أرشيف المدونة الإلكترونية

الأحد، 9 يونيو 2019

قلوب منزوعة الفرح

بقلم: د. ديمة طهبوب

لا ريب أن الله عندما خلق القلب و خصه بالمكانة الأكبر أراد له وظيفة معنوية أهم من الوظيفة العضوية فجعل القلب مناط الفهم والتأثر والإدراك وجعل ابتداء خلقه رقيقا طاهرا شفيفا كالآنية، وبالرغم من صغر حجمه المادي إلا أن اتساع مداه المعنوي يسع إدراك عظمة الخالق فقد ورد في الأثر" ما وسعتني سمائي ولا أرضي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن الوادع اللين".
إلا أن هذا الصفاء ما يلبث أن يتلوث نكتة فنكتة تلو أخرى، ليس من أثر السيئات بالضرورة ولكن من تراكم الهموم والغموم والانكسارات، حتى يقف تماما وقد أنهكته الحياة والناس، ويقرر أن يسترجع حالة الصفاء الأولى ليعود إلى الله كما بدأ... ولكن هذه المرة بوصف النفس المطمئنة الراضية المرضية وقد تخلصت من التعب؛ لذا كان دعاء أهل الجنة أول دخولها "الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن".
أغلب ما في الدنيا يقتطع شيئاً من قلبك ناقلا إياه من حالة السعة إلى الضيق، ومن الفرح إلى الحزن، ومن الأمن إلى الخوف، ومن الثبات إلى الضعضعة، ومن اليقين إلى الشك، كلما كبرت يخف منسوب البراءة في قلبك ويزيد منسوب الخبرة، ولكنها تلك الخبرة السوداء التي يشيب منها شعرك، فما أدركتها إلا بألم فقد أو خيانة أو خسارة !
عندما نحس بالألم نسارع إلى إجراء الفحوصات، ولكننا لا نجد فحصا يقيس منسوب الفرح أو نسبة الأمل أو أنزيمات التفاؤل، مع أن هذه و ما تمثله من حياة القلب قد تبث الروح في جسد نصفه في القبر! 
لو كان هناك فحص لاعمال القلب المعنوية و حالته الشعورية لوجدنا ان معظم قلوب البشر تعاني من أنيميا و ضعف حاد في المشاعر التي تحافظ على استمرار دقات القلب و تدفق الدم، فما الفرح؟ ما عاد البشر يعرفون سوى اسمه فهم يقومون بكل أعماله و لكن مردود الاعمال لا يعود بنفس النتيجة! تمر بنا مواقف عصيبة بعضها من القدر و بعضها من ظلم البشر فتعلمنا دروسا قاسية تحفر على جبين القلب و في سويداه: هنا يوجد قلب منكسر، و بعد ضربة اول معول خيانة لا يستعيد القلب عافيته تماما مهما أخذ من المدعمات أو المنشطات بل يظل على حذر و وجل يتشكك من كل شيء و كل احد قبل أن يمنحه جزءا من بقايا ثقة مهلهلة مستعدة لتحمل الخيبة في أي وقت!
الغريب أن البشر لا يتورعون أن يكونوا تلك النكت السيئة في قلوب الآخرين فإننا كما نتعلم أبجدية القراءة والكتابة فهناك للقلب أبجدية ولغة وذاكرة لا تنسى أولَّ من علَّمها درسَ الغدر، ولا من طَبَعَ عليها بختم الخديعة!
إن القلب يحتفظ بالإحسان طويلا ويحتفظ بالإساءة أطول؛ لذا يبقى في القلب صديق لا تنساه  ويبقى في القلب عدوّ لن تغفر له.
نمرُّ بالأفراح فلا نجد لها سعادة، نمرُّ بالأعياد فنتكلف ونجتهد لنفرح، نخرج وندخل ونكرر ذات الطرق والأحوال التي أفرحتنا في زمان طفولة القلب فلا يكون لها ذات الأثر في قلبٍ شاخَ في عزِّه من كثر ما تعاقبت عليه سوءات البشر وأصنافهم!! و هي حالة الكلل والعمى التي ذكرها الحديث وهي من حالات إعلان موات القلب!!
قد نفهم تقلب صروف الدنيا وأثرها على القلب، ولكننا لا نفهم تدخل البشر عن سابق إرصاد و ترصد لاستهداف قلوب الآخرين!! نفهم أن يكون الفقر سببا في نزع الفرحة من قلوب البعض ولكننا لا نفهم مثلا أن يستقوي الناسُ على بعضهم فيأكلون مال المستضعفين!!
 كيف يمكن لبشر أن يرضى أن يكون اسمه رديف خيانة أو ظلامة أو قهر أو دمعة أو غش أو كسر في قلبِ عبدٍ آخر، فإذا ذكرت الخصلة السيئة كان هو صنوها و صورتها المجسدة!! ليست هذه مبالغة فكما كان العدل عمريا كذلك كان البطش حجاجيا فأصبح البشر دلالة على صفات حميدة او ذميمة!
ينسى العباد وهم يتركون بصماتهم السيئة وخناجرهم المسمومة في قلوب الآخرين أن للقلوب سجلات، وحسابها عند الله غليظ، وربما أغلظ من سجلات حساب الأجساد: فالأصل في القلب أن يكون مفرغا من الهم و الغم و الحزن مقبلا مطمئنا على عبادة الله و من صرف قلب عبد عن هذه الحالة فقد صرفه عن الايمان
إن البكا  والضحك والفرح والحزن بيد الله، فسبحان من أضحك وأبكى فمن تدخل في حكم الله بالابكاء و الإتعاس كان لا بد له من جزاء عسير كما كان لا بد لمن يرسم بسمة بعد دمعة على خد قد حفر فيه الحزن أخاديده ان ينال الجنة كما جاء في قصة ابي نصر الصياد الذي لم يغن عنه ماله و سلطانه من دخول النار و لكن نجته دموع أرملة و ابتسامة يتيم أعطاهما رقاقتي خبز يوم كان فقيرا
إن لكل عبد صيتا في السماء يسبقه عند الله فيعرفه أهل السماء بما يعرفه به أهل الارض، فمن كان لقلوب العباد محسنا عُرف عند الله بذلك و من كان لهم مسيئا لم ينفعه مال و لا بنون في يوم لا يُقام فيه وزن الا للقلب السليم
جاء في الحديث القدسي" أحبكم إليّ وأقربكم مني منزلا يوم القيامة الموطئون أكنافا" أي الذين يبذلون أنفسهم أرضا ذلولا ليطؤها البشر بأريحية و كنف المرء حضنه ماديا ورعايته معنويا،  ومنها نقول عاش في كنفه، فمن عاش الناس في كنف معروفه الشعوري كان له أملا بتلك المنزلة، ومن ابتعد في الدنيا عن رعاية قلوب العباد ابتعد عن مجلس رب العباد في الاخرة
كنا نستقبح مصاصي الدماء في الصورة التخيلية لهم و نازعي الفرحة من القلوب ليسوا أقل قبحا ووجودهم حقيقي فإياك أن تكون أحدهم!