أرشيف المدونة الإلكترونية

الأحد، 30 أكتوبر 2011

محضر الاجتماع (106) لنادي أبجد توستماسترز




عقد نادي أبجد توستماسترز اجتماعه رقم 106 مساء السبت 29/10/2011  بحضور مجموعة من الأعضاء والضيوف المميزين، وبحضور المقيّم العام للاجتماع توستماستر سامي الحرباوي، هذا إلى جانب تغيّب بعض أصحاب الأدوار الذين حرموا الحضور من إطلالتهم البهية.

وقد كانت قاعة الاجتماع جاهزة ومنسقة قبيل بدء الاجتماع بنحو نصف ساعة، فهل تعلمون من الذي كان يقف وراء ذلك؟!...... إنه نائب الرئيس للشؤون التعليمية توستماستر فهد المشهري.

ثم توالى وصول الأعضاء والضيوف لحضور الاجتماع الذي بدأ بعد الخامسة بقليل، ونرجو من الله ثم بـهمّة الأعضاء وأصحاب الأدوار أن يقلّ هذا القليل حتى يختفي؛ لكي نبدأ كل اجتماع على الخامسة تماماً كما هو مقرر في الجدول؛ فإن الانضباط على الوقت من سمات الناجحين.

ومثل كثيرٍ من الاجتماعات حصلت تغييرات على الجدول؛ نظراً لبعض الظروف التي تطرأ للأعضاء، لكنّ إدارة الاجتماع الموفقة بقيادة عريف الاجتماع ورئيس النادي كان لها الأثر في انسياب الاجتماع بسلاسة.

**************

وكما تعوّدتم في اجتماعات نادي أبجد توستماسترز على الإيجابية والتشجيع - كانت الكلمات الترحيبية الافتتاحية لرئيس النادي وعريف الاجتماع تحمل منها الكثير؛ فقد زفَّ إلينا رئيس النادي خالد النقيب خبر تدشين الموقع الجديد لنادي أبجد على صفحات الإنترنت – ويمكنكم متابعته على الرابط التالي:


ثم قدَّم تحية خاصة لعريف الاجتماع د. علي العمودي المتميز في مشاركاته وفيما يكاد يتفوق فيه على الآخرين: جلب أعضاء وضيوف جدد للنادي.

أما حين تولى د. علي العمودي قيادة الاجتماع حتى نهايته فقد استهلّ الاجتماع بطلبٍ جميل: (ابتسموا وابتهجوا ..دعونا نرى البسمة والفرحة على وجوهكم)– انسجاماً مع محور الاجتماع البهجة وفرحة العيد-، وإلا ......فهناك غرامة لمن يخالف.

 يالله!! ما أجمل القانون الذي يمنع عني هذه المخالفة .. ومرحى للقوانين على هذه الشاكلة!!!

******   

وعلى غير المعتاد بدأ الاجتماع 106 بفقرات خطب الساحة بدلاً من فقرة الخطب المعدَّة، وسط اندهاش بعض الحاضرين من الأعضاء وتساؤلاتهم، وقد كان ذلك تغييراً لطيف، ولكني أحدِّثكم بشيء: فقد اعتقدتُ في نفسي أن التغيير كان لأجل ضيق الوقت المتاح للاستراحة ولصلاة المغرب..إلا أن المفاجأة كانت أن هذا التغيير كان مقصوداً ..وستعرفون مقصده عندما تتذوقون طعم الشاي الأخضر!

*****************   

أما فقرة مواضيع الساحة التي قدَّمها عريف مواضيع الساحة مصطفى محمود، وهو من الوجوه الجديدة الواعدة في توستماسترز، فقد كانت فقرة جميلة اختار فيها مصطفى محمود عبارات جميلة جداً وعميقة في آنٍ معا، وحين تقرؤونها توقفوا عندها وتأملوا في معانيها؛ لتعرفوا أن كلّ اجتماع توستماسترز هو حقاً جزيرة كنز .. هو حقاً مستودع أسرار وكنوز.. تغنينا في كل مرة نحضر اجتماعاً منها.

وإليكم مواضيع الساحة والخطيب الذي قدّم  الخطبة الارتجالية في كل موضوع منها.

لقد وقع الاختيار الأول على عبد العزيز نواب، وهو مَنْ هو في نادينا: توستماستر مخضرم لو ألقيتَ به في أي أرض لَنزَلَ عليها واقفاً، أما العبارة الملقاة على مسامعه فكانت عبارة جميلة رشيقة: "كلُّنا كالقمر..له جانب مضيء.. وآخر مظلم". وقد أجاد عبد العزيز نواب وأحسَنَ أمام تلك الكلمات، حتى استحق الفوز في نهاية الاجتماع بلقب أفضل خطيب ساحة.

أما العبارة الثانية فكانت من نصيب أحمد الرميثي: "من يطارد عصفوريْن يفقدهما معا".

والعبارة الثالثة كانت من نصيب علي المنصوري: "الفشل في التخطيط تخطيط للفشل" . وبكلماته التشجيعية يقول لك علي: التخطيط مع ذلك شيء مهم حتى لو فشلنا! فلا بد إذن من التخطيط.

أما حميد الحمادي فكان نصيبه العبارة: "لا تستحِ من إعطاء القليل؛ فإن الحرمان أقلّ منه" عبارة مؤثِّــــرة كأخواتها السابقات...

كانت تلك عبارات مواضيع الساحة.... وهي عباراتٌ أحسَنَ عريفُ الفقرة في اختيارها.

************

أما في فقرة الخطب المعدة فقد قُدِّمت ثلاث خطب:

الخطبة الأولى قدَّمها د. علي عبد القادر وهي خطبته السادسة بهدف التعامل مع الكلمات،  وقد أجاد د.علي كعادته في جذب انتباه المستمعين بمقدمةٍ مثيرة حين طلب من جمهور الحاضرين أن يعيره كلٌّ منهم: أذنيْن وقلبيْن وعقليْن، فلماذا هذا الطلب الغريب؟

وستعرفون الجواب من خطبته الممتعة التي قدم فيها فكرة مبتكرة كما عوَّدَنا دائماً، وفكرته تخاطب مشروع "كلمة" للترجمة، الذي يعمل جاهداً على ترجمة الكتب من اللغات المختلفة إلى العربية.

 لكن د.علي  يخاطبهم بعرضه كي يلتفتوا إلى ترجمة أدلة توستماسترز لتكون إضافةً باللغة العربية  في مجال لا تطرقه "كلمة" كثيرا ألا وهو مجال التنمية الشخصية والتطوير الذاتي؛ لأن من الظلم ألا يطّلع المثقف العربي على مثل هذه الأدلة في حُلّة كتابٍ: بـهيّ الطلعة جميل الـمُـحَـيّا.

في حين قدم الخطبة الثانية عبد العزيز نواب وهي خطبته الرابعة عشرة، وباح لنا فيها بسرّ التغيير في بداية الاجتماع فلماذا بدأنا ذلك المساء بمواضيع الساحة لا بالخطب المعدة كما نحن معتادون؟؟؟!. الجواب في الشاي الأخضر.... والجواب عند عبد العزيز نواب .

وإليكم الجواب: إنه ا لـ تـ  ـغـ  ـيـ  ـيـ  ـر  نعم التغيير، ولكل تغيير هدف ولكن ليس لكل تغيير مؤيدون، فإذا اعتدتم شرب الشاي الأحمر :كرك وغيره ..أو اعتدتم شرب القهوة والمنبهات ..فغيِّروا عاداتكم إلى شرب الشاي الأخضر بفوائده التي لا تنتهي، وغيِّروا عاداتكم بالنوم بعد الغداء وخالفوا الأمثال المحفوظة في ذاكرتكم وتـَمشّوا وتريّضوا بعد الغداء، لا أن تناموا وترقدوا ...(فتتكرَّشوا )  و(تمرضوا).

