في نهاية الأسبوع الاعتيادية التي نقضيها في إربد، لعبتُ مع ابن عمي ذي
الثلاث سنوات في شرفة بيتنا الواسعة، وما زالت ابتسامته مطبوعةً في ذاكرتي، بأسنانه
البيضاء الصغيرة وشعره الأسود.
وصل الخبر بعد يومين؛ سقط عليٌّ من
الطابق الأول في بيت جدي، ليستقر رأسه الجميل على الرصيف، ويغيب أياماً.. ثم قيل:
رحمه الله!
كان رحيله مفاجئاً وحزيناً، جعلني أقرِّر ارتداء الحجاب، وأنا التي أعشق البنطلون
وأؤجل فكرة الحجاب وأقول: "سأتركه إلى أن أصيرَ في الأربعين".. وكنتُ
أظن الأربعين بعيدة!! فإذا هي تأتيك في عشيةٍ أو ضحاها!
قررتُ ارتداء الحجاب في سنتي الجامعية الثانية، أخبرتُهم بقراري، ولم أسمع إلا من والدي عبارة: "المهم ألا
تلبسيه اليوم وتشلحيه بكرة"! هذا فقط كان التوجيه الذي سمعتُه، والبقية
تركوا الأمرَ لي. وخلال أيام كنتُ اشتريتُ ملابس مناسبة وأغطية للرأس.. وانتهى!
في الحقيقة حين أفكرُ اليومَ، وأنا على بُعد نحو ربع قرن من ذلك القرار،
أجدُني أزدادُ شكراً لله على هذا الرزق، وعلى ذلك القرار؛ فبعضُ القرارات في
حياتنا لا تحتمل التأجيل، وتحتاج منكَ أن تكون سريعا.. وحاسما.
لكن الأمر لم ينتهِ بارتداء الحجاب وكفى، كما يعتقد كثيرون، بل إن الحجاب
ينمو يوماً فيوماً في نفس المسلمة، ولحظة ارتدائه هي البداية فقط.
كان ارتداءُ غطاء الرأس والملابس الطويلة-
يسيراً نوعاً ما على فتاةٍ مثلي، التزمتْ أداء الصلوات في أوقاتها في أثناء
الدراسة الثانوية، بفضل الله وبفضل معلمة التاريخ في الأول الثانوي، جزاها الله
عني خيراً في كل ركعةٍ أؤديها، والصلاة تجلو القلوب وتعينُ على الأصعب منها.
كانت تلك الخطوةَ الأولى، وكانت ميسَّرةً إلى حدٍّ كبير؛ لم تواجهها اعتراضاتٌ
خارجية من العائلة، ولا انتكاساتٌ فكرية من داخل نفسي، أضف إلى ذلك أن الجوَّ
العام في الحياة الجامعية – أواخر عقد الثمانينات وأوائل التسعينات في الجامعة
الأردنية– كانت مشجِّعة بصعود نجم الاتجاه الإسلامي.
لم أكن أعلم وقتَها أن الحجاب سيكون اختباراً في محطاتٍ قادمة من عمري...
ولكل فتاة تعتقد أن قرار ارتداء الحجاب وحشر جمال شعرها وجسدها تحت أغطية
قماشية، هو الخطوة الأكثر صعوبة والأشد وطأة على نفسها، أقول لها: بل إن ما يلي هو
الأصعب والأشد، إنّ ما يلي هو الاختبار الحقيقي لمعنى الحجاب الذي ترتدينه.. ويبدو
أنه كلما تقدَّم العمرُ والتجارب بالفتيات الشابات، تزداد الاختباراتُ التي يقعْنَ
أمامها بسبب ارتدائهنّ الحجاب.
لم تواجهني طوال حياتي الجامعية الأولى اختباراتٌ حقيقية يفرضها الحجاب، ولم
تواجهني كذلك صعوباتٌ تُذكَر حين خروجي إلى الحياة العملية، إلا من باب أن العمل في
بلادنا العربية يكون عادةً مقسوماً بين المحجبات وغير المحجبات في المؤسسات
المختلفة؛ فيحبِّذ بعضُها المحجبات وبعضها يفضلُهُنّ بلا حجاب، وحتى هذه القسمة
تكون خاضعةً هي الأخرى لشروطٍ معينة يتواطأ عليها أصحابُ العمل بمواصفاتٍ خاصة
لملابس المحجبات أو لملابس غيرهنّ.
أذكر أنني عملتُ في إحدى دور النشر في بداياتي المهنية، وكان صاحبُ الدار
رجلاً ذا هيبة وقدر في نفسي، احترمتُ فيه صراحته حين أبلغني ذات يوم –وقد كنتُ
مخطوبة- أنه لا يحب توظيف متزوجات، فأشار عليّ أن أتقدم لمقابلة عملٍ في إحدى
المدارس الإسلامية وقد أوصى بي هناك.
