بقلم: رائدة نيروخ
"في قَصَصِ الشعوب، طرائف لا تنتهي
وعالمٌ حلو بهيّ، يسكن في القلوب
من كل بلاد الدنيا، من كل بقاع الأرض
قصصٌ شتّى، تُروى حتى
نعرف أحوال الإنسان، والكل هنا جيران".
لطالما ردّدنا في طفولتنا كلمات أغنية شارة لمسلسل حكايات عالمية، الذي استقى قصصه من تراث الشعوب. من منا لم يسمع بقصة الأميرة النائمة، أو ذات الرداء الأحمر (ليلى والذئب)، أو القط ذي الجزمة، أو عقلة الإصبع؟ من منا لم تزدحم مخيلته بالساحرات الشريرات، والغيلان، والأقزام، والبجعات المسحورات؟ فمن أين جاءت تلك القصص؟ وهل حقًا وصلتنا كما رويت ودوّنت في بادئ الأمر؟
يعد كتاب «حكايات أمي الإوزة» للفرنسي شارل بيرو، الصادر في فرنسا عام 1697، وكتاب «البنتاميرون» للمؤلف الإيطالي جانباتيستا بازيله الذي سبق كتاب شارل بيرو بخمسين عامًا، بالإضافة إلى حكايات الأخوين غريم «حكايات الأطفال والبيت» التي صدر جزؤها الأول في عام 1812 في ألمانيا. وكتب الدنماركي هانز كريستيان أندرسن عن حكايات الجن والقصص الخرافية التي بدأها بنشر كتاب عن قصص الحوريات في عام 1835، من كلاسيكيات الكتب التي تناولت الحكايات الشعبية في أوروبا، وتعود الحكايات إلى أصل أسطوري. والمتتبع لهذه الكتب سيجد اختلافات قد تكون جذرية بين نهايات القصة الواحدة في كل منها. لكن دعونا نتوقف قليلًا عند بعض قصص الطفولة الشعبية.
في أثناء قراءتي لرواية «بينوكيو» في نسختها الأصلية، هالني مقدار العنف الذي احتوته بين دفتيها، إذ تلقى الدمية الخشبية في النار وتضرب، وفي جزء آخر تشنق على غصن شجرة بلوط، وحينًا آخر تبرز نزعتها الشريرة الماكرة.
الحكايات على الرغم من توجهها إلى الأطفال، لا تستهين بالشر أو تستخف به، بل إنها تصوره جبارًا بشعًا وقويًا، لكن الخير إذا ما واجهه بجرأة وذكاء وتعاون؛ قادر على تحقيق النصر.
كثير من النقاد المعاصرين يجدون في تلك الحكايات الشعبية عنفًا أكثر مما يستطيع الطفل تحمله، ويذكر تشارلز باناتي:
إن الكثير من تلك القصص في جوهرها بغيض ولا أخلاقي، ومواضيعها تتمحور حول الحماقة والجنون والثمالة والخداع، وتشويه البشر والسرقة وعدم الاستقامة والتمييز العنصري، فالقصص تضم جميع هذه العناصر، بل أكثر من هذه – خاصة إذا أُعيد سردها بنسختها الأصلية[1].
وفيما يأتي بعض القصص المختارة مع ذكر نسختها الأصلية.
قصة «الجميلة النائمة»: وليمة من لحم بشري!
في النسخة الإيطالية لقصة «الجميلة النائمة»، التي نشرها الإيطالي جيامباتسيا بازيله ضمن مجموعة «بنتاميرون» في عام 1636 لا تنتهي القصة بخاتمة سعيدة كما في أفلام ديزني، بل بالعكس، فحين تستيقظ الأميرة بقبلة، في تلك اللحظة بالذات تبدأ المشاكل، حين تُغتصب وتترك ويُهدد طفلاها غير الشرعيين بأكل لحومهما.
في كتاب «حكايات أمي الإوزة» لشارل بيرو، يكتشف الأمير الوسيم الحسناء النائمة، ويتزوجها وينجب منها توأمًا، لكن والدته التي كانت من فصيلة الغيلان تضمر الشر للحسناء وأطفالها، فتأمر الطباخ بذبح الطفلين وأمهما، وأن يقدم لها لحومهم على مائدة الطعام، لكن الطباخ يخبئ الحسناء وأطفالها، وفي كل مرة يقدم لوالدة الأمير طبقًا من لحم الحيوانات على أنه لحم بشري. ينتهي الأمر بأن يكتشف الأمير شرور والدته، فتلقي الأم بنفسها في حوض مليء بالحيات والأفاعي والثعابين، كانت قد أعدته للحسناء بعد أن اكتشفت أنها ما زالت على قيد الحياة.
