بقلم : أحلام مصطفى
مدونات الجزيرة
أحياناً يدفعني الفضول إلى البحث في تعليقات الناس على ما أنشر من باب التقييم ومحاولة إصلاح ما يمكن إصلاحه، أو حتى أحصل على لمحة عن الطريقة التي تؤثر بها كلماتي على الآخرين. تقع عيني على تعليقات مختلفة اللهجة بالتأكيد، ولكن أكثر ما يثير استغرابي هي تلك التي تترك كل شيء جاد أتحدث فيه أو أجرب أن أناقشه وأعرضه للناس، وتلقي بكلمات لا أعرف من أين امتلكت الوقت وراحة البال حتى تفكر فيها.
تلقيت مرّة رسالة خاصة، يعني الأخت أتعبت نفسها ولم تكتفِ بالتعليق، فقط حتى تقول لي بما معناه: ما هذا الافتقار إلى الذوق، ألوان ملابسك ليست متناسقة. لأنني أحمل حقيبة يد غير مطابقة للون الشال الذي أضعه على رأسي.. أو تعليق لأخرى تنعتني بالجارية وبأنني أريد أن أكون مملوكة لزوجي وأن أفقد شخصيتي وأعيش في العصر الجاهلي، لأنني قلت لا يجب على النساء أن يشعرن بالضغط للعمل خارج المنزل إن لم يكنّ في حاجة له، وليس لأحد أن ينظر إليهن بدونية أو يحاسبهن على ذلك. وهذه السيدة لا تعرف أنني أعمل بدوام كامل من المنزل بمرتب شهري إضافة إلى عملي الجانبي كمدونة. لكنها افترضت رأساً تخلفي العقلي لأنني فقط دافعت عن حقنا في الاختيار، ولأنني لا أرتدي ملابس العمل كل يوم صباحاً ولا أتوجه إلى مكتب أجلس أمامه 8 ساعات أضيع نصفها في الغيبة والنميمة.
صديقة لي بدأت التدوين منذ فترة قريبة، أروى الطويل، تحدثت في مدونتها عن ظروف صعبة مرت بها وكيف كان زوجها عوناً وسنداً لها، فدخلت سيدة وتطوعت لتشعر بالشفقة على زوجها عوضاً عنها، وصرحت بأنها تتمنى لو كان زوجها هي شخصياً -السيدة صاحبة التعليق- قد تزوج من أخرى لأنها لا ترى في نفسها كل ما يستحق. أنا فيوز في عقلي ضرب، يعني أنت عندك مشكلات في تقديرك لنفسك، لماذا تطبعينها على غيرك وتريدين من الجميع أن يتتبعوا خطاك في تحقير النفس؟ لماذا تكرهين نفسك وتشجعين الأخريات على ذلك؟
لماذا تفعل النساء هذا ببعضهن البعض؟ لماذا نستخدم مهاراتنا في تتبع التفاصيل لكي نصوب سهامنا تجاه بعضنا البعض؟ نبحث عن الصغائر حتى نعتب ونلوم، ونضع العدسات المكبرة فوق الزلات، ونعتبر الاختلاف في الرأي والذوق والاختيارات فرصة لنزدري أخريات. لماذا تتركين كل العمل الذي أقوم به والمجهود الذي أبذله لتحقيق أمور ذات معنى في حياتي وحياة آخرين وتنظرين إلى الملابس التي أشتريها؟ أو الطريقة التي أصفف بها شعري؟ أو كوني لا أذهب إلى صالونات التجميل؟ أو تعايرينني لأنني لا أزرع كلمات إنجليزية في منتصف كل جملة وأخرى؟ ولا أتحدث إلى بناتي بـ baby وnaughty؟ لماذا هذه التفاهة يا عزيزتي؟
ليست التفاهة شتيمة.. هي صفة علينا أن نستخدمها في مواضعها حتى نتوقف عن استعباد بعضنا البعض بها.. حتى نفهم أن قيمتنا ليست في أن نخوض معارك الهَبَل حول مساحيق التجميل، وعوجة اللسان، وطريقة المشي، وماركة الثياب، وهدايا الزوج والحبيب، والبطيخ..
منذ أسابيع أعتقد، انتشرت صورة لممثلة بعد زواجها بعدة أيام، لم تكن ترتدي ملابساً مبهرجة ولا شعرها مصففاً بطريقة احترافية ولا تضع مساحيق تجميل، يبدو أن النساء اجتمعن على أنها لا تستحق زوجها الممثل هو الآخر لأنه يفوقها وسامة. توقعت التعليقات ولم يخب ظني: طيب ما تحطي شوية مكياج على وجهك، هذا شكل عروس جديدة؟، أنا مش عارفة على إيه متجوزها، أنا أحلى منها مية مرة، أمك معلمتكيش العروس المفروض تعمل إيه؟ إلى آخر ذلك من الوقاحة وقلة الأدب العلنية.. نساء يقيمن أنفسهن بالشكل والمادة ثم تشتكين من النظرة السطحية للمجتمع وتنسين أنهن نصف المجتمع في علّاته ومصائبه وليس فقط في فضائله.
هل تذكرون فيلم عسل أسود؟ عندما قال لها: وإنت تسيبي بيتك علشان اتكتلك على السين؟ للأسف النساء يعشن حياتهن بنفس المقاربة..
