بقلم: ديك الجن
حديث مقتضب لكن مرعب في دلالاته.. لأنه يقول لك بكل بساطة.. أن قيمة العمل لا تتحدد بعدد المستفيدين منه، بل بمقدار قربك من الشخص الذي يوجّه العمل إليه.. فأن تواسي أمّك بكلمات بسيطة، خير لها من أن يواسيها آلاف الغرباء وخير لك من أن تواسي آلاف الغرباء.. ما تقوله سيمكث في قلبها.. وما يقوله الآخرون وتقوله للآخرين لا يلبث أن يزول.. والدرهم الذي تضعه في يد والدك، خير من آلاف تنفقها على غيره أو يأتِ بها غيرك.. وكذلك اللعبة التي تلعبها مع ابنك.. والساعة التي تقضيها مع زوجتك.. الخ..
هذا الحديث يعرّينا أمام أنفسنا.. يجعلنا نراجع كل ما نفعله.. . ويسائل دوافعنا الحقيقية لعمل الأشياء.. تريد الخير؟ إن أفضل أفعالك يا إنسان تحدث في غرف مغلقة.. لأناس محدودين.. حيث لا يراك أحد.. لا يشكرك أحد.. ولا يصفق لك أحد.. حيث لا ميداليات ولا تكريم ولا كاميرات ولا ابتسامات من غرباء..
لكن بعيدا عن فكرة التعرية هذه، فالحديث ليس ترفا فكريا ، بقدر ما يوجّهنا فعلا أن ما ينتج عن "خيركم خيركم لأهله" هو الأصل وهو الباقي وهو ما يمكث في الأرض.. وكل ما سواه رتوش... ويتضح ذلك عندما لا تنفذ الوصية التي يحملها هذا الحديث.. فكل رجال العالم مثلا، لا يمكنهم منح الثقة لفتاة، إذا لم يعطها إياها والدها.. كل منظمات المجتمع المدني لا يمكنها احتضان روح طفل غابت عنه أمّه.. وكل مسليّات الدنيا ومباهجها - بما في ذلك الرجال الآخرون- لا تعوّض زوجة عن هجران زوجها.. ولذلك أغلق النبي بنفسه الدائرة حين قال "كفى المرء إثما أن يضيع من يعول".. أضع من تعول، ولن يستطيع المجتمع كاملا لملمة ما أضعت! هذا سرّ الأمر كلّه..
للمرة المائة ربّما، أكرر أن هذا النبي الفيلسوف لم يُدرَس بعد.. لم نقرأه بعد.. أخذنا تمراته وسواكه ولحيته وكأن هذه الأشياء هي ميراثه الوحيد.. أما حكمته التي تصلح لإنقاذ إنسانية بأكملها، فلا تزال مدفونة في بُطُون الكتب..