أرشيف المدونة الإلكترونية

السبت، 11 مارس 2017

مي زيادة التي أحبها جبران

بقلم: الأستاذة رندة سقف الحيط


كان يوجد علاقة قوية بين مي وجبران خليل جبران امتدت لمدة طويلة من الزمن لم يلتقيا فيها أبداً وعلى الرغم من المسافات الشاسعة التي تفصل بينهما حيث كان يقيم جبران في نيويورك ومي بالقاهرة إلا أنه كان يوجد بينه وبينها الكثير من التفاهم والحب والصداقة، واستمرت المراسلات بينهم لمدة عشرين عاماً حتى وفاة جبران في نيويورك.
يعرف جبران بأنه كان أديباً وشاعراً ورساماً وقد جمع بينه وبين مي كتاب "بين الجزر والمد" مي كاتبة وجبران رساماً .
رسائل مي زيادة وجبران خليل جبران : 
من مي إلى جبران :
(...جبران! لقد كتبت كل هذه الصفحات لأتحايد كلمة الحب. إن الذين لا يتاجرون بمظهر الحب ودعواه في المراقص والاجتماعات، ينمي الحب في أعماقهم قوة ديناميكية قد يغبطون الذين يوزعون عواطفهم في اللألأ السطحي لأنهم لا يقاسون ضغط العواطف التي لم تنفجر، ولكنهم يغبطون الآخرين على راحتهم دون أن يتمنوها لنفوسهم، ويفضلون وحدتهم، ويفضلون السكوت، ويفضلون تضليل القلوب عن ودائعها، والتلهي بما لا علاقة له بالعاطفة. ويفضلون أي غربة وأي شقاء (وهل من شقاءٍ في غير وحدة القلب؟) على الاكتفاء بالقطرات الشحيحة.
ما معنى هذا الذي أكتبه؟ إني لا أعرف ماذا أعني به، ولكني أعرف أنك محبوبي، وأني أخاف الحب. أقول هذا مع علمي أن القليل من الحب الكثير. الجفاف والقحط واللاشيء بالحب خير من النزر اليسير. كيف أجسر على الإفضاء إليك بهذا. وكيف أفرط فيه؟ لا أدري. الحمد لله أني أكتبه على الورق ولا أتلفظ به لأنك لو كانت الآن حاضراً بالجسد لهربت خجلاً بعد هذا الكلام، ولاختفيت زمناً طويلاً، فما أدعك تراني إلا بعد أن تنسى. حتى الكتابة ألوم نفسي عليها، لأني بها حرة كل هذه الحرية.. أتذكر قول القدماء من الشرقيين: إن خير للبنت أن لا تقرأ ولا تكتب. إن القديس توما يظهر هنا وليس ما أبدي هنا أثراً للوراثة فحسب، بل هو شيء أبعد من الوراثة. ما هو؟ قل لي أنت ما هو. وقل لي ما إذا كنت على ضلال أو هدى فإني أثق بك.. وسواء أكنت مخطئة أم غير مخطئة فإن قلبي يسير إليك، وخير ما يفعل هو أن يظل حائماً حواليك، يحرسك ويحنو عليك.... غابت الشمس وراء الأفق، ومن خلال السحب العجيبة الأشكال والألوان حصحصت نجمة لامعة واحدة هي الزهرة، آلهة الحب، أترى يسكنها كأرضنا بشر يحبون ويتشوقون؟ ربما وجد فيها بنت هي مثلي، لها جبران واحد، حلو بعيد هو القريب القريب. تكتب إليه الآن والشفق يملأ الفضاء، وتعلم أن الظلام يخلف الشفق، وأن النور يتبع الظلام، وأن الليل سيخلف النهار، والنهار سيتبع الليل مرات كثيرة قبل أن ترى الذي تحب، فتتسرب إليها كل وحشة الشفق، وكل وحشة الليل، فتلقي بالقلم جانباً لتحتمي من الوحشة فاسم واحد: جبران).

من جبران إلى مي
نحن اليوم رهن عاصفة ثلجية جليلة مهيبة، وأنت تعلمين يا ماري أنا أحب جميع العواصف وخاصة الثلجية، أحب الثلج، أحب بياضه، وأحب هبوطه، وأحب سكوته العميق. وأحب الثلج في الأودية البعيدة المجهول حتى يتساقط مرفرفاً، ثم يتلألأ بنور الشمس، ثم يذوب ويسير أغنيته المنخفضة.
أحب الثلج وأحب النار، وهما من مصدر واحد، ولكن لم يكن حبي لهما قط سوى شكل من الاستعداد لحب أقوى وأعلى وأوسع. ما ألطف من قال:
يا مي عيدك يوم
وأنت عيد الزمان
انظري يا محبوبتي العذبة إلى قدس أقداس الحياة، عندما بلغت هذه الكلمة ((رفيقة)) ارتعش قلبي في صدري، فقمت ومشيت ذهاباً في هذه الغرفة كمن يبحث عن رفيقه. ما أغرب ما تفعله بنا كلمة واحدة في بعض الأحايين! وما أشبه تلك الكلمة الواحدة برنين جرس الكنيسة عند الغروب! إنها تحول الذات الخفية فينا من الكلام إلى السكوت، ومن العمل إلى الصلاة.
تقولين لي أنك تخافين الحب.
لماذا تخافين يا صغيرتي؟
أتخافين نور الشمس؟
أتخافين مد البحر؟
أتخافين مجيء الربيع؟
لماذا يا ترى تخافين الحب؟
أنا أعلم أن القليل من الحب لا يرضيك، كما أعلم أن القليل في الحب لا يرضيني، أنت وأنا لا ولن نرضى بالقليل. نحن نريد الكثير. نحن نريد كل شيء. نحن نريد الكمال. أقول يا ماري إن في الإرادة الحصول، فإذا كانت إرادتنا ظلاً من أظلال الله، فسوف نحصل بدون شك على نور من أنوار الله.
لا تخافي الحب يا ماري، لا تخافي الحب يا رفيقة قلبي، علينا أن نستسلم إليه رغم ما فيه من الألم والحنين والوحشة، ورغم ما فيه من الالتباس والحيرة.
اسمعي يا ماري: أنا اليوم في سجن من الرغائب، ولقد ولدت هذه الرغائب عندما ولدت. وأنا اليوم مقيد بقيود فكرة قديمة، قديمة كفصول السنة، فهل تستطيعين الوقوف معي في سجني حتى نخرج إلى نور النهار وهل تقفين إلى جانبي حتى تنكسر هذه القيود فنسير حرين طليقين نحو قمة جبالنا؟
والآن قربي جبهتك. قربي جبهتك الحلوة …والله يباركك ويحرسك يا رفيقة قلبي الحبيبة.
لا بأس – على أنني أخشى بلوغ النهاية قبل الحصول على هذا الشرف وهذا الثواب.
لنعد هنيهة إلى ((عيدك)) أريد أن أعرف في أي يوم من أيام السنة قد ولدت صغيرتي المحبوبة. أريد أن أعرف لأني أميل إلى الأعياد وإلى التعييد.
وسيكون لعيد ماري الأهمية الكبرى عندي. ستقولين لي ((كل يوم يوم مولدي يا جبران))
وسأجيبك قائلاً: ((نعم، وأنا أعيّد لك كل يوم، وكان لا بد من عيد خصوصي مرة كل سنة)).

من جبران إلى مي ..!!
لقد أعادت رسائلك إلى نفسي ذكرى ألف ربيع وألف خريف وأوقفتني ثانية أمام تلك الأشباح التي كنا نبتدعها ونسيرها مركبا إثر مركب .. تلك الأشباح التي ما ثار البركان في أوروبا حتى انزوت محتجة بالسكوت , وما أعمق ذلك السكوت وما أطوله ! .
هل تعلمين يا صديقتي بأني كنت أجد في حديثنا المتقطع التعزية والأنس والطمأنينة , وهل تعلمين بأني كنت أقول لذاتي , هناك في مشارق الأرض صبية ليست كالصبايا , قد دخلت الهيكل قبل ولادتها ووقفت في قدس الأقداس فعرفت السر العلوي الذي اتخذه جبابرة الصباح ثم اتخذت بلادي بلادا لها وقومي قوما لها.
هل تعلمين بأني كنت أهمس هذه الأنشودة في أذن خيالي كما وردت على رسالة منك ولو علمت لما انقطعت عن الكتابة إلي , وربما علمت فانقطعت وهذا لا يخلو من أصالة الرأي والحكمة
من جبران لمي
حضرة الأديبة الفاضلة.
قد فكرت بأمور كثيرة في تلك الشهور الخرساء التي مرت بدون خطاب ولا جواب ولكنه لم يخطر على بالي كونك " شريرة" أما الآن وقد صرّحت لي بوجود الشر في روحك فلا يجمل بي سوى تصديقك فأنا أصدق وأثق بكل كلمة تقولينها لي ! أنت بالطبع تفتخرين بقولك – أنا شريرة – ويحق لك الافتخار لأن الشر قوة تضارع الخير بعزمها وتأثيرها . ولكن اسمحي لي أن أقول لك مصرحاً بأنك مهما تماديت بالشر فلا تبلغين نصف ما بلغته فأنا شرير كالأشباح الساكنة في كهوف الجحيم بل أنا شرير كالروح السوداء التي تحرس أبواب الجحيم ! وأنت بالطبع ستصدقين كلامي هذا !.
غير أنني للآن لم أفهم الأسباب الحقيقية التي دعتك إلى استخدام الشر ضدي فهلا تكرمت بافهامي ؟ قد أجبت على كل رسالة تكرمت بها عليّ واسترسلت متعمقاً بمعاني كل لفظة تعطفت بهمسها في أذني فهل هناك أمر آخر كان يجب عليّ أن أفعله ؟ أو لم تبدعي لي من " لا شيء" ذنباً لتبيني لي مقدرتك على الاقتصاص ؟ لقد فلحت وأحسنت البيان , أما أنا فقد آمنت باقنومك الجديد الكلي المطلق الجامع بين أسياف " كالي" ربة الهند وسهام " ديانا" معبودة الأغريق .
والآن وقد فهم كل منا ما في روح الآخر من الشر والميل إلى الاقتصاص فلنعد إلى متابعة الحديث الذي ابتدأنا به منذ عامين . كيف أنت وكيف حالك ؟ هل أنت بصحة وعافية ( كما يقول سكان لبنان )؟ هل خلعت ذراعاً ثانية في الصيف الماضي أم منعتك والدتك من ركوب الخيل فعدت إلى مصر صحيحة الذراعين ؟ أما أنا فصحتي أشبه شيء بحديث السكران وقد صرفت الصيف والخريف متنقلاً بين أعالي الجبال وشواطئ البحر ثم عدت إلى نيويورك أصفر الوجه نحيل الجسم لمتابعة الأعمال ومصارعة الأحلام – تلك الأحلام الغريبة التي تصعد بي إلى قمة الجبل ثم تهبط بي إلى أعماق الوادي .
وقد سررت باستحسانك مجلة الفنون فهي أفضل ما ظهر من نوعها في العالم العربي , أما صاحبها فهو فتى عذب النفس دقيق الفكر وله كتابات لطيفة وقصائد مبتكرة ينشرها تحت اسم " ليف" ومما يستدعي الإعجاب بهذا الشاب هو أنه لم يترك شيئاً مما كتبه الافرنج إلا وعرفه حق المعرفة . أما صديقنا أمين الريحاني فقد ابتدأ بنشر رواية جديدة طويلة في مجلة فنون وقد قرأ لي أكثر فصولها فوجدتها جميلة للغاية ولقد أخبرت صاحب الفنون بأنك سوف تبعثين إليّ بمقالة ففرح وبات يترقب .
بكل أسف أقول انني لا أحسن الضرب على آلة من آلات الطرب ولكنني أحب الموسيقى محبتي الحياة ولي ولع خاص بدرس قواعدها ومبانيها والتعمق بتاريخ نشأتها وارتقائها , فان ابقتني الأيام سأكتب رسالة طويلة في الدوائر العربية والفارسية وكيفية ظهورها وتدرجها وتناسخها .
ولي ميل للموسقى الغربية يضارع ميلي للأنغام الشرقية فلا يمر أسبوع إلا وأذهب مرة أو مرتين إلى الأوبرا غير أني أفضل من البيان الموسيقي الأفرنجي تلك المعروفة بالسنفوني والسوناتا والكنتاتا على الأوبرا والسبب في ذلك خلوّ الأوبرا من البساطة الفنية التي تناسب أخلاقي وتتمايل مع أميالي . واسمحي لي الآن أن أغبط يدك على عودك وعودك على يدك وأرجوك أن تذكري اسمي مشفوعاً باستحساني كلما ضربت نغم النهوند على الأوتار فهو نغم أحبه ولي رأي فيه يشابه رأي " كارليل في النبي محمد ". ( كارلايل : أديب ومؤرخ انكليزي درس بعضا من العربية في جامعة كمبردج سنة 1795 وكتب عن النبي محمد فصلا ضمنه إعجابه بشخصيته البطولية في مؤلفه " الأبطال , عبادة الأبطال , والبطولة في التاريخ "
وهلا تكرمت بذكري أمام هيبة أبي الهول ؟ عندما كنت في مصر كنت أذهب مرتين في الأسبوع واصرف الساعات الطوال جالساً على الرمال الذهبية محدقاً بالأهرام وكنت في ذلك العهد صبياً في الثامنة عشرة ذا نفس ترتعش أمام المظاهر الفنية ارتعاش الأعشاب أمام العاصفة , أما أبو الهول فكان يبتسم لي ويملأ قلبي بحزن عذب وندبات مستحبة .
أنا معجب مثلك بالدكتور شميل فهو واحد من القليلين الذين انبتهم لبنان ليقوموا بالنهضة الحديثة في الشرق الأدنى وعندي أن الشرقيين يحتاجون إلى أمثال الدكتور شميل حاجة ماسة كرد فعل للتأثير الذي أوجده الصوفيون والمتعبدون في القطرين مصر وسوريا .
هل قرأت الكتاب الفرنساوي الذي وضعه خير الله افندي خير الله ؟ أنا لم أره بعد وقد أخبرني صديق أن في الكتاب فصل عنك وفصل آخر عني فإذا كان لديك نسختان تكرمي بإرسال نسخة منهما إليّ وأجرك على الله .
ها قد انتصف الليل فليسعد الله مساءك ويبقيك للمخلص ...!!
مي زيادة فراشة في سماء الأدب
أديبة وشاعرة متميزة ومثقفة، وصاحبة مكانة متميزة في الأوساط الأدبية والثقافية مي بين الأدباء والصحافيين بثقافتها الواسعة وتألقها الأدبي والفكري، وصالونها الأدبي الذي كان يزخر بالعديد من الأدباء والمفكرين الذين يتبارون في عرض إنتاجهم الأدبي والثقافي مما كان له تأثير كبير في تنشيط الحركة الأدبية في ذلك الوقت اشتهرت مي زيادة بثقافتها الواسعة والتي كانت تعمل دائماً على زيادتها بالقراءة والدراسة وأطلعت على العديد من الكتب سواء العربية أو الغريبة ساعدها في ذلك إلمامها بالعديد من اللغات، تعرفت مي على العديد من الشخصيات سواء من الكتاب أو الصحفيين وعرفت كأديبة وباحثة وناقدة، كما كانت لديها قدرة رائعة على الخطابة.
الحبُّ السماوي بين مي زيادة وجبران خليل جبران
إذا كان يحق لتراثنا العربي أن يفخر بأنه أنجب شعراً يتناول قصص الحب العذري ("قيس وليلى" "جميل بثينة" "قيس ولبنى") فإننا اليوم نعايش امتداد هذه الظاهرة في أدبنا الحديث بفضل الحب السماوي الذي بزغت أنواره بين قلبي الأديبين مي زيادة وجبران خليل جبران، رغم أنهما لم يلتقيا أبداً، فقد كانت الرسائل المتبادلة بين القاهرة حيث تقيم (مي) ونيويورك حيث يقيم (جبران) هي وثيقة هذا الحب الفريد
ولكن مع الأسف ضاعت معظم رسائل المرأة في الثلاثينيات وبقيت رسائل الرجل (كما ذاعت في الستينيات رسائل غادة السمان وبقيت رسائل غسان كنفاني) رغم أن (جبران) كان يعيش في أمريكا، حيث تتم العناية بكل ما يتركه الأديب، وفعلاً هذا ما حصل إثر وفاة جبران، إذ حافظت سكرتيرته وأخته على أعماله الأدبية والفنية وأشيائه!!...‏ هنا لابد أن نتساءل: هل المرأة أكثر حرصاً على رسائل حبها من الرجل؟ أم أن ميراث جبران قد تعرض لعملية سطو إثر وفاته، كي لا نظلم الرجل؟‏
نعتقد أن التساؤل الأول يخفي تعصباً نسوياً يهاجم وفاء الرجل، لذلك نميل إلى التساؤل الثاني، فقد ذكر ميخائيل نعيمة في كتابه عن حياة جبران أنه رأى تلك الرسائل لديه، لهذا من الأرجح أن تكون تلك الرسائل قد سرقت من قبل امرأة لبنانية أرادت أن تكون حبيبة جبران الوحيدة.‏ مهما تكن الإجابة فإن النتيجة واحدة، وهي غياب صوت المرأة في هذا الحب! كما غاب صوتها في الحب العذري الذي خلّده لنا الشعراء! وقد آلمني أن يضيع صوت المرأة في هذا العصر كما ضاع في الماضي، فحاولت نسج خيوط هذه العلاقة في "رواية الحب السماوي بين مي زيادة وجبران خليل جبران"، لعلي أقدّم معاناة المرأة عبر تخيل صوتها والاقتراب من تجربة حب فريد تعيشه المرأة معاناة يومية منذ تفتحها وحتى موتها!..‏ 
لم تكن مي امرأة عادية، فقد امتزجت في ملامح شخصيتها الريادة الأدبية بالريادة الاجتماعية في بداية القرن العشرين، لهذا كانت أولى خطواتها في هذا المجال هي الإقبال على التعليم والتفرغ للكتابة، وقد دفعها حبها للغة العربية أن تفتح بيتها، بتشجيع من والديها، لرجال الأدب، فكانت تحاورهم وتستمع إلى إبداعاتهم في صالونها الذي كانت تعقده كل يوم ثلاثاء، مما أثر إيجابياً على عملها الصحفي والأدبي، فقد عملت مع أبيها في صحيفته "المحروسة" التي افتتحها في القاهرة، كل ذلك في زمن لم تكن المرأة العربية تجرؤ على الخروج من المنزل وحدها.‏ 
لم تحاول مي الخروج من الأغلال الخارجية التي تقيد المرأة فقط، بل وجدناها تحاول الخروج من أغلال الذات، فكانت رائدة في محاولة التعبير عن أعماقها عبر الأدب ( الرسائل، المقالة، الخاطرة الوجدانية التي وجدناها في كتبها) أي عبر أجناس أدبية تظهر صوت (الأنا) صريحاً واضحاً، وبذلك استطعنا أن نعايش أعماقها بكل ما يعتلج فيها من عواطف وأحلام وصراعات، إذ من المعروف أن الكاتبة العربية لم تجرؤ على الخوض في هذا المجال إلا بعد (مي) بأكثر من خمسين سنة، وهي، غالباً، حين تريد أن تعبر عن ذاتها تتخذ قناع الشخصية الروائية (وهذا ما فعلته الأديبة غادة السمان في روايتها "الرواية المستحيلة فسيفساء دمشقية"(1997). والتي إلى الآن لم تصدر الجزء الثاني المتعلق بمرحلة الشباب، وتوقفت عند مرحلة الطفولة والمراهقة!!).‏ 
هنا يجدر بنا أن نوضح أن (مي) لم تكن في بداية علاقتها بجبران امرأة منطلقة في التعبير عن ذاتها، فقد اكتفت في البداية بالعلاقة الفكرية، بل دعت جبران للالتزام بحدودها، فاتسمت لغتها بالحذر، وتحصنت باللهجة الرسمية في الخطاب، فأخفت مشاعرها بألف قناع، حتى وجدنا جبران يتساءل مستغرباً شدة ترددها وحذرها: "أهو الخجل أم الكبرياء أم الاصطلاحات الاجتماعية". لعله كان يقارنها بالمرأة التي التقى بها في الغرب، والتي تتمتع بحرية التعبير عن أعماقها! دون أن يغفل عن خصوصية المرأة الشرقية وضغط القيود الاجتماعية عليها، مما تضطرها إلى الاحتماء بالخجل تارة وبالكبرياء تارة أخرى!..‏
من المؤكد أن (مي) في البداية سعت إلى توظيف المراسلة بينها وبين أديب مشهور، كي تجعلها عاملاً في تطويرها الفكري والأدبي، ولم تتوقع أن تقع أسيرة كلماته، لكنها حين أحست أنها بدأت تحرك عواطفها وتمتّع ذائقتها الفنية معاً، بدأت بالتهرب منها!..‏
هنا لا نستطيع أن نفصل بين مي الإنسانة والأديبة، فقد عشقت مي الأديبة كلماته ربما قبل المراسلة، وازدادت عشقاً لها بعدها، فانقلب العشق الفني إلى عاطفة متأججة يأباها عقلها، لهذا ملأ التردد ذاتها، وشاعت لديها الصرامة في محاسبة الذات ومحاسبة الطرف الآخر (المرسل) على كل كلمة، لهذا وصفها جبران في إحدى الرسائل بـ(الموسوسة) التي لا تعرف سوى التردد، من هنا لن نستغرب تكرار هذه الأفكار والمواقف التي نستشفها من رسائل جبران، فهي محبة يعجبها الاستمرار مع جبران في مثل هذه المغامرة، لكن سرعان ما يؤرقها صوت العقل الذي يذكرها بالواقع الاجتماعي الذي يعلي قيمة الأسرة والزواج في حياة المرأة، ولم يعتد مثل هذه علاقات الصداقة والحب بين المرأة والرجل دون رابط شرعي! كما يذكرها صوت العقل بوقع الزمن الذي لا يرحم المرأة، فكانت تنقطع عن مراسلته أشهراً طويلة، ثم تعود، ومع عودتها كانت تضطر لمعاودة الحوار مع ذاتها لإقناعها بضرورة علاقتها مع جبران، وقد كانت تعيش صراعاً دائماً مع ذاتها، فتتكرر محاسبتها لها، لهذا كانت تتكرر أسئلة جبران مستفهماً أسباب الانقطاع، فكانت تدافع عن وجهة نظرها بترداد حججها نفسها، التي تزداد مع الأيام وجاهة وإقناعاً! إذ تنطلق باسم العقل الذي لا ينفصل عن المشاعر كما يعتقد الكثيرون!! كما نجدها تنطق باسم المجتمع حيث كانت أمها أحد الأصوات القوية التي تردد على مسامعها أن الزمن لا يرحم وأن الاستقرار ضروري للمرأة!‏

