بقلم: أ.د. صلاح جرار
جريدة الرأي
لستُ أنسى عندما كنت طالباً في الجامعة في مرحلة البكالوريوس كيف اعتمدتُ مكان دراستي عنواناً بريدياً لرسائلي التي تصل إليّ من أصدقائي وسواهم، وكنت كما كان جميع الطلبة آنذاك، أذهب كلّ يوم إلى لوحةٍ في عمادة الكليّة تعلّق فيها لائحةٌ بأسماء الطلبة الذين تصل إليهم رسائل جديدة، فنذهب إلى ديوان الكليّة ونتناول رسائلنا بشوق وشغف شديدين! وكنا نميّز الرسالة التي مصدرها خارجيّ من الرسالة التي مصدرها داخلي عن طريق لون المغلّف، فإنْ كان أبيض مخطّطاً بالأزرق فهي في الغالب من الخارج، وإن كان أبيض خالصاً فيكون في الغالب من الداخل. كان كلّ واحدٍ يخطف رسالته وينتبذ زاوية ويقلب الرسالة من الوجه ومن الخلف لمعرفة مرسلها ومصدرها ثمّ يسارع في نزع غلافها ويأخذ في قراءتها، فبعضنا يظهر على وجهه علامات الفرح والسعادة وبعضنا يكتئب ويعود حزيناً بعد أن يدسّ الرسالة في جيبه الداخليّ.
ولا أنسى عندما كنت طالباً في جامعة لندن خلال إعدادي لدرجة الدكتوراه، كيف كان للرسائل التي تصل عبر البريد إلى منزلي مع طلوع الشمس، مذاق خاصّ جدّاً، لم أعد أجد له نظيراً بعد أن رجعت من الدراسة، وافتقدته بالكامل بعد ظهور وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة، من إنترنت وفيسبوك وواتس أب وفايبر وسكايب وسواها ممّا قضى على الحاجة إلى استخدام الورق والرسائل والطوابع والخطوط اليدوية قضاءً شبه تام.
كانت الرسائل التي تصل إليّ من عمّان إلى لندن ذات قيمة خاصّة، وكان الشوق الذي يرافق وصولها أو يسبقه شوقاً له مذاقه الخاصّ ونكهته الخاصّة، كان ساعي البريد يدسّ الرسالة أو الرسائل التي بحوزته من شقّ صغير في الباب يؤدّي إلى سلّة معلّقة في الوجه الداخلي للباب، لم نكن نسمع صوته وهو يدسّ الرسائل عبر الشقّ لكن كنّا نسمعه عندما ترتد سدّادة الشقّ المعدنية إلى مكانها، فنصحو على صوتها ونسرع نحو الباب بلهفة شديدة، كنّا نفرح كثيراً عندما نجد رسالة في مغلف أبيض ذي خطوط زرقاء فنعرف أنها من عمّان، وكانت تصيبنا الخيبة إن كانت الرسائل مجرد دعايات أو فواتير ومطالبات ماليّة!!
لم تكن الرسائل التي كنّا نتلقّاها، في أيّ مكان ومن أيّ مصدر، مجرّد ورق وحبر، بل كان لها أهميتها الخاصّة، كان للون الرسالة لغته، ولملمسها معناه، وللخطّ الذي كتبت به نكهته لأنّ الخطّ في الرسالة جزء من هويّة كاتبها، وكان للطابع الذي ألصق على وجه غلافها دلالته، وكلّ شيء في تلك الرسائل كان جميلاً، ولذلك كنّا نحتفظ بها ونحرص على عدم فقدانها، حتّى إنّني ما زلت أحتفظ برسائل منذ أكثر من أربعين عاماً، ولم يكن مضمون الرسالة وحده هو الباعث على الاحتفاظ بها، بل أن تأتيك رسالة فهذا سبب كافٍ للفرح بها والاحتفاظ بها.
وما زلت إلى اليوم ينتابني شعورٌ بالفرح لأي رسالة تأتيني مكتوبة بخطّ اليد وبمغلّفٍ عليه طابعٌ بريديّ وأختامٌ بريديّة وتحمل تاريخ الإرسال وتاريخ الوصول واسم المكتب البريدي الذي أرسلت منه والمكتب البريدي الذي وصلت إليه واسم المرسل وعنوانه بخطّ يده واسم المرسل إليه. وما زلت أثق بمثل هذه الرسائل حتّى لو خلت من أيّ خبر مهمّ أكثر من عشر رسائل تصل إليّ عبر البريد الإلكتروني والواتس أب والمسنجر وسواها حتّى لو كانت تحمل لي بشائر الغنى والسعادة وأنواعاً من الأخبار السارّة.
وبعد ثورة تكنولوجيا الاتصال والمعلومات التي تجتاح العالم طوْعاً أو كرْهاً، أصبح بإمكان أي شخص على وجه الأرض أن يبلغ رسالته إلى أيّ مكان على وجه الأرض في ثوانٍ قليلة وبكبسة واحدة على أحد الأزرار في جهاز حاسوبه الخاص. وبين يدي هذه الثورة هل نستطيع القول إنّ عهد الرسائل الورقية المكتوبة بخطّ اليد قد ولّى إلى غير رجعة؟! وهل أصبحت الرسائل والخطوط التي تكتب بها- أو هل ستصبح قريباً- تراثاً نادر الوجود وذكرى من ذكريات الشعوب؟!
إنني أدعو كلّ من لديه رسائل بخطّ اليد قديمة أو حديثة أن يحتفظ بها، فربما تصبح هذه الرسائل ذات يوم شاهداً على زمن جميل كان ممزوجاً بالشوق والمحبة واللهفة.