بقلم:أحمد خالد توفيق
هناك ناقدة أمريكية كانت تحب فيلم: ذهب مع الريح.. وشاهدته عشرات المرات. فجأة شاهدته عندما تقدمت في العمر.. أثار دهشتها أنها لم تنفعل وبدا لها سخيفًا مفتعلاً، وكتبت تقول: الفيلم تغير !.. لم يعد نفس الفيلم الذي كنت أشاهده قديمًا
هذا هو السؤال الأبدي الذي يطاردك عندما تكون في سني: هل الحياة قد ساءت حقًا أم إنني لم أعد كما كنت؟

كنت أستمع - أو أسمع- لهذا الكلام في تأدب، وإن كنت أنقل قدمي مائة مرة في ملل أخفيه. وقد بدا لي خيطًا لا ينتهي من كلام الشيوخ المعتاد: هي الفراخ بتاعتكم دي فراخ؟.. دي عصافير.. كنا بنشتري عربية وفيلا ودستة بيض بنص ريال.... إلخ
حدثني أبي عن أفلام عصره وعن إيرول فلين المذهل وجيمس كاجني العبقري و... و... على الأقل صار بوسعي اليوم أن أرى هذه الأفلام كدليل لا يُدحَض، فلا أرى فيها أي شيء خارق.. التخشب الهوليودي المعتاد والكثير من الافتعال..
نقّبت عن نقاء الناس في ذلك العصر، فقرأت عن ريا وسكينة النقيتين، والبواب النقي الذي اغتصب طفلة في الثالثة من عمرها عام 1933، والفنانة النقية التي ضبطت زوجها النقي مع الخادمة النقية في المطبخ ليلة الدخلة!
وماذا عن الفنان النقي: فلان.. الذي اقتحم مكتب الناقد الذي لم يرُقْ له فيلمه الأخير شاهرًا مسدسه؟ كان هناك حي دعارة شهير جدًا في طنطا اسمه: الخبيزة.. واليوم صار سوقًا شعبيًا محترمًا.. فأين هذا النقاء إذن؟
لكن أبي - رحمه الله- عاش ومات وهو مؤمن بأن الحياة قد صارت سيئة، كأنها صورة صنعت منها نسخة تلو نسخة تلو نسخة حتى بهتت ولم تعد لها قيمة..

قلت له في غيظ إنه بعد عشرين سنة -أعطاه الله العمر- سوف يُسمع ابنه أغاني شاجي وإنريكي إجلسياس وفيرجي ويعرض عليه أفلام: الرجال إكس والفارس الأسود.. لكن الوغد الصغير سيؤكد له أنها زبالة، إلا أن ابني لم يصدق.. يعتقد أن الأخ شاجي خالد للأبد..
نعم كان لرمضان رائحة وحضور في الماضي.. كانت هناك رائحة مميزة للعيد.. تصور أن عيد الثورة كانت له رائحة؟ كان قدوم الربيع يعلن عن نفسه مع ألف هرمون وهرمون يتفتح في مسامك، فتواجه مشكلة لعينة في التركيز في دروسك والامتحانات على الأبواب، بينما الحياة ذاتها قد تحولت إلى فتاة رائعة الحسن تنتظرك..
أذكر يوم شم النسيم وأنا في الصف الثالث الإعدادي، أمشي في شوارع طنطا التي مازالت خالية في ساعة مبكرة، مزهواً بنفسي أوشك على أن أطير في الهواء، وأتمنى لو عببت الكون كله في رئتي.. بينما المحلات تذيع أغنية حفل الربيع التي غناها عبد الحليم حافظ أمس: قارئة الفنجان.. تصور أن الأغنية مازالت طازجة ساخنة خرجت من حنجرة الرجل منذ ساعات لا أكثر. للمرة الأولى أسمع: بحياتِكَ يا ولدي امرأة.. عيناها سُبحانَ المعبود..

نعم.. لم يعد شيء في العالم كما كان.. أبتاع الفراولة وألصق ثمارها بأنفي وأشم بعنف.. لا شيء.. لو حشرت ثمرة منها في رئتي فلن أجد لها رائحة. ماذا عن التفاح الذي لا تقتنع بأنه ليس من البلاستيك إلا عندما تقضم منه قطعة؟ عندها تحتاج لفترة أخرى كي تقتنع أنك لم تقضم قطعة من الباذنجان.. أين ذهب جمال الفتيات؟ ولماذا لم أعد أرى إلا المساحيق الكثيفة، حتى تشعر أن كل فتاة رسمت على وجهها وجهًا آخر يروق لها؟
أين ذهبت العواطف الحارقة القديمة عندما كنت تكتب عشرات القصائد من أجل ابتسامة حبيبتك؟ اليوم لو تزوجتها وأنجبت منها عشرين طفلاً فلن تجد في هذا ما يأتي بالإلهام!

ربما صار شمي أضعف.. ربما صار بصري أوهن.. ربما صار قلبي أغلظ.. ربما تدهورت هرموناتي.. ربما صرت كهلاً ضيق الخلق عاجزًا عن أن يجد الجمال في شيء.. ربما مازالت الفتيات جميلات والفراولة عطرة الرائحة وأغاني هذا الجيل جميلة..
نعم هو المنطق ومن النضج أن أعترف بهذا.. لكن من قال لك إنني أريد أن أكون كذلك؟ أفضّل أن أظل شابًا على أن أكون ناضجًا، لهذا أقول لك بكل صراحة:
"الحياة صارت سيئة ولا تطاق فعلاً.. الله يكون في عونكم.. هيّ أيامكم دي أيام؟"