والخطبة الثالثة كانت من علي المنصوري وهي خطبته الخامسة عشرة، وهي خطبة متقدمة في الإدارة والتحفيز، حدثنا فيها عن أن "اللي بياكل على ضرسه بينفع نفسه" وأنك إذا رغبتَ في الوصول إلى هدف معين فعليك أن تسعى جاهداً باتجاهه؛ لأن الهدف لن يسعى هو باتجاهك أبداً! .....وواصل علي المنصوري خطبته بالحديث عن أهداف التميز التي تسعى إليها أندية التوستماسترز.

*************

ثم قدم المقيّمون لكل خطيب منهم الثناء والتوجيه المناسب لما بذلوا من جهد في سبيل تطوير أنفسهم وسبيل إمتاع الحضور وإفادتهم.

وفي ختام الاجتماع كانت فقرة المفاضلة بين المتحدثين، وكان الفوز نصيب:

·       عبد العزيز نواب: أفضل خطيب ساحة

·       د. علي عبد القادر: أفضل خطيب للخطب المعدة

·       شيخ معاوية: أفضل مقيّم

ثم ختم سامي الحرباوي المقيم العام للاجتماع بتقييمه الذي أثنى فيه على سمة بارزة في نادي أبجد توستماسترز- نرجو لها الاستمرار- ألا وهي أن الاجتماع ممتع ومبدع، حتى لا نكاد نشعر بالوقت كيف مرّ، فخطب الأعضاء ممتعة وتفاعل الحضور من الضيوف والأعضاء معها لطيف وخفيف.

 

 

 

 

الأحد، 12 يونيو 2011

خطبة 10: حكايتي مع الأندلس

ا

الخطبة رقم (10)
الهدف: أَلْهِم جمهورَك

عنوان الخطبة: حكايتي مع الأندلس

"أن تمتلك حلما فهذا يعني أنك قد وجدت نفسك!".


ألقيت يوم السبت 11/6/2011
في الاجتماع رقم 100 لنادي أبجد توستماسترز في أبوظبي

منذ نحو سنتين وقفت موقفي هذا وقدمتُ خطبتي الأولى في توستماسترز، خطبة "كسر الجمود"، حدَّثتكم فيها عن طفولتي وجزءاً من حياتي، واليوم أقف عند إكمال الخطبة العاشرة من مسار المتواصل المتمكن، فخَطَر في بالي أن أصل الخطبةَ الأولى بالعاشرة، على ما بينهما من فارقٍ زمني يزيد عن سنة ..لأستكمل الحديث عن بعض نفسي.
اخترتُ لكم موضوعاً شخصياً لصيقاً بي، وهذا الشيء اللصيق بي أصبح جزءاً من شخصيتي وهاجساً من هواجسي... إنـها حكايتي مع الأندلس.
الأندلس.. وما أدراك ما الأندلس عند رشأ؟؟
متى سمعتُ بهذه الكلمة للمرة الأولى؟ لا أذكر !!.. نعم ببساطة لا أذكر !
ربما مرَّت هذه الكلمة مروراً عابراً أيام المدرسة ولكني لم أتوقف عندها، ولا أذكر منها شيئاً أبداً!!....أما متى ابتدأتْ الأندلس تتغلغل في كياني وتستقر وتأخذ حيزاً في حياتي فهذا ما أعرفه جيداً. فقد بدأتُ أعشق شيئاً اسمه الأندلس عندما أخذتُ مادة الأدب الأندلسي في السنة الدراسية الجامعية الثانية - يعني منذ نحو عقديْن من الزمان- ، ولا أنكر أنَّ الأستاذ اللطيف الوسيم الرقيق، د. صلاح جرار ،كان له أثرٌ في أنْ جعلَ الأندلس تلتصق بي منذ ذلك الحين، ولا أنكر فضلَ أستاذي عليّ في أنه عرَّفني هذا الشيء الرائع، وفتح قلبي على تلك النقطة المضيئة في تاريخنا وحضارتنا.
ما أذكره من تلك المادة - وهو كذلك مرتبط بفضل أستاذي عليَّ- هو طريقته في التدريس؛ إذ كان يعتمد على أن يقدم للطلبة خطة المادة ومفرداتها في بداية الفصل الدراسي، ويطلب فيها مجموعةً من القراءات المخصصة لكل موضوع منها، ويترك للطلبة الحرية في أن يطّلعوا على المادة ويتزوَّدوا بما يناسبهم ليكونوا أهلاً للنقاش وللحوار الذي يدور حول قضايا الأدب الأندلسي ..المتعددة. وكانت المحاضرةُ - عادةً- تقليدية: تقوم على الإلقاء وقليل من الحوار، إلا أن أسلوبَ الأستاذِ الآسِـرَ كان يملأ عليَّ قلبـي وعقلي.
وإذا ما تجاوزتُ الأستاذَ وأثره في أن أعرف ما الأندلس، فإنّ الأدب الأندلسي إلى جانب ذلك هو من أجمل محطات الأدب العربي، وهو على الرغم من كل ما يمكن أن يقال- فضيلةٌ ومزيةٌ من مزايا الأدب العربي لا ينكرها إلا جاحد!
...وهكذا كانت بدايتي مع الأندلس ..وبداية معرفتي بالأدب الأندلسي وأشهر موضوعاته: شعر الطبيعة والموشحات الأندلسية.
ومما أذكره في مرحلة البدايات هذه أنَّ ما جعل موضوعَ الأندلس جميلاً وقريباً إلى نفسي ما كنتُ أكتبه في أوراق الإجابات للامتحان؛ فقد كتبتُ إجابة رائعة - بنظري- عن شعر الطبيعة في الامتحان، وزادني ثقةً بما كتبتُ، ما سجَّله أستاذي تعليقاً على ورقتي؛ إذ كتب كلمة (أحسنتِ) التي أذكرها إلى اليوم مرسومةً إلى جانب الدرجة التي نال غيري مثلَها، لكنْ.. ما حظي أحدٌ منهم بـ الـ(أحسنتِ) التي حظيتُ بها أنا !
والأجمل من هذا الامتحان كان ما علَّمني إياه أستاذُنا الفاضل دون فرض ودن إكراه؛ فهو يترك لنا حرية القراءات والتوسع والاطلاع على المواضيع المتعلقة بالأدب الأندلسي..وفي الامتحان كذلك يترك لنا حرية التعبير واعتناق الآراء واختيار الشواهد الملائمة....المهم أنْ تدافعَ عن رأيك وتنتصر له بالحجة المناسبة. والآداب والعلوم الإنسانية –كما تعلمون- تخضع عامةً وفي بعض جوانبها للآراء أكثر من خضوعها للقوانين الصارمة التي لا تتغير.
..وهكذا ارتبطت الأندلس في نفسي بمنهج تعليميٍّ راقٍ، كنتُ أتمنى أن يسير عليه أستاتذتُنا جميعا؛ فقد تعلَّمْنا ما معنى الاطلاع واتساع الأفق، لكي يكون الطالبُ قادراً على النقد والتمييز بين الغثِّ والسمين فيما يصادفه من قضايا تتعلق بالمادة التي يدرسها؛ كان أستاذُنا يطبق المنهج الذي يسعى إلى حل المشكلات والتفكير الإبداعي...وغيرها من مصطلحات تطوير التعليم الحديث التي يصدع بها التربويِّون رؤوسَنا، وهم للأسف لا يدركون منها إلا القشور.
لذلك لا أنسى أنني على الرغم من اجتهادي والتزامي في المادة، إلا أنني قصّرتُ نوعاً ما في الامتحان النهائي؛ حين فاجأني سؤالٌ لم أتوقعه، وهو يدل على ذكاء المدرِّس، والإجابة عنه تدل على ذكاء الدارس؛ فالأندلس يضم تاريخها السياسي والثقافي عصوراً متعددة متتابعة، وطلب أستاذنا أن نذكر تلك العصور ونمثِّل على كل عصر منها لأعلام الأدب شعراً ونثراً، ونـمثل كذلك لأعمالهم المعروفة، وهذا المطلوب معقول ...أما المفاجئ لي وما لم أتوقعه فهو أن نذكر لكل عصر من تلك العصور مجموعة من المصادر التي تتحدث عن ذلك العصر، ويمكن أن نرجع إليها للاستزادة عنه، ولكن دون أن نكرر اسم المصدر لأكثر من عصر.
وهذا سؤال ذكي يتصل بمنهجية البحث؛ وهي كيف يصل الباحث إلى المعلومة الدقيقة من المصادر الأصيلة وثيقة الصلة بالموضوع، وهذه المنهجية هي إلى اليوم، ولدى الباحثين في مختلف التخصصات، هي علامة من علامات سلامة منهج البحث العلمي ووضوحه والاطمئنان إلى نتائجه لدى الباحثين.
... من هنا ابتدأت الحكاية، ووجدتُ في الأندلس سحراً لا يقاوَم، سحراً خاصاً جاذباً، فحلَّت في قلبي واستعصت على الخروج، فبدأتُ أدعم دراستي هذه بتخصصي الفرعي في مادة التاريخ، وكنتُ أبذل ما في وسعي، حتى طلب مني أستاذ التاريخ الأندلسي - د. محمد حتاملة- أن أترك دراسة اللغة العربية وأتوجه إلى قسم التاريخ..لكن الأوان كان قد فات !
ثم تابعتُ اهتمامي بالأندلس التي صرتُ أرى فيها تجربة تاريخية وإنسانية فريدة، ومثالاً على التسامح والرقي الحضاري والألق الثقافي الذي لم أجد له مثيلاً في حضارات أخرى.
وهكذا وفي أثناء دراستي الماجستير قررتُ أن أتعلم اللغة الإسبانية، وما زالت لدي حلماً أسعى إلى تحقيقه كاملاً يوماً ما. وفعلاً كان لديّ الوقت لأحضر دروس اللغة الإسبانية التي تُقَدَّم لطلبة البكالوريوس في الجامعة، وكنت أحضرُ تلك الدروس دون تسجيل رسميّ في المادة، ولكني تفوقتُ فيها بحمد الله، وقد فرحتُ جداً بتعلُّمي اللغةَ الإسبانية وأفدتُ منها كثيراً، وكانت سعادتي لا توصف .
نعم... صرتُ أفكُّ الحرفَ الإسباني! وما زلتُ أضع هدف إتقان اللغة الإسبانية إلى الآن حلماً ينبغي الوصول إليه يوماً ما! حتى أشعر بالرضا عن نفسي حين أقول إن تخصصي هو الأندلس.
وقد صار اسم الأندلس في تلك المرحلة من حياتي جزءاً مني، حتى إنني علَّمتُ ابنتي الأولى أن تنطق بـ ( أ ن د ل س)، تماماً كما تنطق بابا أو ماما ..وقد فعلَتْ وأحسنَتْ!
كما أنني في تلك المرحلة من حياتي (1997) أنـهيت دراسة الماجستير برسالة كانت بعنوان "تجربة السجن في الشعر الأندلسي" وكأنه لا فكاك من هذا السجن اللذيذ ! مما زادني اقتراباً من الأندلس ..اقتراباً سيجعل من الأندلس حلماً من أحلامي على الدوام.
... وغابت الأندلس .. وإسبانيا ماثلةٌ أمام عينيّ ..كنتُ أحلم وما زلت بأن يكون لديّ –مثلاً- طرازٌ أندلسي في بيتي، ربما لم أحقق ذلك بعدُ على أرض الواقع لأسباب مختلفة، لكن الرحلة إلى هناك ظلت في بالي. 
وكان مما أثلج صدري في تلك السنوات وأرضى غروري " الأندلسي" – مجموعةُ مسلسلاتٍ تاريخية عربية لأستاذنا د. وليد سيف كاتباً، والمخرج السوري حاتم علي وطاقم الممثلين معه، فكانت الثلاثية الأندلسية: صقر قريش، 
وربيع قرطبة