لهذا كله انتظرت حوالي اثنتي عشرة سنة لتصرح بعواطفها كتابة لجبران، ولتبين له أن الورق هو الذي منحها الجرأة، وأنه لو كان يشاركها العيش في بلدها لما جرؤت على ذلك! لكن يبدو أن التصريح لم يجلب لها الراحة المتواخاة، أو الأمل بعرض للزواج يأتيها من جبران! لذلك تعود إلى ترددها وتهربها خاصة بعد أن غزا الشيب مفرقها!.. لكن عاطفتها القوية تلح عليها بالكتابة، يضاف إلى تلك العاطفة حس إنساني مرهف بآلام الآخرين، لهذا كان قلقها على صحة جبران من أسباب عودتها للكتابة إليه أحياناً!..‏
لعل هذا التردد في قبول مثل هذه العلاقة الاستثنائية أحال حياتها إلى مأساة، فعاشت القلق والمعاناة في علاقة كان عزاؤها فيها هو الخيال والرحلة عبر الكلمة إلى عوالم مدهشة، تنأى بها عن الواقع واحتياجاته الطبيعية.‏
لم تستطع (مي) الركون إلى هذه العلاقة سوى لحظات تحلق بها بعيداً، ثم ترتطم بالأرض، فالمرأة المثقفة والأديبة كانت تبحث عن علاقة طبيعية، تعيش فيها عواطفها وأمومتها! وفي الوقت نفسه تحلق روحها فيها بعيداً عن المألوف في علاقة أقرب إلى الاستثناء!..‏
أعتقد أن روعة شخصية (مي) تجلت في كونها أنهت صراعها الداخلي حين تأكدت في النهاية من مرض جبران، فبدت لنا امرأة عاشقة وأماً حانية، تسعى للوقوف إلى جانب جبران في محنته!... فتحيطه بعواطف الحب والأمومة معاً!!..‏
إن المتأمل في قصة الحب هذه، لابد أن تدهشه قدرة المرأة على الحب والعطاء، فقد منحت رجلاً لم تره أبداً كل حياتها، حتى أصبح هذا الحب مأساتها وعزاءها معاً! فقد أحبت جبران عبر كلماته، وأخلصت له، حتى إنها عاشت تستمد القوة منها سواء في حياة جبران أم بعد وفاته!..‏
للوهلة الأولى تبدو لنا (مي) امرأة تعيش حياة منطلقة بالقياس إلى نساء عصرها الشرقيات، إذ استطاعت أن تجمع في صالونها أبرز أدباء عصرها (طه حسين، العقاد، الرافعي...)، وذلك بفضل سماتها الشخصية (الثقافة واللباقة والروح المرحة والإخلاص والصدق) مما يدفعني إلى الاعتقاد بأنها أسهمت في تطوير الحركة الثقافية في تلك الفترة، خاصة أنها خلقت جواً تنافسياً بين الأدباء، فكل واحد منهم كان معنياً بكسب ودها، بل عاطفتها! لكنها رغم ذلك ظلت امرأة شرقية متحفظة في علاقتها مع الرجل، إلى درجة أن العقاد قال لها يوماً: أنت تعيشين كراهبة في صومعة! فهي من الناحية الشعورية ظلت أمينة لعادات الشرق وتقاليده، لهذا استطاعت أن تنال احترام مجتمعها رغم اختلاطها بالرجال هذا من جهة، ومن جهة أخرى كان ذلك خير دليل على إخلاصها لجبران!!..‏
لقد تجاوزت مي المألوف حين وجدت في كلمات الحب ملاذاً عاطفياً لها، فسجنت حياتها فيها، فاختارت حباً أشبه بالخيال على حياة عادية، فحرمت نفسها من دفء العائلة وضحت بسببها بالأمومة التي هي حلم كل امرأة!..‏ 
ولعل خير دليل على أهمية تلك الكلمات في حياة (مي) أنها عاشت متألقة في حياتها الاجتماعية والأدبية على وقع رسائل جبران، ولم تتدهور حياتها النفسية إلا بعد وفاة جبران (1931) إذ عدّت نفسها أرملته، فارتدت السواد عليه، ومما فاقم بؤسها وفاة أمها في إثره (1932) لعلها في تلك الفترة بدأت تشعر بعدم الرضى عن نفسها، واكتشفت أن قرارها بعدم الزواج لم يكن صائباً! وبدأت تحاسب نفسها بقسوة، فقد أحست بمدى الظلم الذي ألحقته بحياتها حين تعلقت بكلمات جبران، ووهبت شبابها لحب سماوي لا علاقة له بالواقع وبطبيعة البشر!..‏ 
لا يمكننا أن نحمّل الكلمة المجنحة المسؤولية عن تدهور حالتها النفسية وإغراقها في الكآبة، لأننا نلغي إرادتها في استمرار تلك العلاقة، التي جلبت لها الفرح والألم معاً!.. لكننا نستطيع أن نحمّل أقاربها في مصر ثم في لبنان تلك المسؤولية، إذ بدؤوا بإزعاجها منذ وفاة أبيها (1930) فطالبوها بالإرث، بل وصل بهم الطمع حد مطالبتهم بنصف ثروتها التي كونتها مع أبيها! وحين رفضت زاد إزعاجهم لها، حتى وصل شرهم حدّ تدبير مكيدة إدخالها مشفى المجانين في لبنان! ولولا مساعدة أهل المروءة من الأدباء (أمين الريحاني) والشرفاء من أمثال أولاد الأمير عبد القادر الجزائري وغيرهم من الصحفيين والمحامين لما خرجت من محنتها!!..‏ 
المدهش أن (مي) حملت رسائل جبران معها، في كل مكان رحلت إليه، ورافقتها في مأساتها في مشفى (ريفز) في بيروت أطلعت عليها جارتها في الغرفة المجاورة، فقد شكلت لها عزاء في مأساتها الرهيبة!..‏
إننا أمام امرأة غير عادية أخلصت لحب رجل، يعيش بعيداً عنها، ويعترف لها، في إحدى رسائله، أن حياته موزعة بين امرأتين، (امرأة الحلم وامرأة الواقع) فكان نصيب (مي) دور الملهمة التي تحمل روح الشرق الذي يحلم بالعودة إليه دون أن يستطيع، فيرسل لها تلك الكلمات المجنحة، التي تعبر عن عواطفه لها، فتشدّها إليه كلما حاولت فكّ أسرها! في حين كانت امرأة الواقع (ماري هاسكل) تقف إلى جانبه فتسانده مادياً ليكمل رحلته في عالم الفن، كما ساندته معرفياً، حين كانت تصحح له نسخ كتبه التي كان يكتبها بالإنكليزية! وتعترف ماري هاسكل أنه عرض عليها الزواج لكنها رفضت، ربما بسبب الفارق الكبير في السن، وربما بسبب علاقاته النسائية المتعددة! المهم أن صداقتها بجبران تستمر رغم زواجها، كما استمرت (مي) في حبها له رغم عدم زواجه بها! فقد أسرتها كلماته المدهشة، التي تستلب الروح والإرادة بعنفوانها وصدقها "أنت تحيين بي، وأنا أحيا بك" كما أسرتها صراحته، فقد وجدناه يكشف لها عيوب نفسه فهو يعيش في سجن طموحاته، يلاحقه إحساس أنه لم يقل شيئاً خالداً بعد، وأنه مؤرق بهاجس الإبداع الذي يحتاج تفرغاً كلياً، لعله يستطيع أن يقول كلمته، وهكذا يوضح لها أنه يعيش أسير مشروعاته الفنية والأدبية، وأن المرأة في حياته ملهمة ورفيقة إبداع بعيدة عن الأطر المألوفة!‏
لقد عاش جبران في الغرب كما يروي صديقه ميخائيل نعيمة حياة منطلقة دون أية قيود، فعرف العديد من النساء، وطمح إلى أن يعيش حياة خيالية مع امرأة شرقية، تغذي إبداعه بنبض خاص، كانت هذه الازدواجية تريحه وربما مصدر إلهام له، في حين كانت العلاقة بالنسبة إلى (مي) حياتها بأكملها رغم أنها خيال أقرب إلى الحلم! فبدت كلماته تسري في عروقها لتمنحها دماء الحياة وألقها، لقد كانت (مي) ضحية علاقة رسمها الرجل كما يريد له طموحه الإبداعي بمعزل عما تريده المرأة أو تحلم به.‏
إذاً لو كانت مي امرأة عادية لرفضت تلك العلاقة التي كانت عبءً عليها!! هنا نتساءل: هل طغت على (مي) رهافة حس الأديبة، فعاشت مخلصة للكلمة في حياتها الشخصية وفي حياتها العامة! هل رأت في الخيال جمالاً يفوق الواقع؟ هل كانت كلمات جبران حلماً لاذت به يعوضها عن بؤس الواقع؟... هل حياتها في مصر أي في بيئة غريبة عن بيتها في الشام سبباً في تعلقها بجبران، الذي رأت فيه وطناً تنتمي إليه!؟ هل أحست بأن هذه البيئة العربية قد عجزت عن إنجاب كفء لها؟.. فكان الخيال أرحم بها من الواقع!..‏
ربما افتقدت في محيطها الرجل الند لهذا عاشت قصة حب ترضي ذاتها، ولو كان ذلك عبر الوهم والخيال، مادام الواقع لم يطرح أمامها من يراه قلبها مناسباً فعاشت الصدق والإخلاص لعلاقة أشبه بالحلم، بل دعاها فيها جبران بامرأة الحلم.‏
لقد أدهشتني تضحية المرأة بشبابها من أجل حب سماوي، كما آلمني ضياع صوتها الخاص بضياع معظم رسائلها، رغم أنها ضحت بحياتها من أجل هذا الحب! لهذا تجرأت في كتابي "الحب السماوي بين مي زيادة وجبران خليل جبران" على تجسيده عبر الخيال مستعينة برسائل جبران، كي أستطيع استشفاف ردود فعل مي، وأبيّن أن الكلمة لم تكن محور حياتها الأدبية فقط، وإنما محور حياتها الشخصية!.. لهذا يمكنني القول بأن أبطال هذا الحب السماوي ثلاثة (مي وجبران والكلمة المجنحة).‏

ولكن ألم تكن الكلمة والخيال أحد أسباب كآبة (مي) التي ملأت الغصة حياتها؟
يعتبر جبران خليل جبران من الأدباء الذين أثروا فن المراسله عند العرب بما تركه من رسائل لفتت نظر الباحثين وأثارت فضولهم , فولجوا عبرها إلى عالم جبران المليء بالرموز والأسرار .. لقد فتح جبران فتحاً جديداً ورائعاً في دنيا الأدب العربي , عندما تحول عن التأليف بالعربيه ألى التأليف بالأنجليزيه.. حتى لمع أسمه في كثير من الدول الأجنبيه ..
وفي هذا الموضوع أود أن أسلّط الضوء على الحب الذي نشأ بين جبران ومي زياده , , حب فريد لامثيل له في تاريخ الأدب , أو في سير العشاق ,مثال للحب النادر المتجرد عن كل ماهو مادي وسطحي لقد دامت تلك العاطفه بينهما زهاء عشرين عاماً , دون أن يلتقيا الاّ في عالم الفكر والروح , والخيال الضبابي إذ كان جبران في مغارب الأرض مقيماً وكانت مي في مشارقها , كا ن في امريكا وكانت في القاهره. لم يكن حب جبران وليد نظره فابتسامه فسلام فكلام بل كان حباً نشأ ونما عبر مراسله أدبيه طريفه ومساجلات فكريه وروحيه ألفت بين قلبين وحيدين , وروحين مغتربين .ومع ذلك كانا أقرب قريبين وأشغف حبيبين ..