ذهبتُ للمقابلة التي لم أوفَّق فيها لسببٍ فهمتُه لاحقاً من صديقتي: "تأتين
إلى المقابلة بفستانٍ حريري بلونٍ ورديّ، وتريدين أن تفوزي بالوظيفة بعد كل هذا؟!"
كانت تلك التجربةُ الاختبارَ الأول الذي كان الحجابُ فاصلاً فيه، وهذه
تجربةٌ قد تمرُّ بها أخريات، ولا يبقى منها إلا ذكرى، ربما تستدعيها الظروف من حين
إلى حين.
ثم حانتْ تجربةٌ أخرى واختبارٌ جديد كان الحجاب فيه حاضرا؛ لكنه لم يكن في
سياق الدراسة أو العمل، إنه في سياق المواجهة مع الآخر!
كنتُ انتهيتُ من دراسة الماجستير، وقطعتُ شوطاً من العمل في التدريس، حين
انتقلتْ عائلتُنا الصغيرة للإقامة في بريطانيا، وهناك كان للحجاب مذاقٌ آخر لم
أعهده في بلادنا العربية، وكان للحجاب تحدياتٌ أخرى ما شعرتُ بمثلها من قبل. للمرة
الأولى أشعر بأن الحجاب هو هُويَّتي التي تعرِّفني إلى الآخرين، التي تجعلني متميزة،
هُويَّتي التي لا أخجل منها، وهُويَّتي التي أفتخر أنني أتميز بها.
كانت إقامتُنا في مدينة إدنبرة في أقصى الشمال البريطاني، وكأيِّ غريبٍ
يحاول أن يشتمَّ رائحة الوطن والأهل في ديار الغربة في كلِّ إشراقةِ شمس، هي هي
الشمسُ التي أشرقت منذ قليل على بلادي تشرق الآن أمام عينيّ هنا، هو هو النسيمُ
المسافرُ عبر المسافات يحمل عبقَ البلاد ورائحة أهلها يمر أمام بيتي، كنتُ أسيرُ في شوارع
المدينة الجديدة بحجابي، الذي لم يكن يثير فضولاً ولا استغراباً لدى سكانها؛ لأننا
كنا نسكن المنطقة المحيطة بالجامعة، وهي تضمُّ طلبةً من وراء البحار، وفيهم نسبةٌ
معقولة من المسلمين وعائلاتهم يألفهم أهلُ المدينة، التي جعلت من وسط المدينة يضم كذلك مسجداً جميل
المعمار يسمى المسجد المركزي لمدينة إدنبرة.
كان التجوال وسط المدينة وفي الشوارع المحيطة بالجامعة، هو الذي جعلني
أشعر بميزة الحجاب الذي يغطي شعري وجسدي، كنتُ أُلقي تحيةَ الإسلام على كل محجَّبةٍ
أصادفُها في طريقي، وغالباً ما كنَّ من الهنديات والباكستانيات المحجبات، يَسِرْنَ
في وسط إدنبرة بأثوابهن التقليدية المزركشة الزاهية الألوان.
كان إلقاءُ السلام على أي محجبة في طريقي يملأ نفسي بتلك الروح التي ترشدُ
إليها السُّنةُ النبويةُ الشريفة بإفشاء السلام على من تعرف ومن لا تعرف، بكل ما توحي به حروفُ كلمة (إفشاء)
من إصرار على نشر التحية في الأرض، لتعمَّ المحبةُ القلوبَ وتطغى وتزيد، ويمنحني
كذلك نوعاً من الألفة في هذه المدينة الغريبة أول استقراري بها.
كانت كلمةُ السر بيني وبينهنّ: الحجاب، وكلمة السر الأخرى: اللغة العربية
في عبارة (السلام عليكم).. إنها مفاتيح يمكنك أن تحملها معك في كل مكان... كم سعدتُ
بتلك اللغة الصامتة المشتركة التي تخلقُها قطعةُ قماشٍ لا تتجاوز متراً، لكنها إذا
أُلقِيتْ على الرأس كانت تعبيراً لا ينتهي عن محمولاتٍ (هُويَّاتية).. حينها
أدركتُ حقاً معنى "الحجاب هُوية المسلمة". لم أكن بحاجة إلى أطروحاتِ
الهُوية واللغة والأمة والدين والثقافة...وغيرها التي يلوي بها أساتذةُ الجامعات
ألسنتَهم! ولكنني أعترف أنني –للأسف- حين ألِفتُ المكان، ونمَتْ صداقةٌ بيني وبين
الأزقة والأمكنة المجاورة- ما عدتُ قادرةً على تلك العادة، وما عاد الحجابُ يغريني
بإلقاءِ التحيةِ على صاحبته، وما عادت الدهشةُ تغزو قلبي حين أصادف في إدنبرة
محجبةً مثلي في السوق أو في الباص أو في...المسجد!