أرشيف المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 28 أبريل 2015

حجابي في حياتي (3)

انقضت السنواتُ التي أنفقتُها في إدنبرة، حملتُ ما بقي لي من العمر في طريق العودة إلى البلاد، بلادنا العربية الإسلامية، التي لم يكن خَطَرَ على قلبي من قبلُ أنها قد ترى - يوماً- في الحجاب تهديداً لقيم الحرية، أو سَـمِّه ما شئت مما صرنا نختبره من حينٍ لآخر في بلادنا على امتدادها.
وكيف يخطر على القلب أن الحجابَ في بلاد الإسلام وفي بلاد المسلمين يمكن أنْ يصبح مسألةً فيها نظر؟! وأنْ يصبح مسألةً خاضعةً للنقاش ولاتخاذ موقفٍ نحوك بسببه؟! أعترفُ أنَّ هذا شيءٌ تجاوَزَ تصوري آنذاك.
ولا يقع في نفسك أيها القارئ أنني أحدِّثك عن دولةٍ تحارب الحجابَ مثلاً وتمنعه وتزدريه قانوناً وعُرفا، بل عن بلادٍ ما زال الحجابُ فيها منتشراً –بحمدالله- لأسبابٍ تتراوح بين الإكراه والرضا، بين التديُّن الحقيقي والزائف، بين التقوى والتقاليد، وبين أشياء وأشياء أكبر.
ثمة مسألةٌ أخرى قد لا يختبرها الجميعُ في أمر حجاب المرأة هي مشاركتها العامة وتقدمها العلمي والمهني. إنَّ امرأةً محجبةً -مجاراةً للعادات أو التزاماً بالدين- قنعت بالجلوس في البيت والقيام على تربية الأولاد والانسحاب من الحياة العامة، على عِظَم هذا الدور وأهميته، فإنه لن يعترض سبيلَها أصحابُ الدعوات التي ترفض الحجاب وتتصدى لانتشاره، وربما لا تثير أمثالُها انتباهَهم. أما الذي يؤلم حقاً فهو تلك الحربُ الخفية التي تواجهها خياراتُ النساء المتميزات علمياً ومهنياً بل حتى وجمالياً، اللائي يخترْنَ الحجاب بكامل إرادتهنّ، ويعبِّرْنَ عن هذا الاختيار الحرِّ علناً.. فلا يقدرُ عقلُ أولئك الذين قد لا يستوعبون أن المرأة يمكن لها أن تكون ناجحة ومتعلمة وجميلة... وفي الوقت نفسه تُقبِلُ على اختيار الحجاب بملءِ إرادة قلبِها إيماناً. وهذا يعيدُنا إلى مسألةٍ قديمةٍ جديدة: لَبوس العلم ولبوس الإيمان: لماذا يجب أن نراهما على طرفَيْ نقيض؟! على الرغم من أن الحياة نفسَها هي روحٌ وجسد، عَرَضٌ وجوهر، قلبٌ وعقل.
وتحضرني هنا الحادثةُ التي مرَّ بها الرحالةُ الأندلسي الموريسكي أفوقاي في القرن السابع عشر، لقد كان أفوقاي واسعَ الثقافة والاطلاع، متحدثاً بلغاتٍ عديدة، لبقاً دبلوماسياً، تجتمع فيه صفاتُ الـ(جنتلمان)! وإلى جانب ذلك كله كان فقيهاً عالماً حافظاً للقرآن، تــنــقَّل سفيراً للمغرب في بعض الدول الأوروبية، وفي أثناء زيارته لأحد الأديرة في فرنسا قيل له بعد نقاشات وحوارات: " تعجَّبْنا منكَ؛ تحفظُ الألسن، وتقرأ الكتب، وسِرْتَ في المدن وأقطار الدنيا، ومع هذا تكون مسلماً؟!" وكأن تعدد اللغات والمعارف، أو سِعَة الأفق والثقافة، أو السياحة في أقطار المعمورة، لا يـتـناسـب مقامُها والإسلامَ أو المسلمين؟!!
هذه الحادثة التي تنتمي إلى القرن السابع عشر، لا تختلفُ عن حادثةٍ تنتمي إلى القرن الحادي والعشرين؛ فقد كنتُ في الاستماع لبرنامج الشريعة والحياة على قناة الجزيرة منذ ما يزيد على عشر سنوات، من تقديم المرحوم ماهر عبدالله وضيافة الشيخ يوسف القرضاوي، حين ردَّ المقدم على تساؤل أحد المشاهدين: لماذا لا تكونُ في الجزيرة مذيعاتٌ محجبات؟ فتعلَّل المذيعُ الشاب بأن العملَ الإعلاميَّ يحتاج إلى دراسات جامعية وخبرات عملية، وإتقان لغات ومهارات.... وغير ذلك. وحين كان يعدِّد المؤهلات المطلوبة في المذيعات كنتُ أسائلُ نفسي: هل عدمت النساء أن تكون بينهنّ (محجبةٌ) تحمل مثل هذه المؤهلات (غير المستحيلة)؟!
