أدبي... عِلمي.
هي في سنة 2016
ابنتي في سنتها الثانوية الأولى الفرع الأدبي، دخلت الفرع الأدبي عن رغبة ووعي بقدراتها وميولها.
أنا في سنة 1985
كنتُ في سنتي الثانوية الثانية الفرع الأدبي، أيضاً دخلتُ الفرع الأدبي عن رغبةٍ ووعي بميولي وتطلعاتي.
ما بين الأدبي 1985 والأدبي 2016 نحو ثلاثين عاماً ... ولا شيءَ تغير!!
عادتْ من المدرسة غاضبة، تشتعل عيناها بعد مناقشة قديمة-جديدة مع معلمتها، في مسألة سفسطائية تستهلك ولا تنفع: أفضلية (دجاجة) العلمي على (بيضة) الأدبي؟ ذكاء طلبة العلمي أم غباء طلبةالأدبي؟ سعة العقل العلمي أم ضيق العقل الأدبي؟؟
دائرة لا تنتهي من المقابلات غير المنطقية وغير المفهومة ما زالت تحكم منظومتنا التعليمية!! وما يزيد في الوجع أنني وجدتُ ابنتي تعيد على مسامعي ما سمعتُه أنا منذ عقود في الموقف ذاته!! ووجدتُني أقف ذاهلة أمام ذاكرتي والصور التي تراءت لي : تغيرت الدنيا كثيراً، ملامح المدينة نفسها تكاد لا تعرفها، ملامح الناس.. هيئاتهم.. ملابسهم.. حتى طريقة كلامهم تغيرت ...لكنّ ذلك كلَّه ما غيَّرَ شيئاً في عقولهم!
فما زلنا -إلى اليوم- نفاضل بين العلمي والأدبي، ما زالت -إلى اليوم- تلك النظرةُ القاصرة تحكمنا. غاب عن بصيرتنا أن الأمم لا تقوم بتخصص وحيد، ولا تنهض بفئةٍ معينة من العلماء، غاب عنهم أن الأرض لا يعمرها الأطباءُ والمهندسون والصيادلة وأساتذة الرياضيات وعلماء الفيزياء والكيمياء فقط، بل إن الأرض ليست الأرض إذا لم يعمرها كذلك الأدباءُ والفلاسفة، السياسيون والمعلمون، الفقهاء والشعراء، الفنانون والموسيقيون... وليس أصحابُ الشهادات وروّاد دروب المعرفة النظرية هم أصحاب الحق في عمارة الأرض، بل إنَّ الأرض حلالٌ للمزارع والراعي، وللعامل وللبنّاء، وللصانع والحِرْفيّ، ولكلِّ من اقترب من الأرض يهمس لها بيديه، بعرق جبينه، بقدميْه تغوص في الأرض، كأنما يمدُّ جذور الهوى في الأعماق.
هؤلاء جميعا هم أصحاب الحق في عمارة الأرض، ولهم جميعاً -على التساوي- التقديرُ والاحترام ذاته.
ربما كان الذي زاد الطينَ بلّةً أن هذه النظرةَ القاصرة تصدر من المعلمة أمام طالباتها، فإلى متى ستبقى هذه النظرة الاستعلائية لدى معلمي التخصصات العلمية قائمة؟ وللأسف ينقلون بذلك عدوى الجهل من جيل إلى جيل. لا تغرَّنَّك الشهاداتِ الكبيرة ولا الألقاب الفخمة ولا غيرها من مظاهر يستتر خلَفها أمثالُ هؤلاء، وفي حقيقة الأمر الواحدُ منهم لا يتجاوز فهمُه أرنبةَ أنفه!!
كنتُ مثل ابنتي واجهتُ استهجان معلماتي -لأنني كنتُ الثانية على صفي-، خاصة استهجان مربية الصف حين اخترتُ بملء رغبتي الالتحاق بالفرع الأدبي! وقد راجعتْني المعلمةُ عدةَ مرات لتقول لي تمهلي وأعيدي النظر في الاختيار، قبل أن نرفع الأسماء والاختيارات إلى وزارة التربية والتعليم، فيتعذر حينها تغيير رغبتكِ. كان من المستهجن - ويبدو أنه ما زال مستهجناً- أن يتجه طالبٌ متفوقٌ للفرع الأدبي؛ محكوماً بتلك النظرة القاصرة التي تُعلي من شأن الأطباء والمهندسين في المجتمع -في ذلك الحين-، ويظهر أن الأمر لم يتغير كثيراً وإنْ تراجعت أسهم الأطباء والمهندسين اليوم لصالح قطاعاتٍ مهنية أخرى. إلا أن النظرةَ نفسها التي ما زالت تحكم نظرتنا للعلمي والأدبي...لم تتغير!
كنتُ واضحةً في ميولي وطموحي ورغبتي العلمية، وهذا ما انعكس بحمد الله وتوفيقه على مسيرتي العلمية كاملة. ولكن لقد كانت مكافأةُ الجيران والمعارف لي وقت نجاحي وتفوقي في الثانوية العامة، وكنتُ الأولى في مدرستي: (أن التسعين في الفرع الأدبي تعادل السبعين في الفرع العلمي)!!!! "ألا ساء ما كانوا يحكمون"! وكانت مكافأةُ المجتمع أن زملائي في كلية الآداب قد سبقوني إليها في الدفعات الأولى للمقبولين في الجامعة؛ بفعل الوساطات والمحسوبيات والاستثناءات غير العادلة!
ابنتي.. أنا فخورة بكِ وباختياركِ وبإنجازكِ وبقدراتك، فلا تدعي مثل هذه المجادلات العقيمة تقف في طريقكِ وأنتِ بهذا الوعي الذي يدرك أن دروبَ المعرفةِ كلَّها تقود إلى جوهر واحد هو عمارة الأرض وتقدم البشرية. يكفيكِ فخراً أنكِ تدركين هذا وأنتِ في مقتبل العمر، في حين عجزت معلمتكِ كما عجز كثيرون عن هذا الفهم! وكم من تلميذٍ فاق أستاذه!