أرشيف المدونة الإلكترونية

الخميس، 16 مايو 2019

محمود درويش بعيون حبيباته وبلسان أعدائه (2)

بقلم: بلال فضلالعربي الجديد2019-05-14  

بالطبع لم يكن العشريني محمود درويش يتصور وهو يكتب رسائله إلى حبيبته الإسرائيلية تامار بن عامي أن سطور رسائله ستكون بعد خمسين عاما من كتابتها، مجالا لسجال يحول تلك القصة الإنسانية المركبة إلى موضع اتهام لدرويش، فيعتبر البعض أن حبه لتامار كان تفريطا في الثوابت الوطنية، ويتصور البعض أن افضل وسيلة للدفاع عن وطنية شاعره المفضل هي التأكيد على أن تامار بن عامي لم تكن الإسرائيلية الوحيدة التي أحبها، وأنه كأي شاب وكأي شاعر كان لديه نزوات متعددة، لم تكن تامار سوى واحدة منهن. وأحمد الله أنني ـ حتى الآن على الأقل ـ لم أقرأ من يتهم محمود درويش الشاب بخيانة بنات وطنه اللواتي كُنّ أولى بحبه من تلك الإسرائيلية التي قدم أهلها مهاجرين من بولندا. ومن يدري ربما لو كان محمود درويش حيا وقت عرض الفيلم لشاهدناه يخضع لاستجواب تلفزيوني يضطره للدفاع عن نفسه بالتذكير بأن مرآة الحب عمياء وسهمه نافذ، وربما اضطر تحت الضغط الإعلامي أن يطلب من جمهوره الغاضب أن يذكر له أنه أنهى قصة الحب تلك بشكل سحق فيه مشاعر تامار بن عامي، وأثبت لها أنه يمكن أن يخسرها من أجل القضية الفلسطينية.


حدث ذلك بالفعل في باريس كما تحكي تامار بن عامي، بعد أن جمعت الدنيا ثانية بينها وبين محمود درويش بعد فترة من الانقطاع دامت سنين طويلة. كان ذلك في نهاية الثمانينات من القرن الماضي حين تعرض درويش لهجوم اسرائيلي كاسح بسبب قصيدته الشهيرة "أيها المارون بين الكلمات العابرة احملوا أسماءكم وانصرفوا"، والتي كتبها كرد فعل على مشاهد القمع الإسرائيلي الوحشي للانتفاضة الفلسطينية، ليتم اتهامه على نطاق واسع بمعاداة السامية والسعي لإبادة اليهود من الوجود، وهو هجوم يكشف لنا فيلم المخرجة ابتسام مراعنة أنه أربك محمود درويش وضايقه جدا، خصوصا أن أصدقاءه الإسرائيليين سواءً كانوا يساريين أو ليبراليين أو غيرهم ممن يصفون أنفسهم بأنهم "أنصار السلام" شاركوا في ذلك الهجوم الشرس الذي احتفت به الميديا الغربية ولاحق محمود درويش في محل إقامته الجديد في باريس، ليجد نفسه في موقع المدافع الذي ينكر وجود بعض الكلمات التي تمت نسبتها إلى القصيدة بعد ترجمتها إلى العبرية.


