أرشيف المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 5 أبريل 2017

الكتابة في منتصف العمر

بقلم غازي الذيبة
جريدة الغد/   الأحد 5 نيسان 2015

"أريد يدا ثالثة"، قال صديقي الشاعر الستيني ذات مساء، وهو ينظر من شرفة منزله المطلة على مكعبات الإسمنت في مدينة عمان "لأكتب كل شيء".
**
أن تكتب، وأنت أساسا منشغل بهذا الهم، يعني أنك تخلِّق عالمك، تصوغ مدنك، أناسك، حيواتك. حتى لو كتبت عن الكائنات الفضائية، فأنت تكتب ذاتك، تكتب المهمة التي هبطت عليك في لحظة انعتاق تبحث فيك، فيما حولك، في دقتك العالية لاكتشافها في التقاط المعنى وإرساله مرة ثانية محملا بك، بدلالاتك، بحركة روحك، بتوهجك فيه.
في منتصف العمر، يصبح الأمر ملحا جدا. تصبح الكتابة طريقة حياة كاملة، لا تستطيع الفكاك منها، حتى وأنت تفكر ببيت رخيٍّ في جزيرة نائية، لتجلس على شاطئ البحر فيما سنارتك ملقاة في الماء، تنتظر أن  يعلق بها شيء، وقد لا يعلق، لكنك تظل محدقا في اللحظة تلك، محتدما في المنحة الخارقة التي جذبتك إلى هذا الصفاء كي تتأمل وأنت تصطاد الفكرة/ السمك. 
خلال الانتظار ذاك، ستتفقد الحياة.. الأحلام، ستمر عليك الحيوات وميضا، بينما تتأمل موج البحر وفيروز الشاطئ، وستتخلص من زوان كثير في صفائك ذاك، وكما لو أنك في نطاق هيوليٍّ، إن خرجت منه، عدت إلى مرمى العادي، وصرت مسكونا به.
في منتصف العمر، الكتابة فضاء تواق لأن تشعل فيه وقدة أفكارك، تكون في لحظات نضج وصلتها بعد مرارات كثيرة من البحث والتقصي والحوارات والقراءة والتأمل، وربما الصراخ.

إذن، ستبقى يدك على أزرار الكيبورد، لترقن، وستبقى نظارتك قربك لتقرأ، وسيبقى ذهنك متوقدا لترى. كل حواسك ستكون مستعدة لأن تكثّف اللحظة التي تمر في رأسك، لتعيدها فعلا مكتوبا، حتى لو أخذت إجازة من الكتابة.
حين تصل إلى منتصف العمر، ستجد نفسك محاصرا بأسئلتك المرهقة عن الوجود والعدم. وستتساءل باستمرار عن جدوى التوقف عن الكتابة والاستمرار بها، لكن الغلبة ستكون لأن تستمر، بل إن هذا التساؤل سيكون كفة الميزان المائلة جهة الروح والقلب والعقل معا، منذ اللحظة التي يخطر لك سؤال: إلى متى أكتب؟.

نصف العمر، ليس مجرد وقت، يحدث لكل منا، لا، إنه مبتدأ لخوض نصف العمر الثاني، مستهل رفيع المستوى لاكتشاف اللهفة والتوق والحب مكتملين. طاقة مشعة على خوض الاكتمال في النصف الثاني منه، تضيء حدقات الروح، وتفسر مكامن الوجدان بعمق، وشفافية وحنكة المُدَرَب على اكتشاف الدروب في مفازات الوجود الوعرة. النصف الأول مجرد تجربة، تظل مشحونة بما سيتحقق، لا بما تحقق، والنصف الثاني ليس مجردا من شيء، إنه التجربة المشغولة بيد صانع ساعات سويسري ماهر.