وملوك الطوائف

كانت من أروع ما شاهدتُ .. وما يمكن أن تشاهدوا ! فكتبُ التاريخ ...وصفحات التاريخ... وأحداث التاريخ التي ماتت ومات أبطالُها .. تُبعث حية تسعى أمامكم، تدبُّ في أوصالها روحٌ جديدة لتنشرها وتصل إليكم.
هذه المسلسلات كانت من الأشياء المهمة التي زادت صلتي بالأندلس وأحيتْها من بعد رقاد، وزادتني حلماً أنني ينبغي أن أطأ تلك الأرض.. وألمس ذلك الماضي في ثياب الحاضر..
ثم كانت الرحلة إلى المغرب جارة الأندلس (عام 2008) إبان دراستي في مرحلة الدكتوراه، التي غيَّرت حياتي، وعلى الرغم من قِصَرها إلا أنـها كانت عميقة التأثير، وزادت صلتي بالتراث الأندلسي عن طريق الاستماع إلى الموشحات الأندلسية التي تمثل منجزاً إبداعياً من منجزات الأندلس حيّاً إلى اليوم، بفضل المحافظين على هذا الطرب الأصيل.
وهذا ما جعل الأندلس حاضرةً في حياتي في كل وقت وفي كل آن ..وشكراً للإنترنت التي أتاحت الحصول على تسجيلات الطرب الأندلسي الفريد، والطرب الغرناطي الرائع، التي أستمع إليها يومياً منذ عودتي من المغرب، وهي كلَّ يوم تزيد صلتي بالأندلس وتدفعني إلى تحقيق الحلم بزيارتها ورؤيتها عيانا.
وهو ما تحقق في الصيف الماضي فكانت حقاً رحلة العمر، زيارة إسبانيا اليوم أندلس الماضي، وقد جعلتْني تلك الرحلة -إلى اليوم- أقف مبهورة مندهشة أمام هذا التراث الحاضر الباقي على الجدران وفي الأزقة والشوارع، وفي الجبال والوديان..وفي القصور والبيوت والأسواق. إنـها الأندلس، إنه عبق الوجود العربي الإسلامي لا ينفكّ عن تلك البلاد ولا يزول، رغم مرور مئات السنين من محاولات الطمس المتعمد والانقطاع عن الماضي الإسلامي ..لكنك مع كل هذا تجد أن رائحة التاريخ في إسبانيا قوية شديدة..تفوح في كل مكان .. لا يقدر على التغلب عليها أقوى أنواع العطور والروائح.
كانت الرحلة التي أعرض أمامكم بعضاً مما سجَّـلَـتْهُ ذاكرتي وانطبع في آلة تصويري.
وإذا ما كان الشاعر قد قال يوما: 
نظرةٌ فابتسامةٌ فسلام فكلامٌ فموعدٌ فـلقاء
ففراقٌ يكونُ فيه دواءٌ أو فراقٌ يكون منه الداءُ

فهل كان بعد اللقاء فراقٌ فيه الدواء؟ ..أم أن ذلك الفراق قد أورث داءً ليس منه شفاء؟ فزيارتي للأندلس جعلتني أود بشدة أن أعاود زيارتها..وحتى شريك العمر وشريكي في رحلة إسبانيا- على الرغم من موقفه تجاه التجربة الأندلسية وتحفظاته عليها- إلا أنه يذكرها باستمرار ويعاوده الحنين إلى شوارع غرناطة وأزقتها والناس سائرة فيها غادية رائحة. فكيف الحال بي أنا ..والأندلس في قلبي وعقلي كل هذه السنين؟

....... وهكذا مضت حكايتي مع الأندلس وتمضي إلى اليوم ، حلماً لذيذاً وتوقاً لا ينتهي، وأنا سعيدة بـها وبحياتي معها..
ففكِّر في نفسك وانظر في داخلك: فما أجمل أن تمتلك حلماً لأن هذا يعني أنك قد وجدتَ نفسك...وأنْ تجد نفسك يعني أنك ستذوق طعم الحياة وستقطف ثمرتها الطيبة، لا أن تمر بك الأيام والسنون تكافح وتنافح ... ثم ترتاح في النهاية للأبد ..وأنت لا تستطعم في فمك إلا بقايا...اللاطعم، الذي تجرَّعتَه دون أن تدري؛ لأنك أمضيتَ عمرك دون أن تمتلكَ حلماً !

