قد أتعب الرؤساء من بعده. فكان أول عصور الجامعة عصرها الذهبي تحت رئاسته. ولم يكن بعد التمام إلا النقصان!
وليد سيف وشهادة مؤثرة في فقيد الأدب العربي أستاذنا الدكتور ناصر الدين الأسد:
كان من حظ الجامعة أن يكون مؤسسها رجلاً كبيراً وعالماً موسوعي الثقافة في اللغة العربية وآدابها. وقد أوتي من سحر البيان ما إن تحدث أطرب سامعه حتى كاد أن يشغله ببلاغة اللسان عن المسألة التي جاءه فيها. ولقد رأيت من علماء العربية وأدبائها من يجيد الكتابة, فإذا تحدث شفاهاً خيب ظنك. أما ناصر الدين الأسد فلا يكافئ أسلوبه في الكتابة إلا أسلوبه في الكلام. وكانت الفصحى البليغة تجري على لسانه عفواً دون تكلف, يزيد من جمالها وتأثيرها صوت جهوري فخم. فإذا أضيف إلى هذا كله قامة منتصبة وسمت مهيب وحضور قوي آسر, فقد اكتملت له آلة التأثير.
كان قوي الشخصية من غير غلظة, وليناً هيناً شديد التأدب من غير ضعف. فأسس الجامعة بمزاج من العقل والحكمة والهيبة والتودد واحترام الآخرين ولذلك أجمع الناس؛ أساتذة وطلبةَ وإداريين على محبته وتقديره وإجلاله, لذاته قبل منصبه. فقد كبر المنصب به أكثر مما كبر هو بالمنصب.
وفضلاً عن دوره القيادي في تأسيس الجامعة إدارة وأقساماً وكليات وبرامج دراسية, فقد كان له الفضل مع نخبة السابقين معه في صيانة التقاليد والقيم الجامعية التي صار لها طابع كوني, ومن ذلك " قدسية " الحرم الجامعي أن تستبيحه قوة من خارجه مهما يكن الظرف, واستقلال الجامعة عن الإملاءات الخارجية وحق الطلبة في الحراك السياسي والفكري والأنشطة العامة في إطار الأنظمة والقوانين دون تدخل من أحد, وحقهم في المشاركة في شؤون الجامعة التي تخصهم من خلال مجلس منتخب بأسلوب ديموقراطي حر.
وقد ظل ناصر الدين الأسد أميناً على هذه القيم والتقاليد حتى في أكثر الظروف السياسية قلقاً واضطراباً في الأعوام الثلاثة التي أعقبت هزيمة حزيران عام 1967, وما شهدته من صعود المقاومة وحراك الفصائل المختلفة في الوسط الطلابي, وما أفضت إليه هذه التحولات من توترات أمنية انتهت بكارثة " أيلول الأسود " عام 1970.
على الرغم من تلك الضغوط الهائلة, تمكن ناصر الدين الأسد من حماية استقلال الجامعة ومنع حرمها, واستمر في الوقت نفسه في ترشيد الحراك الطلابي المتصاعد بالحكمة والموعظة الأبوية الحسنة والتفاهم والتواصل والحجة والإقناع والمودة. فلم تحمله الظروف الضاغطة يوماً على خلع جلده الحضاري الأكاديمي, ليكشف عن وجه السلطة الفظة. فأثبت بذلك أن أخلاقه النبيلة طبع متأصل فيه لا مظهر خارجي يتجمّل به في ترف الظروف العادية الهادئة.
وفي ظني وتقديري أنه لم يستقل من رئاسة الجامعة بعد زهاء ثمانية أعوام من ولايته الأولى لها إلا حين تبين له أن الظروف السياسية والأمنية العامة عقب أيلول من عام 1970, قد تعدت قدرته على إدارة الجامعة بطريقة متوازنة تحفظ عليها استقلالها وتقاليدها.
كان عروبياً أصيلا بدون ضجيج الشعارات الثورية الرنانة, ومسلماً وسطياً منافحاً عن تراثه الإسلامي وهويته الحضارية. وأشهد أنه قد برئ بتكوينه الفكري ومزاجه الشخصي من أية شبهة من شبهات التحيز الجهوي أو التعصب الديني والمذهبي. فكان الجميع عنده سواء, لا يتفاضلون إلا بالكفاءة وحسن الخلق. فلم يكن غريباً أن يحظى باحترام الجميع ومودتهم على اختلاف منابتهم وخلفياتهم العقدية والسياسية والاجتماعية.