نظرت لي نظرة غير لطيفة، لم تقُل لي مبروك على الحذاء الجديد، لم تحضر لي هدية كالتي أحضرتها لها، لم تعزمني على حفلة زواج ابن عمة خالتها، لم تمدح الفستان الذي ارتديته بالأمس.. كل هذا وقد تكون كل واحدة منهن قد عاشرت فلانة التي ينتقدنها الآن ويعرفن أنها لا تقصر معهن في وقت الحاجة ولا تسيء إليهن في غيبتهن ولا تعتب أو تلوم عندما يقصرن.. ولكننا ننسى ولا نرى إلا ما نريده حسب مقاييسنا وحسب نظرتنا التي تعطي للمظاهر وزناً أكبر بكثير مما تستحق.. نفسر تصرفات الناس على أنها غير مخلصة فلا نتقبلها على حقيقتها.. أنها رسم ودّ ودفع بالتي هي أحسن.. ثم ننتظر منهم أن يبجلوا كل ما نفعل نحن من أجلهم وأن يُبدوا علامات العرفان.. وكأننا سنمتلكم بالمعروف الذي بذلناه.. الكثير من الكلكعة هنا.
لماذا كل هذا الأذى لأنفسنا وللآخرين؟ لماذا نبحث عن الصغائر حتى ننتقص من الأخريات؟ لماذا لا نستمتع بصحبة بعضنا البعض ونحترم اختياراتنا المختلفة ونقدر الجيد قبل أن نضع السيء تحت المجهر؟ في غالب الوقت كل تلك التناحرات تصدر إما عن سوء تفاهم أو انتصار للنفس، رغبة في أن نثبت لأنفسننا أننا الأفضل. أنا أفضل منها في كذا، أنا أستحق كذا أكثر، أنا أجيد كذا وهي لا.
لأننا نتربى أننا ناقصات، لا ناقصات عقل ودين فقط، بل أننا غير مكتملات الأهلية، لسنا كافيات كإناث أمام الذكور، لذلك علينا أن نتناقر فيما بيننا حول من الأنثى الأفضل التي تستحق الرجل. ثم هناك أمراض النفوس التي تنتجها المجتمعات العفنة، مجتمعات المقارنات، التظاهر، والمجاملات الخادعة.. الهمزات واللمزات والتلميحات والتلقيحات.. كل هذا لماذا؟
قليلات جداً من التقيت بهن طوال سنوات حياتي الثلاثين ممن استطعت أن أتعامل معهن دون أن أحس بأنني سأحاسب على كل كلمة وسأقيم كل حركة.. بخلاف أخواتي وأمي لا يكاد العدد يملأ أصابع اليدين.. هل المشكلة فيّ أنا؟ ربما نعم.. ربما أعاني من عدم القدرة على التواصل الاجتماعي بصورة صحيحة، ربما أسلوبي الصريح هو السبب، ربما قناعة حملتها منذ الصغر تربط بين المجاملات الخادعة والتملق والكذب جعلتني أجد صعوبة في أن أعتاد حتى المحمود منها.. المقربون مني يعرفون أنني لا أتلقى المديح بشكل جيد.. سأصف لكم الموقف:
فلانة: أحلام هذا (شيء أرتديه) جميل.
أنا: ابتسامة مقتضبة ربما تصاحبها كلمة شكر.. ثم لا شيء!
ليس لأنني لا أعتقد أن ما ترتدينه جميل، ولكن لأنني بأمانة لا أكترث.. بطبيعة الحال أنت ترتدين شيئاً لائقاً وإلا لكنتُ لاحظت، ولكنني فعلاً لست مهتمة بما ترتدين لأنه لا يؤثر على الطريقة التي أراك بها.
مع الوقت بدأت أتلحلح قليلاً كما يقولون وأبحث عن شيء يعجبني وأشير إليه، ولكن عندها سندخل في دوامة "اتفضليها"، ودوامة إني حسدت الشيء فلاني، وليس كل الناس قادرين على إخفاء انطباعهم أنك حسدت شيئاً أطريت عليه في وقت سابق!
أحاول جاهدة أن أقوّم نفسي في إطار التعاملات الاجتماعية وفق ما يرضي الله أولاً، أبحث عما يجعلني أقف أمام الله وأقول فعلت ما ينبغي فعله. ولكنني مؤمنة أن صلاح النوايا وسلامة النفوس هي أهم ما يمكن أن نقدمه للآخرين، لا الكلمات ولا الأفعال التي اتفق عليها المجتمع أو التي سيرانا الناس ويمدحوننا من أجلها. ولكن لأصدقككم القول، وجدت أن هذا الأمر يستنفذنا كثيراً، كثيراً من الوقت والجهد وراحة البال، يأكلنا من الداخل، هل قلت الكلمة الصحيحة، هل كان يجب أن أفعل كذا. ماذا يتبقى إذاً لنا من الحياة؟ كيف سننجز شيئاً "عليه القيمة" ونحن نلتفت إلى مثل هذه الأمور طوال الوقت؟ العلاقات الاجتماعية مكلفة هذا حقيقي، ولكن تلك التكلفة يجب أن تكون إيجابية لا سلبية. تكلفة مساعدة الآخرين، الوقوف إلى جانبهم، دعمهم، توجيه النصح لهم، الرحمة بهم، تفهم شخصياتهم، العمل معهم على تحسين أنفسنا وأنفسهم، الترفيه عن النفس، التواد والتراحم.. لا كل تلك اللعبكات ومهلكات المال والوقت والروح..
سأواصل العمل على نفسي، نعم، لا كي أعجب الناس، ولكن كي أحقق راحة البال وسلامة النفس تلك، وحتى أرضي ضميري.. وانتهى الأمر.. أما ما تبقى من الحياة فسأنفقه على الغرباء الذين ربما تنفعهم كلمة نكتبها، أو عمل نعمله، أو مشروع نشارك فيه.. فيدعون لنا دعاءً بظهر الغيب.. لعله يكون هو المنقذ..