بقلم: مصطفى محمود
كانا يتمشيان على النيل .. و الشمس تغيب في الأفق .. و النسيم يداعب أغصان الشجر
قال و هو يمسك يدها في حب:- أتعرفين ماذا تحت قدميك الآن ؟
قالت:- ماذا تعني ؟؟
أتعرفين على ماذا تقفين ؟
نظرت إليه تنتظر أن يكمل
قال:- هل تصدقين أن تحت قدميك عصراً رومانياً .. و عصراً فاطمياً .. و عصراً تركياً .. و عصراً فرعونياً و عصراً حجرياً
أكاد أسمع صهيل الخيل ، و جلجلة السلاح
أكاد أرى الناس تختصم و تتصارع و تتزوج و تتاجر
أكاد أرى نظرات الغرور ما تلبث أن تأكلها الديدان
أكاد أرى الدموع تلمع على خدود آلت ترابا
أين ذهب الغضب ؟؟ .. أين ذهب الجنون ؟؟ .. أين رقد اليأس ؟
أين نامت الفتن ؟ .. أين ذهب الحقد و الحسد الذي كان في الصدرور ؟
قالت له و هي ساهمة تنظر إلى التراب تحت قدميها :- ترى هل يبقى شيء من حبنا ؟ أم أننا ماضون نحن أيضاً إلى لاشيء ؟
قال ضاحكاً :- في عصر السرعة الذي نعيشه يكاد يكون الحب فستاناً تتعلقُ به الفتاة لمدى لبسة واحدة .. ثم بعد ذلك تتغير الموضة
قالت :- هل هذا رأيك ؟
قال :- هذا حال أكثرُ الناس
قالت :- وهل نحن من أكثر الناس ؟
قال :- كلُّ الذين تحت قدمكِ قد أقسموا - و هم يبكون - أن مابينهما كان شيئاً خاصاً نادراً ليس له مثيل
قالت :- ألم يَصْدُقْ بعضهم ؟
قال :- نعم ، أقل القليل .. الذين استودَعوا عند الله شيئاً .. فالله وحده هو الذي يحفظ الودائع
و أردف و هو ينظر إلى السماء :- الذين أحبوا بعضهم فيه .. و نظروا إلى بعضهم في مرآته .. الذين أفشوه أسرارهم .. و أسلموه اختيارهم .. فأصبح هو مرادهم .. هؤلاء أهله .. الذين هم إليه وليسوا للتراب
قالت و هي تنظر في عينيه : و أين نحن من هؤلاء ؟
قال و هو مازال ينظر إلى السماء :- الكل يدَّعي أنه من هؤلاء .. لكن الزمن هو وحده الذي يكشف صِدق الدعوى ! .. و لهذا خلق الله الدنيا ، ليتميز أهل الدعاوي من أهل الحق
قالت :- ألا ترى نفسك مُخلِصاً ؟
قال :- لست من الغرور بحيث أسبق الزمن إلى الحكم فما أكثر ما يُخدع الإنسان في نفسه .. و ما أكثر ما يُستدرج إلى ثقة في النفس مبالغ فيها ، ثم أردف :- الإخلاص ، هو أخفى الخفايا .. و هو سر لا يكاد يطلع عليه إلا الله !
قالت و يدها ترتجف في يده :- إني خائفة
قال :- و أنا أعيش هذا الخوف الجميل .. خوف يدعونا يدفعنا إلى إحسان العمل .. خوف لا يوجد إلا عند الأتقياء .. لأنه خوف يحمي صاحبه من الغرور ... ألم يقل أبو بكر الصديق : مازلتُ أبيت على الخوف و أصحو على الخوف ، حتى لو رأيت إحدى قدمي تدخل الجنة فإني أظل خائفاً حتى أرى الثانية تدخل .. فلا يأمن مكر الله إلا القوم الضالون
قالت :- ولماذا يمكر الله بنا ؟
قال :- مكر الله ليس كمكرنا ..فنحن نمكر لنخفي الحقيقة .. أما الله فيمكر ليظهرها .. و هو يمكر بالمدعي ، حتى يُظهره على حقيقة نفسه ، فهو خير الماكرين
قالت :- ألا توجد راحة ؟
قال :- ليس دون المنتهى راحة
قالت :- و متى نبلغ المنتهى ؟
قال :- عنده
"وإنّ إلى ربكَ المنتهى"..
من كتاب (علم نفس قرآني جديد) ص71