كان طبيعياً جداً أن يتعارف بطلا هذا الحب عن طريق الفكر والنشر في اوائل هذا القرن , بعد ان أصاب كل منهما شهره كبيره .. كانت مي معجبه بمقالات جبران وافكاره فبدأت بمراسلته عقب أطلاعها على قصته ( الأجنحه المتكسره ) التي نشرها في المهجر عام 1912م, كتبت له تعرب عن أعجابها بفكره واسلوبه , وتناقش اراءه في الزواج وقيوده , والحب وأطواره حسب رؤيته في هذه القصه التي قرأتها له وتعرض عليه رأيها في وجهة نظره في حرية المرأه التي طالب بها والتي اتفقت معه في أمر وعارضته في جانب آخر , حيث قالت " لايصح لكل أمرأه لم تجد في الزواج السعاده التي حلمت بها أن تبحث عن صديق غير زوجها فلا بد أن تتقيد المرأه بواجبات الشراكه الزوجيه تقيداً تام حتى لو هي سلاسل ثقيله , فلو توصل الفكر الى كسر قيود الأصطلاحات والتقاليد فلن يتوصل الى كسر القيود الطبيعه لأن أحكام الطبيعيه فوق كل شيء, وهذه تعتبر خيانه ولوفي مظهرها طاهر وتخون الهيأه الأجتماعيه التي هي عضو عامل فيها
ومن هنا كانت البدايه ومن ثم تواصل بالرسائل التي كان كل منهما يبحث عن روح الآخر في يقظته وأحلامه , كان كل منهما يسعى لرؤية ذاته في روح صاحبه حتى لكأن تلك الروح هي المرآة التي ينعكس على صفحتها نور الأخر ... وكلما قرأنا هذه الرسائل النابضه بالحياة الناضحه بالصدق , كلما أزددنا يقيناً بأن الحب الذي شد جبران الى مي , وشغف مي بجبران , حب عظيم , بل عشق يكاد يكون صوفياً لأنه تخطى حدود الزمان والمكان والحواس الى عالم تتحد فيه قوة الوجود
ويتضح لنا لدى التأمل في بعض الرسائل برغم ضياع بعضها أن الصله بين جبران ومي توثقت شيئاً فشيئاً لأن لهجته في مخاطبتها تدرّجت من التحفظ الى التودد , ومن الأعجاب الى صداقه حميمه , ومن ثمَ الى حب عام 1919م ما أن بلغ ذروته حتى عكرت صفوه سلسله من الخلافات بينهما التي عبّر عنها جبران مرةً " هي معاكسات التي تحوّل عسل القلب ألي مراره " وقال" ان الغريب حقاً في هذه الصله تأرجحها بين الحب الجامح والفتور , بين التفاهم التام الذي كان يضفي عليهما شفافيه روحيه تغمرهما بالسعاده ,وبين سوء التفاهم الذي كان يؤلمهما ويؤدي الى القطيعه احياناً ولكن شدة ولع كل منهما الآخر كانت تدفعهما للتصالح مجدداً..
وبرغم كل هذا الحب كان كل منهما يخشى التصريح بعواطفه فيلجأ جبران للتلميح , ويرمز إليها ويضع عبارات وصور مبتكره وجميله .. فلم ينادي مي قط بقوله 
حبيبتي" ولم يخاطبها باللغه المألوفه للعشاق , غير أنه عبّر عن حبه بما هو أبلغ عندما قال أنت تحيين فيّ , وانا أحيا فيكِ " ووصف علاقته بها " بأنها أصلب وأبقى بما لايقاس من الروابط الدمويه والأخلاقيه "وبعد أن باح لها , رجاها ان تطعم النار رسالته اذا لم تجد لبوحه الصدى المرجوا في نفسها كانت مي في حياة جبران الصديقه, والحبيبه الملهمه , وصلة الوصل بينه وبين وطنه , وأكثر ماحبه فيها عقلها النيّرالذى تجلى في مقالاتها وكتبها , وأحب فيها حبها له .., واعجابها بشخصيته وانتاجه الأدبي والفني الذي كانت تتناوله بالتقريظ والنقد في مقالاتها في مصر وعلى الرغم من كل ماكُتب عن علاقات جبران الغراميه من النساء امثال " ماري هاسكل " وميشلين " فأن حبه لمي كان الحب الوحيد الذي ملك قلبه وخياله ورافقه حتى نهاية حياته فقد كان حبه لها معادلاً حبه العارم لوطنه لبنان ..ولروحانية الشرق , وبالدم العربي الذي يجري في عروقه ,, وهذا مما تؤكده رسائل الشعله الزرقاء , التي هي جوهر النفس الأنسانيه في أسمى صفائها , ويميل المحللون للأعتقاد بأنه لم يكن يفكر في الزواج لاعتلال في صحته منذ شبابه ,, ولا ريب ان مي احبت جبران حباً جعل المقارنه بينه وبين الذين خطبوا ودّها أمراً مستحيلاً , برغم تردد مي في الأعراب عن مشاعرها وخشيتها في الأنطلاق على سجيتها في مراسلته , وذلك بسبب ان جبران كان يعيش في عالم متطور تحررت نساؤه من التقاليد , وحيث أن مي كانت مغلولة القلب والقلم بتأثير البيئه التي عاشت فيها .. وبرغم انها جعلت من بيتها صالوناً أدبياً يلتقي فيه كل ثلاثاء رجال الأدب والفكر امثال احمد لطفي السيد وخليل مطران وطه حسين وعباس محمود العقاد وغيرهم من الأدباء والمفكرين ...

لقد تمنى جبران ان تتحرر مي من عقدها النفسيه وشكوكها ! مي عانت صراعاً نفسياً حاداً في حبها لجبران سبّب لها الشقاء ولجبران العذاب والأرهاق ..وحين تجاوزت الخامسه والثلاثين من العمر لملمت كل شجاعتها وكتبت أجمل رسالة حب .. ولكن ألم تكن الكلمة والخيال أحد أسباب كآبة (مي) التي ملأت الغصة حياتها؟ يعتبر جبران خليل جبران من الأدباء الذين أثروا فن المراسله عند العرب بما تركه من رسائل لفتت نظر الباحثين وأثارت فضولهم , فولجوا عبرها إلى عالم جبران المليء بالرموز والأسرار .. لقد فتح جبران فتحاً جديداً ورائعاً في دنيا الأدب العربي , عندما تحول عن التأليف بالعربيه ألى التأليف بالأنجليزيه.. حتى لمع أسمه في كثير من الدول الأجنبيه
و هنا أود أن أسلّط الضوء على الحب الذي نشأ بين جبران ومي زياده , , حب فريد لامثيل له في تاريخ الأدب , أو في سير العشاق ,مثال للحب النادر المتجرد عن كل ماهو مادي وسطحي
لقد دامت تلك العاطفه بينهما زهاء عشرين عاماً , دون أن يلتقيا الاّ في عالم الفكر والروح , والخيال الضبابي إذ كان جبران في مغارب الأرض مقيماً وكانت مي في مشارقها , كا ن في امريكا وكانت في القاهره. لم يكن حب جبران وليد نظره فابتسامه فسلام فكلام بل كان حباً نشأ ونما عبر مراسله أدبيه طريفه ومساجلات فكريه وروحيه ألفت بين قلبين وحيدين , وروحين مغتربين .ومع ذلك كانا أقرب قريبين وأشغف حبيبين ..
كان طبيعياً جداً أن يتعارف بطلا هذا الحب عن طريق الفكر والنشر في اوائل هذا القرن , بعد ان أصاب كل منهما شهره كبيره .. كانت مي معجبه بمقالات جبران وافكاره فبدأت بمراسلته عقب أطلاعها على قصته ( الأجنحه المتكسره ) التي نشرها في المهجر عام 1912م, كتبت له تعرب عن أعجابها بفكره واسلوبه , وتناقش اراءه في الزواج وقيوده , والحب وأطواره حسب رؤيته في هذه القصه التي قرأتها له وتعرض عليه رأيها في وجهة نظره في حرية المرأه التي طالب بها والتي اتفقت معه في أمر وعارضته في جانب آخر , حيث قالت " لايصح لكل أمرأه لم تجد في الزواج السعاده التي حلمت بها أن تبحث عن صديق غير زوجها فلا بد أن تتقيد المرأه بواجبات الشراكه الزوجيه تقيداً تام حتى لو هي سلاسل ثقيله , فلو توصل الفكر الى كسر قيود الأصطلاحات والتقاليد فلن يتوصل الى كسر القيود الطبيعه لأن أحكام الطبيعيه فوق كل شيء, وهذه تعتبر خيانه ولوفي مظهرها طاهر وتخون الهيأه الأجتماعيه التي هي عضو عامل فيها "
ومن هنا كانت البدايه ومن ثم تواصل بالرسائل التي كان كل منهما يبحث عن روح الآخر في يقظته وأحلامه , كان كل منهما يسعى لرؤية ذاته في روح صاحبه حتى لكأن تلك الروح هي المرآة التي ينعكس على صفحتها نور الأخر ... وكلما قرأنا هذه الرسائل النابضه بالحياة الناضحه بالصدق , كلما أزددنا يقيناً بأن الحب الذي شد جبران الى مي , وشغف مي بجبران , حب عظيم , بل عشق يكاد يكون صوفياً لأنه تخطى حدود الزمان والمكان والحواس الى عالم تتحد فيه قوة الوجود ويتضح لنا لدى التأمل في بعض الرسائل برغم ضياع بعضها أن الصله بين جبران ومي توثقت شيئاً فشيئاً لأن لهجته في مخاطبتها تدرّجت من التحفظ الى التودد , ومن الأعجاب الى صداقه حميمه , ومن ثمَ الى حب عام 1919م ما أن بلغ ذروته حتى عكرت صفوه سلسله من الخلافات بينهما التي عبّر عنها جبران مرةً " هي معاكسات التي تحوّل عسل القلب ألي مراره " وقال" ان الغريب حقاً في هذه الصله تأرجحها بين الحب الجامح والفتور , بين التفاهم التام الذي كان يضفي عليهما شفافيه روحيه تغمرهما بالسعاده ,وبين سوء التفاهم الذي كان يؤلمهما ويؤدي الى القطيعه احياناً ,,]ولكن شدة ولع كل منهما الآخر كانت تدفعهما للتصالح مجدداً..
وبرغم كل هذا الحب كان كل منهما يخشى التصريح بعواطفه فيلجأ جبران للتلميح , ويرمز إليها ويضع عبارات وصور مبتكره وجميله .. فلم ينادي مي قط بقوله 
حبيبتي" ولم يخاطبها باللغه المألوفه للعشاق , غير أنه عبّر عن حبه بما هو أبلغ عندما قال أنت تحيين فيّ , وانا أحيا فيكِ " ووصف علاقته بها " بأنها أصلب وأبقى بما لايقاس من الروابط الدمويه والأخلاقيه "وبعد أن باح لها , رجاها ان تطعم النار رسالته اذا لم تجد لبوحه الصدى المرجوا في نفسها
كانت مي في حياة جبران الصديقه, والحبيبه الملهمه , وصلة الوصل بينه وبين وطنه , وأكثر ماحبه فيها عقلها النيّرالذى تجلى في مقالاتها وكتبها , وأحب فيها حبها له .., واعجابها بشخصيته وانتاجه الأدبي والفني الذي كانت تتناوله بالتقريظ والنقد في مقالاتها في مصر ...
وعلى الرغم من كل ماكُتب عن علاقات جبران الغراميه من النساء امثال " ماري هاسكل " وميشلين " فأن حبه لمي كان الحب الوحيد الذي ملك قلبه وخياله ورافقه حتى نهاية حياته فقد كان حبه لها معادلاً حبه العارم لوطنه لبنان ..ولروحانية الشرق , وبالدم العربي الذي يجري في عروقه ,, وهذا مما تؤكده رسائل الشعله الزرقاء , التي هي جوهر النفس الأنسانيه في أسمى صفائها , ويميل المحللون للأعتقاد بأنه لم يكن يفكر في الزواج لاعتلال في صحته منذ شبابه ,, ولا ريب ان مي احبت جبران حباً جعل المقارنه بينه وبين الذين خطبوا ودّها أمراً مستحيلاً , برغم تردد مي في الأعراب عن مشاعرها وخشيتها في الأنطلاق على سجيتها في مراسلته , وذلك بسبب ان جبران كان يعيش في عالم متطور تحررت نساؤه من التقاليد , وحيث أن مي كانت مغلولة القلب والقلم بتأثير البيئه التي عاشت فيها .. وبرغم انها جعلت من بيتها صالوناً أدبياً يلتقي فيه كل ثلاثاء رجال الأدب والفكر امثال احمد لطفي السيد وخليل مطران وطه حسين وعباس محمود العقاد وغيرهم من الأدباء والمفكرين ...
لقد تمنى جبران ان تتحرر مي من عقدها النفسيه وشكوكها ! مي عانت صراعاً نفسياً حاداً في حبها لجبران سبّب لها الشقاء ولجبران العذاب والأرهاق ..وحين تجاوزت الخامسه والثلاثين من العمر لملمت كل شجاعتها وكتبت أجمل رسالة حب..

جبران !
لقد كتبت كل هذه الصفحات لأتحايد كلمة الحب . ان الذين لايتاجرون بمظهر الحب ينمّي الحب في أعماقهم قوه ديناميكيه رهيبه قد يغبطون الذين يوزعون عواطفهم في الللاء السطحي لأنهم لايقاسون ضغط العواطف التي لم تنفجر ,, ويفضّلون تضليل قلوبهم عن ودائعها , والتلهي بما لاعلاقه له بالعاطفه , يفضلون أي غربه , وأي شقاء ( وهل من شقاء وغربه في غير وحدة القلب ؟) على الأكتفاء بالقطرات الشحيحه ..
مامعنى هذا الذي اكتبه ؟ اني لا أعرف ماذا أعني به ! ولكني أعرف انك " محبوبي " , وأني أخاف الحب , أقول هذا مع علمي بأن القليل من الحب كثير .. الجفاف ةالقحط والللا شيء بالحب خير من النزر اليسير , كيف أجسر على الأفضاء اليك بهذا , وكيف أفرّط فيه ؟ لا أدري , الحمدلله اني اكتبه على ورق ولا أتلفّظ به, لأنك لو كنت حاضراً بالجسد لهربت خجلاً بعد هذا الكلام , ولاختفيت زمناً طويلاً , فما أدعك تراني الا بعد أن تنسى .. حتى الكتابة ألوم نفسي عليها احياناً لأني بها حرة كل هذه الحريه .. قلي ماأذا كنت على ضلال أو هدى .. فأني أثق بك , وأصدق بالبداهه كل ماتقول ..! وسواء كنت مخطئه فان قلبي يسير اليك , وخير مايفعل هو أن يظل حائماً حواليك , يحرسك ويحنو عليك
غابت الشمس وراء الأفق ومن خلال الأشكال والألوان حصحصت نجمه لامعه واحده هي الزهره ,, اترىيسكنها كأرضنا بشر يحبون ويتشوقون ؟ ربما وُجد فيها من هي مثلي , لها جبران واحد , تكتب أليه الأن والشفق يملأ الفضاء وتعلم ان الظلام يخلف الشفق وان النور يتبع الظلام وأن الليل سيخلف النهار والنهار سيتبع الليل مرات كثيره قبل أن ترى الذي تحبه ... فتتسرب اليها كل وحشة الشفق , وكل وحشة الليل , فتلقي القلم جانباً لتحتمي من الوحشه في إسم واحد : جبران
ماري زياده

وكانت هذه الرساله تصوّر مي العاشقه أبلغ تصوير ... مما أفرح جبران بتجاوبه معها ...
وهذا الموضوع سأتناول عدة رسائل تمثّل جبران خليل جبران ومي زياده ليس فقط للروعه الأدبيه في الرسائل .. ووصف لأجمل مشاعر الحب خالد سيبقى اسطوره , بل لأنها تحتوي على ادب في فن المراسله ... تستحق الأطلاع عليها

رد جبران على رسالة مي ..
"ماألطف قول من قال :
ياميّ عيدك يوم ** وأنتِ عيد الزمان
ما أغرب ماتفعله كلمه واحد في بعض الأحيان , أنها تحوّل الذات الخفيه فينا من الكلام إلى السكوت .. تقولين أنك تخافين الحب ! لماذا تخافينه ؟ أتخافين نور الشمس ؟ أتخافين مدّ البحر ؟ أتخافين طلوع الفجر ؟ أتخافين مجيء الربيع ؟ لماذا ياترى تخافين الحب ؟
أنا أعلم أن القليل في الحب لايرضيكِ , كما أعلم أن القليل في الحب لايرضيني , أنتِ وأنا لا ولن نرضى بالقليل , نحن نريد الكمال ..الكثير , كل شيء ! لاتخافي الحب يارفيقة قلبي , علينا أن نستسلم إليه رغم مافيه من الألم والحنين والوحشه , ورغم مافيه من الألتباس والحيره
جبران

ارتاحت مي لهذه اللهجه , وتشجعت على مداعبته في الحديث , والأفضاء إليه بخوالج نفسها وهمومها .. كان همها أن يبقى جبران حبيبها الأوحد لتدوم تلك الشعله الزرقاء منهلاً للنعيم والنور في حياتها . أضحت مي شديدة القلق على صحة جبران في سنوات عمره الأخيره كما يبدوا جلياً في رسائله إليها ,وقد وصف جبران أسلوبها ورسائلها فقال انها كالنهر الرحيق الذي يتدفق من الأعالي ويسير مترنماً في وادي احلامي , بل كقيثارة التي تقرّب البعيد وتُبعد القريب , وتحوّل بارتعاشاتها السحريه الحجاره إلى شعلات متقّده , والأغصان اليابسه إلى أجنحه مضطربه  ... بما يكو ن أهل مي وبعض المقربين منها قد أطلعوا على صلتها بجبران في حياتها ,ولكن المرجّح انها كانت حريصه على اخفائها عن الناس جميعاً , وأبقتها سراً دفيناً في نفسها حتى ذلك اليوم الذي فجعت بموته عام 1931م , فبعد انقضاء شهر على وفاته اعترفت ميّ لقرائها بوجود مراسله طويله بينها وبين جبران وذلك في مقاله (جبران خليل جبران يصف نفسه في رسائله) ضمتها فقرات قصيره من رسائله اليها , وعبرت عن حزنها العميق عليه مصّوره غربتها وغربته في الوجود بعبارات موجعه قالت فيها

"حسناً فعلت بأن رحلت ! فاذا كان لديك كلمه أخرى فخير لك أن تصهرها وتثقفّها , وتطهرها لتستوفيها في عالم ربما يفضل عالمنا هذا في أمور شتى..."
وفي ختام تلك القطعه الوجدانيه المؤثره الفائضه بالحب واللوعه واليأس , أعربت ميّ عن شوقها للرحيل , ولكن مشيئة القدر فرض عليها ان تعيش بعد جبران عشر سنوات تقريباً كانت أسؤا مرحله في حياتها , فقد أستبد بها الحزن ..وعاشت في غمرة الأحزان تمزّقها الوحده والوحشه بعد فقده , أصيبت بانهيار عصبي , تبعه انهيار في صحتها , فاعتزلت الناس , أرسلت الى قريب لها في بيروت دكتور جوزيف زياده رساله مؤثره وصفت الآمها وتردّي صحتها , تلك المحنه قادتها الى لبنان موطنها الأصلي وأدخلتها ظلماً الى مصح الأمراض العقليه مما طعنها في كرامتها ,وقضت ثلاث سنوات متنقله بين ( العصفوريه ) كما يسمونه , ومصح دكتور بيريز وبين بيت متواضع , الى أن هبّوا اقاربائها لأنقاذها , وعادت لى القاهره عاشت سنتين ونصف , الى أن ذوت شيئاً فشيئاً ,فتوفيت عام 1941م

وماهو جدير بالذكر ان مي عندما كانت في لبنان اصطحبت رسائل جبران معها , وكانت تلجاً اليها على انفراد , حين يشفّها الوجد , وصوره لجبران كتبت بخطها الى جانب الصوره ...

(وهذه مصيبتي منذ أعوام )

مي زيادة وصالونها الأدبي

وهكذا دخلت المرأة قاعات الدرس وأسفرت بعضهن إمعانا في الدفاع عن كرامتهن وتعبيرا عن مساواتهن بالرجل فالمرأة ليست كائنا جنسيا وظيفته إمتاع الرجل وإنجاب الأولاد بل إنسانا حيا فاعلا خلاقا، وليست موضوعا غزليا يتغنى بالقد المياس والعين النجلاء والخد الأسيل فقط.
وقد أثمرت هذه الدعوة المباركة ثمارا طيبة تجلت في ظهور نساء وقفن ندا للرجل في السياسة والفكر والفن والأدب وكان منهن لبيبة هاشم وملك حفني ناصف وعائشة التيمورية وهدى شعراوي ومي زيادة وصولا إلى مفيدة عبد الرحمن وعائشة عبد الرحمن ونعمات فؤاد وفدوى طوقان ونازك الملائكة وسهير القلماوي وغيرهن.

