بقلم لانا مامكغ/ جريدةالرأي
ظلّ يبحث عن جهاز التّحكم وسط الألعاب التي كانت متناثرةً في غرفة المعيشة، حتى وجده أخيراً تحت إحدى الكنبات، جلس بعد يوم عملٍ طويل ليشاهد الأخبار، لكنّه لم يستطع الإنصات حين شاءت الصّغيرة الجلوسَ في حِجره لتوجّه له سؤالآً عن الدّيناصورات... ثمّ ليرتفع صوتُها باكية حين اقتربَ أخوها فجأةً ليختطف الكرة الملوّنة من يدها ويجري بعيداً !
صاح يناديه، فارتفعت ضحكة الشّقي وعلا بكاء الصّغيرة بالمقابل، كتمَ غضبَه واتّجه لفتح النّافذة لمّا أحسّ بالضّيق من رائحة الطّعام المنبعثة من المطبخ؛ تلك المختلطة مع رائحة أخرى لمسحوق تنظيف، فدخلت زوجته لتحذّره من اندفاع الهواء البارد على الأطفال... ثم لتقولَ أشياء عن الخضار التي أحضرها، وعن تأخّرها في العودةِ من عملها وعن... فقرّر ألّا يسمعها، ثمّ ليعود فيخرج من البيت دون أن ينبسَ بحرف !
سار طويلاً حتى أحسّ بالتّعب، فدخل أحد المقاهي ليجلسَ في الزّاوية ساهماً، ولم يعلم كم مرّ من الوقت حين التفتَ حوله فلمح مجموعةً من الشّابات يجلسن إلى طاولةٍ قريبة، نظرَ إليهنّ دون اهتمام حتى لفتته نظرةُ إحداهن... كانت تتطلّع نحوه بفضول، تجاهلَ الأمر وعاد ليسرحَ من جديد، لكنّه بقي يشعرُ بعينين تخترقان وحدَته... نظرَ مرّة أخرى، فلمح ابتسامة... ولم يدرِ ماذا يفعل، فتصنّع الشّرودَ للحظات، ثمّ عاد ونظر نحوها؛ ليرى أنّ الابتسامة قد اتّسعت !
ارتبك، ودون تفكير وجدَ نفسه يتفقّد وضعَ ياقته، ويتحسّسُ شعرَه... ما الذي استوقفها ؟ لم يعرف، هي جميلة جذّابة لاشك، وتبدو أنّها تدرك ذلك جيداً، هل توجّه له دعوةً لتجربة عاطفية معه ؟ ونفضَ رأسَه كأنّما يطرد الفكرة، ثمّ ليعود ويسرح: ماذا لو شجّعها ؟ إلامَ سيقودُه ذلك ؟ ماذا لو تواصل معها وتطوّرت الأمور ليجدَ نفسَه واقعاً في حبّها ؟ ثمّ لتسيرَ الحكاية نحو الارتباط... نحو حياةٍ جديدة، وبدأ السّيناريوالقادم بالتّشكّل في رأسه؛ كيف سيبلّغ زوجته ؟ من المؤكّد، حسب ما يعرفه عن شخصيّتها، أنّها ستنسحبُ من حياته فوراً انتصاراً لكرامتها... لكنّ شهامتَه تقتضي إكرامَها هي والأولاد، سيبحث عن عملٍ إضافي، وبإمكانه بيع قطعة الأرض البعيدة التي ورثها عن والده وكان يدّخرها لتعليم الأبناء، إذن، سيرتبط ليعودَ آخر النّهار إلى بيتٍ أنيقٍ هادىءٍ... سيتدفّق الدّمُ في أوصاله الباردة من جديد... سيهيمُ في عطر أنوثتها ليعود قلبُه السّاكن فيخفقَ بإيقاع لذيذ... ستكون قربَه في مثلِ هذه الليلة الباردة لتعيدَ الدّفءَ إلى روحه الكابية !
وقطعَ تداعياتِه ليعودَ وينظرَ نحوها من جديد، ما زالت هناك... عينان بلون الليل تحدّقان به باهتمامٍ وترقّب... فجأة، داهمه شعورٌ بالخوف... موجةٌ من عتمة داهمت كيانه كلّه لتتدفّق معها أسئلةٌ موجعة من مثل: مَن سيحكمُ الغطاء على أطفاله في الصّباحات الباردة؟ مَن سيستردّ لصغيرته الكرة حين تحتاجها ؟ في حضن مَن سيلوذ الشّقي الصّغير لمّا يقترفُ حماقةً ما ويهرب إليه من أمّه الغاضبة؟ لمن ستشكو هي من نوعية الخضار واسطوانة الغاز التي تفرغُ فجأة في أسوأ الأوقات؟
انتفضَ واقفاً ليضعَ بعضَ النّقود على الطّاولة ثمناً لفنجان قهوة لم يذقها... وغادرمسرعاً نحو البيت حتى وصل فرِحاً ملهوفاً ليدخل المطبخ فيعرض على زوجته المساعدة... ثمّ ليشرعَ باللعب مع الصّغيرين حتى علت ضحكاتُ ثلاثتِهم لتتردّد في أرجاء المكانِ كلّه !