الموشحات الأندلسية
هي هذا الإرث الأندلسي الذي ما زلنا نستمتع بجماله إلى اليوم، وهي واحدةٌ من
المبتكرات المميزة التي جادت بها قرائحُ الأندلسيين. وهي مأخوذةٌ في اسمها من وشاح
المرأة المحلّى باللآلئ والمجوهرات الذي تتزين به.
والموشح في أبسط
أوصافه قصيدة غنائية تمتاز بتنوُّع قوافيها وأوزانها، وتتكون من مقطوعاتٍ تتوالى
حتى المقطوعة الأخيرة التي تسمى خرجة، وهي مركز الموشح كما كانت تعرف في بداية نشأة هذا الفن: فهي التي كان الوشّاح
يضع وفقها لحنَ موشحته ثم يعمد إلى نظم الكلام عليه. وعادة ما تكون الخرجة على ألسنة
النساء أو الصبيان، وفيها من السخف والخفة والعامية والأعجمية ما يجعلها أملح ما
في الموشح.
والموشحة
أقرب إلى قطعة موسيقية منها إلى قصيدة شعرية؛ إذ كان للغناء أثره الكبير في ظهور
هذا الفن بالأندلس، حيث انتشرت مجالس الأنس واللهو في المجتمع الأندلسي، وازدهر
الغناء مع وفود زرياب إلى العاصمة قرطبة في القرن الثالث الهجري، وأضاف جمالُ
الطبيعة سبباً آخر لجمع هذا كلِّه في الموشحات، فكانت لغتُها وإيقاعاتها السهلةُ
الليّنةُ الخفيفة تلائم مزاج الجمهور الطَّروب، وتوافق أغراضها الأساسية التي قيلت
فيها كالغزل والخمر والطبيعة ...
ثم ما لبثت
الموشحاتُ أن ملكت قلوبَ العامة والخاصة، لكن اشتهار أمر الموشحات الأندلسية
وازدهار هذا الفن على مستوى العامة في المجتمع الأندلسي لم يشفع له، فاعتذر مؤرخو
الأدب الأندلسي عن الحديث عنها في مؤلفاتهم. إذ لم يلتفت بعضُهم إلى أصحاب هذا
الفن لأنهم خرجوا على أعاريض العرب المعروفة، وبعضهم لم يعتد إيراد فن الموشحات في
الكتب المجلَّدة المخلَّدة فانصرف عنها، وغيرُهم ما اعتادوا إدخال الهزل في معرض
الجد فلم يأتوا على أخبارها!
ومهما يكن
من موقف أولئك المؤرخين من فن الموشحات الأندلسية فإننا لا نعدم أن نجد لها في
المشرق من المعجبين والمأخوذين بها حدّاً جعل المشارقةَ أصحابَ فضلٍ على محبّي هذا
الفن، بأن تلقفوا الموشحاتِ الأندلسية ونظموا على منوالها مقلدين ومجددين .. ولم
يكتفوا بذلك بل إن أهم كتابٍ لا غنى عنه للباحثين حتى اليوم في فن التوشيح – كتاب دار
الطراز في عمل الموشحات قد ألَّفه أحد المفتونين بهذا الفن وهو المصري ابن
سناء الملك (ت608هـ/1211م)، الذي كان أول من أقام صنعة هذا الفن وأحكامَ بنائه،
والناس عيالٌ عليه في ذلك إلى اليوم.
ومهما قيل
في جمال الموشحات الأندلسية وسحرها الذي سرى إلى المشرق وفتن أهلَ الكلمة والنغم،
فإن الموشح كما عرفناه هو فنٌ تفرَّد به أهلُ الأندلس. وترجع أوليّتُه إلى أواخر
القرن الثالث الهجري إلى الشاعر محمد القَبْري الذي كان يضع الموشحات على أشطار
الأشعار، ومن بعده إلى ابن عبد ربه(ت328هـ/940هـ) .. ومع هذه البدايات المبكرة
فليس بين أيدينا موشحات لهؤلاء تضيء لنا طريقتهم الأولى في ابتداع هذا الفن
الجميل!
والمستقر
بين الدارسين أنّ الشاعر عبادة بن ماء السماء(ت422هـ/1030م) هو مبتدع الموشحات فكأنها "لم تُسمع
بالأندلس إلا منه ولا أُخذت إلا عنه".
