مع نشر حي بن يقظان
لابن طفيل الأندلسي وترجمتها إلى اللاتينية على يد المستشرق إدوارد بوكوك الابن
سنة 1671.
ثم انفتحت الأبوابُ على فضاءاتٍ
أخرى وأعمالٍ تالية للمستشرقين البريطانيين حول تراث الأدب الأندلسي نشراً وتحقيقاً
وترجمة، إلى أن وصلتُ مطلعَ القرن الحادي والعشرين بالوقوع على أعمال جيدة كمّاً
ونوعاً للمستشرقين البريطانيين .
********
أما الكتاب
فيجمع بين دفَّتَــيْه العناوين التالية موزَّعة في بابيْن، يندرج تحت كلٍّ منهما عددٌ من
الفصول عن منجزات المستشرقين والباحثين في بريطانيا في دراسة الأدب الأندلسي، وذلك
على النحو التالي:
يمثل
الباب الأول توطئة عامة ونظرة تاريخية حول صلة الاستشراق البريطاني بالدراسات
الأندلسية، قدمتُ فيه مدخلاً عاماً عن دراسة اللغة العربية في أوروبا منذ
العصور الوسطى ، ثم صلة الاستشراق البريطاني بالتراث العربي الإسلامي من
حيث الاهتمام بالدراسات العربية والإسلامية في إنجلترا منذ القرن السابع عشر،
مروراً بالحديث عن أنشطة أخرى في بريطانيا دعمتْ العنايةَ بالدراسات العربية هناك
على نحوٍ خاص، وهي جمع المخطوطات والمكتبات الجامعية. ثم خَتَمتُ الفصل بملحوظاتٍ عامة على صلة الاستشراق
البريطاني بالتراث العربي.
أما
الفصل الثاني من الباب الأول فكان في بيان مظاهر عناية المستشرقين البريطانيين
بالتراث الأندلسي، وقد تتبَّعَ مسيرة الدراسات الأندلسية في بريطانيا ضمن سياق
الاهتمام بالدراسات العربية والإسلامية، إذ لم تكن العناية بالدراسات الأندلسية
ذات اهتمام خاص هناك؛ وذلك لعوامل عدة منها أن الدراسات الأندلسية نفسها لم تكن
معروفة من المستشرقين في القارة الأوروبية إلا في القرن التاسع عشر؛ نتيجة لنمو
النشاط الاستشراقي الملحوظ في البحوث والدراسات الأندلسية في إسبانيا وفي غيرها من
الدول الأوروبية، وهو النشاط الذي كان له الفضل في الكشف عن الكتب والمصادر
العربية في الأندلس، وإلقاء الضوء على النصوص الأندلسية وأهميتها وأثرها في
التاريخ الأدبي الأوروبي، لكن الاهتمام بالدراسات الأندلسية في بريطانيا لم يواكب
هذا النشاط الأوروبي منذ بداياته إلا على نطاق ضيق.
أما
الباب الثاني فهو في المنجزات العملية والمنهجية للدراسات الأندلسية في
بريطانيا وقد ضم أربعة فصول عالجت تفاصيل الأعمال التي قدمها المستشرقون
البريطانيون في دراسة الأدب الأندلسي، ففي الفصل الأول محاولة لاستقراء أعمال
المستشرقين البريطانيين في دراسة الأدب الأندلسي وتصنيفها، وبيان مقدار الجهد
الذي بذله هؤلاء في دراسة الأدب الأندلسي، أما الفصل الثاني ففيه وقوف على مواضيع
الأدب الأندلسي وقضاياه التي خصَّها المستشرقون البريطانيون بالدرس والبحث
ونالت منهم العناية.
ثم
الوقوف في الفصل الثالث على منهج البحث في الأدب الأندلسي لدى المستشرقين
البريطانيين من حيث أصول التحقيق والترجمة، ومرجعيتهم في دراسة التراث الأندلسي،
ومصطلح الأندلس الذي استعملوه في دراساتهم. وكان الفصل الأخير من هذا الباب بحثاً
في اتجاهات المدرسة البريطانية في دراسة الأدب الأندلسي، وضمَّ مباحث
ثلاثة، هي: أولاً ملامح منهجية عامة وَسَمَتْ أعمالَ المستشرقين والباحثين
البريطانيين في دراستهم للأدب الأندلسي وهي: حضور اليهود في دراسة التراث
الأندلسي، وقيود الآراء والأحكام الاستشراقية السابقة، ودراسة الأدب الأندلسي
بصفتها وجهاً من وجوه الدراسات المقارنة.
وثانياً:
ملحوظات حول اهتمام المستشرقين البريطانيين بالتراث الأندلسي، في حين كان
المبحث الأخير في المشكلات التي تحيط بميدان الدراسات الأندلسية في بريطانيا.
********
صعوباتٌ لا بد من الاعتراف بها
يجدر في هذا المقام الاعتراف بفضل (الإنترنت) على البحث
العلمي في حياتنا المعاصرة، الذي يتيح تذليل بعض الصعوبات في الحصول على المصادر
قديمها أو حديثها؛ بما توفره هذا الأداة عن طريق الشبكة العالمية العامة أو من
خلال مواقع المؤسسات العلمية - ومنها موقع الجامعة الأردنية ومؤسسات جامعية وعلمية
أخرى - من إمكاناتٍ تجعل الباحثَ يزورُ مكتباتِ الأرضَ وهو في مكانه، ويتصفح
المصادر المخطوطة والمطبوعة من غير أن يلمسها بيديه.