وكأني بالفكرة نفسها التي صادفها أفوقاي في فرنسا منذ ثلاثمئة سنة هي هي لم تتغير: المرأةُ المحجبة المؤمنة لا يمكن أن يُتصوَّر أنها تكونُ صاحبةَ مؤهلاتٍ عصرية، وكأنَّ الحجابَ معناه أن أعيش خارج هذا الزمان!.
لكنْ وللحق.... إننا بحمدِ الله ما نزال ننعم في بلادنا بقبولٍ اجتماعي للحجاب وانتشار، لا أسأل كثيراً ما هي أسسه: هل هو تقليد اجتماعي أم عقيدة إيمانية، أو حتى لغايات إجرامية؟!
لكلِّ ما سبق، ما خطرَ على قلبي في يومٍ أن يكون الحجابُ حين تخوض المرأةُ سباقَ الترقي الوظيفي، أو التعليمي- عقبةً، هي أصعبُ أحياناً من الوصول للهدف العملي أو العلمي المبتغى.



***
عدتُ إلى مقاعد الدراسة من جديد والتحقتُ ببرنامج دكتوراه اللغة العربية في الجامعة الأردنية، وأقسامُ اللغة العربية تغلب عليها صفةُ (المحافظة) طلبةً وأساتذة؛ ربما هي هيبةُ اللغة االعربية المستمدة من هيبة القرآن الكريم انتقلت كذلك إلى المقبلين على دراستها والاشتغال بها.
في أثناء الدراسة اضطررنا لحضور دروس الأدب في بيت الأستاذ نظراً لظروفه الصحية، كان أستاذُنا الفاضل حاضراً لاستقبالنا في بيته كل أسبوع، وسأترك الحديث عن مشاعر الجلوس إلى الشيوخ والعلماء في بيوتهم الخاصة ومكتباتهم الحميمة إلى وقت آخر، فهو شعور لا يدانيه شعور.
الحجابُ ليس مجرد قطعة قماش بها تغطي المرأةُ شعرَها وجسدها، بل إنَّ له من المعاني القلبية اللطيفة التي لا يسعها إلا حسُّ التي تراه كذلك، وقد كان عهدي منذ ارتديتُ الحجاب أنْ أحاول إلزامَ نفسي بحدوده رغم عيوبي الكثيرة ونواقصي الأكثر، ومن تلك الحدود عدم المصافحة، وكان أستاذُنا يستقبلنا كل أسبوع جالساً في مقعده مرحِّباً بنا حال وصولنا. فيسلِّم عليه الزملاءُ الشباب وينحنون لمصافحته .. وحين يأتي دوري أسلِّمُ عليه بالكلام مع انحناءة احترام وإكبار، ولكن لا أمدُّ له يدا، ولم يكن يعجبه ذلك مني، وقد أبدى نوعاً من الامتعاض من هذه العادة التي ما زال بعضُ الناس يتمسك بها في زمننا! وأنا شخصياً أتعرض لهذا الامتعاض من كثيرين لعدم المصافحة، وهو شيء أتقبله أحياناً بروحٍ رياضية خاصة من الكُبَراء مقاماً وعلماً ومنزلة. وأحياناً أخرى بنوعٍ من الجفوة التي يخلقها عدم قبول الآخرين لاختياري هذا؛ ففي النهاية وفق منطقهم في الحرية: هذا جسدي ولي مطلق الحرية في منع الآخرين منه حتى ولو بمصافحة! لهذا كنتُ في الغالب أعُدُّ هذا الامتعاض والتعليقات – منه ومن غيره- مجرد مداعبات يمكن احتمالها وعدم التوقف عندها.... حتى مضى الفصلُ الدراسي وحلَّت المحاضرةُ الأخيرة، وعندما انتهينا قمنا لمغادرة المكان فسلَّم الزملاءُ على أستاذنا الشيخ، وحين جاء دوري قال لي بلهجةٍ أبويةٍ معاتِبة جادة: "والله مش عارف كيف بدِّك تصيري دكتورة وأنتِ ما بتسلِّمي"!!.
 لامسَتْ عبارتُه مسمعي، ومضيتُ لأركب سيارتي عائدةً إلى منزلي مضطربةً ذاهلة!! ويا للمفارقة أنّ عبارتَه تلك ظلّت تقفز إلى ذهني في كل مناسبةٍ تجمعني وزملائي حين صرتُ (دكتورة)، وظلّت عبارتُه في عقلي تروح وتجيء، وأنا أقول: لماذا لا يقبَلُ الناسُ أنَّ امرأةً يمكن لها أن تكونَ رفيعةَ التعليم أو رفيعة الوظيفة، وفي الوقت نفسه مقتـنعةً بما تؤمن به من دينها؟ لماذا يجب أن تتناقضَ صورةُ أهلِ العلم وأهل الإيمان؟؟! لماذا يجب أن يكون أهلُ الإيمان دوماً في خندقٍ مقابل أهل العلم؟؟ ألا يلتقيان؟! ألا توجد سبيلٌ توافقية بينهما؟ ألا نتغنَّى ليلَ نهار بابن رشد الذي سرقَتْه منّا أوروبا، ونندبُ إحراقَنا كلماتِه، وعقلانيته، فلمَ لا نتغنَّى بـ ما بين الحكمة والشريعة من الاتصال؟!
