بقلم: ديما مصطفى سكران
قد يبدو الرقم صعب التصديق، لكن الاسكتلنديين، ووفق دراسة لجامعة غلاسكو، يملكون في لغتهم 421 كلمة للثلج، في حين يملك العرب كلمة واحدة فقط ليس لها أي مرادفات!
قد يبدو الرقم صعب التصديق، لكن الاسكتلنديين، ووفق دراسة لجامعة غلاسكو، يملكون في لغتهم 421 كلمة للثلج، في حين يملك العرب كلمة واحدة فقط ليس لها أي مرادفات!
اللغة، أداة الفكر أم سجنه؟
إن المرء حبيس لغته، وإن فهمه لأي أمر محدود بقدرته على صياغة ذلك الأمر لغويًا، لذا فإنّ هذا الفارق الشاسع في عدد المفردات المتعلقة بالثلج بين اللغتين العربية والاسكتلندية، لا يعني فقط فارقا بسطور المعاجم الخرساء، ولكنه يعني أنه ثمة 421 كلمة اسكتلندية تُرمِّز لغويا لـ 421 معلومة مختلفة عن الثلج، ككثافة الهطول وسرعته وحجم الندفة ومقدار التراكم إلى غير ذلك، يلحظها الاسكتلندي ويستطيع التعبير عنها بكلمات محددة، في حين أن الثلج بالنسبة للعربيّ هو شيء واحد فقط مهما تعددت حالاته، وهذا يجعل العرب جهلةً بالثلج مقابل الاسكتلنديين، الذين لعب الثلج ولابد دورا كبيرا في حياة أسلافهم، فطوروا لغتهم لتلائم ظروف تلك الحياة. في المقابل سيبدو الاسكتلنديون وغيرهم أميين أمام العرب فيما يتعلق بأسماء الرّواحل وأدوات القتال، حيث يوجد في العربية ما يقارب 300 اسم للسيف وألف اسم للجمل وأكثر من 500 اسم للخيل، فقد شكلت هذه الأمور جزءا كبيرا من وجدان العربي، ولعبت دورا كبيرا في حياته فيما مضى.
العربية لغة مروءة وعقل:
وهكذا تكون كل لغة مرآة لتاريخ ناطقيها، واهتماماتهم واحتياجاتهم وقيمهم وطريقة حياتهم، لذا لم يكن غريبا أن يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " تَعَلَّمُوا الْعَرَبِيَّةَ فَإِنَّهَا تُنْبِتُ الْعَقْلَ وَتَزِيدُ فِي الْمُرُوءَةِ ".
ففي إحدى المحاضرات التي حضرتُها في برلين، اضطرت بروفيسورة الأدب العربي لاستخدام ما يقارب عشر كلمات ألمانية لترجمة كلمة "حِلم" العربية لمستمعيها.
فالعربية لغة عُجنت أثناء تشكلها بأخلاق أهلها الرفيعة، فجاءت على مقاس نفوسهم العالية، قادرة على التعبير عن مكارم الأخلاق على أحسن وجه، وقادرة على تعليم هذه المكارم لناطقيها من خلال تعلمهم لمفرداتها.
وليست العصبية هي الداعي لقول ذلك، فالأخلاق الرفيعة لم تكن ترفا اختاره العرب، بل كانت الشجاعة والكرم والإيثار والمروءة والصبر وإغاثة الملهوف والصدق والأمانة وغير ذلك، بمثابة عوامل بقاء، وعقدٍ اجتماعي اتفق عليه العرب، ليجعلوا من هذه الصحراء المخيفة التي لا ترحم مكانا آمنا للعيش، وقد تلاقح ذلك كله مع الإرث الإبراهيمي الحنيف، الذي جاءت شريعة النبي محمد عليه الصلاة والسلام لاحقا لتتممه.
كما أن الأدب العربيّ يزخر بالحكم والنثر والقصائد، التي تشحذ الهمم، وتحث على مكارم الأخلاق، ما يجعله أداة تربوية عظيمة.
وهو يحمل في نظمه البديع من الفلسفة والفكر وفنون المحاججة، ما يجعل التبحر فيه نوعا من التريض العقلي الذي يوسع المدارك والآفاق.
وإن مرونة العربية الكبيرة في بناء الجملة، وتنوع فنون الاشتقاق والتصريف فيها، تُمكن الفكر من التمطي إلى حدوده القصوى، ليعبر عن أية فكرة مهما بلغ تعقيدها.
أما غنى مفردات العربية، التي لا تفوتها أبسط دقائق الاختلاف في الأشياء والأفعال، فإنها تمنح المرء القدرة على رؤية العالم على نحو بالغ الدقة بشكل فطري، ما يجعل العربية من أفضل لغات العالم في التعاطي مع شتى أنواع العلوم، وقد أثبت ذلك تاريخ طويل من إنتاج العلوم المختلفة وتعريبها في عصور الازدهار.
الإنضاج القرآني للعربية:
لقد بلغت العربية ذروة جزالتها في الجاهلية، حيث ساهمت في هذا الجزالة غير المسبوقة مواسم الحج، وأسواق الشعر والأدب الدورية، والتي جعلت هذه اللغة تعبر الصحراء كل سنة ذهابا وإيابا على مدى عقود، وعلى ألسنة أعظم الشعراء، الذين ألهبت قريحتَهم روحُ المنافسة وعزة القبيلة، والذين تعلقت آمالهم بتعلق قصائدهم على أستار الكعبة.
