بقلم: نور علوان
طالما عُرفت الأمومة بأنها مهمة المرأة الأساسية ومهنتها الثابتة على أساس أنها جزء لا يتجزأ من طبيعتها البيولوجية وفطرتها الغريزية، كما اعتقد لوقت طويل بأن قوتها تكمن في عاطفة الأمومة لديها، لذلك خضعت النساء اللواتي لم يتبعن هذا النمط المعيشي إلى أحكام اجتماعية قاسية، وفي أحيانٍ أخرى تعرضن للرفض والنبذ.
اعتبارًا لذلك قدست العادات والتقاليد دور المرأة داخل المنزل لتقوم بمهماتها الروتينية على مدار الأسبوع، وكأن أسلوب الحياة هذا خيارها الوحيد، ولكن مع التحولات العصرية والتطورات الاقتصادية تأثرت الأمومة بهذه التغييرات وأصبح المجتمع يطرح تساؤلات جديدة عما إذا كان على الأم أن تبقى في المنزل مع أطفالها أم يجب استغلال مواهبها وطاقاتها في سوق العمل؟
كيف غيرت التحولات الاقتصادية شكل الأسرة ووظيفتها؟
تشير إحدى الدراسات إلى أن 19% من الأمهات كن يعملن خارج المنزل في فترة الخمسينيات وذلك مقارنة مع 60% عام 2008، ما يعني أن الوظيفة أصبحت الخيار الأكثر شيوعًا بين النساء، لا سيما مع التغييرات التي أعادت تشكيل مفهوم الأسرة ووظائفها، فكانت المرأة وأطفالها مركز هذه التحولات.
في بادئ الأمر، اعتبر الزواج مؤسسة اقتصادية منتجة، فلقد اعتمد النظام الاقتصادي الزراعي على الأسرة وعدد أفرادها المتزايد في تكثيف الإنتاج وتوفير المتطلبات المادية، إذ كان المنزل مصدر غالبية السلع التي تباع حاليًّا في الأسواق، وتبعًا لذلك حظيت الأسرة بقيمة اجتماعية مهمة، ولكن مع بدء الثورة الصناعية وظهور المصانع والعمالة المأجورة تلاشى دور الأسرة في الساحة الاقتصادية وظهرت ثقافة جديدة تحمل أفكارًا مغايرة عن هذه المنظومة.
في هذا الوقت، رحبت الرأسمالية بمشاركة النساء الثانوية في سوق العمل؛ ما مكنها من تبرير سياستها في دفع أجور قليلة لهن، ولكن اختلفت هذه الأيديولوجية في الحربين العالميتين الأولى والثانية، فلقد احتاجت الرأسمالية النساء للعمل في الوظائف التي بقيت شاغرة في أثناء مشاركة الرجال بجبهات القتال، فشجعتهم بقوة على ترك المنزل، فتوجهت أكثر من مليون ونصف امرأة إلى أماكن العمل في الحرب العالمية الأولى، ونحو مليونين في أثناء الحرب العالمية الثانية.
ظهرت احتياجات جديدة مع غياب الأم عن المنزل، مثل مجالسة الأطفال ورعايتهم وإطعامهم، وهي أمور أدت إلى ظهور مؤسسات التعليم الرسمية للأطفال لمن هم دون الخامسة
بعد أن أقحمت الرأسمالية نفسها داخل المنازل وجذبت النساء للعمل وكسب الثروات، صاحبت هذه الموجة الحركات النسائية التي نادت في الستينيات بمشاركة المرأة في سوق العمل، لتدعم المساواة الاجتماعية في الساحة الاقتصادية، فأهدت المرأة حياة مهنية أكثر عدلًا ورخاءً من قبل.
تبعًا لهذه القرارات الحاسمة التي اتخذتها المرأة بناءً على سياسات الديمقراطية والحرية والاستقلالية، تقلص حجم الأسرة وتحولت هذه المنظومة إلى مؤسسة استهلاكية وعاطفية في ذات الوقت، حيث ظهرت احتياجات جديدة مع غياب الأم عن المنزل، مثل مجالسة الأطفال ورعايتهم وإطعامهم، وهي أمور أدت إلى ظهور مؤسسات التعليم الرسمية للأطفال لمن هم دون الخامسة، حيث تعمل هذه المراكز على تزويد الطفل بالعناية مقابل أجر مادي وعودة المرأة إلى العمل.