ولا ريب أن الآنسة مي زيادة كانت أكثرهن شهرة وشغلا للرأي العام وإثارة لطبقة المثقفين ورجال السياسة والأدب ، فقد جمعت بين جمال الروح والجسد في تناغم عجيب، وألمت بالثقافة العربية والغربية إلماما مدهشا.كما أتقنت اللغات الأجنبية وفضلا عن ذلك كان جمالها الروحي والجسدي مغريا للأدباء بحبها والتعلق بها وقد اشتهر بحبها مصطفى صادق الرافعي وعباس محمود العقاد وجبران خليل جبران الذي عرفها عن بعد وهو في المهجر الأمريكي واقتصرت العلاقة بينهما على تبادل الرسائل ولا شك أن صالونها الأدبي الذي كان يجتمع فيه كبار مثقفي العصر، زادها شهرة وتقديرا فالصالون الأدبي فكرة غربية محضة اشتهرت بها بعض كاتبات الغرب فضلا عن كتابه وإنشاؤه وترسيخه في المجتمع العربي الخارج لتوه من عصرالظلمات فكرة خلاقة مدهشة تؤكد أن المرأة ليست مجرد وجه جميل ورحم ولود، هذا الصالون الذي أنشأته الآنسة مي زيادة زاد في شهرتها وفي تقدير المجتمع لها , خاصة طبقة المثقفين.

وللآنسة مي عدة مؤلفات منها " باحثة البادية " و" بين المد والجزر" و"سوانح فتاة " و" كلمات وإشارات " و"ظلمات وأشعة " و"ابتسامات ودموع " ولها ديوان شعر بالفرنسية بعنوان "أزاهير حلم" . لقد كانت مي زيادة محبة للعروبة ملمة بالأدب العربي وعلومه إلماما أدهش الرواد من أدباء مصر وحبها للعربية وتعلقها بالعروبة دفعها إلى نحت اسم لها عربي خالص من اسم "ماري" هو الذي عرفت به، وإن كان "مية" اسم عربي تردد

وقد كان رحيل مي وانفضاض مجلسها وغياب نبرتها الموسيقية وملامحها الهادئة الرشيقة، وكلماتها العذبة المليئة بالأفكار الخلاقة والمعاني البكر، كان ذلك حدثا مؤلما لشاعر القطرين خليل مطران الذي أقضته الذكرى، وأبكته حسرة الرحيل ومرارة الفراق وغياب اللحظات الجميلة وما أوجع الحزن، وما أشد الغصة، غصة الرحيل التي فعلت فعلهافي نفس الشاعر كما يوحي بها البيتان الأخيران. لقد كانت الآنسة مي بأدبها وبثقافتها، وبجمالها الروحي والجسدي رمزا للمرأة العربية الطامحة إلى عصر غير عصر الحريم، وإلى شعر لايكتفي منها بوصف النهود والأرداف والخدود، بل يشيد بعبقريتها وإنسانيتها وعطائها وإنتاجها العلمي والأدبي .


مما سبق نستنتج الخصائص الأسلوبيه لمي زياده : 
تناسق الاسلوب ورقه التعابير وسهوله اللغه .
صدق الأحساسات والمشاعر وهي خصيصه واضحه في كل كلمه من كتاباتها .
الأهتمام في الجمال وحب الطبيعه بما فيها من صيف جميل وافق لامع ووهاد متوجه في الجمال والخضره وبحر وغير ذلك .
الأهتمام في الاسلوب الانشائي وتكتر عندها عبارات النداء متل يا هذا الجمال ويا هذيه البريه وعبارات التعجب متل ما اروع الصيف وما احلى المسافاة .
حب الحريه والأنطلاق فهي تكره القيود وتحب انطلاقه الصيف وهذه الروح هي التي جعلت مي تدعو الى تحرير المراه من الجهل والخرافات .

الأربعاء، 8 مارس 2017

ذات ليلة

بقلم لانا مامكغ/ جريدةالرأي

ظلّ يبحث عن جهاز التّحكم وسط الألعاب التي كانت متناثرةً في غرفة المعيشة، حتى وجده أخيراً تحت إحدى الكنبات، جلس بعد يوم عملٍ طويل ليشاهد الأخبار، لكنّه لم يستطع الإنصات حين شاءت الصّغيرة الجلوسَ في حِجره لتوجّه له سؤالآً عن الدّيناصورات... ثمّ ليرتفع صوتُها باكية حين اقتربَ أخوها فجأةً ليختطف الكرة الملوّنة من يدها ويجري بعيداً !
صاح يناديه، فارتفعت ضحكة الشّقي وعلا بكاء الصّغيرة بالمقابل، كتمَ غضبَه واتّجه لفتح النّافذة لمّا أحسّ بالضّيق من رائحة الطّعام المنبعثة من المطبخ؛ تلك المختلطة مع رائحة أخرى لمسحوق تنظيف، فدخلت زوجته لتحذّره من اندفاع الهواء البارد على الأطفال... ثم لتقولَ أشياء عن الخضار التي أحضرها، وعن تأخّرها في العودةِ من عملها وعن... فقرّر ألّا يسمعها، ثمّ ليعود فيخرج من البيت دون أن ينبسَ بحرف !
سار طويلاً حتى أحسّ بالتّعب، فدخل أحد المقاهي ليجلسَ في الزّاوية ساهماً، ولم يعلم كم مرّ من الوقت حين التفتَ حوله فلمح مجموعةً من الشّابات يجلسن إلى طاولةٍ قريبة، نظرَ إليهنّ دون اهتمام حتى لفتته نظرةُ إحداهن... كانت تتطلّع نحوه بفضول، تجاهلَ الأمر وعاد ليسرحَ من جديد، لكنّه بقي يشعرُ بعينين تخترقان وحدَته... نظرَ مرّة أخرى، فلمح ابتسامة... ولم يدرِ ماذا يفعل، فتصنّع الشّرودَ للحظات، ثمّ عاد ونظر نحوها؛ ليرى أنّ الابتسامة قد اتّسعت !
ارتبك، ودون تفكير وجدَ نفسه يتفقّد وضعَ ياقته، ويتحسّسُ شعرَه... ما الذي استوقفها ؟ لم يعرف، هي جميلة جذّابة لاشك، وتبدو أنّها تدرك ذلك جيداً، هل توجّه له دعوةً لتجربة عاطفية معه ؟ ونفضَ رأسَه كأنّما يطرد الفكرة، ثمّ ليعود ويسرح: ماذا لو شجّعها ؟ إلامَ سيقودُه ذلك ؟ ماذا لو تواصل معها وتطوّرت الأمور ليجدَ نفسَه واقعاً في حبّها ؟ ثمّ لتسيرَ الحكاية نحو الارتباط... نحو حياةٍ جديدة، وبدأ السّيناريوالقادم بالتّشكّل في رأسه؛ كيف سيبلّغ زوجته ؟ من المؤكّد، حسب ما يعرفه عن شخصيّتها، أنّها ستنسحبُ من حياته فوراً انتصاراً لكرامتها... لكنّ شهامتَه تقتضي إكرامَها هي والأولاد، سيبحث عن عملٍ إضافي، وبإمكانه بيع قطعة الأرض البعيدة التي ورثها عن والده وكان يدّخرها لتعليم الأبناء، إذن، سيرتبط ليعودَ آخر النّهار إلى بيتٍ أنيقٍ هادىءٍ... سيتدفّق الدّمُ في أوصاله الباردة من جديد... سيهيمُ في عطر أنوثتها ليعود قلبُه السّاكن فيخفقَ بإيقاع لذيذ... ستكون قربَه في مثلِ هذه الليلة الباردة لتعيدَ الدّفءَ إلى روحه الكابية !

وقطعَ تداعياتِه ليعودَ وينظرَ نحوها من جديد، ما زالت هناك... عينان بلون الليل تحدّقان به باهتمامٍ وترقّب... فجأة، داهمه شعورٌ بالخوف... موجةٌ من عتمة داهمت كيانه كلّه لتتدفّق معها أسئلةٌ موجعة من مثل: مَن سيحكمُ الغطاء على أطفاله في الصّباحات الباردة؟ مَن سيستردّ لصغيرته الكرة حين تحتاجها ؟ في حضن مَن سيلوذ الشّقي الصّغير لمّا يقترفُ حماقةً ما ويهرب إليه من أمّه الغاضبة؟ لمن ستشكو هي من نوعية الخضار واسطوانة الغاز التي تفرغُ فجأة في أسوأ الأوقات؟
انتفضَ واقفاً ليضعَ بعضَ النّقود على الطّاولة ثمناً لفنجان قهوة لم يذقها... وغادرمسرعاً نحو البيت حتى وصل فرِحاً ملهوفاً ليدخل المطبخ فيعرض على زوجته المساعدة... ثمّ ليشرعَ باللعب مع الصّغيرين حتى علت ضحكاتُ ثلاثتِهم لتتردّد في أرجاء المكانِ كلّه !

الخميس، 2 مارس 2017

ممنوع الاقتراب

بقلم سما حسن
العربي الجديد

يقولون إن الحقيقة كالشمس، من الصعب أن نحدّق بها طويلاً بعينين عاريتين، وحقيقة من نحب حين تُكشف، قد تودي بنا إلى صدمةٍ تُنهي العلاقة، أو تجعلها في حالة موت سريري، وكلنا أُغرمنا بكتّابنا وشعرائنا المفضّلين في مرحلةٍ من أعمارنا، علاوة على أننا، أي الجنس اللطيف، نُغرم في كلّ وقتٍ بممثل أو فنان، بغض النظر عن أعمارنا، فحبّ شخصية مجسّدة على الشاشة لا يعرف العمر، ولا يجيد وضع المستحيلات، ويتجاوز الخطوط الحمراء، حتى تفيق على حقيقة البطل بحادثةٍ تتناقلها وسائل الإعلام، فتُفجع فتاة وتُصدم امرأة حالمة، وتبكي سيدةً مرهفة، كانت تفتتح صباحها بموسيقاه، وتنهي نهارها بمشاهد من فيلمه الأخير. 

تقول رنا قباني، في أحد مقالاتها عن علاقتها بالشاعر الكبير محمود درويش، حين كانت زوجة له، إنها صُدمت حين رأت بيت الشاعر الذي أحبّت، والذي جعلها ترى الوجه الآخر للشاعر، بحيث لم يستطع زواجها منه أن يصمد أمام هذا الوجه، فهي تكتب عن تدنّي ذوقه في بيته المتواضع، فرنا قباني ذات جذور أرستقراطية، وفوجئت ببيتٍ لا يشبه ما نظمه الشاعر عن القهوة والأكواب والشرفات، فهي تقول، بكل جرأة، إن شقّته تخلو من الشاعرية، وأدوات المائدة لا تحمل أي رموزٍ ثقافية، وهي قد توقّعت أن يكون بيته أوسع وأرحب مما اعتادت. وهكذا انتهى الزواج، أو زالت الصورة الخيالية، فلم تستطع أن تُكمل مع الشاعر الذي ما زالت الشابات يقتبسن كلماته، كلما أردن التعبير عن مشاعر يشعرن بها، ولا يجدن غيره وسيطاً لتوصيلها. 
إذن، ضاع حب رنا الشاعر، حين رأته في الواقع، وهذا لا ينفي أنه كان مصدوماً مما رآه فيها، ولفت انتباهه، وجعله يطلب يدها للزواج، وهكذا ظلّت تجربة ذلك الزواج تضع علامات استفهام كثيرةٍ، ومنها: هل الاقتراب ممن نحب كثيراً يشوّه الخيال، ويجعلنا نبكي ونُصدم ونُخذل؟ وهل من الأفضل أن نبقى غارقين في الخيال، حتى النهاية؟ 
هناك فكرة شائعة لدى علماء النفس أن على الإنسان المُغرم بشاعر أو كاتب ألا يلتقيه في الحياة العامة، لكي لا يراه إنساناً عادياً لديه السلبيات والإيجابيات، ولكي نحافظ على الوهم، ونظل نقرأ لهم، وأمام هذه النظرية أو الفكرة، نتساءل أيضاً: هل علينا أن نُبقي كتّابنا وشعراءنا وفنانينا كالأشباح والصور الثمينة. 
في سني مراهقتي، كنت مغرمةً بكاتب مصري يؤلف روايات للجيب خاصة بالشباب، وكانت روايته تصل إلى فلسطين بصعوبة، لكني كنت أحرص على اقتنائها، لكي أعيش في عالمه السحري، عالمه الذي انتشلني من واقع مجتمعٍ مقيّدٍ بالعادات والتقاليد، ومتهالك من ظلم المرأة، ونظرته الدونية لها. صرت أحلم به، وأتخيّل نفسي ألتقيه وأتحدّث إليه، فأقف بين يديه كأني راهبةٌ في محراب، حتى مرت السنوات، وأنا لم أر منه إلا صورة شخصية لوجهه، والتي توضع على الغلاف الأخير لكل رواية ينشرها، والتقيته مصادفةً حين كنت في زيارة لمصر، وكان ذلك على شاطئ البحر. وقتها، انهارت الصورة وتكسّر الحلم، كما تتكسر الأمواج على الشاطئ، فجعني منظره، طريقة التهامه الطعام، وزجره بائعاً جائلاً مرّ بجواره، فبكيت كما لو كنت أُودع حبيباً الثرى، فلم أتخيّل لحظة أن هذا هو فارسي الذي كان يحملني فوق حصانه إلى عالم الخيال والسحر. 
درس جديد نتعلّمه من الحياة، وهو ألا نقترب كثيراً، فربما يكون سبب فشل معظم الزيجات التي تمّت بعد قصة حبٍّ هو الاقتراب، وربما يكون الإنسان نفسه هو من قرّر أن يخدع نفسه، حتى وقع في شرك الوجه الآخر. تساؤلات كثيرة تجعلنا، حين نفشل في الحب، نبحث عن قصة حب مع كاتب من كتاب العصور القديمة، لأن تواريهم منحهم سحراً ما زال يعبق عبر الزمن، أما من أحببناهم وعاصرناهم فهناك من قلّل من وطأة أسطوريتهم، كما حدث مع رنا قباني ودرويش، مثالاً من قائمة تطول

عن بَطَلاتِ العالم الحقيقيّات!

بقلم: أدهم الشرقاوي
مدونات الجزيرة 

عن اللواتي لا يكتبُ عنهنّ أحد..
عن المستيقظاتِ فجراً، المُصلّياتِ فرضاً، التّالِياتِ ذِكراً، المُعِدّاتِ فُطوراً، المُجَهِّزاتِ تلميذاً، المُلبساتِ مريولاً، المُسرِّحاتِ شَعراً، المُراجِعاتِ برنامجاً، الجَالِياتِ صحوناً، المُوضّباتِ فِراشاً، الحانياتِ ظهوراً، الكانساتِ أرضاً، الماسِحاتِ غبراً، المُرتّباتِ بيتاً، الطّابخاتِ غداءً، المُنتظراتِ أولاداً، المُطعِماتِ حشداً، المُنظّفات قُدوراً، المُذاكراتِ دروساً، الحالّاتِ فروضاً، المصححاتِ إملاءً، المُسمّعاتِ استظهاراً، المُحفّظاتِ قرآناً، المُعدّاتِ للنوم أولاداً، المُفرفشاتِ بعد ذلكَ أزواجاً!

أنتنّ بطلاتُ العالم الحقيقيات وإن صادروا بطولتكنّ، فهذا العالم لا يُقدّر إلا من يُصدرُ ضجيجاً! تجمعُ نملةٌ مؤونة سنة فلا يدري عنها أحد، وتستلقي ضفدعة على شاطئ المستنقع تحت الشمس فتُصدرُ نقيقاً كأنها مديرة كوكب الأرض! أنتنّ نمل البيوت الذي يعمل بصمت ولا يدري به أحد، وما تبقّى ضفادع تُصدرُ نقيقاً فيمجّدونها!
عن الخبيراتِ الاقتصاديّاتِ اللواتي يتكيّفنَ رغم عجز الموازنة بينما تغرق أوطان كبيرة بالدّين!.. عن الممرضاتِ اللواتي يقسنَ حرارة ولدٍ مريض بميزان شفتين يطبعنه قبلةً على جبينه، فيُشخّصنَ المرض، ويعطين العلاج، فنشفى، ويموتُ عشرات الآلاف بالأخطاء الطبيّة!
عن المُدرّساتِ الخصوصيات مجاناً!.. عن السّمكرياتِ توفيراً!.. عن المرهقاتِ الآوياتِ لفراشهنّ ليلاً يسمعنَ صوتَ عظامهنّ تحتهنّ فلا يشتكين!.. عن اللواتي لا يطبخنَ لانستغرام، ولا يشترينَ الثياب للفيسبوك!.. عن الصّابراتِ على وجع الظّهر لأنّ كشفيّة الطبيب أولى بها فاتورة الكهرباء في أوطان رغم النّفط لا تشبع!.. عن خشناتِ الأيدي لأنّ ثمن المُرطّبات والكريمات أولى به أقساط مدارس الأولاد في أوطان تخلّتْ وعلى المرء أن يتدبّر فيها نفسه!
عن بطلاتِ العالم الحقيقيات!
أعرفُ أن مقالاً لن يشفي وجعاً في الظهر، ولن يمحو بحةً في الصوت، ولن يزيل خشونةً في يدين
عن سِلال الغسيل الممتلئة لأنكنّ لا ترضينَ إلا أن يلبس أولادكنّ ثياباً نظيفة! عن المجلى الممتلئ عن آخره بالصحون لأنكنّ تأبينَ إلا أن تُطعمنَ أولادكنّ طعاماً شهياً!.. عن الألعاب المتناثرة هنا وهناك لأنكنّ ترفضنَ أن تسلبنَ أولادكنّ طفولتهم!.. عن الصوتِ المبحوح والأعصاب التالفة لأنكنّ لا ترضينَ إلا أن يكون أولادكنّ الأفضل!
عن بطلاتِ العالم الحقيقيات!
عن اللواتي لا يُسافرنَ للإجازات!.. عن اللواتي ينسينَ أعياد ميلادهنّ!.. عن اللواتي لا يُطالعنَ مجلات الأزياء!.. عن اللواتي لا يعرفنَ الطريق إلى صالونات التجميل وورش الحدادة النسائيّة!.. عن الملائكة، الملائكة حقاً، الملائكة فعلاً!
أعرفُ أن مقالاً لن يشفي وجعاً في الظهر، ولن يمحو بحةً في الصوت، ولن يزيل خشونةً في يدين، وأعرفُ أن أكثركنّ ليس عندهنّ وقتٌ ليقرأن، وأنّ بعضكنّ لا يدرين عني ولا عن مدونات الجزيرة فقد شغلكنّ ما هو أهمّ منا! ولكني قررتُ أن أكتب عنكنّ، عرفاً بفضلكنّ، وتذكيراً بجهدكنّ وصبركنّ وجهادكنّ، أنتنّ بطلاتُ العالم الحقيقيات فلا تنهزمن، أنتنّ الجيش الوحيدُ الممنوع عليه أن يُهزم ليستمرّ العالم!