السبت، 14 مايو 2011

مسابقة أبوظبي السنوية للتوستماسترز باللغة العربية



عُقدت ما بين الساعة الرابعة والنصف حتى الثامنة من مساء السبت 14/5/2011 المسابقة السنوية للتوستماسترز باللغة العربية في جامعة زايد في مدينة أبوظبي، وذلك لاختيار ممثل دولة الإمارات في المسابقة السنوية الدولية للتوستماسترز التي ستعقد في الأردن نـهاية الشهر الحالي أيار/ مايو 2011 ، للقطاع 79 الذي يضم دول الخليج والأردن.
وقد لفت انتباهي حين وصلتُ القاعة مجموعة من الفتيات والصبايا الإماراتيات الواعدات حاضرات للمسابقة، وهنَّ عادة قليلات في حضور اجتماعات التوستماسترز على مستوى الأعضاء أو الضيوف، إذ أجدني في عددٍ من الاجتماعات المرأة الوحيدة بين مجموعة من جمهور الرجال، الذي يواظب على حضور اجتماعات التوستماسترز بانتظام في نادي "الغرفة أبوظبي" الذي أصبح اسمه نادي " أبجد ".
....إذن فقد كان استقبالي الفتيات لحظةَ الوصول- مؤشراً إيجابياً وقع في قلبي موقعاً حسناً، وأعطاني ثقة في أن يكون في المسابقة شيء مميز حقاً!
ثم توالى وصولُ الأعضاء والضيوف، وأسعدني في ذلك الجَمْعِ الطيب أنْ التقينا عدداً من الوجوه الجديدة، القادمة إلينا من أندية أخرى في دولة الإمارات العربية المتحدة غير نادي أبجد للتوستماسترز في أبوظبي: فقد حضر مجموعة من أعضاء نادٍ جديد باللغة العربية في مدينة العين.ولاً حين وصلتُ إلأحين
وقد افتقدْنا في الاجتماع عدداً من الأعضاء المتميزين المواظبين في توستماسترز مثل: علي المنصوري وكامل الفضل ويوسف الهاشمي - الذي كان اسمه مُدرَجاً في قائمة المتسابقين- وعبد العزيز نواب ومحمد المعمري وعلي الشحّي وحمد الشحيمي... وعدد آخر من الأعضاء أعتذرُ إنْ فاتتْني أسماؤهم ..ونقبل اعتذارهم لعدم الحضور.
افتتح د. ناصف الظفاري رئيس الحفل المسابقة العربية بكلمة موجزة، رحَّب فيها بالحضور والقائمين على إنجاز المسابقة العربية في التوستماسترز؛ ليكون للغة العربية حضورها إلى جانب الإنجليزية في النادي.
ثم سلَّم قيادة الحفل إلى عريف الحفل مروان شايع، الذي رحب برئيس نادي أبجد للتوستماسترز في أبوظبي د.علي عبد القادر، وكعادته دائماً يفتتح د. علي عبد القادر الاجتماعات بنظرة إيجابية ودفعة قوية للحضور والأعضاء، كان منها الترحيب بأصغر أعضاء توستماسترز (سلطان الزعابي) الطالب في الصف الثالث الابتدائي، الذي قدم لنا الحلوى بمناسبة فوزه في جائزة تربوية عن كتابة القصة لطلاب الابتدائية.
ثم ابتدأت فقراتُ المسابقة العربية، التي كانت تضم في حقيقتها ثلاث مسابقات: مسابقة الخُـطَب المُعَـدَّة العالمية، ومسابقة الخطب الفكاهية، ومسابقة الخطب الارتجالية ( مواضيع الساحة ).
وقد تنافس مجموعةٌ من الأعضاء في كلِّ فئةٍ منها.. وكان اللافتُ فيها وجودَ المتسابِقة الشابة الواعِدة شيخة البلوشي، التي كانت واحدةً بين المتسابقين الشبّان الذكور في الخطَب المُعَدَّة والارتجالية، وهذه ملحوظة تنبغي الإشارة إليها، ليس من باب العصبية الجنسية، وإنما من باب تشجيع المتميزات. وقد أبلتْ شيخة بلاءً حسناً تُشكَر عليه وتُحمَد، وإنْ لم يحالفها الحظ في نـهاية المسابقة؛ إذ يسعى كثيرون عادةً نحو القمة، لكنها للأسف لا تتسع إلا لواحدٍ فقط؛ فكلما ارتفعْنا ضاق المكان!
أما لجنة التحكيم في المسابقة فقد تألفت من مجموعةٍ من المتألّقين في التوستماسترز العربية ومنهم: د. ناصف الظفاري، ونوح الحمادي، وحميد الحمادي، وناظم الظفاري، وكاتبة هذي السطور.
ابتدأتْ المسابقةُ العربية بالفقرة الأولى وهي الخُطَب المعَدَّة، وقد تنافس فيها خمسةُ متسابقين هم: شيخة البلوشي، منصور الفلاسي، د. علي العمودي، عبادة السوادي، سعيد العامري.
وقد أسعَدَنا المتسابقون الخمسة بمواضيعهم الشائقة وأدائهم المتميز، وكانت المنافسة قويةً نوعاً ما بينهم، مما يعكس المستوى المتألق الذي قدموه جميعا، والذي تبدّى فيه الجهد والحرص على الأداء المتميز.
تراوحت مدة الخطبة الواحدة بين 5-7دقائق وكانت مواضيعها كالآتي:
شيخة البلوشي: الانطباع الأول
منصور الفلاسي : الملك والعبد وعجوز ميونيخ
د. علي العمودي: المسار الأخضر هدفنا للمستقبل
عبادة السوادي: ماسح الأحذية
سعيد العامري: إشارات مرورية
ولكم أن تتخيلوا كمَّ المتعة والفائدة التي حظينا بها باستماعنا لتلك الخطب، ألا تجدون حقاً أن عناوينها مثيرة وجذابة؟! فما بالكم لو استمعتم إلى الخطباء يحدثونكم بها؟ ومن علامات نجاح الخطبة: العنوان المثير للانتباه أي العنوان الجذاب! وفي العناوين كما أرى من الجاذبية الشيء الكثير.
فإذا تركنا الخطب المُعَدَّة التي سعدنا بها، وفاتكم الكثير إذ لم تستمعوا إليها! انتقلنا إلى الخطب الفكاهية، باثنيْن من المتسابقين هما: 
المتسابق الأول: عبادة السوادي، وكانت خطبته بعنوان: شجارنا ..ملح حياتنا (ويقصد شجاره مع شريكة عمره)!
المتسابق الثاني: محمد المطوّع، وكانت خطبته بعنوان: مديري! ( نعم مديره، صاحب جماعة "نعم ..أو لا".. وعلى عاتقكم تقع مسؤولية أن تعرفوا ما قصة هذا المدير الغريب!!!) 
وقد كانت فقرة الخطب الفكاهية حقاً فاكهة المجلس وفاكهة الاحتفال؛ وأضفتْ على المسابقة جواً من البهجة والضحك، في إطار مسابقة جادة كمثل مسابقة توستماسترز !
ثم حان وقت المسابقة الثالثة وهي الخُـطَب الارتجالية أو ما نسميه في اجتماعاتنا: خطب مواضيع الساحة، وهي عادةً من أجمل فقرات الاجتماع الاعتيادي لنادي التوستماسترز، إذ يُطلب من عددٍ الحضور ومن غير ترتيب مسبق أن يتحدثوا في موضوعٍ ما يُطرَح عليهم، وأن يكون حديثهم في ذلك الموضوع متماسكاً كخطبة أعدَّها الشخص جيداً على نحو سابق، وهنا تظهر براعة الخطيب وسرعة بديهته وقدرته على الارتجال والتأقلم مع الموقف الذي وُضِع فيه، وهو موقف لا يحسد عليه في بعض الأحيان، والشاطر من يخلِّص نفسه بأقل الخسائر!
كان المتنافسون في مسابقة الخطب الارتجالية خمسة، هم:
منصور الفلاسي، وعبادة السوادي، ود. علي العمودي، وشيخة البلوشي، وسعيد العامري.
وقد أبلى خمسـتُهم في هذه الفقرة بلاء حسناً؛ ينمُّ على سرعة بديهتم وحضورها، في حين كان السؤال المطروح يتطلب من المتسابق أنْ يصوغَ عليه خطبةً قصيرةً يقدمها في غضون دقيقتيْن: وكان السؤال عبارةً قصيرة، وعلى المتسابق أن يتحدث في ضوئها، وكانت العبارة المنتقاة بالقرعة عبارةً جميلةً تقول:
" من يريد أن يقود الأوركسترا، عليه أن يدير ظهره للجميع" !
وكالعادة في اجتماعات التوستماسترز يفاجئك الأعضاء وعرفاء مواضيع الساحة بعبارات رائعة وعميقة تدفعك إلى التأمل، وتجعلك تعترف – أو على الأقل هكذا أشعر أنا شخصياً- أن في اجتماعات التوستماسترز تتعلم في كل مرة شيئاً جديداً يدهشك ويجعلك تعيد التفكير في حياتك، وهذه من الفوائد الكبرى التي جنيتُها من انضمامي للتوستماسترز، ومواظبتي على حضور الاجتماعات لأكثر من سنتيْن خلتا، ولله الحمد!
انتهت فقرات المسابقة ووصل الجميع إلى خط النهاية، ثم حان وقت الاستراحة... وبعد الاستراحة التي امتدت لنصف ساعة لأداء صلاة المغرب وتناول العشاء والمشروبات، عدنا أدراجنا لنعرف من الفائز ومن الذي سيمثل الإمارات في المسابقة الدولية لعام 2011 التي ستعقد نهاية الشهر في الأردن؟
كانت النتيجة فوز المتسابق عبادة السوادي بالمركز الأول في المسابقات الثلاث. فالتهنئة الخالصة للجميع على جهودهم المتميزة، ونبارك لنا جميعاً بانتظام المسابقة العربية ونجاحها الباهر. 
أما ترتيب المتسابقين الفائزين فجاء على النحو الآتي:
أولاً: مسابقة الخطب المعَدَّة 
الفائز بالمركز الأول: عبادة السوادي
الفائز بالمركز الثاني: شيخة البلوشي
الفائز بالمركز الثالث: منصور الفلاسي


