بقلم غادة السمان
القدس العربي
نحن لا نجهل «الهياج اللاعقلاني» الذي يثيره نشر رسائل حب بالعربية… وبالذات اذا كانت التي نشرت تلك الرسائل (انثى)… كأن حق (فضح) الحب يخص ذكور القبيلة وحدهم. ومن حق قيس دون ليلى!
ولكن الرسائل تلقي ضوءاً كشافاً استثنائياً على أعماق كاتبها/كاتبتها، وتعري الحقيقة الداخلية. والذين يحبون (تفصيل) حقيقة الآخرين على مقاس ازدواجيتهم ومصالحهم، يعادون رسائل الحب!
ماريا: ماتت مضرجة بحبها!
ذكرني بكل ما تقدم صدور فيلم فرنسي جديد بعنوان: كالاس بقلم ماريا، يروي سيرة حياة مطربة الأوبرا العالمية الشهيرة ماريا كالاس. والجديد في الأمر ان فيلم سيرتها الذاتية السينمائية يتكئ على مراسلاتها للحبيب والأصدقاء والصديقات. والفيلم بطولة فاني آرادن الممثلة الفرنسية الشهيرة، وهي تعير في الفيلم صوتها لماريا كالاس إذ تقرأ الرسائل التي أرسلتها المغنية الشهيرة خلال حياتها إلى عشاقها وأصدقائها، وبالتالي فالرسائل أحياناً سيرة ذاتية بمعنى ما وموثوق بها لأنها بخط يد صاحبها قبل زمن الكمبيوتر. وفي رسالة ماريا كالاس مثلاً إلى حبها الكبير الملياردير أوناسيس الذي طلقت زوجها لأجله تقول له: «أنا بكليتي لك. افعل بي ما تشاء يا أوناسيس». ولكن ما الذي فعله بها وبذلك الحب الكبير من مبدعة استثنائية في حقل الأوبرا؟ لقد تخلى عنها بعدما استولى عليها كمنفعة تجارية لرجل أعمال كبير، وصار في حاجة إلى صفقة جديدة وهكذا مضى إلى غرفة نوم أخرى وتزوج من أرملة الرئيس كينيدي الجميلة جاكلين (وانتهى الأمر بينهما فيما بعد إلى الطلاق) ولكن قلب ماريا كالاس تحطم وتمرد على الحياة يوم فقدت حبها الكبير… وماتت وحيدة في باريس.
كامو، بلزاك ورسائل القلب العاري
دفعني أيضاً لكتابة ما تقدم أنني في زيارتي الأخيرة شبه الأسبوعية إلى المكتبات الباريسية وجدت العديد من كتب المراسلات الأدبية يتصدر الرفوف دون أن (تقوم قيامة) أحد. وجدت كتاباً يضم رسائل البير كامو إلى الممثلة الجميلة ماريا وتقف خلفها حكاية حب مراوغ متقلب يطول سردها. والكتاب بعنوان: «مراسلات البير كامو وماريا كازاريس 1944 ـ 1959 ـ منشورات غاليمار. وجدت ايضاً عن دار النشر نفسها رسائل الأديب فيليب سولرز إلى دومينيك رولان: 1958 ـ 1980 (400 صفحة!).
كما وجدت كتاباً يضم بعضاً من مراسلات بلزاك 1836 ـ 1841 ولا تخلو من رسائل حب إلى الكونتيسة هانسكا التي صارت أرملة.
كما وجدت رسائل من نابوكوف (مؤلف لوليتا) وكان قد أرسلها إلى فيرا وصدرت عن منشورات فايار (856 صفحة).
عثرت أيضاً على رسائل نيتشه عن منشورات ليه بيل ليترو (608 صفحة)… وكلها إصدارات جديدة.
فلماذا تقوم القيامة حين أنشر رسائل لي من مبدعين وأواكب العصر أدبياً، ثم إنه ليس من حقنا أن نطالب أولادنا بأن ينشروا الرسائل بعد موتنا ويخوضوا معاركنا التي قد يهرب البعض من مواجهتها خلال حياته..
الصديق العزيز الراحل رجاء النقاش الذي نشر رسائل المعداوي إلى فدوى طوقان والذي عهدت إليه أديبة عراقية برسائل أديب سوداني لها هو «المجذوب» ولم تصدر الرسائل وطلبت مني التوسط لذلك وفعلت لكنني قلت لها حين شكت من لامبالاة النقاش بذلك انه كان عليها ان تنشرها بنفسها كما افعل دائماً وأتحمل عواقب قناعاتي!… دون الاحتماء بدرع ناقد!
أحب أن تحبني!
بكثير من العمق والرهافة كتب الزميل خيري منصور تحت عنوان «كافكا عاشقاً» ـ القدس العربي ـ 14 ـ 10 ـ 2017 يقول: (حين يتوفر للرسائل المتبادلة بين مبدَعين من يقرأها بحصافة نقدية وعين مدربة على إضاءة الظلال وما بين السطور … فإن ما هو «شخصي» أو يبدو كذلك يصير قابلاً لمستوى من التعميم او التصعيد الذي يرصد ما هو معرفي وجمالي من خلال الرسائل).. وذلك صحيح إلى أبعد مدى… ولا ينسى خيري منصور تنبيهنا إلى ان رسائل كافكا الذي «اختزلته المقولات النقدية إلى مجرد كاتب سوداوي أعماله كابوسية» لم يكن كذلك فقط، ورغم ما في حياته من وحشة واغتراب عبر في إحدى رسائله عن حسده ذات يوم لشخص لمجرد انه كان معشوقاً وليس عاشقا فقط… والقول لخيري منصور الذي اتفق معه…
أليس في رسائل أنسي الحاج لي التي أقامت القيامة على رأسي حين نشرتها ما يلخصها بعبارة: «احب ان تولعي بي»؟ ألم تصرخ ماريا كالاس بالعاشق الخائن الذي طلقت زوجها الطيب من أجله: أحب ان تحبني وأنا لك؟
أما الفيلسوف كيركيغارد الذي احب روجينا وقرر هجرها رحمة بها من نفسه، هل فعل ذلك حقاً لكي لا ينقل إليها «فيروس القلق الوجودي الذي عاناه» كما زعم أم تراه فعل ذلك لتحبه أكثر ولتعلن حبها؟
لقد تصادف صدور رسائل الرئيس الفرنسي الاديب المثقف ميتران إلى حبيبته طوال العمر (دون طلاقه من زوجته!) مع صدور رسائل أنسي الحاج لي. (قامت القيامة) عندنا أما رسائل ميتران طوال أعوام طويلة إلى والدة ابنته مازارين غير الشرعية فلم تثر من الاهتمام ما يثيره صدور أي كتاب آخر جميل في باريس.
متى ننجح في تطبيع العلاقات مع أدب المراسلات وبالتالي مع حقيقتنا السرية ونرتاح من الازدواجية؟
ولماذا، في الغرب يعرفون القيمة الإبداعية والإضاءة الإنسانية لأدب المراسلة وبالذات لرسائل الحب، وعندنا يعتبرون ذلك نشراً للثياب الوسخة؟ ومتى كان الحب انتقاصاً من رجولة العاشق وثياباً قذرة للطرفين؟