ولكن ذلك لا يذلل كل العقبات، فمن الصعوبات الأخرى التي أجدني
مضطرة إلى الاعتراف بها: أن دراسة المصادر بلغاتها الأصلية هي عملية قد توصف بأنها
من " السهل الممتنع" مهما بلغت درجة تمكّن الباحث من اللغة الأجنبية أو
مستوى إجادته لها؛ وإذ أشيرُ إلى ذلك فإنه لا يمنع من القول إنّ قراءة النصوص بغير
اللغة الأم هو في حدّ ذاته أحد التحديات التي تواجه الباحثين في موضوعٍ من مثل
موضوع هذا الكتاب؛ فالرجوع إلى المصادر الأجنبية سواء من ناحية المصادر الأولية
للمادة أو من ناحية مراجعها المساندة للبحث- هو عمل ذو وجهين:
فمن جهة يقدم هذا العمل فرصة فريدة بالرجوع إلى روح
النصوص الأصلية المراد دراستها - بمفرداتها ودقائقها وتفاصيلها التي تنطبع في نفس
القارئ - وبإغناء البحث بمصادر ربما تكون ذات آراء جديدة ورؤى مختلفة.
ومن جهة ثانية يبقى الرجوعُ إلى المصادر بغير اللغة الأم
للباحث العربي محفوفاً بالمخاطر، إذ ربما يقع الباحثُ العربي فيما وقع فيه
المستشرقون أنفسهم من قبل؛ حين أساؤوا فهم العربيةِ في نصوصها المدوَّنة أو في
سياقها الاجتماعي وأدى ذلك بهم إلى ما نعرفه جميعاً من أحكام أطلقوها تجاه العرب
والمسلمين على غير هدى.
خلاصة:
إن المدرسة
الاستشراقية البريطانية هي جزء من النظرة الغربية العامة تجاه الأندلس، تتفق معها
في أشياء وقد تفترق في أخرى، إلا أن الملاحظة الواضحة التي تميز عمل المستشرقين
والباحثين في بريطانيا في مجال الدراسات الأندلسية عامة هي أن عملهم ذاك في جانبٍ
منه كان محاولةً لإثبات حضور بريطانيا في هذا المجال من الدراسات، الذي كان حكراً على
مدارس أخرى فيما مضى، وبيان أن اهتمامات بريطانيا بمناطق شرقية محددة - الهند
والمشرق العربي- بناءً على متطلبات نفوذها الاستعماري السابق لا يمنع من ارتياد
آفاق جديدة من البحوث الشرقية.
وليس خافياً
أن الدراسات الأدبية الأندلسية قد بلغت أوْجَهَا عند المدرسة الإسبانية والمدرسة
الفرنسية في المرحلة الاستعمارية المباشرة([1]) ثم تراجعت المدرسةُ الفرنسية بتوجيه الاهتمام
منذ ستينات القرن العشرين نحو قضايا الإسلام السياسي وما شابهها. أما المدرسة
الإسبانية فما زالت تتصدر هذا الميدان من الدراسات حتى اليوم.
إلا أن ذلك
لا يمنع من القول إن المنجزات التي حققها الباحثون الذين ينتمون إلى الهيئات
العلمية البريطانية في مجال الدراسات الأندلسية منجزات جيدة، وتلبي حاجات عدة من
أهمها توفير مادة علمية في البحث الأندلسي باللغة الإنجليزية.
ويبدو ذلك
مهماً في ضوء المقدمة المكثفة والمفيدة التي مهَّد بها نيكل A. R. Nykl لكتابه:
Hispano-Arabic
Poetry and It`s Relations With The Old
Provencal Troubadours
الصادر سنة 1946 حين استعرض في تلك المقدمة مساهمات الأوروبيين في دراسة
الشعر الأندلسي منذ بداية القرن التاسع عشر، فلم يأتِ فيها على ذكر أعمال في هذا المجال من بريطانيا، إلا من
كتابيْن من الكتب العامة صدرا في بريطانيا: واحد لمؤلفهThomas Bourke سنة 1811 والآخر لـ George Power([2]) في 1815 ،
وهما على كل حال ليس بتلك الأهمية في الموضوع، فلم أعثر بـهما في المصادر التي
تؤرخ لدراسة الأدب الأندلسي لدى الأوروبيين.
وكان كلام
نيكل في كتابه ذاك تقريباً منتصف القرن العشرين، أما عند النظر في الدراسات
الأندلسية مع مطلع القرن الحادي والعشرين فإن الصورة قد أصبحت مختلفة تماماً؛ إذ
لا يستطيع دارس الأدب الأندلسي اليوم في أوروبا أن يتجاوز أعمالاً مهمة في هذا المجال
أنجزها باحثون في بريطانيا، كان من أهمها أعمال صمويل شترن وألن جونز في أكسفورد،
التي أغنت موضوع الأدب الشعبي الأندلسي - أي الموشحات والأزجال - بنصوص جديدة،
وأصبحت موضوعاً يستحوذ على النصيب الأكبر من الدراسات والبحوث في الأدب الأندلسي
اليوم بين الباحثين الغربيين.
لقد استطاعت
بريطانيا أن تمدَّ يداً لميدان الدراسات الأندلسية وتضيف فيه إضافات واضحة وإنْ
كان عهدُها به جديداً ؛ لدخولها هذا المجال متأخراً عن غيرها من المدارس
الاستشراقية الأوروبية. كما أن من ميزات هذه الإضافات أنها قد اتخذت لها سمتاً
مغايراً إلى حدٍ ما عما شاع من قبل من نظرات في دراسة الأدب الأندلسي لدى المدارس
الأخرى، باتجاهها إلى دراسة النصوص الأدبية الأندلسية نفسها وبناء الاستنتاجات
عليها دون الاكتفاء بما تقدمه النظريات والمناهج الأدبية التي تعتني بالبحث في
أجواء النصوص.