الثلاثاء، 21 فبراير 2017

رسالة من خائنة (قصة قصيرة)

تتشابه قصص الخيانة في حقارتها ونذالة أبطالها.. ولكنها تختلف في التفاصيل فقط!!

بقلم الكاتبة: لبنى ياسين 
     (صديقتي.. أعلم أنكِ الآن تلعنينني ألف لعنة وتصبّين على شبحي ألف تميمة غدر تصمينني بها... والحق معكِ.
     أكره نفسي كلما فكرت بما فعلته بك.. لكن هل أطمع في بقية من سعة صدرك التي أعرفها فتكملي قراءة رسالتي.
     كنت أعتقد مثلك أن الدنيا لونان فقط أبيض أو أسود, صواب وخاطئ, حلال وحرام, عيب ومسموح, كنت أجالسك و زوجك وأنا لا أرى في زوجك الرجل بل أرى زوجا لصديقتي لا غير, شـيئاً يشبه غمامة مشاعر أخوية تظلّـل صحراء الحياة.. فينهمر دفء المشاعر مطرا لطيفا ربيعيا على قحط حياتي وتنتابني لحظات ود ليس كمثلها شئ في الدنيا.
    ومع الوقت العصيب الذي مررت به خلال مرضك, وجلسات العلاج الكيميائي وأوجاعك المدمرة, كنا نذوي معك شيئا فشيئا, كان أكثر حزنا مما تتصورين, دموعه كانت تنهمر بصمت فتذيب قلبي, و بحكم غرفة الانتظار وساعات الوقوف بجانب سريرك المتألم نشأت بيننا حوارات صامتة, حوارات أخبرتني بأن روحا متألمة تقبع في جانب بعيد قصيّ لرجل يطلب الرحمة, ما فكرت يوما بأن أحبه.. أقسم لك بأني ما فكرت لحظة واحدة بأن احبه, لكن لقاء الأرواح أثمر عن جنين الحب الذي كبر ونما وأنت في غفلة المرض, أمسكت أحاسيسي.. ربطتها عنّفتها.. قتلت نفسي ألف مرة.. تهربت منه.. أبعدت عيني عن عينيه ورحت أخفف من زياراتي لك فتلومينني بكلماتك المبطنة  قائلة: هل مللت من الجلوس في غرفة الموت وفي حضرته؟
     لم يكن بمقدوري أن أعتبرك كما كنت دوما صديقتي المقربة فأبوح لك بمكنونات قلبي... بأحاسيس ذبحت إخلاصي لك  قربانا لعينيه, كيف أقول لك إن مشاعري خانتك وهي تمطره وابل حب جعلني لا أستطيع أن أرفع عيني في وجهه لئلا تصافحه مشاعري, ألم أكن أدرك أن مشاعر كهذه ليست من حقي؟؟ بالطبع كنت أدرك خصوصا وأنت حبيبة العمر وربيبته على سرير الموت تصارعينه ويصارعك.
سامحيني لو اعترفت لك بأنني للحظات كنت أتخيل أنك ... لا سمح الله, فيباغتني شعور بالارتياح لأستفيق منه مثقلة بالشعور بالذنب, كيف أشرح لك أنني ما تمنيت لك الموت يوما لكنني تخيلته غصبا عني. قفز إلى مخيلتي عنوة فكنت كأم تتخيل موت طفلها؟؟ هل تتخيلين أن أما تتمنى موت صغيرها؟, صدقيني يا غاليتي أني ما تمنيت الموت لك بقدر ما تمنيته لنفسي المعجونة بالخطيئة والخيانة.
     هل يكفي أن نحترق بنيران الألم وأن نذبح مشاعرنا في محرقته حتى نتطهر من خطايانا؟؟ هل صحيح أن الدموع تغسل الخطايا وتكون قربانا للغفران أم أن ذلك مجرد أسطورة اختلقها الإنسان لكي يتصالح مع نفسه الخاطئة؟؟؟
    بعدها بدأت اشعر أنك تقلبين نظرك بيني وبينه, أدمتني نظراتك التي اخترقت خيانتي حتى العظم, ماذا أستطيع  أن افعل ؟ كيف أصارحك بالانشطار الذي أعانيه لتعفيني من زيارتك اليومية ؟ للحظات كان يخيل إلى أنك تعرفين كل شيء ..  وأذهب بعيدا في رجائي الخائب لأسرح في فكرة سخيفة مفادها أنك تباركين مشاعري فأستيقظ من خيالي هازئة من نفسي التي بعتها للشيطان.
    كانت الطامة الكبرى عندما رن الهاتف وأنت نائمة بعد موجة ألم اكتسحتك فأغرقتك في بحر من التأوه  فنمت بعدها بصعوبة بالغة وأنفاسك صدى مد وجزر شرسين.. تسابقت يدانا إلى الإمساك بسماعة الهاتف لإيقاف صراخه المحموم فأمسك يدي التي سبقته إلى السماعة دون قصد, صدقيني كان بإمكاني أن ارى الشرر يتطاير من بين كفينا ومن عيوننا ومن سائر جسدينا فأفلتنا السماعة معا في لحظة واحدة لترتطم بالأرض وتوقظك, عندها سللتِ من عينيك ألف خنجر وطعنتني بها كلها في لحظة واحدة من خلال نظراتك المغرقة في استفهام مغلف بارتياب واضح.. بقيتُ يومها عندك لدقائق أخرى في محاولة لإخماد الحرائق التي اشتعلت في كل مكان في الغرفة ثم استأذنتُ في الذهاب.. لم يمنعني أحد منكما وكأن العبء الذي كان قد جثم فوق قلبي من وجودي بينكما في تلك اللحظة كان يجثم فوق قلبيكما أيضا.. خرجت من الغرفة وأنا لا أدري أهذا صباح أم مساء؟؟ ومن أين وإلى أين أسير؟؟ و ماذا أفعل؟؟, نيران الحب تستعر بي وزوابع الغدر تمزقني فاتشظى ألما,  وعيناه ... آه من عينيه, وحدها فعلت بي ما يفوق كل ذلك.. مضيت وأنا اشعر بأن كفه ما فارق كفي منذ أمسكنا السماعة , كنت أتفقد موضع كفه كل لحظة وأنا ابتلع ظمئي في حلق تقرح من كثرة الجفاف, أي أرض تستطيع رفض المطر؟؟ أي كائن يقف في وجه الشمس ولا يحترق ؟؟ ماذا أقول صديقتي ؟؟ كيف لي أن أشرح لك ما عانيته لئلا تندلق مشاعري مني أمامه فأوصم بخيانة أعز صديقة لي؟؟ كيف لي أن أفسر وجع الروح وأنا لا أستطيع حتى أن أشكو أوجاعي لصديقتي المقربة وأخبرها بما أكتوي به ؟؟
     سامحيني صديقتي فلن أقوى على زيارتك بعد اليوم إلا في غيابه.. ولا تلوميني  فذلك صار فوق احتمالي.
     طويتُ الورقة ومضيت باتجاه المشفى, وألف فكرة تغتصب تفكيري, أمن الحكمة أن أعطيك رسالة كهذه وأنت على سرير الموت تحتضرين؟ و إن لم أعطها لك كيف سأحتمل نظراتكِ الحبلى بارتياب واضح؟؟ كيف سأغيب دون أن تلوميني؟؟ أنا أعلم أنك تقرئين أفكاري بمجرد أن تنظري في عيني... لم اعد أقوى على النظر إليك وأخشى أنكِ تعتقدين أن بيننا علاقة ما ...
تعمدتُ كعادتي أن أذهب إليك أثناء دوامه في العمل علّي أخفف احتكاكي به واحتقان المشاعر في داخلي لمجرد وجوده في نفس الأفق الذي أشغله, وإذ وصلت كانت غرفتك فارغة والسرير مرتب بانتظار قصة  ألم لإنسان آخر يرقد فوق جثمانه الأبيض, انتزع قلبي من مكانه عندما لمحتُه في زاوية الممر يتقدم باتجاهي وعلى وجهه آثار أخبار سيئة, وددتُ لو أضع أصابعي في أذني وأهرول خارج المبنى قبل أن ينطق بكلمة مما يريد أن يفصح عنه, آثار الدمار كانت واضحة على محياه ولم أدرِ بنفسي إلا وأنا بين ذراعيه أبكي, و لم أدرِ أكنتُ أبكيكِ أم أبكي خيبتي في نفسي وأنا عاشقة لزوجك أم أبكي حبا يستعر في فؤادي..  لم يتكلم , كانت دقات قلبه تتغلغل في أذني بينما كانت دقات قلبي قرع طبول لحرب ضروس ضد قلب لم يستطع أن يحتمل وجودكما معا في طيات انتمائه, معادلة صعبة: إما أنت أو هو ؟؟
     حتى بعد أن انتقلتِ إلى رحمة الله لا يزال المكانُ لا يتسع لكليكما إذ إنني أتخيلكِ تقفين بيني وبينه تنظرين إليّ  تلك النظرات الحبلى بلومٍ مرير ... وكيف لا تفعلين وأنا صديقة عمركِ التي أحبت زوجك؟؟
    دون أن يتكلم وضع في يدي ظرفا لم يكن عليه إلا كلمة واحدة ... اسمي ... توجستُ خيفةً مما فيه, إنه خطكِ..  شئ مفروغ منه.. ما الذي وضعته داخل الظرف؟ -أتراها وعلى غرار ما فعلتُه اليوم أنا- رسالة تلومينني فيها وتخبريني بأنكِ كنت تقرئينني كما فعلتِ دوما بمجرد أن تنظري في عينيّ؟ أتراكِ تقولين لي كيف تجرأتُ وفكرت به وأنا أمامكِ أتلوى على سرير الموت يعتصرني الألم وينتهك حرمة جسدي.. وأنتِ تـنتهكين حرمة مشاعري و تنافسينني على  مشاعر زوجي؟ أتراك تخبرينني بمدى خيبتكِ بعد أن خانتك صحتك وتخلت عنك فاستلقيتِ على أعتاب الموت شهورا طوالا تعانين ما تعانينه والقدر قد استكثر عليك صحتك وأنا استكثرتُ عليكِ مشاعر زوجك في أيامك الأخيرة؟ ماذا عساكِ كتبتِ في رسالتك؟؟ ... أأتجرأ وأفكر في أنكِ كتبتِ لي أنك تسامحينني على ضعفٍ قاومتُهُ حتى ماتت روحي؟ تراكِ  فكرتِ أو شعرتِ بذلك ؟
   كنت أرتجف ودموعي تهطل من عيني شلال ألم وخوف وندم حينما نظر إليّ والألم يرسم خرائطه البشعة على ملامحه قائلا: افتحيه ماذا تنتظرين ؟؟ أم أنك ترغبين ببعض الخصوصية ؟؟
لم أجبه, فكرتُ في نفسي: صعب أن تعريني الحقيقة أمامه فبعض الخصوصية إذن... وجريتُ باتجاه الحمام النسائي, وعندما فتحتُ الظرف وجدتُ في داخله... خاتم زواجك منه). 
 أيتها الخائنة ...أيها الخائن
كم هي الخيانة حقيرة!! من صديقةٍ تخون مريضة في لحظات احتضارها.. إلى صديقة تخون أسرة في لحظات اكتمالها.. لتسرق الفرحة من قلوب الأولاد .. تهدم قدوةَ الأب في عيونهم.. لينهار صنم كان جسداً له خوار!
كم هي الخيانة حقيرة !! من نظراتٍ حقيرةٍ بين خائنَيْن اثنين إلى ما هو أكثر حقارة؟؟؟ 
في العتمة في عفن الظلمة تختلف التفاصيل... من غرفةِ مستشفى إلى ساحات الأقصى الطاهرة تدنسها قلوبُ الخونة وخطواتهم... إلى مقهىً بعيد في يافا يضم خائنةَ الأعين والقلوب.. إلى يختٍ يعبر البوسفور لا تغسل مياهُه أدرانَ الخائنين.. إلى فلسطين الطاهرة التي لاكتها ألسنتُهم ولوّثوها بأقلامهم ... إلى الياسمين الأزرق إذ يموت على اليد السمراء والأصابع الطويلة المغموسة بدماء الطاهرين!

الأحد، 12 فبراير 2017

رسائل كنفاني والحاجّ إلى غادة السمّان:- مأزق الحيّز الخاصّ والتأريخ الأدبيّ

بقلم: أيمن نبيل




شهد المجالُ الثقافيّ العربيّ قبل أسابيع مواقفَ محتدمةً بعد الإعلان عن نشر الأديبة غادة السمّان رسائلَ الشاعر اللبنانيّ أنسي الحاجّ إليها.(1) وهذه المواقف لها الركائزُ نفسُها تقريبًا من نشر السمّان رسائلَ الأديب والسياسيّ الفلسطينيّ غسّان كنفاني إليها، في مطلع التسعينيّات من القرن الماضي، مع بعض الفوارق المهمّة: مثل أنّ الضجّة (هجومًا ودفاعًا) في حالة الحاجّ كانت أكبرَ بسبب وسائل التواصل الاجتماعيّ؛ وأنّ الشراسة كانت أكبرَ في الهجوم على السمّان في حالة كنفاني بحكم موقع الأخير في الحياة السياسيّة في زمنه، وكذلك حالته العائليّة (الزوجيّة) أثناء دخوله في قصّة الحبّ تلك.

الهدف الرئيس من هذا المقال هو بناءُ تصوّر عامّ حول موضوع نشر رسائل الأدباء وفكرةِ الحيّز الخاصّ، انطلاقـًا من مناقشة حالةٍ محدّدة، هي حالةُ نشر السمّان لرسائل محبّيها.

أوّلًا:- الاجتهاد القانونيّ وقضيّةُ سالينغر
أهمّيّة استحضار أحكام القضاء في حوادث تاريخيّة مشابهة تكمن في أنّ هذه الأحكام هي ــــ في نهاية المطاف ــــ وجهاتُ نظرٍ يُعين الاطّلاعُ على حيثيّاتها في تكوين وجهةِ نظرٍ خاصّةٍ أكثرَ شمولًا. كما أنّ الرصدَ التاريخيّ لتطوّر القوانين والتشريعات العامّة، بخصوص الموادّ غير المنشورة عمومًا، يعطي الباحثين صورةً عن تطوّر النظرة الدولتيّة أو النخبويّة إلى أمور مثل "الحيّز الخاصّ" و"حقوق النشر" وغير ذلك. وسنتّخذ من القانون والقضاء الأميركيّيْن، في الربع الأخير من القرن العشرين، مثالًا؛ وذلك لعدّة عوامل، مثل: انفتاح الحيّز الأميركيّ العامّ، ولكون تلك الفترة الزمنيّة تتطابق مع الفترة التي نَشرتْ فيها السمّان رسائلَ كنفاني إليها.

أوّلُ ما يلفت النظرَ في موقف المدافعين عن سلوك السمّان قولُهم إنّها تمتلك الرسائلَ، ومن ثمّ يحقّ لها قانونيًّا التصرّفُ بما تمتلكه. في مسألة التملّك تمييزٌ قانونيٌّ دقيق: فالسمّان تمتلك الرسائلَ فعلًا، بما هي جسمٌ مادّيٌّ ملموس،(2) ولكنّها لا تمتلك محتواها، الذي يقع تحت قانون حقوق النشر، وهذه ترجع إلى المُرسِلِ أو إلى ورثتِه. وهذا التمييز، بين ملكيّة المادّة والمحتوى، يغيب غالبًا عن وجهات النظر المدافعة عن السمّان.(3) لهذا لا يُسمح للمرسَل إليه بنشر محتواها من دون موافقة صاحب حقوق النشر.(4)

.لتعميق النقاش، سنستعرض قضيّةً شهيرةً في عالم النشر، هي قضية سالنغر ــــ راندوم هاوس. وملخّصُها أنّ الناقد الإنجليزيّ إيان هاملتون قرّر كتابةَ سيرة الروائيّ الأميركيّ جاي. دي. سالنغر (توفّي سنة 2010). وكان هذا الأخير، كما يوصف، متنسّكًا، ويرفض كلَّ محاولات الاقتراب منه، ولهذا رفض التعاونَ مع هاملتون، فتحدّث الأخيرُ مع أصدقاء سالينغر، فتبرّع بعضُهم برسائله إلى مكتباتٍ جامعيّةٍ زارها هاملتون، وسُمح له بالاطّلاع عليها،(5) ولكنّه أعاد نشرَ جزءٍ كبيرٍ منها، وأعاد صياغةَ بعضٍ من هذه المقتطفات، بعد أن عرف سالينغر بالأمر ورفعَ قضيّةً عليه وعلى الدار التي نشرت الكتابَ.