ولمَ لا يقنعُ أصحابُنا من أهلِ العقل والفكر والحرية- أن التديُّنَ بمختلف مظاهره وطقوسه قد يزورُ قلوبَ العلماء ويطيبُ له المقامُ فيها؟ بل إنَّ اللهَ نفسَه يُخشى من عبادِه العلماءِ هؤلاء، الذين يَعمُرُ العلمُ قلوبَهم وأرواحَهم قبل عقولهم، ويرون في كل ذرة  في الكون صورةً من عظمة الله وبديع قدرته، وأنَّ الإيمانَ بالله ومحاولةَ اتباعِ أوامره واجتناب نواهيه من أهل العلم، يعني أنْ نعبدَ الله على يقين، لا على مجرد خوفٍ أو طمع!
لهذا لا أنسى تلك الأمسيةَ التي جمعتْني وصديقةً رفيعةَ القدْرِ علمياً وثقافياً، وتختلف عني –تماماً- عقائدياً، وقد كنتُ بانفعالٍ أحدِّثها ولا أعِظُها، كيف أنني أستشعرُ في كلِّ وضوءٍ ما علَّمنا رسولُنا -صلى الله عليه وسلم- أنَّ الخطايا تخرجُ حينَ الوضوءِ من الجسد حتى لتخرج مع آخر قطرة ماء من تحت الأظافر، وأنني أستشعرُ أنَّ الذنوبَ تتساقطُ حين الركوع وحين السجود عن عاتـقَيْ المصلِّي وعن رأسِه؛ حيث يُؤتَى بالذنوبِ إلى الرأس والكتفيْن في كلِّ صلاة، فسارعتْ صديقتي إلى تأنيبي: "لا تقولي هكذا كلام! أنتِ امرأةٌ مثقفة متعلمة"!! وهي التي حين هنَّأتْــني بحصولي على الدكتوراه، قالت –وأظنها لم تكن تمزح-: " خلص! الآن صرتِ دكتورة، إذن ...... اخلعي الحجاب!".
لماذا يستهجن كثيرون يقينَ الإيمان في قلبك، ومظاهرَهُ في جوارحك إذا كنتَ ممن قطعوا شوطاً من التحصيل العلمي؟! ألهذه الدرجة صرنا نعبدُ إلهَ العقل وإلهَ العلم، حتى كفرْنا بالروح وبالغيب؟ وهي في وجهٍ من الوجوه صورةُ العقل الذي إليه يحتكمون.
ولماذا حين تلتقي في المحافل العلمية بقاماتٍ لامعةٍ أسماؤها في عالم الأكاديميا العربية أو العالمية، كنتَ تحلم طوال عمرك بلقياهم على الأرض لا على الورق فقط- لماذا تصدمك حقيقة كم هم من الإيمان بعيدون، وكم هم من الهزء بمظاهره قريبون؟ خاصة مظهر الحجاب.
لماذا وهم الذين يدَّعون الحريةَ والليبرالية وقبولَ الآخر المختلف؟ لماذا عندما يصل الأمرُ إلى الحجاب أو مظاهرِ التديُّن إجمالاً- لا يعرفون من الليبرالية إلا قشرة فارغة! وتصدمك كذلك تصريحاتُ بعضِهم على مرأىً منكَ ومسمع، إذا حدَّثوا بأخبارِ الكاتب الفلاني قالوا بتلقائية: "أمعقولٌ أن هذا فلان الفلاني الكاتب المعروف بـكذا وكذا وتكونُ زوجتُه محجَّبة؟!".... تماماً كما لو أنهم يقولون إنها عاهرةٌ أو وضيعة الأخلاق. وكأنَّما أمسى الحجابُ تهمةً على المرأة أن تدفعَها عن نفسها، كما تدفعُ النارَ الحارقة، أو تدفعُ الأذى الصريحَ بإلقائه بعيدا، أو التخلص منه بأي ثمن!
كثيرةٌ هي المواقفُ التي تمرُّ في حياة المحجَّبات المتميزات علمياً ومهنياً واجتماعياً..، اللواتي كان الحجابُ قراراً نابعاً عن اختيارهن الحر وقناعاتهنّ الشخصية، ولم يكن لهنّ يوماً عائقاً في دروب التميز العلمي أو المهني أو الاجتماعي، وربما تملكُ كلُّ واحدةٍ منهنّ تجربتَها التي تعرضُها على الآخرين لتقولَ فيها إن الحجابَ لا يغطي عقل المرأة ولا روحَها، وإن ارتداءَه هو دليل عافية لا دليلَ مرض. ونجاحهنّ هو خير شاهد على حصافة اختيارهنّ.