ولذلك كان مفاجئا لدرويش أن تخرج تامار بن عامي عن صمتها الطويل، لتجري حوارات صحفية وتلفزيونية تكشف فيه عن قصة حبهما للجمهور الإسرائيلي الذي عرفها راقصة ومطربة شاركت في بعض الأغنيات الداعمة للجيش الإسرائيلي، لتؤكد في حواراتها أن محمود درويش الذي عرفته وأحبته لا يمكن أن يوافق على إبادة اليهود، وأنه مؤمن بالسلام والتعايش، وهو ما جعل درويش يتصل بها ليشكرها على موقفها، ويدعوها لكي يلتقي بها في باريس، بعد أكثر من عشرين سنة من القطيعة بدأت بعد خروجه إلى منفاه الاختياري في القاهرة ثم إلى بيروت وأخيرا إلى باريس.
لا تخجل تامار بن عامي من الاعتراف أنها لم تتردد في تلبية الدعوة فورا، لتطير إلى باريس، وحين وصلت إليها في شهر أكتوبر عام 1989، أخذت تتصل بالرقم الذي أعطاه لها محمود لمدة أسبوع، فلم تجد أحدا، بل وردت عليها في إحدى المرات سيدة قالت لها إنه غير موجود، لكنها لم تيأس وظلت مقيمة في باريس في انتظار مكالمته، وعندما سألتها المخرجة لماذا فعلت ذلك ولم تغضب لنفسها بسبب تجاهله، قالت بانفعال "لأنني أحببته"، وبالفعل لم يضع إصرار تامار عبثا، فقد التقى بها درويش في منزله، الذي لاحظت حين وصوله أنه كان في عمارة بدا أنها تابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية، لكنها وصفت اللقاء بأنه كان لقاءا فاترا ومربكا، وقطعه اتصال بين محمود درويش وياسر عرفات لم تفهم ما دار فيه لأنهما تحدثا بالعربية، لكنها شعرت أنه اتصال متوتر، خاصة أن اللقاء انتهى سريعا بعد ذلك على أمل لقاء ثانٍ قريب.
لكن ذلك اللقاء المنتظر لم يتم برغم اتصالها كثيرا بدرويش دون أن يرد، بل إنها ذهبت إلى منزله وطرقت الباب فلم يفتح، وحين اتصلت به من هاتف عمومي رد عليها بانفعال وقال لها إنه لا يستطيع أن يلتقي بها، وحين سألته لماذا، فوجئت به يصرخ فيها طالبا منها أن تتوقف عن الرومانسية واتهمها بأنها لا تفهم كل ما يحدث حولهما، وأنها لا تريد أن تدرك أن كل ما بينهما انتهى، ثم أغلق في وجهها التليفون لتنهار باكية، وتستنتج بعد ذلك أنه ربما تلقى تحذيرات من قادة منظمة التحرير بألا يلتقي بها لأن ذلك يمكن أن يستغل ضده وضد القضية الفلسطينية. لكنها ومع ذلك، قررت أن ترسل إليه رسالة أخيرة، تقول فيه إنها حزينة لأنها طلبت منه أن يلتقيها للمرة الأخيرة لساعة بعد 25 سنة من الغياب، معترفة أنها لا تدرك حتى الآن كيف تجرأت على أن تطلب منه أن يلتقيها ساعة واحدة فقط، لكن الرسالة لم تصل إلى محمود، ليكون ذلك آخر مشهد في قصة حبهما.
تمار مع رسائل درويش 

قبل ذلك المشهد بربع قرن، كان بين الحبيبين مشهد سابق كان يفترض أنه المشهد الأخير، حدث ذلك حين صدر قرار القبض على محمود بسبب قصيدة (سجل أنا عربي) التي اعتبرت سلطات الاحتلال أن بعض أبياتها مثل: "ولكن إذا ما جعت آكل لحم مغتصبي.. حذارِ حذارِ من جوعي ومن غضبي" تمثل تحريضا واضحا على العنف. وقبل أن يتم القبض على محمود أرسل رسالة إلى تامار يطلب منها أن تأتي إلى حيفا لكي يلتقيا قبل أن يذهب للسجن، قائلا لها: "لا تملكين وقتا لكتابة جواب لرسالتي، كوني أنت الجواب، أنتظرك، لا تخيبي أملي، تعالي". لكن تامار لم تأت لأنها كانت قد بدأت تتزايد عليها الضغوط من محيطها لإنهاء العلاقة التي كان أبواها الشيوعيان يعرفان بها ويتسامحان معها على عكس غيرهما، معترفة حسبما قالته في الفيلم أنها بعد مرور تلك السنين تشعر بالندم لأنها لم تقاتل من أجل حبه لها، لأنها بسبب صغر سنها لم تستوعب حبه الكبير لها، خاصة أنها كانت قد بدأت تعاني من أزمة هوية، وتشعر أنها لا بد من أن تركز على تعليمها الذي أهملته.
لم يكن محمود درويش مغيبا عن إدراك الواقع لكي لا يشعر بارتباكها وحيرتها، ولذلك كتب لها رسالة يعرضها الفيلم، قال فيها إنه يشعر بما تعانيه وبأنها لا تستطيع التغلب على بحر الأفكار الهائج الذي يحيط بها، لكنه اقترح عليها ألا تحسم علاقتهما بسهولة ودعاها لأن "يعتمدا معا على الأيام ويتركا الرياح توجه سفينة حبهما كيفما شاءت"، لكنه وحين تزايدت الضغوط عليه هو أيضا، وشعر أن محبوبته لا تتجاوب معه بالشكل الكافي، وأدرك أن قصة حبهما ليس لها مستقبل كتب لها رسالة أنقل نصها معتمدا على ترجمة قام بها الكاتب وديع عواودة، ونشرها في مقال متميز بصحيفة (القدس العربي) ترجم فيه عن العبرية نصوص رسائل درويش لحبيبته والتي عرضها الفيلم مترجمة إلى الإنجليزية، يقول درويش في رسالته "تاماري، هذا الأسبوع فكرت بك كثيرا. والأفكار بعثت مشاعر غير لطيفة. رأيت بك الصورة السيئة.