في هذه القضيّة ظهرتْ حساسيّةُ موضوع نشر الرسائل الشخصيّة، لا من خلال مواقف المثقّفين المتضاربة حول الموضوع فحسب، بل من خلال تضارب الأحكام القضائيّة ذاتها أيضًا.(6) فالمحكمة الابتدائيّة أصدرتْ حُكمًا لصالح دار النشر، رغم إقرار هذه المحكمة بالضرر الذي لحق بخصوصيّة سالينغر؛ إذ اعتبرتْ أنّ حقوقَ نشره لم تُنتهكْ لأنّ استخدامَ هاملتون للرسائل من دون إذنِ سالينغر بقيتْ في حدود "الاستخدام المنْصِف."(7) لكنّ سالينغر طَعَنَ في الحكم لدى محكمة الاستئناف، وجاء حكمُ هذه الأخيرة سنة 1987 لصالحه: فمَنعتْ نشرَ الكتاب لانتهاكه حقوقَ النشر، ولأنّ الكتابَ أصلًا ستَعتمد قيمتُه في السوق على هذه الرسائل (أكانت مقتطفاتٍ أمْ إعادةَ صياغة)؛ ولحيثيّاتٍ أخرى وردتْ في منطوق الحكم.(8)
نشرت السمّان رسائلَ كنفاني بعد هذه القضيّة بخمس سنوات تقريبًا. وبالمقابلة بين سلوك هاملتون وسلوك السمّان، نستخلص ملاحظتيْن:-
الأولى، أنّ ما فعله هاملتون لم يكن نَسْخـًا للرسائل ونشرَها في كتابٍ مستقلّ، بل كان الغرضُ الرئيسُ من عمل هاملتون غرضًا نقديًّا وعلميًّا، ألا وهو كتابة سيرةِ أديبٍ، ستساعد مقتطفاتٌ من رسائله في إثراء المحتوى؛ ومع ذلك جاء حكمُ المحكمة بذلك الشكل التفصيليّ والصارم. أمّا ما فعلتْه السمّان فكان نشرَ الرسائل كاملةً كما هي، من غير أيّ غرضٍ نقديٍّ أو علميٍّ واضح؛ وهذا يجعل موقفَها أضعفَ بكثير من موقف هاملتون. وبحسب التمييزات التي يذكرها ويليام لايدز، فإنّ استعمال هاملتون الرسائلَ كان إنتاجيًّا، في حين أنّ استعمال السمّان كان توليديًّا أو نسْخيًّا.(9)
الثانية، أنّ الحُكم أشار إلى جانبٍ ربحيٍّ في الموضوع؛ فالرسائل ذاتُ ثمنٍ مادّيّ، ونشرُها ــــ أو حتّى نشرُ مقتطفاتٍ منها ــــ بغير إذن صاحب حقوق النشر يَخفض قيمتَها المادّيّةَ أو يُعدمه. الجدير ذكرُه أنّ المحكمة قدّرتْ قيمةَ رسائل سالنغر بما يفوق نصف مليون دولار، وكانت حمايةُ حقّه في بيع حقوق النشر إحدى حيثيّات الحكْم.

.من المؤسف أنّ الرأسماليّة جعلتْ لحظاتِنا الحميمةَ وتعبيراتِنا العاطفيّةَ قابلةً للبيع والشراء؛ ومن هنا يواصل ديفيد هارفي التشديدَ على أنّ الولعَ النيوليبراليّ بحقوق المِلْكيّة الفكريّة هو من أهمّ علامات "تسليع كّل شيء."(10) ومع اعترافنا بهذه الأمور المؤسفة، لكنّ المرسَل إليه، وفقًا لهذا الواقع، يعتدي على أصحاب حقوق النشر إذا نشر الرسائلَ من دون إذنهم.
في نهاية هذا المحور ينبغي القول إنّ مسائل نشر الرسائل والمذكّرات لا تمتلك معاييرَ قانونيّةً واضحةً دومًا؛ فهناك أحيانًا حدودٌ غير واضحة، وعواملُ معيّنة تجعل كلَّ القضيّة خاضعةً لاجتهادات المَحاكم، مثل "الاستعمال المنصف" و"الغنى الإخباريّ" وغيرهما. وليست المسألة في الدول الديمقراطيّة محسومةً لصالح النشر المفتوح بلا حساب، كما يروّج كثيرٌ من المثقّفين العرب. والسِيَر والتراجم ــــ التي تؤلَّف لأدباءَ لم تمرّ على وفاتهم خمسون سنةً بعدُ ــــ تتحرّى الدقّةَ والإيجازَ في الاقتطاف من الرسائل والمذكّرات غير المنشورة لهذه الاعتبارات القانونيّة المتداخلة والمهمّة.

ثانيًا:- ليبراليّون ومحافظون
بصورة اختزاليّة، يُعتبر "الحيّزُ الخاصّ" و"الحقوقُ الفرديّة" من أعزّ المفاهيم على قلب الليبراليّ، بينما ينحاز المحافظُ إلى التقاليد والأعراف الاجتماعيّة على حساب حرّيّة الفرد.
تُعدُّ حالةُ السمّان مثالًا رائعًا على نسف التصوّر أعلاه، واختلاطِ الحابل بالنابل، وتبادلِ المواقع للأسباب الخطأ، والتلاقي أيضًا للأسباب الخطأ. فمن المفترَض أن يقف الليبراليُّ ضدّ نشر السمّان لرسائل محبّيها لأنّها بذلك تمارس تعدّيًا على حقوقهم(11) بفتح حيّزهم الخاصّ لجميع الخلْق، علاوةً على ما أوردناه بخصوص الحقوق الماديّة. أمّا المحافظ المتطرّف، فيقف ضدّ هذا النشر لِما يراه من "ابتذالٍ" في فكرة الحبّ ذاتها، أو قد يشجّع ــــ في داخله ــــ هذا النشرَ لكي يجد مادّةً يلُوكها.
لكنّ الحال أنّ هناك مَن هاجم بعضَ "المتحرّرين" الذين وقفوا ضدّ نشر السمّان للرسائل، آخذين عليهم أنّهم "ناقضوا" قناعاتِهم المعلَنةَ إزاء نشر الرسائل.(12) وأرجعوا ذلك إلى نزعة أولئك "المتحرّرين" الذكوريّة المترسّبة، وثقافةِ العيب، والهوسِ بـ"تصنيم" الكتّاب والأدباء. غير أنّ هذه البواعث، في واقع الأمر، تُحرّك جزءًا كبيرًا من المدافعين والمهاجمين معًا. فمن الأسباب التي تُوقِع شخصًا "متحرّرًا" في تناقضٍ مريعٍ بدعمه لهدم الحيّز الخاصّ هو ألّا يُقال عنه إنّه ذكوريّ تُسيّرُه ثقافةُ العيب والنزعةُ الصنميّة! ومن هنا قد يُقْدم ليبراليٌّ أو تقدمّيٌّ اجتماعيّ عربيّ على التناقض مع أفكاره لا لشيء إلّا لأنّه يرى أنّ ما يدعو إليه خصمُه المحافظُ أخلاقويّةٌ كاذبةٌ؛ فيذهب هو إلى مناقضتها باعتبار أنّ هذا التناقض بينهما يعني ــــ آليًّا ــــ التقدميّةَ، ولو ضحّى بأفكاره التقدميّة ذاتها!

ثالثًا:- أساس نشر الرسائل
تتبنّى السمّان والمدافعون عن خطوات نشرها لرسائل كنفاني والحاجّ أفكارًا عدّةً، يُسفر نقاشُها عن ملاحظتين:-

أ ــــ "تحطيم التابو." تقول السمّان، في معرض حديثها عن نشر الرسائل، إنّها تقوم بدورٍ متمرّدٍ على البالي والتقليديّ، وتحطّم بذلك "التابو."(13)
تعريف "المُحرَّم" الجاري تحطيمُه هنا يُفترض أن يكون علاقةَ الحبّ بين رجل وامرأة . وواقع الأمر أنّ هذا المحرّم يمكن تحطيمُه بوسائلَ شتّى غير نشر الرسائل الشخصيّة: ككتابة سيرةٍ ذاتيّةٍ تحكي قصّةَ الحبّ هذه، من وجهةِ نظرها، وبلغتها كاعتراف؛* أو الإدلاء بتصريحاتٍ صحفيّةٍ تشير إليها.
أمّا التابو الذي نرجِّح أنّه المقصود في كلام السمّان فهو أن يَظهر ضعفُ العاشق أمام امرأةٍ لا تبادله الدرجةَ ذاتَها من المشاعر. ما نختلف مع السمّان عليه هو أنّ كسر هذا التابو لا قيمةَ له إنْ لم يُنجَزْ ذاتيًّا وعن إرادة؛ أمّا أن يُكسرَ على يد آخرين، وعلى حسابِ آخرين، فلا قيمة تحرّريّة أو ثوريّة حقيقيّة له، وإلّا عددنا كلَّ الفضائح التي تتعاور المشاهيرَ والفنّانين تحطيمًا للبالي وتثويرًا للوعي!

ب ــــ حق القرّاء والعمل الأدبيّ. بالإمكان تكريسُ حقّ المواطنين في الاطّلاع على كثير من خصوصيّات السياسيّ مسؤولِ الدولة بناءً على أساسٍ متين، ألا وهو: المسؤوليّة المباشرة لهذا الشخص عن المال العامّ، وعن مصالح الآلاف أو الملايين من الناس؛(14) بينما يصعب على المرء أن يؤسِّس لحقّ القارئ في معرفة خصوصيّات الأديب لعدم تحمّل هذا الأخير مسؤوليّةً قانونيّةً مباشرةً عن هؤلاء القرّاء. ومن المهمّ هنا التشديد على أنّنا نتحدّث عن "خصوصيّات" لا تمسّ الصالحَ العامّ، وإلّا حُقَّ للآخرين الاطّلاعُ عليها؛ ونذكر مثلًا الروائيّ التشيكيّ ميلان كونديرا والفضيحة المدوّية التي لحقتْ به أخيرًا، حين نُشرتْ وثائقُ تُثْبت عملَه مُخْبرًا ضدّ زملائه لصالح أجهزة المخابرات الشيوعيّة في بدايات شبابه.(15)

خاتمة:- الحيّز الخاص بين التأريخ الأدبيّ والحقّ الفرديّ 

في موضوع مساندة نشر رسائل الأدباء الشخصيّة حجّةٌ أساسٌ تُعدّ الأقوى، وهي أنّ ذلك مهمٌّ في التأريخ الأدبيّ. فلولا مذكّراتُ ماري هاسكل وبقيّةِ النساء اللواتي عرفن جبران، ولولا رسائلُ جبران المختلفة، لما كان كتابُ روبن ووترفيلد (جبران خليل جبران: نبيٌّ وعصرُه) بهذه الأهمّيّة البحثيّة، ولبقينا أسرى الصورة الملائكيّة التي رسمها جبرانُ عن نفسه. ولولا مذكّراتُ بعض النسوة ورسائلُ راينر ريلكه، لما استطاع عبد الرحمن بدوي أن يقدّم تلك السيرةَ الإنسانيّةَ المليئةَ بالاتّكال على النساء في كتابه المهمّ، الأدب الألمانيّ في نصف قرن.
على إنّ تجسير المسافة بين الحيّز الخاصّ والتأريخ الأدبيّ يكون بلفت نظر مساندي نشر المراسلات الشخصيّة إلى أمرٍ واحدٍ فقط، وهو: أنّ الاطّلاع على المراسلات لا نشرَها ــــ في حال غياب موافقة المعنيّين بالأمر ــــ قد يكون سبيلًا إلى حلّ هذا الإشكال.
من شائعات وسطنا الثقافيّ أنّ مراسلات الكتّاب الغربيين تُنشر كاملةً في كتبٍ مستقلّةٍ على الدوام؛ وهذا غيرُ صحيح. فالكتب والتراجم الخاصّة بكتّابٍ لم تمرّ على وفاتهم فترةٌ طويلةٌ(16) تَستشهد عادةً بمذكّراتٍ ورسائلَ شخصيّةٍ غيرِ منشورة، ولكنْ يمكن الاطّلاعُ عليها لوجودها في متاحفَ تضمّ مقتنياتِ المرسَلِ إليه، أو في أقسام المخطوطات في المكتبات الجامعيّة العريقة بسبب تبرّع مالك الرسائل بها. لقد قالت السمّان إنّها لا تريد إتلافَ الرسائل، وإنّها نشرتْها للأغراض الموضحة آنفًا؛ ولكنّ الاقتراح الذي كان من الواجب طرحُه عليها (وعلى غيرها من الأدباء والأديبات)، خارج ثنائيّة "الإتلاف أو النشر،" هو التبرّعُ بهذه الرسائل إلى مكتبةٍ جامعيّةٍ مثل مكتبة يافث في الجامعة الأميركيّة في بيروت (التي دَرَستْ فيها السمّان)، وهي مكتبة تحوي قِسمًا مهمًّا للمخطوطات.(17) إنّ خطوةً كهذه كانت ستجعل الغرضَ البحثيّ والتأريخيّ أكثرَ وضوحًا، وستحفظ التفاصيلَ الشخصيّةَ (لكون الاقتباسات من الرسائل محدودةٌ بطبيعتها)؛ كما أنّها ستحفظ الحقوقَ الماديّةَ لأصحابها إلى حين انتهاء انتفاع الورثة بها بعد مرور فترةٍ من وفاة المُرسِل.
أيًّا كان الأمر، فإنّ مسألة التمييز بين الخاصّ والعام ليست هيّنةً. غير أنّ صعوبتها لا تُعفي المشتغلين بالثقافة والشأن العامّ من نقاشها، ولا تبرّر اختيارَ "الحسم" بمطّ إطار أحد الحيّزين لكي يبتلع الآخر، فيمسي العامُّ خاصًّا أو الخاصُّ عامًّا.
إنّ جوهر المسألة دومًا هو تعيينُ الخطوط والتخوم، وهي ليست أبديّةً على أيّة حال؛ أي إنّ تعيينها عمليّةٌ تُنتَج باستمرار عن طريق الجدل مع الوقائع واليوميّات التي لا تنتهي.

ألمانيا

1- http://www.bbc.com/arabic/art-and-culture-38241434

2. http://www.law.uchicago.edu/…/fil…/01.landes.unpublished.pdf

3- على سبيل المثال، يغيب هذا التمييز في المقال أدناه غيابًا تامًّا: https://goo.gl/4sos8t

4- http://www.rightsofwriters.com/…/sixteen-things-writers-sho…

5- Systems and Procedures Exchange Center (SPEC), Unpublished Material: Libraries and Fair Use, compiled by Angie Whaley Le Clercq, Kit 192 (Washington DC: Association of Research Libraries, 1993) p 113- 114.

6- انظرْ تعارضَ الأحكام القضائيّة الموجود بالتفصيل في: SPEC

7- SPEC, p 114.

8- SPEC, p 115- 117.

9- Lades, p 10- 11.

10- ديفد هارفي، الليبراليّة الجديدة: موجز تاريخيّ، ترجمة: مجاب الإمام، ط1 (الرياض: مكتبة العبيكان، 2008)

11- نحن هنا لا نكذّب بالضرورة السيدة السمّان حين كتبتْ أنّ غسّانًا قد سمح لها بنشر رسائله إليها بعد موته، ولكنّ هذه الموافقة الشفويّة الخاصّة لا تكذيبٌ فيها ولا تصديق. انظر المقدّمة في: رسائل غسّان كنفاني إلى غادة السمّان، قدّمتْ لها: غادة السمّان، ط 5 (بيروت: دار الطليعة، 2005)

12- انظر مجموعة من الآراء حول نشر السمّان لرسائل الحاجّ: https://goo.gl/nQK6RX

13-http://www.alquds.co.uk/?p=646501

* هناك إشكال عند السمّان بخصوص مفهومها عن أدب الاعتراف؛ فهي أكّدتْ، في مقالها عن رسائل أنسي الحاجّ، ما سبق أن ذكرتْه في مقدّمة كتاب رسائل كنفاني، بخصوص رغبتها في إثراء المكتبة العربيّة التي لا تعرف أدب الاعتراف. فالاعتراف ذاتيٌّ بالضرورة، ولا دخل لنشر رسائل الآخرين بأدب الاعتراف أساسًا.

14- على الرغم من وجود هذا الأساس النظريّ القويّ للحقّ في المعرفة، فإنّ هناك أمورًا لا يُسمح للصحافة بها، ولا سيّما ما يخصّ الحياة الخاصّة للسياسيين. انظر:

http://www.bpb.de/…/lokalj…/151751/was-duerfen-journalisten…

15- https://www.theguardian.com/books/2008/oct/14/humanrights

16- من الأمور التي ميّزَتْ نشرَ رسائل جبران إلى ميّ زيادة (المجموعة في كتاب الشعلة الزرقاء) من مثيلها في حالة كنفاني أنّها تمّت بعد وفاة جبران بنصف قرن تقريبًا. وهذا يحقّق عدمَ إلحاق أيّ ضرر محتمل بأحد. كما أنّ الرسائل سُلّمتْ إلى الناشر من قِبل أقارب زيادة. انظر المقدّمة في: الشعلة الزرقاء: رسائل جبران خليل جبران إلى مي زيادة، تحقيق وتقديم: سلمى الحفار الكزبري والدكتور سهيل ب. بشروني، ط 2 (بيروت: مؤسّسة نوفل، 1984)

17- http://www.aub.edu.lb/ulibraries/about/Pages/jafet.aspx

الأربعاء، 18 يناير 2017

باسم ورباب.. أين غابت وأين غاب؟

فتحَ حوارٌ قصير مع طالبتي سناء، بمناسبة وفاة الرسام ممتاز البحرة مبتكر شخصية باسم ورباب، فتح الحوارُ معها نوافذَ الذكرى على سنواتٍ خاليات أوائل عهدي بالدراسة الابتدائية، حين كانت مناهج "باسم ورباب" رفيقة جيلٍ من الفتيان والفتيات تربّى برفقة تلك العائلة بأفرادها وجيرانها وأصدقائها... وحكاياتهم التي لا تنتهي في البيت وفي المدرسة وفي الشارع وفي الحقل... وفي كل مكانٍ من وطننا الجميل، رافقناهم فيه من اليوم الأول للمدرسة حتى عطلة الصيف.
هيَّجت العباراتُ ذاكرتي فتلاحقت صورُ طفولتي أمام عينيّ ولقائي الأول بكتاب القراءة الجديد من بطولة باسم ورباب، فللوهلة الأولى لم يكن لقائي به ودياً على الإطلاق؛ ذلك أني كنتُ قد قطعتُ أشواطاً من دراستي الابتدائية بكتبٍ شاحبة باهتة الألوان، أشواطاً لا تتيح لي أن أكون كإخوتي واحدةً من التلاميذ الذين سيدرسون المنهاج الجديد بكتبه الملونة البهيجة! لكنّ ذلك لم يمنعني من استراق الوقت للنظر فيه ومذاكرته مع إخوتي وجيراني.
وللذين يتذكرون فإن منهاج "باسم ورباب" قد بدأ تدريسه في مدارس الأردن أواخر السبعينيات ومطلع الثمانينيات من القرن العشرين، وكان شيئاً جميلاً لعروبتنا أن نقرأ في الصفحةالداخلية لغلاف الكتاب، أنه قد "قررت وزارة التربية في الجمهورية العربية السورية وفي المملكة الأردنية الهاشمية تدريس هذا الكتاب في مدارسهما".
لم يكن شيئاً مستحيلا ولا مستهجناً أن يدرس أبناء دولةٍ (جمهورية) وأبناء دولةٍ (ملكية) منهاجاً واحداً!! فتجري على ألسنتهم جميعاً دروسٌ واحدة وأناشيدُ واحدة، ذلك الجيل في البلديْن ما زال يذكر الأنشودة الأولى التي يترنم بها تلميذ الأول الابتدائي بعد خطواته في القراءة " ماما ماما .. يا أنغاما.. تملأ قلبي بندى الحبِّ.." وكلنا نعرف من  هو عمي منصور النجار الذي يبدع في يده المنشار.. وفي الشمال وفي الجنوب كانت القلوب تهفو غرباً وتنشد "فلسطين داري ودرب انتصاري"..