ثانياً: مسابقة الخطب الارتجالية
الفائز بالمركز الأول : عبادة السوادي
الفائز بالمركز الثاني: سعيد العامري
الفائز بالمركز الثالث: منصور الفلاسي



الخميس، 14 أبريل 2011

الخيانةُ ... الدُّنيا


أحقاً ما يُقال إنها خيانة عظمى؟ هل يمكننا أن نُفاضلَ بين خيانةٍ عظمى وأخرى دنيا؟ أم  أن الخيانة هي خيانة خيانة فقط؟
...رغم أنَّ الحياةَ مليئةٌ بالألوان، وكل لون فيها يتفاوت بين القوة والضعف.. والشدة والخفوت إلا أن ذلك قد لا يصدق تماماً على عالم علاقات البشر، أيمكنكَ أن تكون صديقاً قليلاً أو صديقاً كثيرا؟ أينفعُ أن تكون زوجاً قليلا أو زوجاً كثيرا؟ أيمكنكِ أن تكوني رفيقة قليلة أو رفيقة كثيرة؟ أيمكن أن تكون ابناً باراً قليلاً أو ابناً باراً كثيراً؟
لا أظن التفاضل والتفاوت أمر تسمح به طبيعة العلاقات البشرية الخاصة المعقدة، إذ "لا توجد منطقة وسطى ما بين الجنة والنار" في هذه العلاقات، و"المنـزلة بين المنـزلتين" هي محضُ فكرةٍ تقبعُ في عقول الفلاسفة والمتكلمين، ولا تخضع لمنطق الحساب والتقييم.
فكيف يمكن أن نصفَ علاقةً بين اثنين ..كالحب أوالصداقة أوالأخوة أو ما شابه، هل يمكن أن نقبل في علاقةٍ من مثل هذا النوع ببعض الحب.. أو بقليلٍ من الوفاء.. أو بكثيرٍ من الإخلاص؟ هل يمكن للكأس أن تكونَ نصف مملوءة حيناً أو نصفَ فارغة حيناً آخر؟ وكيف يمكن أن تسيرَ علاقةٌ بين اثنين أو ثلاثة أو أكثر.. بكأس من هذا القبيل؟
هل يقبل أحدُ أطراف العلاقةِ ببعض الحب ليترك ما بقي من الكأس لبعض الكراهية؟ وهل يؤدي بعضَ الوفاء ليملأ الباقي بالخداع؟ وهل يقدِّمُ بعضَ الإخلاص.. ليملأ ما تبقى ببعض الاحتيال؟ أيمكن أن يحدث هذا؟ نعم يمكن ...بل هو كائن!
..لكن كيف هو مذاقُ علاقةٍ من هذا القبيل؟ أليس التسليم لأطراف العلاقة هو جزء من جمال العلاقة ودوامها بينهم؟ وإذا كنا نخصّ في الحديث- الحبَّ والصداقة وحتى الأبوة والبنوة.. وغيرها من بين العلاقات الإنسانية..فكيف يكونُ شكلُ تلك العلاقةِ بين طرفين: نمنحُ فيه الطرفَ الآخرَ بعضَ الحب لبعض الحين.. ولا بأس من الكذب والخداع والخيانة والاحتيال....فيما بقي من الأحيان.
الكذب...الخيانة... وما اشتق منهما من معانٍ تشوه العلاقات بين الناس، حتى لتعجَز اللغةُ عن المفاضلة، ولا تقدر أن تقول عنها إلا: إنه كذب.. إنها خيانة.. إنه خداع، لا أكثر ولا أقل.. لا يتجزَّأ ولا يقبل القسمة، فالكذب كذب والخداع خداع..كطعم الموت:
"فطعمُ الموت في أمرٍ عظيم  كطعم الموت في أمرٍ حقير!"
ولكن هل يشفى الحبُّ وهل تشفى الصداقةُ وهل تشفى علاقاتُ الناس.. حين يعتريها داءُ الكذب وداءُ الخيانة وداء الاحتيال بأي صورة؟ هل يمكن للقلب البشري أن يقترب من الله وأنْ يغفرَ الخطايا؟ .. سؤال مفتوح للإجابة عنه!!
لعل مما يساعد على اختيار إجابة، أن نعرف أن الحبيبَ لا يكذب حين يكذب وهو يحب، وأنَّ الصديقَ لا يخون حين يخون وهو يصادق، وأن الإنسانَ لا يدنِّس علاقاته بغيره حين يقوم بالتدنيس.. وهو إنسان.. فحين يفعل ذلك مرةً فإنه يكون في حال خاصة، يخرج فيها من رباط الحب والصداقة والرحمة والمودة.. بينه وبين غيره، ليدخل في شيءٍ آخر ودائرةٍ أخرى لا صلةَ لها بما جمع بينه وبين أولئك الذين يخونهم ويكذب عليهم..تماماً كالجريمة حين تقترفها يدُ المجرم: يقوم بها حين يقوم وهو خارجٌ عن وعيه الإنساني داخلٌ في وعـي ٍ آخر لا صلة له ببشريَّـته ولا بإنسانيّـته بنواميسها وضوابطها، وبما تملأ كيانَه من معانٍ، تجعل من ذلك الجسد وتجعل من تلك الجثة ذلك الشيء الذي نسميه إنساناً. وهي تماماً حين يكذب ويخون ويخدع..فهو يخرج من تلك الأشياء التي تحيط ببدن ذلك الشيء وذلك الكائن الذي.. نسمّيه الصديق والحبيب والأخ والأب والأم ..والأبناء!