وهكذا لاقحت هذه الأسواق الشعرية بين لهجات القبائل المختلفة، وعملت كالأزاميل الدقيقة في جسد هذه اللغة، حتى وصلت إلى ما وصلت إليه من منتهى العبقرية البشرية، وكادت تفرط في الارتقاء لتبلغ علواً يمنعها من أن تصلح للعالمية، فتنتكس وتنكفئ على نفسها، ثم تذوي وتموت، ليأتي القرآن المعجز في هذه اللحظة الفاصلة من تاريخ العربية، فينقلها من ذروة الجزالة التي تنتهي بالانتكاس، إلى ذروة النضج التي تتكلل بالبقاء.
لقد أدركَ القرآن العربية وهي على أبواب الدخول في طور الانغلاق على أهلها، فأعرض عن فائض جزالتها، وضم في سطوره أثمن دررها المختارة، فأبهر عباقرتها وأدهش أهلها، حين حقق في آياته توازنا معجزا، يجتمع فيه الأكثر جزالة، مع الأكثر لينا ويسرا، والأقدر على الاستمرارية، حافظا العربية مما ينال كل اللغات من التآكل والتردي والاندثار.
الكنز المزهود به:
ورغم امتلاكنا لهذه الثروة العظيمة التي لا تقدر بثمن، والقادرة على فتح آفاقنا الذهنية والأخلاقية على أوسع شرفات المعرفة والاستبصار، فإننا أبقينا هذه الثروة العظيمة حبيسة "فقه اللغة" و"مقامات الحريري" و"جمهرة البلاغة"، واستبدلنا بلغتنا النفيسة عددا من اللهجات الممسوخة، التي لا تتعدى ذخيرة مفرداتها أن تكون غَرفة صغيرة من بحر العربية الواسع العظيم، الأمر الذي هبط بقدرة الأجيال الجديدة على التعلم إلى أدنى مستوياتها، إذ لم يعودوا يملكون لغة أم، معجونة بنفوسهم وعقولهم، تكون عونا لهم على تحصيل العلوم، بل على العكس صارت اللغة الفصيحة عائقا أمام التعلم، يضطر معه المدرسون إلى تفسير طلاسمها باللهجة المحكية، حتى في دروس العربية نفسها.
كما أن هذا الحاجز الكبير بين العربية وأهلها أبعدهم عن ممارسة القراءة فعلًا طبيعيًا يوميًّا، يتماشى والأمر الإلهي "اقرأ"، لتتحول المطالعة إلى هواية يمارسها صنف محدد من الناس، كما يمارس البعض الرسم والخياطة والعزف على العود.
العربية عدوة الاستبداد:
إن العودة إلى العربية هي الخطوة الأولى لأي نهضة فكرية منتظرة، لأنها ستكون عودة إلى الإنسان العربي المرتبط بتاريخه، الفاهم لدينه، الممتلك للغة قادرة على تمديد قدراته الذهنية إلى أبعد مدى، ولكن هذه العودة لن تتحقق بمبادرات فردية للأسف، بل ستحتاج إلى جهود حكومات وطنية واعية بأهمية اللغة في تثبيت أقدام الأمم أمام سيل العولمة الجارف، الأمر الذي لا يلوح في أفق أي نظام عربي الآن، ما دامت هذه الأنظمة منشغلة بتثبيت أقدام حكمها لأطول فترة ممكنة أمام سيل الحرية القادم لا محالة.
بل لعل هذه الأنظمة ستقاوم بشدة هذه العودة للعربية، فلقد أكد الكتاب والمفكرون دوما، أثناء تحذيرهم من وقوع البشرية تحت سطوة نظام حكم شمولي، على أن تحجيم اللغة هو من أهم أركان الاستبداد بالبشر، ففي رواية 1984 لجورج أوريل، وفي رواية 451 فهرنهايت لراي برادبري، وفي فيلم the Giver مثلا، كانت مهمة الحكومة دوما السيطرة على لغة الناس، والتأكد من تقليل الكلمات التي يستخدمونها إلى أصغر عدد ممكن، لذا لا عجب أن تمتنع الأنظمة العربية عن القيام بأي جهود جادة لتحقيق هذه العودة الضرورية للعربية، ولا عجب أن تدفع أكثر باتجاه العامية، من خلال سياساتها الثقافية والإعلامية والتعليمية.
إن العودة إلى العربية هي ثورة متكاملة الأركان على الطغاة، لأنها تحمل في بنيانها اللغوي أسباب العزة وأركان الإحسان، ولأن إرثها الجامع العظيم يعري كل مشاريع التفرقة والانقسام.
ولن يستطيع الطغاة، مهما أخروا هذه الثورة، أن يتجنبوا حتمية الصدام معها، لأن العربية محفوظة بحفظ الله للقرآن، وإن هذه الأمة مهما تراجعت وتأخرت فإنها لا تموت، ولا يتمكن طاغية من ناصيتها، فإن معها إكسير نهضتها وسر قوتها وميثاق شرفها، وهي لغتها العبقرية، حاملة كلام الله، القادرة على إلهاب العقول، وإحياء القلوب والنفوس، مهما طال السبات.