كان يحلو له أن يخرج من مكتبه في الجامعة ليتجول في طرقاتها وساحاتها بين الطلبة, فيتوقف مع هذا أو ذاك في حوار قصير وتعليق ظريف. فيستشعر الطلبة قربه منهم على ما فيه من هيبة. فيزداودن له حباً وتقديراً. وكان يعرفني بشخصي وأنا بعد في السنة الأولى. فإذا رآني توجه إلي فحيا وسأل واستفسر, وربما أطرى على نص منشور لي, وبشرني بمستقبل زاهر في مجالات الإبداع الأدبي والأكاديمي. وقد يذكر عمي محمود إبراهيم, زميله في الجامعة وفي قسم اللغة العربية وآدابها, ثم يذكر خالي الطبيب محمد صقوري الذي درس معه في الكلية العربية بالقدس, قبل أن ينتقل كلاهما للدراسة الجامعية في القاهرة, فاختار خالي الطب ونبغ فيه ثم أقام وعمل في الكويت واختار هو الآداب ونبغ فيها. وما يزال كتابه " مصادر الشعر الجاهلي " أثراً كلاسيكياً عظيماً. فلا يذكر طه حسين وكتابه " في الأدب الجاهلي " ونظريته في النحل والانتحال, إلا ويذكر معه " مصادر الشعر الجاهلي " الذي لم يؤلف خير منه في وضع المعايير العلمية الصارمة لتحقيق الشعر الجاهلي وتوثيق مصادره ونقد روايته وتمييز صحيحه من منحوله, حتى ليصح فيه القول " قطعت جهيزة قول كل خطيب". لا أجد طريقة لإنصاف ذلك الرجل الكبير أفضل من القول : قد أتعب الرؤساء من بعده. فكان أول عصور الجامعة عصرها الذهبي تحت رئاسته. ولم يكن بعد التمام إلا النقصان!
ولا حول ولا قوة إلا بالله .
وأذكر من سحر بيانه وقوة لسانه موقفاً طريفاً وقع لنا معه. كنا طائفة من الطلبة النشطاء سياسياً. وقد احتجزت الأجهزة الأمنية بعضنا. فعزمنا على التظاهر والدعوة إلى الإضراب عن الدراسة حتى يفرج عن المحبوسين. وعلم الرئيس بذلك، فدعا إلى لقاء عام معه في مدرج سمير الرفاعي. فاجتمعنا قبل اللقاء لنوحّد موقفنا ونتواصى به. فقال قائلنا: لا يفتننكم ناصر الدين الأسد بسحر بيانه وبلاغة لسانه وحلاوة كلامه عن أنفسكم وما أنتم عازمون عليه. فاصبروا على موقفكم ولا تتفرقوا أشتاتاً يخذل بعضكم بعضاً ويتناقص بعضكم بعضاً، فتفشلوا وتذهب ريحكم. ثم مضينا إلى اللقاء نتذامر. وما هي حتى دخل الأسد وصعد المسرح. واتجهت إليه الأنظار وعم الصمت في انتظار كلامه فلا تسمع إلا همسا. وكان من عادته إذا اعتلى المسرح ليخاطب الجمع، أن يبدأ فيثني مكبر الصوت ثم ينحّيه جانباً. فما حاجة الأسد ذي الصوت الجهير إلى آلة تعينه؟ ثم بدأ خطابه بالثناء على دوافعنا وغاياتنا التي هي عين دوافعه وغاياته وإن اختلفت الوسائل. وأكد لنا أنه يبيت الليل أرقاً على " أبنائه " المحتجزين كأنما كحلت عينه بعوار. ولو أن ولده " بِشراً " كان مكانهم لما حمل همه أكثر مما يحمل من هم هؤلاء، وأنه لن يطيب له عين ولن يغمض له جفن ولن يدّخر جهداً ولا دالّة له عند الدولة حتى يفرج عنهم ويعودوا إلى مقاعد الدراسة معززين مكرمين رافعي رؤوسهم لا يضرّهم ما فاتهم من الدراسة.
فهل يجد له من أبنائه الطلبة على الحق معيناً؟ وليس الإضراب عن الدراسة بمبلغهم شيئاً مما يطلبون ويطلب، وما هم بضارين من أحدٍ إلا أنفسهم وجهودهم المبذولة الموصولة، فهم بذلك كجادع أنفه بيده ليغيظ غيره .
وما زال يتحدث متنقلاً بين حجة القلب وحجة العقل، حتى استلّ سخينة الصدور وأتى بالطلبة إلى رأيه طائعين. فما أدرك القوم أنه ألقى عليهم من سحره حتى خرجوا من اللقاء، ونظر بعضهم في وجوه بعض: أهذا الذي تواصيتم به؟
ولكن ، لم يكن ثمّة سبيل للرجوع. فقد أعطوا وعودهم لقاء وعوده، وكان الرجل صادق الوعد!
عن الشاهد المشهود لوليد سيف