الجمعة، 18 مارس 2011

الفرنجي....... برنجي


ذهبت اليوم عصرًا في زيارةٍ أولى لمعرض أبوظبي الدولي الكتاب، كان الوقت قريبا من أذان المغرب، وكنت أتوقع أن لا أجد موطئ قدم فيه؛ لأن اليوم هو اليوم الأول من عمر المعرض الذي يمتد لخمسة أيام فقط، لكنَّ المفاجأة كانت أنْ خلا المكانُ تقريباً من الزائرين.
المهم ..بدأتُ جولتي مستطلعةً عناوين الكتب المعروضة، أبحث عن شيء له صلة باهتماماتي: الأندلس، صقلية، الاستشراق، المخطوطات، اللغة العربية...وغيرها من مواضيع تستهويني....أو ربما أحتاج إليها في عملي.
ثم ..على بعد خطواتٍ من مجلس منبر الحوار تناهى إلى سمعي صوتٌ أحسب أنني أعرفه، فإذا بها د. عفاف بطاينة (روائية أردنية) تحاور مريم الساعدي (كاتبة إماراتية)، فوجدتها فرصة للراحة؛ فقدماي تؤلماني بسبب العمل الكثير منذ يوم الأحد وبسبب الوقوف المتواصل في المدرسة... جلست واتخذتُ مكاناً متطرفاً قصياً عن الحضور القليل العدد للجلسة.
..وعندما أتيحت للجمهور فرصة محاورة ضيفة اللقاء تكلمت إحداهن بالإنجليزية تسألها ...ووجدتني كغيري ألتفت إلى السائلة التي تسأل... لفتَ انتباهي أنها تعلِّق على مضمون اللقاء وتناقش الكاتبة في كتاباتها و..و...و...، تفعل ذلك كله وهي تمسك بيدها زجاجة حليب ترضع طفلتها التي ترقد في عربة أطفال أمامها.. تفعل ذلك دون وجل، ودون أدنى إحساس بأن فعلها فيه شيء ما يثير الـ...؟؟؟
فعاد إلى خاطري وأنا أتابع هذا المشهد  مثل هذا المجلس منذ نحو سنة أو سنتين، حين كنت حضرتُ إلى معرض أبوظبي للكتاب كي أستمع إلى المستشرق الإسباني (بيدرو مونتابيث) يحاوره الدكتور صلاح فضل، وكنا في المعرض نحن جميع أفراد الأسرة: أحمد لديه عمله مع المركز في لجنة المكتبة، والأولاد انطلقوا للبحث عن الكتب التي يريدونها.. وكان عمار ما زال صغيرا.. وللاحتياط اتخذتُ كذلك في تلك المحاضرة مجلساً في طرف الجمهور؛ تحسباً من مجيء أولادي في أثناء المحاضرة – وهي في مكان مفتوح في قاعة المعرض- حتى أتمكن من الانسحاب بسهولة إن اضطررت إلى ذلك.
وفعلاً..حصل ما توقعت ففي أثناء المحاضرة عاد أولادي وعمار معهم .. وكعادة الأطفال أخذ عمار يلح عليّ في طلب أشياء .. وربما بكى أو توسَّلَ بصوت مرتفع ..لكن طبيعة الجلسة المفتوحة وسط المعرض توحي بأنها جلسة غير معتادة -كتلك التي تكون حين نحضر المحاضرات العامة في أماكن خاصة- وتوحي بأن الحضور والانضمام إلى الجلسة هو شيء مرن..تأتي وتجلس.. وإنْ شئتَ تذهب ..دون قيود ..
وصادف في أثناء ذلك مرور أحد كبار موظفي هيئة أبوظبي للثقافة والتراث - وهي الجهة المسؤولة عن المعرض- بالقرب من المكان، ولاحظ وجود ابني يجلس في حضني في أثناء استماعي للمحاضرة...فسمعتُ من ذلك المسؤول كلاماً تبادله مع موظف آخر يمشي معه ..كلاما موجهاً لغيري..لكني وأمثالي مقصودون به.. كلامه كان عن منع تواجد الأطفال قرب مثل هذه الفعاليات الثقافية في مثل هذا المجلس، على الرغم من أن المعرض مكان مفتوح ومتاح للجميع.
...واليوم وأنا أتابع هذه السيدة الأوروبية تحضر جلسة ثقافية وتحاور فيها دون أن يمنعها ذلك من أن تعتني بطفلتها في الوقت نفسه...أتساءل أوَ لَـمْ يروا تلك السيدة الأجنبية؟  -وهي كاتبة ومعلمة- تحضر لقاءً ثقافياً برفقة طفلتها، ولا تتحرج من إرضاعها في أثناء النقاش، ولم ينتقد أحدٌ تصرفها، ولم يعدّوه غير لائق..
لا بل على العكس أنا أفهم أن هذا هو التصرف الطبيعي: أن يرى الأطفال بأعينهم آباءهم يشاركون في المنتديات الثقافية ...لا أن يسمعوا عن الكتب والقراءة سماعاً, فإذا كنا نريدهم حقا أن يكونوا مثقفين .. وإذا كنا حقاً نطلب منهم أن يقرؤوا لينفعوا أنفسهم وبلادهم في المستقبل، فلندعهم يعيشوا التجربة حقيقةً منذ تفتحهم على الدنيا، فما بالنا نقبل لهم أن يذهبوا إلى أمكنة عديدة من المراكز التجارية ودور السينما والحفلات الصاخبة ووو.....ثم نبخل عليهم بجلسة هادئة في ندوة أو مكتبة؟!.
لو كنتُ أنا العربيةُ مكانَ تلك الأجنبية هل كان ردُّ فعل المؤسسة المُـشْرِفة على المعرض سيكون واحداً؟؟؟!!!...


ربما من الظلم بمكان إثارة السؤال.. لكن التساؤل في نفسي ينفك لا يزول و لا يتوقف؛ وأنا أرى "الفرنجي برنجي" في كل شيء في هذه البلاد، التي كان أهلُها حتى عهد قريب -وربما ما زال بعضهم إلى اليوم كذلك - يتوجسون من الغرباء  قلقاً؛ لدرجةٍ قد تدفع إلى قتل الغريب، كما كان قد جرى مع عدد من المستشرقين الذين جابوا بلادنا فيما مضى..فلما ارتاب بهم العرب..كان القتل إيذاناً بطي صفحتهم من كتاب الحياة.

الأربعاء، 9 فبراير 2011

ثورة ...فيس بوك


ثورة فيس بوك


ثورة الفيس بوك...جيل تويتر...
جيل إلكتروني...شباب ياي باي.


مصطلحات عديدة تخلط البشر بالتكنولوجيا على هامش ثورة الشباب في مصر، فكثير من المقالات والتحليلات جمعت الإثنين على صعيد واحد، والدهشة علت الوجوه: كيف يمكن لشبابٍ أدمنوا الإنترنت وأجهزة الكمبيوتر والموبايلات بأنواعها .. أن يتحركوا لثورةٍ ضد النظام، كيف لمثل هؤلاء الشباب يقودون ثورة.. ويصرخون.. ويهتفون ..حناجرهم تكاد تطير من مكانها، وقلوبهم تكاد تقفز من صدورهم ضد الظلم والإهانة، فأنّى لمثل هؤلاء ... وأنى لأمثالهم أن يكون لهم في الثورات "فطير أو خمير"؟.

