أرشيف المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 25 يونيو 2019

دفاتر الأيام

وتكتشفين يا صغيرة
بقلم: سما حسن

في ساعات ما بعد الظهر وبين يدي مصففة الشعر التي تهوى العراك مع خصلات شعري أكتشف أن الشعر الأبيض قد غزا شعري بقوة، باندفاع لم أعهده، وبأن الشعيرات السوداء تتراجع، وقد عاهدت نفسي ألا أغير من لون الأبيض، فلست أهوى أن اخدع نفسي، ربما أن تغييره ليس مفسدة ولا حراما، ولكني لم افعل حتى الآن، فيما كانت الصبية تتعارك مع خصلات شعري وانا أنبهها: قصيه ولكن لطول استطيع أن اربطه برباط محكم للخلف.
نصيحة من خبيرة تجميل لم أنسها أن الشعر القصير يليق بالنساء الأربعينيات، أوه، تبقى عامان وأصبح في الخمسين من عمري، بل عامان وبضعة أشهر، ماذا سيكون شعوري حين أبلغ الخمسين؟
هذا السؤال سألته لنفسي قبل سنوات: ماذا سيكون شعوري حين أصبح في الأربعين؟، وجاء من يضحك على عقلي ويتغزل بجمال المرأة الأربعينية، وبقدراتها وكنوزها ومفاتنها المتفجرة حتى صدقت، وأدركت أن لكل عمر صورة في المرآة وتبقى الصورة كما هي في القلب
وتكتشفين يا صغيرة أن العمر محطات وداع، كل يوم تودعين شخصا عزيزا، يموت شخص رافقك لسنوات، ووضعته في قائمة المقربين، ثم يخلو مكانه من القائمة، ويخلو مكان مقربين ولكنهم لا زالوا أحياء على وجه الأرض، وتكتشفين يا صغيرة أن الموت والمواقف هما من يعيدان ترتيب الأشخاص في حياتك.
وتكتشفين يا صغيرة أن لا أحد لا ينسى، كم عاهدت نفسك وأنت تودعين أمك أن حياتك لن تسير، أن كل شيء سوف يتوقف، هل تذكرين يوم أن صرخت من الشرفة وأنت تودعين جثمانها الراقد فوق المحفة أن على السيارات أن تتوقف وان المطر يجب ألا يهطل لأن أماً قد ماتت، وليست أي أم؟، هل تذكرين؟ ولكن لا شيء توقف لا السيارات التي تركض في جنون روحة وجيئة، ولا المطر ولا حياتك، استمر كل شيء ورحلت أمك التي أفنت حياتها من أجلك، رحلت ولم يتوقف أي شيء سوى أنك تتوقفين كل حين وحين وتتنهدين وتعتصرين تلك النقطة في قلبك وتصرخين في ألم خفيض "آه يا أمي"، ثم تعاودين العمل وحل مشاكل أولادك، ومجابهة التقلب الذي يحدث كل يوم حولك، ولكن الشيء الذي لم يتغير انها قد رحلت إلى الأبد.
صورتها في مخيلتك يا صغيرة، تكتشفين أنها لم تكن ضعيفة إلا وهي على سرير المرض، حتى مرضها الذي لازمها طيلة حياتها لم يوقفها، كانت تجري من مكان لمكان لتؤمن لك راحتك، وكانت تجري من مشفى إلى طبيب لكي تستقبل أطفالك، وتكتشفين يا صغيرة أنها لم تشعرك بضعفها، حتى وهي على فراش الموت كانت تكابر، وكانت تضم قبضتها على أصابعك بقوة التشبث في الحياة من أجلك.
ولكن يا صغيرة يا حمقاء تكتشفين أن لا احد يبقى، ولا حتى الحزن الذي يبدأ كبيرا ثم يصغر، ولكن الحقيقة أنه يصغر ولكنه يستسلم أن ما باليد حيلة، فالموت أكبر وقهره أكبر ومهما فعلنا لنقاومه لن نفعل، هو الزائر الذي لا يرد له طرقة، انه يطرق كل باب ويدخل دون أن يؤذن له، ولذلك يجب أن تستعدي لطرقاته، فقط كل ما عليك سوى الدعاء ألا يفجعك الخالق بعزيز، مثلما كانت تفعل أمك، هل تذكرين ما هو الدعاء الذي كانت تردده؟، أظنك تذكرين لأنك ترددينه دوما "يا رب ما توجعني على واحد من ولادي في حياتي"، يا الله ما أروع هذا الدعاء، كانت أماً خائفة، تعرف أن الموت حق، ولكنها تعرف أن قلبها لن يحتمل وجع فقدان أحد أولادها، ولذلك فقد ورثت هذا الدعاء معها، أدعوه كلما سقط شهيد وبكته أمه، كلما مات مغترب بعيدا عن وطنه وهو يبحث عن لقمة العيش وأتخيل وجع أمه، كلما غرق غريق وهو يحاول ان يجد وطنا حين رماه وطنه، فأبكي وأقول يا رب، يا رب أنا أم، ترفق بقلبي، ترفق بقلبي.
وهكذا يا صغيرة تكتشفين أن الحياة لعبة، وليست لعبة ساذجة بين يدي طفل، هي رهان خاسر، والحاذق من يخرج من اللعبة بأقل الخسائر، من يوهم الآخرين أنه قد فاز، ولكنه في الحقيقة موجوع ومثخن بالجراح، ويدمي قلبه الحنين والفراق والشوق، وتكتشفين يا صغيرة أن كل حياتك خلطة من حنين وفراق وشوق.