لم يكن ذلك مستحيلاً فلماذا لا ندرس الآن شيئاً مشابها في المدرسة كما ندرس في الجامعة مثلاً؟! وأغلب المناهج الجامعية في العالم تتقاسم خطوطاً معرفيةً عامةً يدرسها الجميع، ونحن في أقسام اللغة العربية على سبيل المثال ندرس من المحيط إلى الخليج المنهج نفسه  .. فلماذا لا نقدر على شيءٍ مشابهٍ في مدراسنا؟؟ اليوم نبدو عاجزين حين نلتفت حولنا لنجد كل مدرسة خاصة تتخذ لنفسها شرعةً ومنهاجا يوافق هواها!!
لم يكن ذلك مستحيلاً في زمن كانت تجمعنا فيه بضعُ قنواتٍ تلفزيونية لا تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، كانت قلوبُنا جميعا رغم أن منابتنا شتى!
كنت أستمتع بمتابعة برنامج طلائع البعث للفتيان الصغار على القناة السورية دون أن يخطر ببالي يوما أن ذلك قد يطغى على حبي لبلدي الأردن، ما الذي يمكن أن نخسره لو تم توحيد مناهج اللغة العربية في بلادنا العربية؟؟ سيكون قطعةً من حلم الوحدة العربية يتحقق، ماذا جنيْنا من تفرقنا واختلافنا؟؟! زادت القُطرية وفشت، وتوالت الأحقاد ونمت.
 لقد وحَّدت بين قلوبنا وتطلُّعاتنا من قبل مناهجُ غرست فينا حبَّ اللغة العربية دون وعظ ودون دروس، كان الكتابُ المدرسي الملون شيئاً جديداً مبهجاً لنا نحن الصغار في الأردن، ولمّا لم يكن واجباً دراسياً عليّ فإنني كنتُ أقلّبه باستمرار، وما زلت لليوم أذكر كيف كنت أتابع على صفحاته خطوط الرسام وألوانه في اللوحات المتلاحقة  لأبطاله صفحةً بعد صفحة.
كانت نصوصُ الكتابِ مكتوبةً بخطِّ اليد بحجمٍ مناسب مضبوطة بالشكل بقدر معقول، يجعل تلميذ الصف الأول يتابع بيُسرٍ وبهجةٍ وشغف شكل الحروف والمقاطع في الكلمات.
نعرف ونعترف أن الزمن يتغير، وأن الأجيال تتبدل، وأن ما كان في زمنٍ سابقٍ يلائم جيلاً،قد لا يلائم بالضرورة جيلاً في زمان آخر. لكن ما الذي يمنع من استلهام التجارب الماضية لإنجاز حلولٍ للمشكلات الحاضرة؟!
ليس الوقوف على الرسومات والألوان والخطوط في الكتاب المدرسي إلا مدخلاً يقودنا بالضرورة للحديث عن الذائقة الأدبية والفنية التي نصقلها وننميها لدى أولادنا في المدرسة -من غير توجيهٍ مباشر قد يضايقهم- لنأخذ بأيديهم إلى الجمال والرقة،  فالكتاب المدرسي -خاصةً للصغار- ينبغي أن نُلقيه بيد فنانٍ عاشق لمهنته، فنانٍ له مدرسة يشق طريقه وسط الزحام بروحه الخاصة، بعيداً عن قوالب الوظيفة وسجون الروتين التي قد يُلقى فيها الرسام إنْ كان موظفاً في وزارة تربية!
والحديث يجر حديثاً فعلى قدر استمتاعي بالكتاب منهاج "باسم ورباب" برسوماته المميزة، حتى أصبحتُ أعرف أسلوب الفنان البحرة في أي صفحة قد تصادفني، فإنني (حين أقدمتُ على العمل بالتدريس الصفوف الابتدائية أوائل التسعينات وكانت وزارةالتربية قد بدأت تطبيق مناهج جديدة) هالني المستوى الرديء أو البدائي للرسوم التوضيحية والتعبيرية المرافقة للنصوص في الكتب المدرسية، خطوطٌ ضعيفة جدا للحركة والتعبير تجعل الطالب يقف حائراً أمام اللوحات فلا يدري أهي تشرح وتوضح الدروس؟ أم تُلقي في وجهه الأسئلة والألغاز؟ وتتركه فريسةً لهذا القبح لا يدرك أن للجمال وجهاً آخر بعيداً عن هذا العبث القبيح والذوق الفَجّ المنفِّر .
ومن المواقف التي لا أنساها في هذا أنني وقفتُ حائرة مع طلبتي في درس التعبير الشفوي والمحادثة المعد قبل درس القراءة؛ إذ كان على الطلبة أن يتحدثوا عن اللوحة المرافقة للدرس، فاختلفت مذاهبُهم فيها بسبب رداءة الرسومات فلم يكن الحكم ممكناً على الشخضيات فيها إنْ كانت سعيدة أم غاضبة أم حائرة أم غير ذلك، فالرسومات تبدو أنها مرسومة على عجل بريشة مبتدئ لا تكاد تختلف عن رسومات التلاميذ أنفسهم.. كانت مرسومةً بريشة صاحبِ وظيفة (الإخراج الفني).
يومها قفز إلى ذهني فوراً اسمُ واحدٍ من الرسامين المعروفين في الأردن سمير مطير، فلماذا لا يكون أمثالُه من الذين يزينون صفحات الكتب المدرسية بالصور والرسوم؟  ثم ما لبث أن تحققت أمنيتي حين رأيتُ أعمالَه الجميلة المتقنة الاحترافية في كتبٍ تعليمية بعيدة عن التعليم الحكومي، خاصة تلك الكتب المنشورة في دار المنهل، وتحسرت على موهبة مثله تضيع في بحر بلادنا الذي يبتلع أبناءه الموهوبين.
كانت الكتبُ في منهاج "باسم ورباب" قريبةً من طفولةِ الأطفال، قريبةً من حياتهم اليومية وانشغالاتهم البريئة، وأفراحهم الصغيرة وأحلامهم الكبيرة، وكانت تقدم في جُمَلٍ معدودة ونصوص رشيقة - معرفةً وسلوكاً وقيمةً تعجز عنها توجيهات مباشرة كثيرة، في مقطوعاتٍ تتراوح بين الخبر والسرد والحكاية والقصة.. والأناشيد التي لا غنى عنها بأقلام كبار الشعراء. لم يؤلف(المؤلفون) أنشودةً كي يحشوا بها عقل التلميذ بمواعظ وافتخارات لا تمس روحه، بل كانت الأناشيدُ قطعةً من روحه بمعانيها القريبة من القلب، وأهم ما فيها ألا وهو سر النشيد: الموسيقا والرشاقة اللفظية، فلا العبارة ثقيلة مصطنعة تتعثر على اللسان ، ولا الموسيقا غائبة بين فخامة العبارة وجزالة الفكرة.
وما زال جيل "باسم ورباب" إلى اليوم بعد عقود وعقود يحفظ تلك الأناشيد الرشيقة، ويترنم بها كلما طرَقتْ كلمةٌ منها أسماعه.
ومن الطرائف الجميلة التي أذكرها مع إخوتي وجيراني، أننا حين كنا ننتهي من إنشاد النشيد ننطق باسم الشاعر الراحل سليمان العيسى كأنه جزء من النص وهو مبدعه، وهو الشاعر الذي كان علامةً بارزةً ورفيقاً دائماً في الكتاب كما هي رسومات ممتاز البحرة. كنا نتعلّم اللغةَ والمفردةَ والتركيبَ والموسيقا والعَروض والوزنَ الشعري ... بلا مصطلحات وبلا حدود تُثقل على أَفهام الأطفال.
والشيء بالشيء يذكر .. إذ تدعونا السطورُ السابقة لنستذكر مَعلَماً مهماً في مدينة السلط الأردنية هو متحف الكتاب المدرسي التابع لوزارة التربية والتعليم، فكلما زاركم الحنينُ للأيام الخوالي يمكنكم أن تسترقوا اللحظات للنظر في تاريخ تعليمنا المعروض في متحف الكتاب المدرسي في مدينة السلط الأردنية، وهو فكرة جديرة بالتقدير والعناية.. فالأمم التي تحترم نفسَها لا تترك تاريخَها في مهب ريح الزمان يعبث به العابثون.


السبت، 31 ديسمبر 2016

فن أن تكون مثقفا فوق العادة

بقلم بروين حبيب
القدس العربي
http://www.alquds.co.uk/?p=652769
طرت إلى بيروت لتوقيع كتابي ولقاء الأصدقاء والصديقات وحضور فعاليات صالون الكتاب في بيروت. لكنني ما إن وصلت حتى ركضت إلى دار الطليعة لإقتناء «رسائل أنسي الحاج لغادة السّمان» ليس تلصصا على رسائل عاشق، بل لأني عاشقة لأنسي، وأعرف سلفا أن ما كتبه نابع من عشقه للمرأة الناجحة المتميزة وليس محصورا في شخص غادة السمان فقط.

ورغم ضيق وقتي وانشغالي وارتباطي بمواعيد خلال ثلاثة أيام قصيرة في بيروت، اختليت بشاعري الأنيق وقرأت رسائله. وتيقنت أن تخميني كان «صح» منذ البداية. وأعتقد أنه لو صادف امرأة أخرى بحجم غادة أو أكبر لكتب لها الكلام نفسه.
وأتأسف أنّ كل ما قيل في الإعلام المكتوب ووسائل التواصل الاجتماعي بشأن هذه الرّسائل لم ينصف الرجل كما أنصفته غادة السّمان، ويبدو أننا لم نبلغ النضج الفكري اللازم لرؤية عظمة هذا الرجل من خلال رسائله وهو في مقتبل العمر. حتى حين نبرر أن هذه الرسائل تراث أدبي بحكم أنها تعود لحقبة الشباب للأديبين، فإننا ننسى أن معشر الشعراء والكتاب في الغالب تفادوا أن يبينوا مشاعرهم الإنسانية الخاصة بهم، حتى حين يكتبون ما يشبه سيرهم الذاتية. وكأنّ الجانب الإنساني فيهم هو الجانب الذي يضعفهم أمام جمهور القراء ويعرّيهم أمام النخبة، التي رغم ما تنادي به من أفكار ليبرالية لا تزال تقبع داخل جلودها تركيبتهم القبلية المعقدة. أن تخجل من الحب فذلك كارثة. أمّا أن تخجل كمثقف من التعبير عنه فهذه كارثة الكوارث.
ويبدو أن الأغلبية، إن لم يكن الجميع، يخجل من قول الحب والتشجيع عليه، ويخجل من كشف وجه الرّجل الإنساني الرقيق، وكأنّ قدره أن يرتدي أقنعة القسوة ليحافظ على صحة رجولته. ولا بأس أن نكتب قصائد في الحب لكن بادعاء الكذب على أنها نتاج مخيلة أدبية.
حين قرأت الرسائل أصبت بالدهشة لا لأن غادة السمان كشفت لنا للمرة الثانية أن الرجال ليسوا بالقسوة التي نتخيلها، وأن المناضل والثوري والأديب الملتزم لديهم جميعا في قلوبهم غرفة خاصة للمشاعر الجياشة قد تفجرها أي امرأة بمواصفات معينة، ويبدو جليا من خلال رسائل غسان كنفاني التي نشرتها سابقا ورسائل أنسي الحاج اليوم، أن ليست كل امرأة قادرة على تفجير مشاعر الرجل المثقف الرفيع في أخلاقه وأفكاره، فرجال بهذا الوزن تلزمهم نساء بوزن غادة، نساء قويات، ذكيات، ناجحات وحرائر في تقرير مصائرهن.
هؤلاء الرجال ليسوا بحاجة لنساء يختبئن خلف جدران بيوتهن، أو خلف الشبابيك والأبواب، أو خلف ظلال آبائهن وأخوتهن الذكور وينتظرن «عريس الهنا»…. لا نقاط تشابه بين رسائل حب يكتبها رجال لنساء ضعيفات مع هذه الرّسائل الفائقة الجما التي كتبها أنسي لغادة. لقد كتبها بروحه ولغته الرقراقة النابعة من أعماق العقل والقلب معا. خاطب امرأة تقف أمامه النّد للند، تفهم كل كلمة خطّها يراعه، وتعرف خبايا السطور والكلمات. ولو أنه أرسل هذه الرسائل لامرأة أخرى مقيّدة الفكر والروح بأغلال المجتمع، لكان مصيرها سلّة المهملات بعد أن تتزوج، معتقدة أن أي علاقة سابقة لها ولو من الطرف الآخر ليست أكثر من خطيئة يجب دفنها للأبد.
روعة أنسي الحاج في رسائله أيضا تكمن في هذا الكم من الصدق المنبعث من أخلاقه. يقول في فقرة قرأتها عشرات المرات: «إن كل حلمي ينحصر بأن أحب امرأة واحدة حبّا واحدا وحيدا، وأخلص لها إلى النهاية واستنفد نفسي وأجدد نفسي، وأستنفد نفسي وأجدّد نفسي معها إلى النهاية. حتى الآن إمّا أفشل في الوقوع على امرأة لائقة أو أحصل عليها وأفشل في إقناعها بحقيقتي» أي روعة تنافس هذه الروعة في وصف دواخل الذات؟ وأي عبقرية هذه تلك التي يخاطب بها رجل قلب امرأة دون المرور بوصف عينيها ونهديها وخصرها وعطرها، وأشياء سطحية تشغل النساء عموما ويعتمدها الرجال «طبخة جاهزة» لإقناع أي أنثى بميولهم العاطفية نحوهن. لقد قال أنسي الحاج ما شعرت به دائما، وكأنه عبّر عنّي في ذلك العمر المبكر وقبل حتى أن أولد. قال ما يدور في ذهن كل شخص منّا دون أن يُدخِل من أحب في متاهة الحيرة والتعلق بشباك العفة الوهمية التي يعشق رجالنا أن ينصبوها للمرأة. قال لها: «أنت أختي وحبيبتي» وفي هذا الوصف قداسة الاحترام والعشق معا، دون أن نعرف هل كان ينتقي الكلمات كما يكتب الشعر أو كما يكتب الرسائل؟ قال لها ما يجعلها حاجة دائمة في قلبه ووميضا دائما في قلبها، حين يعيد صياغة ردها الذكي:» إننا لن نلتقي أبدا ولن نفترق أبدا؟» أما ما تلا هذا التعبير الدبلوماسي الرفيع المستوى فقد كان شرحا يشبه عملية تشريح جثة واستخلاص أسباب موتها.
في كل كلمة ذرفها أنسي الحاج لمعشوقته كان هناك حب مرعب. حب فاجأ رجلا متزنا ابن عائلة مثقفة وخرّيج «اللسيه فرنسيه ومعهد الحكمة»، رجلا تعلّم اتيكيت التعامل مع المرأة تماما كما تعلّم وتشبّع بثقافة احترام الذات والغير. ولمن لا يعرف نوعية التعليم في مؤسستين عريقتين كهاتين في بيروت عليه أن يسأل أبناء جيله عن ذلك. والأخطر أنّه كان متزوّجا، ولعلّ هذا سبب إصرار غادة السّمان على الهروب منه، تماما كما فعلت مع غسان كنفاني، وربما آخرين لم تكشف عن «وثائقهم العشقية» بعد… فلطالما رددت غادة السمان في أدبها أن الحب يجب أن يكون كاملا، وفيما معناه أن لا يطعن أحدا.
وهي إن كانت تلك المرأة التي وقع في حبها رجال كثر، أو أعجبوا بتمردها ولغتها الجريئة وأدبها الأجمل، إلا أنها كانت تكبر الجميع بوعيها، وقد حافظت على صداقتها مع كل الذين ركضوا خلفها ولم يحظوا بها، وأعتقد إن عدنا لكتابها الذي رثت فيه زوجها بشير الداعوق سنكتشف أن السمان أرادت أن تختار رجلها لا أن تكون موضع اختيار، وأن تبقى في موقع الريادة لا ذيلا لرجل يقنعها بالحب.
أرادت أن تقع هي في حب باذخ يناسب ثقلها وإيمانها بنفسها وبذاتها المستقلة وبتجربتها القاسية في حياتها المبكرة، فظلّت مهرة طليقة إلى أن جاء أميرها فامتطت الفرس معه ودخلت مملكة شاسعة بدون قضبان، فسيحة تناسب هوايتها في الركض، وغابت عن أنظار من أحبها ومن حسدها ومن كرهها. وأخلصت للداعوق ولأدبها إلى يومنا هذا.
لكن من بإمكانه أن يفهم ذلك وهو يقرأ رسائل أنسي الحاج وغسان كنفاني لها؟
بالنسبة لنا على المرأة أن تكون بدون ماضٍ ولو من باب الإعجاب بها. عليها أن تتصرّف دوما بما يناسب الرجال في تفكيرهم، ويحميهم ويحمي «شرفهم الهش» إن فتحت فمها بما يسيء لهم، عليها أن تكون كما يريدون، لا كما تريد هي وإلاّ وصفت بالمراهقة. وعليها أن تتقبل نمائمهم حين كانت صبية مع كم هائل من الشائعات العاطفية عنها وتخسر الكثير من سمعتها دون أن تعتب على أحد.
قلبت غادة السمان الطاولة الذكورية التي ألفناها، وقد اختارت المادة المناسبة في التوقيت المناسب لها لتُخرج مرة أخرى الأرنب الأبيض العجيب من قبعتها السحرية، لا لتدهش القارئ العربي، بل لتعطيه درسا لعله يتطور بفكره، وهو أن الأرنب ليس وليد القبعة، ولكنه وليد الخفة واللعبة البصرية، ولا سحر في الموضوع ولا هم يحزنون، فكل شيء وليد الحقيقة التي نحاول إخفاءها.
هذا هو أنسي الحاج وهذه هي غادة السمان. وإن لم تصل الفكرة فعلينا أن نعيد قراءة أديبة أحدثت زلزالا قويا على الأرض العربية أدبا، وكذا شاعرٍ صنع مجده بهذا الصدق والاحترام اللذين نفتقدهما في ساحتنا الأدبية اليوم.

