في زيارةٍ عاديةٍ إلى صالون التجميل القريب استمتعتُ صحبةَ
ابنتي الشابة بلحظاتٍ جميلة جداً، ما أجمل أن ترى الأم ابنتها وقد شبَّت يافعةً
بعد أن كانت نطفةً وعلقةً في رحمها! ثم إذا هي قطعةُ لحم صغيرة مكوَّمة بجانبها في
تلك الليلة المباركة منذ عشرين عاماً.
ليس هذا ما أثارتْه في نفسي الزيارةُ لأكتب، فقد توالتْ (الستاتُ)
داخلاتٍ خارجات، وحين كنتُ آوي إلى استراحةٍ قصيرة انتظاراً للشابة، لامستْ أسماعي
( لُكْــنَةٌ ) عربيةٌ متقنة: تحيِّي العاملةَ، وتطلبُ إليها بعض ما يصلح ليلَ الشَّعرِ
الأسود المنساب نهراً على ظهرها.
حين جلستْ قربي، التفتُّ إليها لأجدَ وجهاً بملامح آسيوية:
بشرة سمراء رقيقة، عينان لوزيّتان من طراز (صُنع في الصين)، وأنف عريض أقرب إلى
أنْ تلازمَه صفةُ (أفطس)، وشفتان خمريتان مكتنزتان، ولسان يتحرك بحروف عربية متقنٌ
نطقُها على نحوٍ....لا يُصَدَّق!!
تسمَّرت عيناي على الفتاة الضئيلة، وأنا أرقبها تجلس
بثقةٍ على الكرسي الدوّار، تحمل بيدها هاتفاً ذكياً، تقلِّبُ فوق شاشته اللامعة-
صفحاتِ التواصل الاجتماعي الزرقاء والخضراء، وتبتسم!
كلُّ هذه التفاصيل قد تشترك فيها كثيراتٌ في مثل تلك
اللحظة، لكنَّ غيرَ العادي في هذا المشهد العادي- هو المفارقة الصارخةُ التي
جعلتْه يحملُ إلى قلبي دهشةَ الطفل حين الخروج إلى النور من بعد الظلام! يا إلهي
كيف انقلبت الأدوار في تلك الومضة؟!
أنفقتُ نحوَ عقدٍ من حياتي في دولةٍ خليجية، لم أُفلح في
تعلُّم كلمةٍ آسيوية واحدة!! في دولة لا تتجاوزُ صورةُ الآسيويين فيها عادةً –للأسف-
إطارَ (العمالة الرخيصة)، فلا يُتَصوَّرُ أنْ تكون تلك إلا في إطار (الخادمات) أو (المربيات)
أو في أحسن الأحوال (العاملات) في المراكز التجارية الفخمة أو.... الرخيصة!
وعادةً ما يُميِّزُ أولئك لسانٌ يرطن بإنجليزية (خربانة) أو بعربية (مُكَسَّرة)، تجعلكَ تنقمُ على اليوم الذي تعلَّمْتَ فيه لغاتٍ أجنبيةً أو لغةً أمّا!! أو تجعلك تصابُ بتلوثٍ ضوضائي قد لا تفارقك آثارُه!
وعادةً ما يُميِّزُ أولئك لسانٌ يرطن بإنجليزية (خربانة) أو بعربية (مُكَسَّرة)، تجعلكَ تنقمُ على اليوم الذي تعلَّمْتَ فيه لغاتٍ أجنبيةً أو لغةً أمّا!! أو تجعلك تصابُ بتلوثٍ ضوضائي قد لا تفارقك آثارُه!
اليومَ.. الصورةُ أمامي مقلوبةٌ تماماً على نحوٍ ساخر،
ربما،
وعلى نحوٍ مدهش، ربما ثانية،
وعلى نحو مريح، ربما ثالثة؛
هي عاملة؟ ربما؟! لكنها أنيقة...
غريبة اليد والوجه؟ ربما؟! لكنها عربيةُ اللسان.
هالتْني المفارقةُ الصارخةُ في المشهد؛ كان وقعُها يشبه تلك التي أصابتْني حين استمعتُ إلى القناة الصينية CCTV للمرة الأولى: كلمات عربية منسابة بتلقائية ترتسم على وجوهٍ غير عربية، تذكرني دوماً بما آلَ إليه الحال: حين صارت العربيةُ عاراً يتستَّر منه أبناؤها فيدفعُ الآباءُ أبناءَهم إلى اكتسابِ اللغاتِ والمعارفِ والعلوم في المدارس الأجنبية؛ فتعوَجُّ ألسنتُهم، وتتعثَّرُ كلماتُهم، وينكمشُ خيالُهم الذي لا يعود يطيقُ حتى احتمال الأحلام ... بلغتهم العربية!
وعلى نحوٍ مدهش، ربما ثانية،
وعلى نحو مريح، ربما ثالثة؛
هي عاملة؟ ربما؟! لكنها أنيقة...
غريبة اليد والوجه؟ ربما؟! لكنها عربيةُ اللسان.
هالتْني المفارقةُ الصارخةُ في المشهد؛ كان وقعُها يشبه تلك التي أصابتْني حين استمعتُ إلى القناة الصينية CCTV للمرة الأولى: كلمات عربية منسابة بتلقائية ترتسم على وجوهٍ غير عربية، تذكرني دوماً بما آلَ إليه الحال: حين صارت العربيةُ عاراً يتستَّر منه أبناؤها فيدفعُ الآباءُ أبناءَهم إلى اكتسابِ اللغاتِ والمعارفِ والعلوم في المدارس الأجنبية؛ فتعوَجُّ ألسنتُهم، وتتعثَّرُ كلماتُهم، وينكمشُ خيالُهم الذي لا يعود يطيقُ حتى احتمال الأحلام ... بلغتهم العربية!
....الذي يبعثُ في القلب أملاً بعد هذا كله، وفي هذا
اليوم الربيعيّ الماطر: أننا جميعاً في المبتدأ وفي المنتهى بشرٌ.. يمكننا أن
نتقاسم الحياة على هذا الكوكب الجميل بقلوبنا التي يمكنها أن تتسع لنا.