اضطررت على نسيان الوجوه الحلوة. هل هناك وجوه كهذه…يا ليتها كانت. يساورني شعور بأنني جريح جدا. وأحيانا أشعر بالبؤس. اعترف أنه من غير المقبول أن تكتب رسائل حب بهذا النص ولكن ما هو الحب؟ رغم كل شيء الحب لعبة تستبطن تناقضات خاصة، الحب في زماننا الذي يتميز بالكذب. ربما ليس لطيفا قراءة هذه الكلمات القاسية الفظة التي تذّل طهارة حب تؤمنين به. أطلب سماحك فلم أقصد إهانة أحد ولا التلميح لأي شيء. فقط فتحت قلبي وللتو سأغلقه. إلى اللقاء. محمود".
سيساعدنا على فهم ذلك القرار الانفعالي الذي اتخذه محمود تأمل رسالة أخرى كتبها بعد أجواء عاصفة عاش فيها الحبيبان حين تم اكتشاف أنهما ليسا مجرد رفيقين يحضران أنشطة الحزب الشيوعي الإسرائيلي، وأن علاقة عاطفية تجمعهما لدرجة أنها باتت ليلة في منزل درويش بعد أن تأخرا سويا في فعالية ثقافية، وطلبت تامار من صديقة لها أن تكذب وتخبر أهلها أنها ستبيت لدى زميلة لهما لا تمتلك هاتفا، وعندما انكشفت الكذبة غضب أهلها بشدة، وهو غضب تقول تامار ضاحكة وهي تتذكره أن الزمن كان مختلفا وقتها عن هذه الأيام.

سطور كتبها درويش كما عرضها فيلم سجل أنا عربي 

يبدو ذلك جليا من رسالة درويش التي قال فيها :"إلى حبيبتي الوحيدة في العالم. صدقيني لم تكن حالتك أقسى من حالتي. كنت معك لحظة بلحظة وكل الوقت كنت مشغولا بالتفكير. باليوم التالي لم أعمل وقد زارني شقيقي وزوجته فجالستهما خمس دقائق وهربت. رغبت أن أعرف ماذا جرى لك في البيت بعدما عدت من حيفا خاصة أن أمك طلبتني بالهاتف كما أخبرني الزملاء في المكتب. بعدها دخل «جورج» وروى لي ما يحدث. ولم أقو على القول إنني لم أشاهدك. تاماري، هذه المرة أؤمن أن الكلمات عاجزة. لماذا اتهم نفسي طالما أننا نعرف أن كل شيء كان سيمر بسلام لولا قلة مسؤولية روني. رغبت بالسفر إليك للقدس كي أهدأ روعي وروعك. توجهت للحاكم العسكري بعد ظهر يوم الأحد للحصول على تصريح سفر فرفض طلبي. كانت أوقات حلمت بها باحتساء الشاي معك عند الغروب أي أن نكون شركاء في الفرح والسعادة. صدقيني يا غاليتي أن هذا يزيد قلبي دفئا عندما تكونين بعيدة، ليس لأنني أحبك أقل بل لأنني أحبك أكثر. مرة أخرى أكرر أمامك أنني معك وأنت لست وحيدة. ربما ستعانين بسببي لكنني أمثل لجانبك ولا أخفي شيئا. شكرا لك تاماري، لأنك منحت حياتي مذاقا معينا. إلى اللقاء. محمود".