قصة «ذات القلنسوة الحمراء»: قصة ملطخة بالدماء
خلافًا للنسخة الأخيرة التي وصلتنا من قصة «ذات القلنسوة الحمراء»، المعروفة عربيًا بقصة «ليلى والذئب»، وهي نسخة الأخوين غريم، إذ يسارع الصياد بشق بطن الذئب وإنقاذ ليلى وجدّتها، فإن النسخة الأصلية للحكاية التي ذكرت في كتاب شارل بيرو تنتهي بأن تكون ليلى وجدّتها لقمة سائغة في فم الذئب ولم ينقذهما أحد، ويختم بيرو قصته بأبيات شعرية تحوي عبرة القصة فيقول:
تخبرنا الحكاية أن بعض الصغار
لا سيما الفتيات المهذبات الجميلات
قد يسيئون التصرف
بالإنصات لكل من هب ودب
فلا ينبغي أن نندهش
إن راح كثير منهم ضحايا للذئب[2].
لكن بعد مضي 120 عامًا من نسخة شارل بيرو، قدم الأخوان غريم قصة مختلفة، وهي النسخة الوحيدة من كل النسخ الشعبية التي تنقذ فيها الصغيرة والجدة، التي كان مصيرها دومًا الهلاك في النسخ السابقة[3].
قصة «عقلة الأصبع»: كل شيء مباح
كيف يمكنني اليوم أن أقص على طفلي هذه القصة بنسختها الأصلية، دون أن أضطر إلى طمأنته نفسيًا، بأنني لن ألقي به في الغابة إذا ضاقت بنا الحال، أو أنني لن أنعم بعشاء طيب بينما هو ملقى في الغابة يعاني الجوع والخوف؟ وكيف يمكنني أن أقنعه بأن المكافيلية المتمثلة بمبدأ «الغاية تبرر الوسيلة» تعد أمرًا لا أخلاقيًا، بعد سرد قصة «عقلة الإصبع» الشيقة؟
تصادفنا كل القيم اللا أخلاقية في قصة «عقلة الإصبع»، ففي نسخة شارل بيرو في كتاب «حكايات أمي الإوزة» نجد الوالدين يقرران التخلص من أطفالهم السبعة في الغابة نظرًا لفقرهما، بينما كان ولدهم الأصغر الملقب بـ«عقلة الإصبع» لأن طوله لا يتعدى طول الإبهام يستمع إليهم، ويقرر أن ينقذ إخوته، فملأ جيوبه بالحصى البيضاء، وألقاها على طول طريق الغابة، حين أخذه والداه برفقة باقي إخوته، ليتخلصا منهم.
فيما نعم الأهل بعشرة ريالات في الليلة نفسها من عمدة البلدة، فسارعا -على رسلكم، لم يسارعا للعودة بالأبناء- بل سارعا إلى شراء طعام وشراب ولحم يكفي عشرة أشخاص، ولنكن منصفين قليلًا، فقد تبادلت الأم مع زوجها اللوم، ومع ذلك استمرا بالأكل، في هذه الأثناء، طُرِق الباب، فإذ بعقلة الإصبع وإخوته يعودون للبيت، ويشاركون الوالدين الحنونين جدًا المأدبة!
لكن دوام الحال من المحال، ويعود الفقر من جديد ليلقي بظلاله على هذه العائلة، التي لا تجد حلًا إلا في التخلص من أطفالها مرة أخرى! ولأن عقلة الإصبع قد سمع مجددًا ما قد عزم عليه والده، لذا احتفظ بحصته من الخبز ليلقي بفتاته على أرض الغابة؛ ليستدل به على طريق العودة، لكن الطيور تأكل الفتات، ويتيه في الغابة مع إخوته، حتى ينتهي بهم الحال في بيت أحد الغيلان الذي يستلذ بلحم البشر الطازج، ويقرر الغول ذبحهم، لكن زوجته تقنعه بأن يؤخر الأمر للصباح، لأن عشاءه جاهز.
ينام عقلة الإصبع مع إخوته في غرفة بنات الغول السبعة الصغيرات اللطيفات اللواتي لم يتحولن بعد إلى متوحشات، فيقوم عقلة الإصبع بنزع تيجان الفتيات السبعة ووضع قلنسوات إخوته فوق رؤوس الفتيات، حتى إذ ما جاء الغول في الظلام، فيمكنه أن يتحسس التيجان فلا يقتل أصحابها، وبذا ينجو عقلة وإخوته من القتل، وهذا ما حدث فعلًا، إذ لقيت الفتيات الصغيرات حتفهن في مجزرة دموية، فعند عقلة الإصبع كل شيء مباح: السرقة، والخديعة، والكذب، كلها يسردها شارل بيرو ليظهر لنا عقلة الإصبع نموذجًا للشخص «الفهلوي» الذي بات يساعد اللصوص ، ويسهل عملهم في اقتحام البيوت، والذي عمل جاسوسًا يسترق أخبار الأزواج والعشاق وأخبار الجيوش، بعد أن سرق من الغول حذاء الفراسخ السبعة الذي تطوى بفضله المسافات.
«القط ذو الحذاء»: المخادع الحقيقي
لعل أشهر ما كتب عن مساعدة الحيوان للإنسان هي قصة «القط ذو الجزمة»، فهذا القط مثال للمخادع الحقيقي. فهو لا يتوانى عن الكذب، والسرقة، والتنمر، ويتنقل بين الناس بدهاء وحنكة، من أجل حصول سيده على الثروة، وتنتهي القصة مع هِرّ ثري فخور ونجاح باهر لكل من تآمر وتواطأ معه. فيصبح القط لوردًا محترمًا. وهنا تنتهي نسخة القصة المتداولة بيننا من كتاب شارل بيرو، بينما تستمر القصة، وتتابع الأحداث في كتاب «بنتاميرون» لبازيله.
