بقلم: مدلين أحمد/ مدونات الجزيرة
وَقفتُ راكية نصفي على بوابةِ المدرسة في آخر اليوم الدراسي، أنتظر حافلة منطقتي لتنتشلني من بيتي الثاني وتُلقي بي أمام بوابة بيتي الأول. أخرجت من حقيبتي شطيرة الجبن، سَرَحَت صديقتي قليلاً بما في يدي، فاعتقدتُ بأنها تشتهي القليل فمددت يدي فقالت: لا أريد، ولكنك في نهاية كل يوم وفي نفس الموعد تُخرجين شطيرة وتأكلينها، لِمَ تفعلين ذلك وبينك وبين البيت وموعد الغَداء دقائق؟!
أجبتها بأن موعد الغداء يتأخر دائماً في بيتي فلم تقتنع، سَكَتت وقالت: صارحيني؛ هل تملكون طعاماً في البيت؟ ضحكتُ من غرابة السؤال وأجبتها بأن سؤالها سخيف وبالتأكيد نملك طعام، فقالت وهي تُفكر إن كانت ستُحرجني فشجعتها على البوح بما يجول في ذهنها فأكملت: والدتك مُتوفيه وأنت صغيرة ولا تعرفين كيفية إعداد الطعام ووالدك لم يتزوج، فكيف تأكلون؟ لم أفكر وسارعت بالإجابة وقلت بصراحة لم أحسب توابعها: أبي يصنع لنا كل ما نشتهي من الطعام!
لم أرَها تضحك في حياتي بقدر تلك اللحظة واعتقَدَت بأني أمازحها وقالت لصديقتها: والدها يطهو، فالتفتت الأُخرى وقالت: صدقاً كيف تأكلون وأنتم في غُربة بلا أم أو أقارب، هل حقاً والدك يدخل المطبخ - وحاجبها يستهزئ-؟!
لا أدري لِمَ تَعجبَوا، فكرتُ أن أقول لها بأن والدي كان يبحث في دفتر وصفات أمي ويُجرب كل شيء، وحتى أنه تعلم أن يعجن لأكثر من مرة ولم ييأس، لأن أخي الصغير يُحب معجنات أمي وبأنه يُقشر الخُضار ويطبخ الكوسا ويلف أوراق العنب، وبأنه يغسل الأواني ويُلمع الأطباق ويقضي نصف يومه في المَطبخ.
فكرت أن أقول لها بأنه يغسل قميصي الأبيض للمدرسة على يديه خشية أن أخلطه مع باقي الألوان، وإن كان زر القميص يتهاوى من موضعه فكان يبحث عن لون يُناسب قميصي ويسند أزراري؛ أو أن أقول لها بأنه كان يُنظف السجاد بمهارة عالية، وبأنه كان بارعاً في تنظيف أرضية المنزل.
فكرت في أن أقول لها بأنه كان يُنسق لي ملابس العيد بالألوان التي أحب، وبأنه كان يُتابع معي مسلسلاتي السخيفة التي يمقُتها؛ وبأنه يُتابع الحَلَقات التي فاتتني ليُخبرني بمُختصر الأحداث التي لم أكُن أمام الشاشة أرقبها.
فكرت في أن أقول لها بأنه يُنظف شبابيك منزلنا ويَنفض الغبار عن الستائر ويُنزلها ويُرجعها وقد تأخذ يوماً من عمره؛ وبأنه كان يبتاع كل مسُتلزماتي التافهة والتي لا أهمية لها سوى أنها لي.. فكرت أن أقول لها بأنه لا يصعب شيء على أبي ولكنها تظُن بأن من يفعل كل هذا قد يُشبه المرأة؛ بعد كل هذا التفكير غِرتُ على رجولة أبي وقلت: بالتأكيد أمازحك، فوالدي رَجل كوالدك والرجال لا يدخلون المطابخ.. ليتَك يا أباها تقرأ؛ فَبِئس ما قَد زَرَعت..