بقلم د.لانا مامكغ
جريدة الرأي
أحكمتْ وضع الأغطية على أولادها بعد تناولهم السّحور، أعادت الأشياءَ إلى أمورِها في المطبخ، غسلت ما وجبَ غسلُه وترتيبَ ما وجبَ ترتيبُه، توجّهت إلى الفراش، ولم يمضِ وقتٌ حتى استيقظت مذعورة، إذ حسبت أنّ المنبّه قد رنّ دون أن تسمعَه، فقرّرت النّهوض حتى لا يقعَ المحظور ويتأخّر الأبناء عن المدرسة، فعادت لتوقظهم بعد حين، لتساعدهم على الاستعداد ليومٍ دراسيّ جديد، وتمضي إلى عملِها بعد ذلك.
عند انتهاء الدّوام؛ سارعت إلى المنزل، غيّرت ثيابها، غسلت يديها، هرعت إلى المطبخ فوراً وهي تدعو الله أن تتمكّن من إنهاء وجبة الإفطار وتبعاتها قبل الغروب، وفيما هي منهمكةٌ في التّحضير؛ وصلها صوتُ أحد أبنائها طالباً منها مساعدته في فهم إحدى قصائد الشّعر... تركت ما بين يديها وقامت بالمطلوب، ثم عادت إلى طناجِرها، لم تمضِ لحظات حتى دخلَ الزّوج حاملاً معه كميّةً من القطايف وبعض الخضروات... رماها جانباً وهو يقول: «سأغتسلُ وأنام الآن، اعملي القطايف بالجبنة هذه المرّة، وزيدي كثافة القطْر لو سمحتِ، لم تعجبني حلاوة القطايف أمس!»
خرجَ ثم عاد مسرعاً ليضيف: «انتبهي أرجوكِ لكميّة الخلّ والزّيت في الفتّوش، الدّقة ضرورية، وإلا طغى طعم الخلّ، ولا تبالغي في تحميرِ الخبز، سأنامُ أنا الآن...»
بعد قليل، دخل الابنُ الثاني ليسألها عن نظرية «فيثاغورس»... شرحتها له وهي تفرُم كميّة من الخيار، وحين لم يفهم، تركت ما بين يديها، لتجلس معه، وتفسّر له النّظرية، إلى أن تأكّدت أنّه فهم هذه المرّة، عادت مسرعة إلى المطبخ لتستأنفَ عملها وهي تنظرُ إلى السّاعة بذعرٍ كلّ لحظة...
قبيل الغروب بقليل كانت قد سكبت أطباق الحساء، والفتّوش، والوجبةَ الرئيسية، وحضّرت العصائر، وجهّزت القطايف، ثم أيقظت الزّوج...
بعد الانتهاء من الوجبة، جلس هو والأبناء أمام التلفزيون، وبدأت هي بجمع الأطباق، والأكواب، والصّواني، والأوعية، وبدأت بتنظيفها... ثم لمَّعت الغاز، وشطفت أرضيّة المطبخ، حتى جاءها صوتُه يطلب القهوة، سارعت إلى عملها وتقديمها له، ليقول لها وهو مستغرقٌ في مشاهدة أحد البرامج الكوميدية: «حان الوقت لنبدأ بالدّعوات الآن، سأبدأ بأهلي... لقد دعوتهم وهم قادمون غدا للإفطار» ثم أطلق ضحكةً مجلجلة على أحد المواقف المعروضة على الشّاشة الصّغيرة، فيما جلست تفكّرُ وتحسبُ عدد الأشخاص المدعوين، وعدد الأصناف المطلوب تحضيرُها، ومدّة الوقت المُتاح... فقرّرت العودة إلى المطبخ، والبدء ببعض التّحضير استغلالاً للوقت، لكن في لحظةٍ ما، أحسّت بتعبٍ شديد... فتوجّهت إلى السّرير وهي تتعثّر بالأثاث الموجود في الطريق، ونامت بعد أن تأكّدت أنّها ضبطت المنبّه لإيقاظ العائلة على السّحور...
في اليوم التّالي؛ وفيما كانت السّاعة قد قاربت الثانية عشرة، شعرت بالخوف من أنّ السّاعات المتبقّية للغروب قد لا تكفي لإنجاز ما هو مطلوب منها، دخلت على المسؤول المباشر عنها تستأذنه بالمغادرة بعد أن شرحت له السّبب باقتضاب، فقال وهو يحملق في منفضة السّجائر الّلامعة أمامه: «هذا ليس بعذْر يا أختي، ساعات الدوام محدّدة ومعروفة» ثم أردفَ وهو يعبثُ بمسبحتِه بعصبية دون أن يرفع عينَه عن المنفضة» في رمضان كانوا يجاهدون ويغزون ويفتحون البلاد...»
ولم تجد في نفسها طاقة على النّقاش، انتظرت انتهاء الدوام، طارت إلى المنزل، بدأت بالعمل في سباقٍ محموم مع الزّمن حتى جاء وقت الإفطار، حضرَ الضّيوف... أكلوا، وشربوا، وسهروا، وغادروا... لتبقى في المطبخ حتى منتصف الليل فتنهي شؤون التّنظيف وإعادة التّرتيب، إلى أن قرّرت الخلودَ إلى النوم أخيراً...
ألقت بنفسها في الفراش وهي تشعرُ أنّ الأرضَ تميدُ بها، لكنها لم تتمكّن من الإغفاء؛ إذ خافت أن تستغرقَ في النّوم فلا تسمع صوتَ المنبّه، احتارت وجلست في السّرير ساهمةً تقاومُ ثقلَ جفنيها، وألمَ ظهرها، وقلقَها على الأبناء، وسحورهم، ومدرستهم... وظلّت هكذا حتى ارتفع شخيرُه فجأة، نادت عليه لتهمسَ له برفق شديد: «هل تستطيع إيقاظي بعد أن يرن المنبّه؟ أخشى ألّا أصحو لتحضير السّحور...»
غمغمَ بعصبيّة ليصرخَ قائلاً: «عجيبةٌ أنتِ، أنا أصحو لأوقظكِ؟ والله عال، ما رأيكِ لو حضّرت أنا السّحور بنفسي أيضاً؟ ألا تعرفين واجباتكِ تجاه عائلتكِ في رمضان؟ اللهُ أكبر... اللهُ أكبر!»
ثم أدارَ ظهرَه لها، ليلتحفَ بغطائه وهو يتمتمُ بين النّوم واليقظة بصوت متقطّع: «حسبيَ اللهُ ونعمَ الوكيل... حسبيَ اللهُ ونعمَ الوكيل!»