بقلم: زهراء بسام
مدونات الجزيرة
يبدو ملفتا للانتباه هذا الجدل الدائر حول تعريف "الأمومة" ومقتضياتها من الحقوق والواجبات والوقوف على شروط تحققها والتمثل بنماذج معيارية تتحقق بها "الأمومة" كما ينبغي أن تكون، وهذا ليس غريبا فقط من منطلق صعوبة الإحاطة بتعريف جامع "للأمومة" يمكنه إيجاز كل ما تعنيه من عطاء غير مشروط وجَهد لا يألو على ليال تنقضي بلا نوم وأيام تمضى دون حساب في عداد الإنجازات العظيمة، بل لأنه أيضا لن يستطيع أي تعريف موجز أن يشرح كل هذا القدر من الارتباك الذى تعيشه الأم كل يوم أمام مهام لا تتعدى رعاية بيولوجية لطفلها وحاجتها بمجرد الاستمتاع بكوب قهوة ساخن! هذا الارتباك الذي قد يراه البعض تناقضا حينما تراها تكاد تطير فرحا بابتسامة تشق شفتيه الصغيرتين، وفي الوقت ذاته تندم حسرة على حياة سابقة لم تكن فيها أسيرة احتياجات طفل رضيع.
سألتني صديقتي لماذا لسنا كأمهاتنا، لماذا كل هذا التعقيد فيما كان من قبل أمرا بدهيا لا يحتمل كل هذا الضجيج بالشكوى والسؤال حتى صرنا نبحث في تعريف الأمومة وشروطها؟ الإجابة ليست بسهولة السؤال أبدا، لماذا لسنا كأمهاتنا؟ لأننا ببساطة في زمن غير زمانهم، بقناعات وأفكار مختلفة، بأحداث سياسية واجتماعية تركت ظلالها علينا فأصبح تفكيرنا مرتبطا بها، واعتقد أن مبتدأ الإجابة عن هذا السؤال يكون في كيف ننظر لأنفسنا وكيف نقيم أدوارنا في الحياة؟ في هذا مفتاح الإجابة على سؤالك: لماذا لم نكن كأمهاتنا؟
الأمومة هي باب عريض لـحياة جديدة تحتمل شكوانا من رهقها أحيانا وفرحتنا بمتعتها أحيانا أخرى، كلٌّ على قدر سعته.
بنظرة -سريعة ومقتضبة- على واقع سابق حيث كان المجتمع في أغلبه ينتمي مهنيا إلى "الوظيفة الحكومية" بمحدودية طموحها، ويعيش في وضع سياسي شبه مستقر تحت حكم عسكري قد بسط سيطرته على المجال العام بالقدر الذي يديم وجود نظامه العام، في ظل هذا كانت الأسرة امتدادا طبيعيا لكل تلك الظروف السياسية والاجتماعية من حيث الانتماء الجذري لـ"البيت" ومن ثمّ رؤية الأبناء من منظور "العزوة" والحماية التي لا توفرها الدولة من ناحية، ومن جهة أخرى هم استكمال لأحلام مبتورة لم تكتمل.
فكان الانتماء "للأبناء" في أحد أوجهه انتماء للذات، والتفاني فيهم هو تفان لـحياة مؤجلة يعيشونها معهم، وهكذا فمن كان يطمح للمنزلة الاجتماعية كان حرصه أن يصير ابنه طبيبا، ومن كان يطمع في نفوذ السلطة سعى بكل جهده ليلحق ابنه بأحد الكليات الأمنية أو الجهات السيادية.
يختلف الحال بالنظر إلى واقع جيلنا، ولربما -بجرأة مبالغ فيها- قد ادّعى أننا أكثر أنانية من سابقينا، ندور حول أنفسنا ونتمركز حول ذواتنا بنسبة كبيرة، نعيش في عصر "الصورة المعدّلة" و"البروفايل الشخصي" الذي هو بمثابة منّصة تعبيرية مضخمة للأنا وقدرتها على تسويق تفاصيل يومها العادية بصورة تجارية بحتة.
ثمة من يجاهد في تحقيق التوازن العزيز بين " معنى الأمومة" المبنى في جوهره على تجاوز الذات وتحييد "الأنا" قدر الإمكان، وعدم الانغماس في مظلومية " الأمومة" وتضحياتها
يأخذنا هذا إلى الإيمان بفكرة "ترحيل الأحلام" إلى جيل لاحق! فالسؤال المنطقي هنا، لماذا علىّ أن أؤجلها إن كان بإمكاني بذل الوِسع للحاقِ بها، وهذا جزء أصيل من نظرتنا لذواتنا واستحقاقاتها، فهي أحقّ بالوقت والجَهدِ والمتعة بطبيعة الحال، وهذا يصبّ بدوره في خانة " الأنا" وصورتها وسوقها المرتبط بالقدرة على رسم صورة لامعة، برّاقة لا يحتملها رَهق الأمومة ولا تضحياتها.
من ناحية أخرى، نحن لا ننتمي إلى "الوظيفة الحكومية" بثباتها وقدرتها على التنميط، وكذلك بما تحققه من "أمان مادي جيد"؛ ومن ثمّ تبدو خطوة "الأبوة\ الأمومة" مغامرة غير مأمونة العواقب يحاصرها الخوف من المستقبل المجهول، فلا استقرار اقتصادي أو سياسي نرتكن إلى حائطه ونضمن به ومعه قدرة على العيش الكريم.
لكنه، وعلى الضفة الأخرى، ثمة من يحاول تجاوز هذه العقبات كلها، يجاهد -بما تحمله الكلمة من معني -في تحقيق التوازن العزيز بين " معنى الأمومة" المبني في جوهره على تجاوز الذات وتحييد "الأنا" قدر الإمكان، وعدم الانغماس في مظلومية " الأمومة" وتضحياتها ورؤيتها بوجهتها الصحيحة: باب عريض لـحياة جديدة تحتمل شكوانا من رهقها أحيانا وفرحتنا بمتعتها أحيانا أخرى، كلٌّ على قدر سعته.