إن هذا الفن
الذي أهدتْهُ الأندلس لعشاق الجمال والموسيقا هو فن مبتكَر كغيره من الفنون
المبتكرة التي عرفها الأدبُ العربي في طريق التجديد والحداثة، إلا أن كثيراً من
تلك الفنون خفَتَ ضوؤُها وانطوت صفحتُها أو بقيتْ مغمورةَ الشأن ضئيلة الأثر، في
حين ازدادت الموشحاتُ تألقاً مع الأيام حتى تنامى معجبوها في مختلف الأصقاع والجِهات،
وحفظوا لها هذا الودَّ والإعجاب في المعارضة والمحاكاة والتقليد.
ولم يكن
تأثير الموشحات الأندلسية في أهل المشرق فحسب، وإنما امتدَّ تأثيرها إلى ظهور
موشحات عبرية على مثال الموشحات العربية عُرفت بـ(البيزمون) القصيدة الغنائية
الشعبية وهي تطوير للأناشيد الدينية العبرية.
فقد قلَّد
الشعراءُ اليهود في الأندلس أقرانَهم من الشعراء العرب في نظم الموشحات، وأكثروا
من معارضة الموشحات العربية الأندلسية حتى
فاقت الموشحاتُ العبريةُ -التي وصلتْنا- في عددها الموشحاتِ العربيةَ بكثير، وليست
قيمةُ الموشحات العبرية في عددها الكبير بقدر ما هي في حفاظها على بعض السمات التي
لم تحتفظ بها الموشحات العربية؛ لأن المصادر العربية لم تحتفظ بالكثير منها.
وكان كبار شعراء العبرية في الأندلس قد أقبلوا
على نظم الموشحات مجاراة لتطورِ الحياةِ وذوق العصر، في حين ترفَّع عن ذلك كبارُ
شعراءالعربية هناك، الذين لم يستطيعوا أن يتجاوزوا نظرتهم الأولى إلى الموشحات
بأنها فنٌ شعبي يُلقى إلى الجمهور على غير هدى عَروض الشعر العربي وقيوده المحكمة.
على الرغم من أن ابن سناء الملك قد أدرك سرَّ هذه الموشحات حين وصف قسماً كبيراً
من الموشحات بأنها مما لا وزنَ له على أوزان شعر العرب، وبأنه "ما لها
عَروضٌ إلا التلحين" أي أنها أغنية يجبر اللحنُ الموسيقي كسرَها العَروضي.
وحين وصف كذلك القسم الذي جاء على أوزان العرب مما اختلفت أوزانُ أقفاله عن أوزان
أبياته قائلاً إنه "لا يجسر على عمله إلا الراسخون في العلم من أهل هذه
الصناعة" صناعة الموشحات.
وكانت
الموشحات العبرية قد ظهرت منتصف القرن الحادي عشر الميلادي مع ازدهار الشعر العربي
في الأندلس وهي كذلك توافق فترة ازدهار الموشح العبري، وقد خرجت الموشحاتُ العبرية
من عباءة الموشحات العربية مقلِّدةً لها في الشكل والبناء، والصور والأغراض، والأوزان
والقوافي... وفي كل ما يتصل بها، وصارت الموشحاتُ جزءاً أساسياً في الشعر الأندلسي العبري. وقد كان الوشّاحُ اليهودي
يأخذ مطلعاً أو خرجةً من موشحٍ أندلسي عربي ويقيم عليها موشحته معارِضاً
ومقلِّداً، وقد ظل الشعراءُ اليهود في الأندلس على متابعتهم للشعراء العرب
المعاصرين لهم ومعارضة موشحاتهم، ومن
الذين اشتهروا في هذا موسى بن عزرا (ت530هـ/1135م)، ويهودا اللاوي (ت536هـ/1141م)،
وإبراهيم بن عزرا (ت560هـ/1165م).
ومن أشهر الشعراء
الذين عارضوا الموشحات العربية تاوضروس أبو العافية (ت1295م)، وقد أنشأ ديوان
موشحاته على معارضته لأسلافه العرب واليهود الذي يقول في مقدمته: "وعلى رأس
كل واحدة من هذه الموشحات سوف أذكر النموذج؛ لأنها بُنيت كلها على أسس عربية، وتلك
عادة شُداة الألحان (أي الوشّاحين) أن يغنوا على قيثار إسماعيل".
فهذا هو
بعضٌ من قبس الموشحات الأندلسية الذي أنار في الآداب الأخرى شموساً وأقماراً تملأ
سماءها تنوعاً وجمالاً. وهي بعين المنصِف أثرٌ لا يُمحى للأندلس على التنوع
والتعدد الثقافي والفني والحضاري الذي عاشتهُ تلك البلاد شطراً من الزمان، وملأتْ
به الأرضَ من ثمراته التي ما زلنا إلى اليوم نستطيب مذاقَها في كلِّ جمالٍ وألفةٍ تطرق
أسماعنا وأرواحنا حين تلامسها كلمةُ الأندلس.