فعرفانًا بالجميل، يُقْسم السيد للهر بأنه سوف يحتفظ به في تابوت ذهبي فاخر بعد مماته. ولأن من اعتاد على خداع الآخرين لا يمكنه الثقة بهم، لذا أراد الهر أن يمتحن سيده فتظاهر بالموت وكشف بذلك خطة سيده الذي أخذه بيديه وقدميه وقذفه بقوة وعنف إلى الخارج ظنًا منه أنه ميت. يقفز الهر الشاحب المزرق على أطرافه ويثب مسرعًا كالعاصفة خارج المنزل. ولم يُشاهد ثانية.
«ذو اللحية الزرقاء»: الفضول القاتل
لا تقربي هذا الباب، تلك هي وصية ذي اللحية الزرقاء لزوجته الجديدة، لكن الفضول الذي أخرج أبوينا من الجنة، قادها إلى فتح الباب الملعون، لتكتشف عشرات الجثث المعلقة، والدماء المتخثرة. ولأن الجريمة الكاملة لا يمكن لها أن تكون، يسقط المفتاح من يديها وسط الدماء وتحاول جاهدة مسح الدم عنه، لكنه ويا للمصيبة، مفتاح مسحور، لا تزول عنه آثار الدماء، ويقرر زوجها ذبحها حين يكتشف فعلتها. لكن إخوتها يسارعون إلى إنقاذها، وينال زوجها العقاب. يختم شارل بيرو قصته بأبيات شعرية يحذر فيها من مغبة الفضول! وكأن الكارثة تكمن فقط في فضول الزوجة لا في القتل الوحشي لزوجها! ويعلق متهكمًا بأن القصة تعود لأزمنة سحيقة، مبررًا ذلك بقوله:
لأنه لم يعد ثمة أزواج بهذه الفظاعة
يطلبون من زوجاتهم المستحيل
والزوج وإن يكن غير راض أو تأكله الغيرة
تراه بجوار زوجته شديد الطاعة
ومهما يكن للحيته من لون
فلن تعرف من منهما السيد في بيته[4].
ترتكز هذه القصة على قضية حقيقية، إذ اتُهم جيل دي ريه، عمدة إحدى البلدات في فرنسا، بارتكاب جرائم شنيعة بسبب النزعة الشيطانية لديه، من خطف وإذلال وتعذيب، فقد قتل مئة وأربعين ولدًا. أثار ذلك ضجة عارمة في أوروبا في القرن الخامس عشر فكان مصدر جدل ونقاش.
لماذا يعتمد مؤلفو قصص الأطفال مواضيع لا أخلاقية ولا إنسانية كهذه؟
علينا أن ندرس هذه القصص ضمن السياق التاريخي الذي ظهرت فيه، وضمن معطيات عصر تدوينها.
منذ العصر الإليزابيثي (عصر الملكة إليزابيث) حتى القرن التاسع عشر كان الأطفال يسمعون ويرددون كلمات بذيئة، ويشاهدون ما لا يجب أن يشاهدوه من ممارسات جنسية، وفعلوا ما لا يجب أن يفعلوه من تناول الكحول في عمر مُبكر، ورأوا ما لا يجب أن يروه من سجن بالجملة وجلد، ونزع أحشاء وشنق في ساحات المدينة إلى أن أضحى مشهد العنف والوحشية والموت منظرًا مألوفًا لديهم. فالحياة كانت قاسية وقصص الجن مزجت ما بين خيال سعيد وذلك الواقع المؤلم بحيث أن تعريض الأطفال لهذه التركيبة بدت حينئذ طبيعية وغير مؤذية[5].
ولكن هل حقًا كانت جميع القصص موجهة للأطفال، أم اتخذت من حكايات الجن والسحرة والغيلان حيلة مواربة لنقد ما لا يمكن الحديث عنه بشكل صريح وواضح؟
سنجد العديد من القصص في كتاب الأخوين غريم تنتقد بشكل مبطن السلطة السياسية، كما في قصة «الكسالى الثلاثة»، التي تتحدث عن ملك سيورث حكمه لأكثر أولاده كسلًا، فكانت ولاية العرش من نصيب أكسلهم الذي قال: «إنه لو رأى حبل المشنقة ملتفًا حول رقبته، ولو أعطيت له سكينًا ليقطع بها عقدة الحبل، لتكاسل عن ذلك». كأننا أمام حالة تعريض بالملوك الغافلين المتكاسلين في عصر الراوي.
في كتاب هانز كريستيان أندرسن «حكايات خرافية»، قصص تنتقد الواقع الاجتماعي كما في قصة «بائعة الكبريت»، ونقد للسلطة السياسية، كما في قصة «الظل»[6].
ويبقى للحكايات الشعبية رغم كل ما ذكرنا سحرها الذي خلدها لعقود.