أرشيف المدونة الإلكترونية

الاثنين، 29 أبريل 2019

الشاعر

بقلم: لانا مامكغ
جريدة الرأي
https://bit.ly/2J3cDsr

همسَ لها بنبرةٍ تذوبُ ولَهاً:  "اقرأي في صحيفة يومَ غدٍ آخرَ إنتاجاتي الشّعريّة... أرسلتُ قصيدةً جديدة نظمتها لكِ فقط !".
فهامت مع صوتِه ومع أحلامها طوال الّليل وهي تترقّبُ طلوعَ الصّباح، لتتلقّف الصّحيفةَ مع بزوغ الشّمس وتبدأ في البحث بيدٍ مرتجفة بين الصّفحات حتى وجدتها... قصيدةً طويلة ذكرَ فيها كلماتٍ من مثل: سُحبِ السّرمد... ونوارس الوجْد... وصهيلِ الّليلك... حتى انتهت من قراءتها دون أن تفهمَ شيئاً.
رغمَ ذلك، ظلّت تعدُ الأيّام حين حانَ موعدُ الارتباطِ به، الارتباطِ بشاعرِها الفذّ ذي العينين الحالمتين، والصّوتِ العميق، ذلك المخلوق الاستثنائيّ الذي لا يمكنُ أن ينتميَ إلى عالم البشر... ذاك المتفرّد الذي سيجولُ بها في عوالم التّجدّدِ والدّهشةِ والسّحر...
وكان لها ما أرادت، تزوّجته بعد طول انتظارلتعيشَ معه أيّاماً خارجَ الغلاف الجوّيّ، وهي مأخوذةٌ بكلامِه ورهافته ،وعذوبة كلماته، ورقتّه.
وهكذا، حتى جاء يومٌ كانت فيه منهمكةً في إعدادِ الطّعام، حين فرغت اسطوانةُ الغاز، فكان أوّل ما فعلته أن هرعت إليه طالبةً منه المساعدة، وعملَ الّلازم، لتجده ينادي حارس البناية حتى يقومَ بالمهمّة...
ثمَّ حدث أن غسلت ستائر غرفة المعيشة، فنادته لمساعدتِها في إعادة تعليقها، لكن وجدته يعتذرَ بداعي استغراقه في نظمِ قصيدةٍ جديدة... فتسلّقت هي السّلّم الطّويل، وقامت بالمهمّة...
وفوجئت ذات صباح بعطبٍ في إحدى الحنفيّات، ولم يكن الأمرُ يحتاجُ إلى أكثرِ من تغيير الجلدة... لكن سمعته يتّصلُ بأحدَ إخوته كي يقومَ بالّلازم.
واعتادت على قضاء السّهرات وحدَها، إذ كان يعتكفُ ليليّاً في إحدى الغرف مع السجائر وكمّيّاتٍ من القهوة بداعي أنَّ الإلهام الشّعري لا يأتي إلا في "الفضاءات الكونيّة السّاكنة البعيدة عن ضجيجِ العالَم السّطحي التّافه".
عاتبته ذات مرّة، فنهرَها متّهماً إيّاها بضيق الأفق، ليذكّرها أنّه اختارها زوجةً له من بين النّساءِ جميعِهن لشعوره أنّها الوحيدةُ القادرة على فهمهِه... وأنّها لا تُدركُ ماذا يعني أن تكونَ زوجةً لمبدع كرّسَ حياتَه لتفعيلاته، ولمفرداتِه الشّعريّة، وتحليقاته الفكريّة... مؤكّداً لها أنّه ليس رجلاً نمطيّاً من أولئك البسطاء المُمّلين العاديين السّطحيين الذين يملأون الأرضَ بالتّرهات.
ولم تعلّق يومها، واكتفت بأن أصبحت تقضي أوقاتَ فراغِها في الأمسيات على الشّرفة، لتطربَ بسماعِ أصواتِ الرّجال الهادرة في المبنى والحيّ، وتستمتعَ أحياناً برؤيةِ أحدهم منحنيّاً على الرّصيف أمام درّاجة أطفال محاولاً إصلاحها وسط ضجيجهم، ولتلمحَ آخرَ يسقي نباتات الفناء وهو يثرثرُ مع جارٍمنهمكٌ في تشذيبِ شجرةٍ قريبة، ثمَّ لترقبَ آخر يدلفُ بيته وهم يحملُ كيسَ خضارٍ بيد، ويتأبطُ بطيخةً ضخمة باليدِ الأخرى.
تقضي أوقاتَها تتأملُهم بانبهار... وهي تتنهّد وتكتمُ في قلبها غيرةً ما تجاه نساء الحيّ على أزواجهنّ البسطاء النّمطيين العاديين.