ومن ناحية أخرى، ساهمت قوانين السوق الرأسمالية وما تطلبه من مهارات معرفية وابتكارية على زيادة قلق الأهالي على مستقبل أبنائهم، لذلك يعتبر بعض الخبراء أن الاهتمام المفرط بالطفل سواء من الناحية العلمية أم النفسية أمر مكلف ماديًا، كما أنه جعل الأسرة رابطة مبنية على العواطف والرغبات المادية، وهذا ليس أمرًا سيئًا للغاية لكنه يبقى يدور في خدمة الرأسمالية التي تبحث دومًا عن أجيال استهلاكية ذات تعليم ومهارات أفضل لضمان صيرورة الإنتاج والإنفاق.
الضغوط الاقتصادية لعبت دورًا مهمًا في تغيير مفهوم الأمومة
بعد سنوات من الترويج والإقناع، أصبح البقاء في المنزل بدوام كامل لتربية الأطفال تقليدًا قديمًا وإهدارًا للمواهب، وتحديدًا في المجتمعات التي باتت تحكم على قيمة الفرد من خلال مقدار مساهمته في الاقتصاد، ولأن الأمهات أكثر عرضة من غيرهن للفقر والتحكم الخارجي كن هدفًا أسهل لعروض العمل التي قدمت لهن عالمًا واسعًا من الحرية والاستقلالية مقابل عمل مأجور واستهلاك مضمون.
كما ترى الرأسمالية أن الأطفال عبء لا فائدة منه، فهم لا يشاركون في عملية الإنتاج وقد تعطل احتياجاتهم النفسية والمعنوية طاقة الأمهات، ولتوضيح ذلك بمثال واقعي، شجعت كل من شركتي "آبل" و"فيسبوك" موظفاتها على تجميد بويضاتهن على حساب الشركة مقابل أن يتفرغن للعمل ويتجنبن الإجازات أو الانشغال بالأمور الأسرية، وعلى إثر ذلك، اعتبر البعض هذه الحادثة تعديًا على خيارات المرأة وطريقة جديدة للتعبير عن استياء ذكور سوق العمل من طبيعة المرأة.
لا يمكن إنكار أن الأمومة لم تعد دورًا أساسيًا وشاملًا لجميع النساء، بل أصبحت دورًا ثانويًا واختياريًا في عالم يدور حول المال والأنا
ومع ذلك يؤكد البعض أن الرأسمالية ليست نظامًا شريرًا في عالم مثالي، فالأنظمة السابقة عززت من المبادئ الأبوية السلطوية التي ألغت كيان المرأة وحرمتها من حقوقها، لكن بطبيعة الحال لا يمكن إنكار أن الأمومة لم تعد دورًا أساسيًا وشاملًا لجميع النساء، بل أصبح دورًا ثانويًا واختياريًا في عالم يدور حول المال والأنا، ويلخص ذلك الطبيب النفسي الأمريكي جيمس هيلمان قائلًا: "إنها قسوة فظيعة من النظام الرأسمالي أن يعمل كلا الوالدين وأن يكون للأسرة دخلان من أجل شراء سلع مرغوبة في ثقافتنا، لذا فإن تدهور الأمومة سببه الضغوط الاقتصادية".
أما فيما يخص الأمومة في المنطقة العربية، فلقد بدأت بعض الأمهات في هذه المجتمعات التقليدية توجيه أنظارهن إلى ذاتهن وأهدافهن الشخصية، ومن أجل تحقيق هذه الغاية تخلى البعض عن فكرة الإنجاب على اعتبار أنها عائق أمام مسيرتهن المهنية، خاصةً للواتي يمتلكن أهدافًا بعيدة المدى ويلزمهن الكثير من الجهد والوقت وقليل من الضغوط العاطفية التي غالبًا ما تلاحق الأمهات العاملات بسبب هواجس التقصير.
من جانب آخر، يظن البعض أن الأمومة لا تلزم المرأة بالتواجد مع أطفالها لمدى العمر، لذلك تقرر بعضهن التخلي عن حياتهن المهنية لفترة من الوقت قد تدوم لأقصى حد إلى خمس سنوات -سن دخول المدرسة- لتعود هي إلى استكمال طموحاتها المهنية، بالرغم من أن بعضهن يعتقدن أن الانقطاع عن السوق طوال هذا الوقت قد يقلل فرصهن في الاندماج أو يلغي حماسهن في الانضمام إلى حقل العاملات. في كلا الحالتين، تكون القوانين الاقتصادية نجحت في نزع صفة الأمومة التقليدية عن المرأة، وبالتالي أثرت على الشكل العائلي بالكامل سواء من خلال وظيفة الأسرة الاقتصادية أو قيمتها الاجتماعية.