وقد فات هؤلاء وغيرهم من الملاحظين والمراقبين أن الفيس بوك والإنترنت والموبايل...وغيرها وسائل وأدوات لا حول لها ولا قوة، هي أدوات صماء، وسلاح لا يمكنه أن يفتك بالعدو إلا إنْ كانت اليدُ التي تحمله يد الشجاع، والقلب الذي يبعث فيه الحياة قلبَ الجَسور.

..إن هذه أدوات، والأدوات تتغير من جيل إلى جيل ومن عصر إلى عصر، ومن زمان إلى زمان...فلكل زمان دولة ورجال، ولكل رجال أسلحة وعتاد، إلا أن الثابت غير المتغير عبر الزمان وعبر المكان هو الإنسان..وكذبوا حين قالوا إن الشمس مركز الكون، بل الإنسان ثم الإنسان؛ إن الإنسان محور الأشياء على هذه البسيطة، وفي هذا الكون الذي ندرك.. ليس غروراً لكن ذلك من نعم الله على هذا المخلوق، على هذا (العالَم الصغير) على هذه (الصورة) لتلك (الهيولى).

نعم هو الإنسان..يخلق الثورات ويبتدع الوسائل، سواء أكان متصلاً عبر الإنترنت أم منقطعاً، وخاب أولئك حين ظنوا أنهم بقطع الاتصالات والإنترنت إنما يقطعون دابر الثورة، خاب ظنهم حين نظروا إلى القشور وعميت أبصارهم عن اللباب؛ فجوهر البشرية وجوهر الحياة هو..هو .. لا يختلف ولا يتغير، وإنْ تغيرت الصورة واختلفت الأماكن.

إن سلاح الفيس بوك وأدوات التواصل الاجتماعي المعاصرة تصعد إلى الواجهة الآن، لا لشيء إلا لأنها موضة العصر وصرعة هذا الزمان، لكنّ ذلك لا يغير من جوهر الأشياء وحقيقتها، فالظلم هو الظلم منذ فرعون ومن قبل ومن بعد، والفساد هو الفساد صغُر أم كبر،  والبشر هم البشر سواء ألبسوا (الكاجوال) ، أو ارتدوا (العمائم)، أو (خصفوا أوراق الشجر) يسترون بها عوراتهم وأجسادهم العارية.

قلوبهم هي ذات القلوب..وعقولهم هي ذات العقول..تيارات العواطف الهدّارة.. والمائجة من فوق ومن تحت..هي ..هي، صحيح أن سرعة الاتصال والتواصل غيَّرتْها، ونوَّعتْ طبيعتها ونتيجتها، إلا أن الجوهر واحد والوجوه عديدة.

فطوبى للسيف والقلم..

وطوبى للفيس بوك والإنترنت.

وطوبى للكاميرا .. تحبس الحدث في صورة تبقى في العين وتُطبع في الذاكرة.

الأحد، 6 فبراير 2011

تكنولوجيا ...وزغرودة


كان مساء اليوم الأحد استثنائياً بامتياز؛ ونحن ما نزال نعيش ظلال ثورة الشباب في مصر، الثورة التي حركها أعضاؤها عبر أدوات التواصل الحديثة مثل فيس بوك وتويتر ويوتيوب…. وغيرها على شبكة الإنترنت.
…. كان موعدنا مساء لدى الجارة سناء لحضور قراءة الفاتحة بمناسبة خطوبة ابنتها القادمة من أمريكا على شابٍ، قطع البحارَ والفيافي وجاء خصيصاً ليطلب الفتاة من والديها هنا على أرض أبوظبي.

والفتاة شابة رقيقة جميلة تدرس الطب.. وما فهمته أنها ناشطة كذلك مع الداعية المسلم الأمريكي الشيخ حمزة يوسف، فكان الشاب العريس أنْ رآها وأعجبته ..فجاء يخطبها..

لكن الجميل في الموضوع..هو أننا جلسنا في صالة المنـزل: أنا وبعض الجارات وبعض الأقرباء… كان الحضور تقريباً 15بشرياً و6 أجهزة كمبيوتر محمولة! نعم لقد كانت الكمبيوترات حاضرة بقوة في هذا الحفل المميز!

شاهدتُ بأمّ عيني كيف يمكن أن تكون الكمبيوترات فرداً في أسرة، فإذا تجاوزْنا الإدمانَ الحاصل الذي يتزايد يوماً بعد آخر على هذه الأجهزة، لعرفنا أيَّ مبلغٍ وصلت إليه تلك الأجهزة وأي منـزلة نزلتْ بيننا؛ فقد كانت الكمبيوترات المحمولة في هذا الحفل بأهمية البشريّـين المتحلِّقين حول العروسيْن.

في الحقيقة ..أنا لم أفهم في البداية لِـمَ هذا التواجد المكثف للكمبيوتر في حفل صغير وحميمي للخطوبة، وقد فسَّـرتُـه في نفسي بذلك الإدمان الذي أراه يتسلل بقوة في بيتي لدى زوجي وأبنائي وبناتي..وأنا سائرة وإياهم على الطريق…حيث ننسى أنفسنا لساعات أمام تلك الأجهزة اللعينة، تسرق منا بعض بهجة الحياة التي يمكن أن نعيشها مع بشر في علاقة سوية .

لكنني كنتُ مخطئة في تقديري، فحين ابتدأتْ مراسم الخطبة، أي أن يتقدم الشاب بطلب يد العروس من والدها، عرفتُ حقاً ما الذي تفعله هذه الأجهزة بيننا، إنها "مرسول الحب"! ..فلقد سأل الشاب والدَ فتاته أن يوافق على طلب الزواج بها، فرحّب الأب بالطلب لكنه توجه عبر الكمبيوتر إلى جدّ الفتاة، الجالس في مكانٍ ما على هذه الأرض، طالباً من الشاب أن يطلب يد فتاته من جدها مباشرة؛ لأن العائلة كانت قد اتفقت فيما بينها منذ 20 سنة على أن (مريومة) هي حصة جدها لأمها، ومن سيتقدم ليطلب يدها لا بد أن يطلبها من جدها لا من والدها فقط.

وهكذا كان…فقد أعاد الشابُ كلماته الإنجليزية لطلب الفتاة، التي ابتدأها بالبسملة والصلاة على النبي –بالعربية- وسأل جد الفتاة أن يوافق على طلبه، وجاءه الجواب عبر الجهاز بالموافقة، والكمبيوترات الأخرى تشهد على هذه اللحظات، بمتابعة آخرين في قارات وولايات أخرى.

كانت لحظة فريدة…فقد كنا نتخيل أن الخطبة التقليدية للعروس ستتغير في المستقبل، وها نحن نرى شيئاً جديداً ، أنا شخصياً لم أرَ مثله من قبل يتحقق أمامي، لكي يثبت للبشر أن الحاجة أُمُّ الاختراع، وأنّ لكل زمان دولة ورجال، ولكل مجتمع خصوصياته؛ فالشاب مصري الأصل، أمريكي المولد والنشأة، وربما لا يعرف من مصر إلا اسمها، مسلم الديانة، لكنه على الرغم مما يجمعنا به – شخصية أخرى ونمط حياة مختلف من الناس عما تربى عليه مثلاً أبناء مصر في مصر، أو أبناء أي دولة عربية أخرى فيها.

..حضر في بالي وأنا أتابع المشهد لهؤلاء العرب الأمريكيين، ما كان عليه أهل الأندلس في زمانهم، إذ حقاً هم شخصية أندلسية: لا شرقية ولا غربية، جعلتْ منهم ظروفُ زمانهم ومكانهم شيئاً آخر غير العرب الأقحاح وغير العرب المشارقة وشيئاً آخر غير المغاربة، إنهم مزيج حضاري وثقافي وإنساني متميز في التاريخ، فيهم من الشرق نفحة ومن الغرب أخرى، فكانت تلك النكهة المميزة المذاق!

