بقلم: الروائي محمد سناجلة
في حوالي منتصف القرن الرابع الهجري كان ظهور المتنبي على الوسط الثقافي العربي السائد حينذاك، وقد كان هذا الظهور مدويا وصاعقا وعلى أكثر من صعيد، فقد ولد شاعر تحدى الذائقة النقدية السائدة، لا بل تحدى ما كان قد ترسخ من نظرية نقدية عربية قسمت الشعر العربي إلى قديم يتمتع بجزالة الألفاظ والمعاني وقوة البيان، وبين محدث مغاير يسعى للاختلاف، ويبحث عن معان جديدة وفق قوالب وأشكال جديدة كأبي تمام على سبيل المثال.
فقد جاء المتنبي جامعا بين الطريقتين، فها هو شاعر صغير السن "يجيء بالجزالة والقوة والبيان على خير ما كان يجيء به القدماء، ويغوص على معاني الحياة الانسانية غوصا بعيدا ويضمّن شعره فلسفة حياة وثقافة وصورا جديدة مبتكرة لم تكن من قبل" كما يقول الدكتور احسان عباس في كتابه القيم تاريخ النقد الأدبي عند العرب.
تهاوت النظريات النقدية السائدة، وبتهاويها وقف نقاد عصره أمامه موقفا لا يحسدون عليه، حيرة في التعامل مع هذه الظاهرة الجديدة كل الجدة عما اعتادوا عليه من شعر وشعراء.
وصدمهم المتنبي مرة ثانية بشخصه المتعالي وأناه المتضخمة، وتكبره عليهم وعلى غيرهم من نقاد وشعراء وأدباء ذلك الزمان لا بل تعدت كبرياءه كل حد بتعاليه على سلاطين وأمراء زمانه وابتدائه بنفسه قبلهم، مستخفا بكل ما اتفق عليه من أصول مخاطبة الممدوحين من ملوك وأمراء وسلاطين.
فهو القائل في مجلس سيف الدولة: سيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا بأنني خير من تسعى به قدم.
فسأله مغرض حاسد "وحتى الأمير" فسكت المتنبي.
وهو القائل أيضا في مناسبة ثانية وأمام أمير اخر مخاطبا حاسديه في مجلس ذاك الأمير: وكيف لا يحسد امرؤ علم له على كل هامة قدم.
وتكثر الأمثلة من شعره على مدى اعتزازه بنفسه واستصغاره بالآخرين حتى لو كانوا ملوكا وأمراء.
وزاد الأمر تعقيدا أن قام هذا الشاعر الصغير بازدراء التراث الشعري العربي كله، فقد رأى بنفسه أن الشعر يبتدئ به وينتهي عنده وإليه، ولم يكتف بذلك فما مرت سوى فترة قصيره حتى أعلن نبوته متحديا وكاسرا اخر الحدود، فلا حدود أمامه.
ويروي ابن كثير في تاريخه (البداية والنهاية) قصة طريفة عن كافور الاخشيدي الذي كان قد وضع الجواسيس والعيون حول المتنبي ليلا نهارا، فسأله أحد الأمراء مستغربا ومستهجنا: يا مولاي أتخشى هذا الرجل وما هو سوى شاعر يترزق بشعره!
فأجابه كافور: هذا رجل طلب النبوة وادعاها أفلا يطلب الإمارة والملك؟
جن جنون النقاد والأدباء المعاصرين له فكان هجومهم عليه كاسحا، مدويا ومدمرا في ذات اللحظة، لم يتركوا شيئا إلا وهاجموه به، حتى شخصه وعائلته تم شن الهجوم عليهما.
ونشبت معركة ضارية حول المتنبي بين خصومه الكثر, وأنصاره القليلين "ولكن حصادها كان قليل الغناء، لأن خصوم المتنبي أرادوا تحطيم شعر المتنبي انتقاما من شخصه وتعاظمه وتعاليه، ولذلك كان أكثر همهم منصرفا إلى التأكيد على أن شعره 'مرقعة' مصنوعة من معاني الاخرين، ولم تكن الوسائل النقدية عند الأنصار قد تطورت بما يناسب الجدة التي طلع بها المتنبي على الناس".
وهكذا كان المتنبي غريبا في زمانه، كثير الحساد والأعداء، قليل الأنصار إلى أن مات مقتولا على يد أحد أعدائه.
وفي حقيقة الأمر فإن وجود مبدع متميز مثل المتنبي كان يتطلب وجود ناقد مبدع أيضا، ولكن هذا الناقد لم يوجد للأسف إلا بعد أن مات المتنبي بفترة طويلة، حيث ذهب نقاد عصره إلى تنقصه ومحاولة إظهاره على عكس ما هي حقيقته، فقد أظهروه بأنه سارق، منتحل، مقلد بل وحتى ليس بشاعر.
فها هو ابن وكيع في كتابه "المنصف" يتناول ديوان المتنبي قصيدة إثر قصيدة، مبينا انتحال المتنبي وسرقاته وسقطاته وإذا بنا في نهاية الكتاب نكتشف مع ابن وكيع أن المتنبي لم يكن شاعرا ألبتة، بل سارقا لمعاني الاخرين وألفاظهم، وهكذا ذهب بقية نقاد زمانه في محاولة شاملة لتدمير المتنبي إنسانا وشعرا ومعنى.
وفي الحقيقة فإن هذا الأمر يثير الدهشة حقا من زاويتين:
الأولى: هذه الجرأة والمقدرة لدى النقاد وأشباه المبدعين في محاولتهم لتدمير موهبة عز نظيرها، وبعيون مفتوحة لا تهتز لها شعرة من رمش.
الثانية: أن كل مبدع حقيقي يثير حوله زوبعة عظيمة من مشاعر العداء والحسد والغيرة التي ليس لها تفسير إلا أصالة ذلك المبدع وزيف من هم حوله.
وقد كان وقع هذا العداء غير المبرر على نفسية المتنبي مريرا، وولد شعورا طاغيا بالوحدة والغربة وسط الأهل والوطن، ومع ذلك فقد كانت ردة فعله مزيدا من التعالي ومزيدا من الإخلاص للشعر والقصيدة.
والمتمعن لديوانه سيجد أن ما لا يقل عن ربع شعر المتنبي كان في الرد على هؤلاء الذين كان يسميهم بالحساد. ومن أحسن ما قال واصفا حاله واياهم:
أبدو فيسجد من بالسـوء يذكرنـي فلا أعـاتبه صفحا وإهــوانا
محسد الفضل مكذوب على أثري ألقي الكمي ويلقاني إذا حانا
وهكذا كنت في أهلي وفي وطني إن النفيس غريب حيثما كانا
ويبدو أن وجود المبدع الحقيقي هو حالة كسر لكل ما هو طبيعي مما اعتاده الناس، مما يثير من حوله دائرة من الكراهية والرفض التي تولد بدورها شعورا بالغربة والتفرد عند الذات المبدعة ينعكس على شكل قلق ابداعي خلاق هو سبب كل ما وصلت اليه البشرية من تطور وحضارة.
محمد سناجلة