بقلم د. رزان إبراهيم
" من بقي على العهد من أصدقاء الزمن القديم. كفى نفاقاً! من الذي بقي على العهد؟ هل بقيت أنا نفسي على العهد؟"
( واحة الغروب) للروائي المصري المعروف بهاء طاهر واحدة من نصوص روائية متجددة بطاقة إنسانية وفنية عالية، تستدعي تأملات عديدة تحت أكثر من عنوان. واحدة من هذه العناوين الجديرة بالتناول فيها (موضوع الخيانة)؛ من هو الخائن؟ وما هي صفته؟ وما الذي يدفع إلى الخيانة؟ وهل هناك نصف خائن وخائن بالكامل؟ كل هذه التساؤلات نجد صداها في رواية لا تكتفي بتقديم سلوك الخيانة أو عرضه، وإنما نجد مبدعها وقد عمل جاهداً على تفسيره واضعاً إياه تحت الضوء، شارحاً قبل كل شيء علاقة الخائن مع نفسه، خصوصاً أن الخائن وإن تابع كذبه على الآخرين فإنه – على الأغلب- لن يكون قادراً على الكذب بينه وبين نفسه. ومن ثم تتسع الدائرة كاشفة عن سلطة ما تحرك الخيانة وتغري بها، موصلة صاحبها في نهاية المطاف إلى قرار بالانتحار يُتخذ تطهراً من شعور بالذنب كان رفيقاً لنفس أخفقت مراراً في التخلص منه.
الرواية بطلها محمود المسافر من كرداسة إلى واحة عرف عنها أن (محمد علي) كان قد غزاها وضمها إلى مصر منهياً استقلالها الذي استمر لمئات السنين. وفيها يعين محمود مأموراً على ناسها المعروفين بعداواتهم فيما بينهم وبشجاعتهم وتحالفهم يداً واحدة على الأغراب. كرهوا الأوروبيين وقتلوا بعضاً من رحالة ذهبوا إليها ليستكشفوها. كرهوا دفع الضرائب التي كان على محمود أن يجمعها منهم في وقت لم يكفوا فيه عن التمرد والثورة. لذلك كان محمود كآخرين ممن اختارتهم القاهرة هدفاً لهم.
يحضر محمود إلى هذه الواحة محملاً بماض أثقلته الخيانات، بدءاً بخيانة لوطن لا يكون من المقبول اتخاذ أنصاف المواقف تجاهه، خصوصاً حين يكون هذا الوطن واقعاً تحت وطأة المحتل؛ فنواب البرلمان الذين ألقوا ذات يوم خطباً ملتهبة ضد الإنجليز ما لبثوا أن انضموا إلى الخديوي وهو يستعرض جيش الاحتلال الذي دمر بأسطوله الإسكندرية. وهو (محمود) أيام انتدابه إلى الإسكندرية صنف وقت الفرز خائناً حين اختار لنفسه مصلحة شخصية بمردود نفعي ذاتي على حساب الوطن. لتنهال عليه بعدها ذكريات متعبة يشوبها قسط وفير من الألم، مع أسئلة تتحلق حول إمكانية أن يقول لهؤلاء الذين يسبونه أنه لم يخن، أو يحضره سؤال: "لماذا خان الباشوات والكبار الذين يملكون كل شيء؟ ولماذا يدفع الصغار دائماً الثمن. يموتون في الحرب ويسجنون في الهزيمة بينما يظل الكبار أحراراً وكباراً؟". " ولماذا يخون الصغار أيضاً؟ ولماذا خان الضابط بلده في التل الكبير وقاد الإنجليز ليغدروا به ويفتكوا به ليلاً؟".
" لماذا خان؟ لماذا نخون؟" يحضر هذا السؤال مخترقاً أشكالاً متعددة للخيانة، بما في ذلك مشكلة محمود في علاقته المبكرة مع نعمة التي عاشت معه طفلاً بحكاياتها واستردته بالعشق رجلاً. أحبها كما لم يحب سواها. وحين سألته إن كان يحبها، قال لها " كلام فارغ"، تخرج بعدها إلى الشارع وتختفي، ليتهمها بالخيانة إذ تركته، يعود آنئذ متسائلاً: " ومن الذي خان يا حضرة الصاغ شهريار؟". تحضر هذه الخيانات غير بعيد عن خوف وخيانة يظهران توأماً لا يمكن الفصل بينهما مضافاً إليهما حافز طمع لا يمكن إغفاله.