بارك الله للعروسين؛ فقد حظيتُ بسببهما بلحظات لا تنسى تثير في النفس التساؤلات الكثيرة التي لا تخمد في عقلي عن شكل المستقبل كيف يكون؟؟

الأحد، 12 ديسمبر 2010

خطبة 6: أنا والنباتات

الخطبة (6)
الهدف: التعامل مع الكلمات


عنوان الخطبة: أنا والنباتات



قال الشاعر يا سادة يا كرام:


ثلاثةٌ يذهبْنَ عن المرء الحزَنْ: 
                    الماءُ والخضرةُ والوجـهُ الحسَنْ


ولنتركْ في مجلسنا هذا: الماءَ فهو وفيرٌ في هذه البلاد، والوجهَ الحسن ... إلى حديث آخر .

السيد رئيس النادي، السيد عريف الاجتماع، السادة الحضور من الأعضاء والضيوف.. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

إذن عرفتم عمَّ سأتحدث! فلقد تربيتُ في بيت أو بالأحرى شقة صغيرة الحجم لم تخلُ من شرفة، لكن لم يكن بيتنا يضم من النباتات إلا أصيصاً واحداً لنبتةٍ لا أعرف اسمها ..لكني أحفظ شكلها جيداً في ذاكرتي، بقيت تلك النبتة يتيمةً وحيدة، إلى أن تبرعت بها أمي –حفظها الله- إلى جارتنا السورية أم مازن –رحمها الله- التي كانت تعتني بنا في غياب أمي ؛ إذ كانت أمي تعمل في التدريس ، ولم يكن في ذلك الزمان من ملجأ للأمهات العاملات إلا الاستعانة بأحدٍ للعناية بالأطفال.

...المهم ، كان بيت تلك الجارة مكوناً من غرفة واحدة ، و "حوش" صغير مليء بالنباتات والأصص على عادة البيوت الدمشقية..وقد انطبعت في ذاكرتي صورة هذا الفرق بين بيتنا وبيت جارتنا، لتقفز إلى ذهني صورة النباتات كلما دخلتُ بيتاً أو مكتباً أو غيره؛ إذ أبحث بين جدرانه عن تلك الأوراق الخضراء التي ما أن توجد في مكان.. حتى تعمره بخفقات الحياة.

إن فكرة جلب النباتات إلى البيوت في أصص صغيرة لهي فكرة عبقرية من بديع الإنسان، فالخضرة في الغابات والمروج –رهيبة ؛ وإلى حدٍّ ما مخيفة، لكنها في البيوت والأماكن المغلقة رقيقة تبعث على الرضا والجمال.

..وعندما كبرتُ وصار لي بيتي الخاص صرتُ أتطلع إلى اتخاذ النباتات لما رأيته من الجمال والروعة اللذيْن تضفيهما على أي مكان مهما كانت النبتة صغيرة.

وهكذا أصبح في بيتي قطعةٌ من الجنة بفضل مجموعة نباتاتي الحبيبة زرعتها بيدي، واعتنيتُ بها عناية الأم بأطفالها..فأضفت هذه النباتات بأنواعها وأشكالها جواً رائعاً على شقتنا البسيطة، وصارت محط إعجاب الزائرين والزائرات.
وكنت أرى دوما أن النباتات عنصر أساسي من عناصر "ديكور" المكان، انظروا إلى هذه القاعة بمقاعدها المعدنية والقماشية، وطاولاتها الخشبية، وستائرها المعدنية، وجدرانها الزجاجية.... إنه لا يليّن قساوة هذه المعادن التي تحيط بنا إلا رقة النباتات ونداها.
صارت النباتاتُ كذلك جزءا من نظرتي إلى الحياة ؛ إذ كنتُ أتأملها كلَّ صباح في الشرفة وأجلس أحياناً لحظاتٍ طويلة أتأملها وأسبِّح بعظمة الله الخالق ، فالِق الـحــَـبِّ والنَّوى، مُخرِج الحيّ من الميت ومخرج الميت من الحيّ!!!

لقد كان ظهورُ ورقةٍ جديدة تشق التراب أو الساق مثارَ دهشةٍ وموضع تأملٍ في نفسي لا ينقضي منها بسهولة، فالتأمل في أطوار النبات يعطي الإنسان تمريناً عقلياً من نوعٍ خاص تجعل منه أقرب إلى ممارسة الفلسفة، وفي اليابان مثلا ترتبط زراعة الأشجار المصغرة وتنسيق الزهور بنوع من الفلسفات الروحانية الخاصة بمعتقداتهم. ولهذا أذكر أنني صرتُ ألاحظ النباتات في كل مكانٍ أزوره أو أحطُّ به رِحالي، وأقصف بعض خصلاته من الأماكن التي أجده فيها لكي أزرعها وأضيفها إلى مجموعتي.


وحين غادرتُ الأردن للمرة الأولى للإقامة في دولة الإمارات سنة 1998، اصطحبتُ معي أغصاناً متنوعة من النباتات التي في بيتي لأزرعها هناك في مكاني الجديد؛ فلم أكن أتخيل أن أعيش في بيت لا نبات فيه من أول لحظة.. وأول شيء أنقله معي إلى بيت جديد سأنتقل إليه هو نبتة صغيرة تؤنس وحشته وتبعث الحياة بين جوانبه. ..لذا كانت دهشةُ موظف المطار كبيرة حين نظر في الكيس الذي أحمله معي فراعه أنها ورقات خضراء ، فتساءل باستنكار: طبيعية ؟!؟ فأجبته: نعم..نعم جداً!

وعند العرب كان للطبيعة القاسية في بلاد العرب أثر في أن يكون للنبات تقدير خاص، فاحتلت النخلة منزلة مميزة لدى العربيّ فهي الواحة والملاذ، تقاسمها في تلك المنزلة الخيول والإبل. ونتيجة لفقر بلاد العرب – خاصة في الجزيرة العربية- بالغطاء الأخضر الذي يوفره انتشار النباتات والأشجار، فإنهم حين وصلوا في فتوحاتهم إلى الأندلس مثلاً أبدعوا في مجالٍ شعريٍّ اشتهر وازدهر هناك، ألا وهو شعر الطبيعة ، وقد أجادوا في هذا الفن بوصف مظاهر الطبيعة الخلابة التي سحرَتْهم في ديارهم الجديدة، فما زالوا يبدعون فيه حتى اختص بعض الشعراء بنوع معين من النبات، فظهر شعر الزهريات والنَّوْريات والصنوبريات والثلجيات...وهكذا ، وهناك مقطَّعات شعرية كثيرة في هذه الفنون، ومنها نوع المعارضات الأدبية أنشأ فيها الشعراء قطعاً فنيةً على ألسنة الورود والرياحين والأزهار وغيرها...ينتصر فيها كل نوعٍ لنفسه ولمزاياه على غيره من أنواع الزهور والرياحين.

..أما في عصرنا الحالي وفي مجلسنا هذه فإن المثال الأقرب إلينا هو ما نراه على أرض الإمارات من انتشار الغطاء الأخضر على رمال الصحراء على نحوٍ مُـعْجِزٍ يذكِّرنا  في كلّ حين بالرجل الذي وقف وراء ذلك كله بإصراره واستشرافه المستقبل الشيخ زايد رحمه الله، حيث كانت عنايته بالنخيل ابنة هذه الأرض رفيقة أبناء الجزيرة العربية.
ما أُحَيْلى رفقةَ وريقاتٍ خضراء تتنفس معك في المكان وتضفي عليه من السحر والجمال ما يجعل روحك تمتزج بروحه!