برغم أنك تعرف منذ بداية مشاهدة فيلم (سجل أنا عربي)، أنك تتابع قصة حب انتهت منذ قديم، إلا أنك إذا كنت محبا لشخص محمود درويش وشعره، ستجد نفسك سارحا في تأمل (صورة العاشق في شبابه)، لترى في رسائله نفس الروح التي كان يكتب بها قصائده العاطفية المبكرة التي لا أنسى منها قصيدة قصيرة كنت مدلّها بحبها في فترة الجامعة تقول: "حبنا أن يضغط الكف على الكف ونمشي.. وإذا جعنا تقاسمنا الرغيف.. في سواد الليل أحميك برمشي.. وبأشعار على الشمس تطوف"، وهي أبيات تذكرتها وأنا أقرأ درويش وهو يكتب بالعبرية هذه المرة قائلا لحبيبته: "صحيح أنك لست عندي الآن لكنك ما زلت معي. أسمع صوتك يعوم في نور عينيك، أتكىء على كتفك، أتناول الطعام وإياكِ، وأضغط على يدك المستقرة بيدي كعصفور لا يرغب أن يطير. إلى أين يطير؟ من عندي إلى عندي. تاماري أراك وأشعر بك كل لحظة. بوسعك أن تخلدي للنوم بهدوء دون أحلام مزعجة وبلا ظنون. أنت في غرفتي.. داخل سريري…في حقيبتي.. في كتابي.. في قلمي.. في قلبي.. وفي دمي. ثمة أمر جديد أريد أن أكشفه لك فلا تندهشي. اليوم حدقّت بالمرآة وشاهدت محمودا جديدا. أكثر حلاوة وصحة وسعادة. تاماري، لن أسألك هذه المرة متى نلتقي لأننا معا"، وفي رسالة أخرى يكتب قائلا "تاماري الحلوة إن قبلتك الخاطفة كانت كقبلة العصفور.. وهي قبلة إنسانية نجحت بتطهير الفؤاد تماما من كل ظن، سؤال، شك وكراهية. كل احترام لقلبك الطاهر يا تاماري. أنا في انتظارك".
في حين تلقي سطور رسالة أخرى الضوء على علاقة محمود العشريني بصحته وبأشعاره أيضا: "تاماري، بدايةً، اعتذاري. لم أكتب فورا لأنني رغبت تلقي رسالتك الإضافية التي وعدت بها ولم تبلغني بعد. بما أنني غير راغب بإدارة سباق معك جلست في غرفتي وبدأت أكتب. السبت. القرية. الكتب متناثرة على طاولتي الفوضوية وبجانبها صحف ومجلات وفناجين قهوة هنا وهناك. أنا غارق بالتفكير بأن القصيدة هي عمل حقيقي ليس فقط حينما يجلسون ويكتبون كلمات على الورق إنما هي عمل متواصل ليل نهار. أعرف أنك راغبة بمعرفة ما إذا كتبت جديدا. نعم. الكثير من الجديد. بالمناسبة اعتلّت صحتي ثلاثة أيام والطبيب منعني من التدخين وتناول الكحول، وبخّني. وهو طبيب مهووس. تحديا له دخنت وشربت فوق العادة فماذا كانت النتيجة؟ لم أمت. بالعكس، شعرت بالتحسن".

محمود وتمار قبل الانفصال 

لكن قصة محمود مع تامار لم تكن تلك قصة الحب المرتبكة الوحيدة التي عرضها فيلم (سجل أنا عربي)، فقصته مع حبيبته وزوجته رنا قباني لم تكن أقل ارتباكا وتعقيدا، كما ستظهر لنا التفاصيل التي روتها رنا قباني في الفيلم وخارجه، وهو ما سنختم به حديثنا عن هذا الفيلم الذي لم تكن فرصة مشاهدته سهلة للجمهور العربي، بسبب تصنيفه كفيلم اسرائيلي الإنتاج، وهو ما منعه من المشاركة في مهرجانات عربية منها مهرجان بيروت الذي تقدمت إليه المخرجة وتم رفض عرضها بالمشاركة.


نختم حديثنا غدا بإذن الله.