ذاك ما حصل مع محمود وهو يجر إلى ذهنه احتمالات السجن والطرد من العمل والنفي إن لم يخن. وقد يحدث أن الطغيان والظلم يقودان لطاعة، ومن ثم إلى خوف يعشعش في قلب المستبد حين يخشى من خيانة أولئك الذين أسلموا له، كما كان من أمر الاسكندر الكبير الذي خطا فوق رمال الواحة في يوم من الأيام، واستحث كاثرين زوجة محمود الإيرلندية كي تبحث عنه في قلب هذه الواحة، لنستمع إلى صوته قادماً من غياهب الغيب معترفاً:" نعم بالطبع أنا طاغية مهما سقت لطغياني الأسباب. حكمت الرعية بالخوف فأفرخ الخوف الطاعة كما أردت لكنه أفرخ معها الخيانة. خانني أقرب الناس إلي وتآمروا علي مرة بعد مرة". لتتأكد في هذا كله ثنائية الخوف والخيانة؛ ويبقى سؤال: أيهما يلد الآخر؟ مضافاً إليهما حافز الطمع الذي يفرض حضوراً قوياً في ثنايا هذه الثنائية.
تحضر تأملات محمود هذه منذ لحظات عبوره الأولى تجاه الواحة عبر صحراء ما فتئت أن تكون فضاء غزيراً متخماً بدلالات ورموز أتقن بهاء طاهر صناعتها ضمن رؤى تحاكي امتداد الصحراء واتساعها، وتحسن التقاط علامات ضوئية وحركية وصوتية كانت قادرة على تمثل محمود بكل تقلباته وتبدلاته عبر حوار ذاتي دفعنا في العمق من هذه الشخصية كاشفاً ما يمكن أن يكون مستوراً أو خافياً بلغة ربما كانت حزينة أو مهزومة تشعر بألم الحياة وتعبر عنها بمنأى عما يمكن أن يكون سرداً إخبارياً مباشراً. بل وجعلتنا قادرين على التعرف على أحلام زوجة محمود الإيرلندية (كاثرين) وتداعيات هذه الصحراء في نفسها التي لا تشبه بحال من الأحوال ما هو كامن في داخل زوجها.
قلنا: إن للخيانة أكثر من شكل وصورة، تحضر كلها منافسة صحراء جرت العادة أن تنسب إليها سمة الغدر بسبب عاصفة تكتنفها في غير أوانها. يتكشف لنا بعدها أن البشر في غدرهم قد يكونون أشد وطأة من هذه الصحراء. يحضر هذا بالتزامن مع مشاعر تجاه الموت بدت مخيفة وعادت من ثم لتتضاءل حين داهمت محموداً زوابع الصحراء ولتتسلل إلى رأسه فكرة خاطفة: " فليأت! هو مؤلم ولكنه ليس مخيفاً. فليأت بسرعة! أود النهاية كراحة جميلة في عبء لا يحتمل. فليأت". وكأن في هذه الصحراء التي يجتازها نداء أو حتى إغراء بموت سريع وناعم رقيق. ليقول في هذا الشأن: "ها أنذا قد واجهت الموت الذي تفلسفت في الصحراء عن إغوائه وعن الهاتف الذي يناديني. لكن عندما رأيته ينقض حجراً من السماء ارتعبت. حتى عندما كان واجباً يتحتم علي أن ألبيه, جبنت وتركت غيري يقوم به. هل هذه إذن هي حقيقتي؟"
وهنا يعود السؤال مرة أخرى عن حقيقة محمود الذي اختار بإرادته أن يخون ويتخلى، ليجد نفسه في واحة تقع في جوف الصحراء السحيق وقد تغير، حتى تجاه بشر جاءهم كارهاً، يعود بعدها فيقول: " لم نأتهم إخواناً بل غزاة. لم نعاملهم كأهل البلد بل كمستعمرين، عليهم أن يدفعوا أموالهم غصباً للفاتحين. فلماذا أغضب مما يفعل الإنجليز بنا أو تغضب كاثرين مما يفعلونه بإيرلندا؟ ذلك قانون الأقوى، نمارسه نحن هنا كما يمارسه الإنجليز هناك".
ويبقى السؤال معلقاً: هل تغير محمود أم أنه وجد حقيقته في هذا المكان البعيد؟؟ وهو من أدمن التفكير في نفسه معترفاً بسوء فيها، متمنياً لو أنه لم يكن هو. ليخلص في نهاية الأمر بأن "لا داعي للشجاعة المتأخرة" وبأنه "لا ينفع في هذه الدنيا أن تكون نصف طيب ونصف شرير. نصف وطني ونصف خائن، نصف شجاع ونصف جبان. نصف مؤمن ونصف عاشق. دائما في منتصف شيء ما... أردت أن أنقذ محمود الصغير لكن في منتصف المحاولة تركت إبراهيم يكسر ساقه. تحمست فترة للوطن والثوار وعندما جاءت لحظة الامتحان أنكرتهم ثم توقفت في مكاني. لم أكن شخصاً واحداً كاملاً في داخله".