السبت، 10 ديسمبر 2016

من مي زيادة إلى غادة السمان: رسائل حب في فضاء عام

http://www.bbc.com/arabic/art-and-culture-38241434



رواية لغادة السمانImage copyrightBOOK COVER PICTURE
Image captionكانت رواياتها جريئة في مجتمع محافظ
 "من الناحية الاخلاقية غسان هو مجرد نذل كبير ، كنفاني كان متزوجا من السويدية "آنا" وافتدته بحياتها ومع ذلك كان يخونها مع امراة صارحته منذ البداية بأنها لاتحبه"

أثار نشر الكاتبة السورية غادة السمان رسائل حب تلقتها من الشاعر اللبناني أنسي الحاج عاصفة في أوساط المثقفين والقراء العاديين على وسائل التواصل الاجتماعي.
لم تكن هذه المرة الأولى التي نشرت فيها غادة رسائل حب مرسلة إليها من شخصية أدبية معروفة، فقبل أنسي الحاج أثار نشرها لرسائل حب من الروائي والناشط السياسي الفلسطيني غسان كنفاني جدلا حاميا.
تباينت مواقف المتفاعلين بين من اعترضوا على نقل الحميم والخاص إلى الفضاء العام، ومن رأوا أن رسائل يكتبها مبدع هي شأن عام بالضرورة من حق معجبيه وقرائه الاطلاع عليه.
وأثار الموضوع إشكالية أخلاقية أيضا، فغادة السمان كانت متزوجة حين وقع كنفاني في حبها، وهو أيضا كان زوجا وأبا.
ولوحظ من ردود الفعل على رسائل كنفاني تشكل معسكرين يفصل بينهما الجنس: فغالبية من أبدوا رد فعل من الفتيات والنساء أعجبوا بالرسائل، وبعضهن تماهى معها وتمنى تلقي رسائل في رقتها وجمالها من حبيب المستقبل، إلا أنهن في نفس الوقت أخذن على غادة كشفها لعواطف غسان في الوقت الذي حجبت فيها رسائلها له.
أما المعسكر الرجالي فكان في أغلبه مستنكرا لكليهما، فقد أخذوا على غسان "ضعفه أمام امرأة لا تأبه بمشاعره" بل واتهمه البعض "بالنذالة" لكونه متزوجا من امرأة أجنبية ضحت مم أجله وتعاطفت مع قضيته فكافأها بالخيانة".
غادة لم تكن الأولى
ولكن غادة لم تكن أول من نشر نصوصا من مبدعين بعد رحيلهم، فقد نشرت الصحفية إيفانا مارشليان كتابا بعنوان "أنا الموقع أدناه" تقول إنه حوار بينها وبين محمود درويش خولها بنشره بعد وفاته.
ولم يقابل هذا الكتاب بالترحيب من الجميع، على الرغم من وجود رسالة تقول إنها موقعة من درويش يخولها فيها بالنشر.
وقبل ذلك عرف الوسط الأدبي رسائل الحب المتبادلة بين الكاتبة مي زيادة والكاتب جبران خليل جبران.
لم يكن جبران الوحيد الذي أحب مي وأرسل لها رسائل حب، فقد عرف ايضا عن الأديب المصري عباس محمود العقاد أنه كان متيما بها.
ربما كان جبران الوحيد الذي بادلته مي الحب حسب ما عرف لاحقا من رسائلها.
لكن لماذا لم تثر تلك الرسائل جدلا حاميا على المستوى الثقافي والشعبي ؟
دور وسائل التواصل الاجتماعي
لا شك أن وسائل التواصل الاجتماعي ساهمت في تفعيل "الرأي العام" بمفهومه الواسع ومضاعفة هامش المشاركين في نقاش القضايا العامة، ففي الماضي كانت وسائل التعبير المتاحة هي وسائل الإعلام المطبوعة التي كانت حكرا على الصحفيين المحترفين.
ولعل ما يميز ردود الفعل على وسائل التواصل الاجتماعي هو "اختلاط الحابل بالنابل"، فنجد بينها تعليقات ساخرة، وهزلية، وأخرى رصينة وفلسفية.
وكان بين التعليقات الهزلية "المتنبي يؤكد أنه لم يرسل رسائل حب إلى غادة" و "على كل كاتب، قبل وفاته، أن يعلن أنه لم يكتب رسائل لغادة".
ومن بين الذين علقوا على نشر رسائل أنسي مثقفون وقراء.
تقول الكاتبة سنابل قنو : " أرفض الهجمة العنيفة التي وجّهت ضد الكاتبة غادة السمان، واستهجنها كونها وجهت من قبل كتاب ومثقفين. إن من حق غادة نشر أي شيء تملكه بوجود من أرسلها أو بغيابه، ثم إنها نشرت رسالة لشاعر متوفي ربما كنوع من التقدير و الاحترام والاحتفاء بأديب محب أو لجعل القارئ العربي يتمتع برسائل جميلة ودافئة كتبها الشاعر أنسي الحاج، أو لشعورها بالحاجة لحب مثل الذي احتوته الرسائل فقررت نشرها. "
ووصفت سلوك الذين هاجموا غادة بالذكورية .
أما فاتن ناصر الدين، وهي قارئة متحمسة لكنفاني وكانت من المعجبين برسائله التي نشرتها غادة فتقول تعليقا على رسائل أنسي : " رأيي أن غادة كاتبة جريئة لذلك لا أستغرب لو نشرت صورا حميمة فكتاباتها تدل أنها لم تكن تخجل من شيء وهي صغيرة والآن أيضا لا تخجل من ذلك وهي كبيرة . وبالرغم من أنه ليس للرسائل محتوى مهم فهي كرسائل المراهقين لكني أعتبرها خيانة أمانة ممن أحبها وأهداها مشاعر برسائل يفترض أن لا يشعر بها غيرها، ورغم أنهم غير موجودين الآن ليتألموا من خيانتها لكني أرى أن ما فعلته مؤذ لكل من يحب كنفاني والحاج ويحبها ."
وأخذت فاتن على غادة عدم نشر رسائلها له.
وكان من بين ردود الفعل الغاضبة ما كتبه الأكاديمي هادي عبدالهادي العجلة على صفحته على فيسبوك مثلا" انا لا احب غادة السمان ولا أحب أن أقرأ لها. انسانة مغرورة جداً. نشرت فى السابق رسائل غسان كنفاني لها فى السبعينات واليوم تنشر رسائل أنسي الحاج. ما هذا المرض يا غادة السمان ؟".
ولم يسلم كنفاني من الغضب، فذهب الكاتب الحبيب العليلي إلى وصفه بالنذالة، كتب في تعليق في فيسبوك " من الناحية الاخلاقية غسان هو مجرد نذل كبير ، كنفاني كان متزوجا من السويدية "آنا" وافتدته بحياتها ومع ذلك كان يخونها مع امراة صارحته منذ البداية بأنها لاتحبه وكل ما تشعر به نحوه هو الشعور بالامتنان لانه ساعدها في الحصول على جواز سفر بعد كسر اقامتها في بريطانيا وانتهاء صلاحية جوازها السوري".
إذن هل حياة المبدع، بما فيها حياته الخاصة "شأن عام " ؟


واضح أن الجميع يعتبرها كذلك، فمن ينشر رسائله الخاصة ومن يسارع لاتخاذ موقف عام على وسائل التواصل الاجتماعي ينشره على الملأ وينتزع التعليقات والإعجاب أو الاستنكار من العشرات وربما المئات، وواضح أن الخط الفاصل بين الخاص والعام في حياة الشخصيات العامة هو خط واه ومن الصعب تحديده.

ثقافة "اللى على راسه بطحة".. رسائل أنسى الحاج لـ"غادة السمان" تكشف تناقض المثقفين..

بقلم حازم حسين

ثقافة "اللى على راسه بطحة".. رسائل أنسى الحاج لـ"غادة السمان" تكشف تناقض المثقفين.. أحكام قِيْمَة وانحيازات أخلاقية وهروب إلى الأمام.. وما زال الحب العربى بين "العادة السرية" واختلاط المفاهيم وخوف الخونة

هدأت الحمّى، وعاد ثوار الثقافة العربية أدراجهم، وخبا الدخان فى ثكنات غادة السمان ومعاقلها التى قصفها المثقفون الليبراليون المحافظون "الثوار"، والآن يمكننا أن نجلس على طاولة العقل، إن كان ثمة عقل فى كل ما تشهده الثقافة العربية.

بداية، لا أحب "الجادجمنتاليين" ولست منهم، وفى تصورى أن فساد الحكم والمنطق لدى أى شخص، يبدأ من رفع لافتة القيم، واتخاذ المواقف على أرضية أخلاقية، ومن هذه النقطة الضاربة لجذور التفكير السليم فى اعتقادى، رأيت سيلا عرما من التناقض والتسطيح وادعاء الفضيلة، فى قضية نشر الكاتبة السورية غادة السمان، رسائل الشاعر اللبنانى أنسى الحاج لها، المؤرخة بالعام 1963، وغنّى كل ناقد أو حاقد أو خائف على ليلاه، أو بالأصح رسائله المخبوءة فى بطن الغيب، ولم يقترب أحد أو يحاول، من الثقافة والإبداع والتقدمية وفكرة الشخصية العامة فى أى وجه من الوجوه الموجبة للنقاش الموضوعى، استجاب الجميع لثقافة "نجد" المُعمّمة على الخريطة العربية، منحازين إلى ممارسة العادة السرية، بدلا عن انتزاع قُبلة فى وضح النهار.
شخصيا لم أستسغ السير فى مواكب اللعنات والمحاكمة والفرز الأخلاقى، ولا قطعان الرفض والاستهجان وقصف الجبهات، ولمّا أقرأ الرسائل بعد، لهذا آثرت قراءة رسائل أنسى الحاج لغادة السمان قبل التفكير فى الاشتباك مع الموضوع، ولم أجد فى الرسائل التسعة ما يمثل انتهاكا لعصمة الشاعر اللبنانى وخصوصيته، ولا ما يمكننى حسابه فى إطار التلصص واستباحة المساحات الشخصية، لم آخذ موقفا ولو هيّنا من غادة أو من أنسى، ولكننى أخذت موقفا صريحا ولا تفكير فيه من طوابير القضاة الأخلاقيين، ويعلم الله عاداتهم السرية التى لا أعلمها، ولى عليهم فساد منطقهم واختلال مفاهيمهم وتداخلها.
هل أخطأت غادة؟ هل خان أنسى الحاج؟
البداية البسيطة والسطحية، على مذهب جموع الثائرين العرب، أنه إن كان ثمة خطأ فى موضوع رسائل أنسى الحاج لغادة السمان - وشخصيا لا أرى أى خطأ - فهو فى وجود الرسائل من الأساس لا فى نشرها، فى هذا الشاب العاقل ذى الستة والعشرين عاما، المتزوج ووالد الطفلين، الذى يكتب رسائل عاطفية حارة وملتاثة لفتاة فى منتهى عقدها الثانى، مقتحما خصوصية الفتاة ومبتزا لمشاعرها، إن كانت لم ترد على هذه الرسائل مثلما قالت، وإن ردت فالجريمة تخص أنسى وحده أيضا، ففى كل الأحوال هو رجل خائن، وفق فلسفة الرفاق الجادجمنتاليين الأخلاقيين، انتهك حقوق زوجة وطفلين، وطعن كرامة أنثى قارة فى بيتها طمعا فى أنثى هجرت وطنها بحثا عن العلم والأدب، ولا يختلف هذا المنطق لدى عمّن ينتقدون الأنثى ويحاسبونها على ما تلاقيه من تحرش، ومن يلومون المحاربة التى لا تصمت على انتهاك وتعدٍّ، ومن يرون النساء مشروعات جنسية مفتوحة وأهدافا محتملة للمتعة المجانية، أنا ضد هذه التصورات كلها، ولكن هذا منطق الثائرين الذى لم أستطع رؤية ثورتهم خارجه.
أزمة الرسائل.. خل المفاهيم لدى المثقفين العرب
البداية العاقلة فى رأيى تنطلق من التحرير الإجرائى للمفاهيم، لفكرة الكتابة ومجالاتها، لمعنى الشخصية العامة وحدودها، ولمستوى ولاية الشخص على دوائره الشخصية المتقاطعة مع الآخرين، أو بتصور أكثر بساطة، كيف يتأتى لمثقف امتدح رسائل جبران ومى زيادة، ورسائل المنفلوطى للشخصية نفسها، ورأى علاقة سارتر وسيمون دو بفوار فتحا إيجابيا، وامتدح كتابات هنرى ميلر وعلاقاته، وقس على هذه النماذج عشرات أخرى من الرطانات التى لاكها المثقفون العرب، يقف أمام رسائل أنسى لغادة موقفا أخلاقيا، يليق بشيخ جامع لا بمثقف ينتصر للكتابة والإبداع وقيادة العقل إلى حدود صكها الأسلاف ويأباها الواقع الحى، وأيضا كيف نتعامل مع الشخصية العامة وفق مفاهيم سوسيولوجية محافظة، تمنحهم عسل الحضور والشهرة والتحقق وتذبّ عنهم لدغات النحل، فالحقيقة أن أنسى الحاج شخصية عامة، يجوز فى حقه ما لا يجوز فى حق آخرين من عوام الناس وآحادهم، وفى ظرف موضوعى ناضج كان يُفترض أن يجد زائر بيروت مساحة تحمل اسم الرجل، تضم ملابسه قبل كتاباته، وتطلعنى على غرفة نومه لا على رسائله فقط، بينما لا يحق لى دخول غرفة نوم كائن عادى فى هذا العالم، والنقطة الثالثة والأهم فى تصورى، أن غادة السمان لم تخترق خصوصية أنسى الحاج، السيدة الفاضلة التى رمى الرعاع عرضها بسفالة واستخفاف، تقاطعت دائرتها الشخصية مع دائرة الشاعر اللبنانى العاشق، فحق لها أن تتصرف فى دائرتها كما شاءت، وحينما دبج الحاج رسائله التسعة، أخرجها من كهنوت الشخصى إلى مشاعية العام بدرجة ما من درجات العموم، باعتبار النسخ الأول وحدة ضئيلة وأولية من وحدات النشر العام، ولا فارق فى تصورى بين القلم وماكينة الطباعة، وحتى أسرار الدول وملفاتها الكبرى تتاح للنشر بعد مدة محددة من السرية، والسيدة الفاضلة سترت الرسائل أكثر من نصف القرن، رغم أنها شأن شخصى يخصها قدر ما يخص أنسى الحاج، وربما أكثر وأكثر، إذ بخروج الرسائل من عصمة صاحبها لم تعد مملوكة له بأى صورة من الصور، النموذج الأقرب إن شئت مقاربة نظرية وثقافية - مع حفظ مساحة التباين فى المثال ومجال عمل النظرية الأساسية - فكرة موت المؤلف لدى "رولان بارت" وانقطاع الذات المنشئة للخطاب عن خطابها، لم يعد أنسى حاكما للنص ولا طرفا فيه، أصبح نصا حيًّا يتنفس فى هذا العالم بمفرده، فقط للمصادفة شهد ولادته وبداية تنفسه شخصان، أنسى وغادة، ولا حق لهما فى مصادرته أو تفسيره، ولا واجب علينا فى اتخاذهما مرجعية لقراءته، ولا تثريب على ناشره وقارئه.
الحب العربى.. حرية "غادة" فى وجوه مثقفى العادة السرية
الخلل الأكثر عمقا وفداحة من فكرة تداخل المفاهيم السابقة، وفق ما أراه، هو استمرار عبادة المثقفين العرب لقيمهم القديمة الرثة، وموازنة أمور الراهن وفق تصورات مرجعية وإحالية لا تبتعد كثيرا عما أسس له الفقهاء ورجال الكهنوت الميتافيزيقى، ما زال الحب عادة سرية لدى الذهنية العربية، على كثرة ما تقترفها، تناضل لإثبات القطيعة الكاملة معها، اعتقادا عميقا منها بأنها مساحة ملوثة لا تليق بسيكولوجيات الأطهار المعصومين من آباء الكلمة، هكذا وفق مستوى مركزى من المعرفة المؤدلجة والمؤسسة على ركائز قبلية وعقدية، ومن هنا تكتسب العلانية التى تقف شامخة كاحتمال قائم لمآلات الرسائل والعلاقات المبتورة والعادات السرية لمثقفى الراهن المُعاش، تهديدا خطيرا وعضويا للصورة النمطية التى تأسست عليها الثقافة العربية وتشكلت وفقها صورة المثقف، وهكذا كانت الجموع الثائرة تحاول الثأر لأنفسها بمواقف استباقية، تحاول صيانة سرية رسائلها، الحالية أو المستقبلية، أكثر من الثورة لاسم أنسى الحاج والأسى لسريته المهدرة.
رسائل غادة تنتصر لـ"أنسى الحاج" بالحب 
ما فعلته غادة السمان حق شخصى لها، لا يجوز لأحد انتقاده أو قياسه بمازورة أخلاقية، وبعيدا عن فكرة الحق، فالسيدة لم تتلصص ولم تتحرش ولم تفتح دولاب أنسى الحاج ولا غيره، السيدة لم تقتحم الناس فى صناديق الرسائل الخاصة ولم تخطف رجلا من زوجته، والدليل على هذا الرسائل نفسها، لم تدخل علاقتين فى وقت واحد، ولم تتمرن على النوم الهادئ فى أكثر من سرير، وحدها العقلية المحافظة الأخلاقية تفعل هذا وتنتقده ويصدمها نشره أو الحديث عنه، العقلية السوية - مثل غادة السمان ومن على شاكلتها رجالا ونساء - يعرفون حقيقة أننا بشر، بشر وحسب، لا يحق لنا أن نعيشها ملائكة ولا أن نزايد على الناس بدنسنا المخفى عن عيونهم، لهذا ستجدها تكتب هكذا، وتنشر هكذا، وتعيش هكذا، وستجدها وهى سيدة فى الرابعة والسبعين من عمرها، غضة القلب والروح، تعرف قيمة أن تكون حقيقيا وعلى طبيعتك طوال الوقت، وتنتصر لقلوب العشرينيين أكثر من انتصار أصحابها لها، وتصون حق أنسى الحاج فى أن يطلق رئتيه على وسعهما، كيفما شاءت له الحياة وهواؤها، لا أن يقبض على صدره بذراعيه ليحبس الهواء الذى لم يُخلق ليُحبَس، فقط يفعل "الجادجمنتاليون" هذا، فقط يفعله مثقفو العادة السرية.
سيدتى غادة السمان، محبة لروحك، وأسف على تطاول المتطاولين، ووردة بين دفتى رسائل أنسى لك، كونى بخير حتى يكون أنسى وغسان وجبران ومى والعقاد والمنفلوطى وكل المحبين بخير