أرشيف المدونة الإلكترونية

الأحد، 29 أكتوبر 2017

الباب الخشبي!

منقول
لم يلاحِظ آثارَ البكاءِ على ملامحِ ابنِـه ذي الثلاثةَ عشَرَ ربيعاً عندما التقطه من أمامِ بوابةِ المدرسة نـهايةَ الدوام؛ استمرَّ في القيادةِ حتى وصلَ البيتَ، وصَعِدا معاً الدرجاتِ القليلةَ التي تؤدي إلى بيته في الطابق الأول.
 اتجه الابن فوراً نحو غرفته، بينما دخل الزوجُ إلى المطبخِ حيث كانت الزوجةُ تضفي لمساتِها الأخيرةَ على وجبة الغداء. بادرها بالسلام فردَّتـهُ بأحسنَ منه، ثم قالت وهي تبتسم:"كيف كان يومك؟" ردَّ بآليةٍ وهو يلتقط بأصابعه بضعَ حباتٍ من الأرز: "تمام، تأخرتُ قليلاً على محمد، ولكنني وجدتُه ينتظرُ عندَ البوابةِ".
ضحكتْ الزوجةُ وقالت: "هذا جيد، فهو ما زال غاضباً منك لأنك نسيتَه البارحة، واضطُرَّ إلى العودة وحدَه"... تحرَّك خارجاً من المطبخ وهو يقول بلامبالاة: "كنتُ سأنساه اليومَ أيضاً لولا أنْ ذكَّرْتِـني....غداً سيصطحبه جارُنا أبو محمود، لقد طلبت منه أن يتولى المهمة".
كانت الزوجةُ ترتب الأطباقَ على الطاولة عندما خرج محمدٌ من غرفتِهِ يحمل منشفته متجهاً نحو الحمام، فبادرته بالقول: "محمد؟! دخلتَ إلى غرفتك دون أن تحيِّـيني!". أحنى رأسَه قليلاً وهو يواصل مسيره نحو الحمام:"آسف، دقائق وسأعود" . كان يحاول أنْ يتملَّصَ منها، إلا أنَّ صوتَـهُ المتهدِّجَ حالَ دون ذلك؛ فقد كشف ذلك الصوتُ عن أنَّ الصبيَّ كان يبكي بحرقة؛ التفتتْ إليه بقلقٍ ولهفة واقتربت منه قائلةً:"لحظة، ما بك؟ أكنتَ تبكي؟" ...

انفجر في البكاء فوراً وتَحَشْرَجَ صوتُه بالكلمات:"نعم كنتُ أبكي، أريد أنْ أستحمَّ الآن، اتركيني وحدي"... تركَتْـهُ وهي تفكر في أنَّ الماءَ الباردَ في هذا الجوِّ الحارِّ ربما يهدِّئُ من نفسه قليلاً... على أي حال ستراقبه، إذا تأخر لنْ تتركه وستستعجله على الفور.
خرج الزوج بعد أنْ استبدل ثيابَه ليجلسَ إلى الطاولة ويبدأ فوراً في سكب الطعام في صحنه، قال:"أضحكني أبو محمود اليوم، فقد كان عندي وتحادَثْـنـا بشأنِ عودة الصبيَّـيْن من المدرسة، حضر للورشة حتى يطلبَ مني استبدال بابَهُ الحديديَّ بآخر، قد صدَأَ بابُـهم لكثرةِ ما تغرقه زوجتُه بالماء، كان يمازحني محاولاً معرفةَ سببِ عدم صدأ بابِنا رغم مرور سنواتٍ عديدة" .
لم تردّ الزوجةُ ولم يأبه الزوجُ لعدم ردِّها واستمرَّ في الحديث: "الطعام ينقصه بعض الملح، ناوليني الملح لو سمحتِ" ناولته الملح وقالت:"ألاحظت أن محمدا يبكي؟" أجاب:"لا، متى كان يبكي؟".
 قالت الأم:"الآن، قد كان يبكي بالفعل، أرجوك أن تتحدث إليه".لم يتوقف الزوج عن تناول الطعام وهو يقول بلامبالاة: "عزيزتي، سبق وتحدثنا في هذا الأمر، إن عبءَ التربيةِ يقع عليكِ وحدَكِ، أنا لستُ متفرغاً لمثل هذه التفاهات". ارتفعت حدَّةُ صوتِ الزوجة قليلاً وهي تقول باستنكار:"تفاهات؟! أنت لا تـهتم بأيِّ شيءٍ على الإطلاق، لا فيما يتعلق بمحمد فقط".. أضاف بـهدوءٍ ساخر:"وأنا لا أتقن إلا العمل والإنفاق على المنـزل، وأنا لا أتدخل في شؤون البيت، وأنا لا أرافقكِ إلى السوق، وأنا لا أخرجُ معكما للتنـزه … أكملي يا عزيزتي.. أم هل أكملُ أنا؟!" .
تأففت ونـهضت لتستعجل محمداً ثم عادت لتجلس بعصبية، سحبتْ نفساً عميقاً وقالت:"عزيزي، إنَّ محمداً قد كبر، وهو الآن يخلع عنه ثوبَ الطفولة ليرتدي حُـلَّةَ الرجال، هو أحوجُ إليكَ مني".
 قال الزوجُ الجائع دون أنْ ينظر إليها:"حسنٌ قولُكِ، سأعتني به حالما يترك الدراسة ويأتي للعمل معي في الورشة، سأعلمه كيف يصنع أبواباً لا تصدأ مثل بابِنا، سأصنعُ منه رجلاً وسأفخر به بين الرجال".
ردَّت بيأس:"أهذا ما تريد؟ ألن تعتني به إلا إذا اختار طريقك؟ إنَّ ابنك قد اختار طريقاً آخر فسانِـدْه حتى لا تفقدَه، إنكَ تفقد كلانا يوماً بعد يوم: تحلُّ علينا كالضيف، لا تعلم بأدق تفاصيل حياتنا،  ولا تعلم عنا شيئاً يُذكر ".

 نـهض ناظراً إليها بضجر:"الحمد لله، قد شبعت، يبدو أنني سأخرج مبكراً فلست في مزاج للعراك". توجَّه نحوَ الباب وهمَّ بالخروج عندما نادته الزوجة قائلةً: "أبا محمد".. التفتَ إليها.. فبادرته بالسؤال:"أتعلم لماذا لم يصدأ بابُنا رغم مرور السنين؟"..  عقد حاجبيه في فضول، لقد كان يريد أن يعرف الجواب حقاً، قالت وهي تعقد ذراعيها أمام صدرها وتنظر إليه باستخفاف:"لأن بابنا ليس حديدياً"!!