أرشيف المدونة الإلكترونية

الاثنين، 16 أبريل 2018

حُمّى الحنين إلى فلسطين…

بقلم سهيل كيوان
جريدة القدس العربي
في الوقت الذي تُعد فيه حكومة إسرائيل للاحتفالات بالذكرى السبعين لتأسيسها، وتدعو رئيس هندوراس للمشاركة، وهذا يوافق، ثم يعتذر لأسباب وصفها باللوجستية، في هذا الوقت من السنة بالذات، تزدهر أمراض الربيع، وأحد أعراضها، حنين المهجّرين الفلسطينيين في الشتات إلى قراهم ومدنهم.
تستيقظ آلام الحنين في هذا الموسم بالضبط، مع بزوغ زهر اللوز في آذار/مارس، وتشتعل مع برقوق نيسان/أبريل، ليصبح إشعاعا حارقا يدمي الصدور والعيون في أيار/مايو. 
من بين هؤلاء المرضى بالحنين صديقي أبو أنس، المقيم حاليا في مخيم إربد في الأردن عند شقيق زوجته، أتى قادما إليه، منذ سنوات قليلة مع أم أنس، من مخيم حمص، بسبب الحرب الأهلية في سوريا. 
تعرفت على أبي أنس، من خلال «الفيسبوك» منذ سنوات، كثيرا ما يكتب تعقيبات على منشوراتي، خصوصا تلك المتعلقة بلقاءات مع طلاب المدارس، فهو أستاذ في اللغة العربية، عمل مدرِّسا فترة طويلة في السعودية، وعمل في مخيم حمص، عاد مؤخرا ليجدّد نشاطه في التعليم، في مخيم إربد، عن طريق إحدى الجمعيات.
ثورة الاتصالات محت سبعين عاما من غباش في الرؤية، ألغت الحدود، وأعادت للجريمة حدّتها ووحشيتها. 
يرن الهاتف على المسنجر، «محادثة كاميرا تنتظرك»، إنه أبو أنس، أفتح الكاميرا، أرفع يدي محييا، ويرد أبو أنس بالمثل.
- صباح الخير أخي أبو سمير، اليوم اتصلت لأطوف معك في سوق مخيم إربد، هنا بعض الشبان يريدون أن يسلّموا عليك. 
- أهلا أخي أبو أنس بك وبالشباب. 
- خذ هذا الشاب يبيع الخضار. يطل وجه شاب على الشاشة. 
- مرحبا مرحبا، أنا من حيفا، من بيت الحسن، هل تعرف بيت الحسن؟
- طبعا أعرف، من لا يعرف بيت الحسن؟!
- بيت جدي في وادي الصليب، هل تعرف وادي الصليب؟
- أهم معالم حيفا التاريخية، أقام فيه قبل النكبة آلاف العمال العرب من مختلف الجنسيات لقربه من الميناء، فيه تأسست جمعية العمال الفلسطينية عام 1926، وانضم إليها أكثر من عشرة آلاف عضو، وفيه مسجد الاستقلال، وعشرات المعالم التاريخية، تحاول البلدية أن تخفيها وتشوّهها، وتبني المباني الجديدة على أنقاضها. 
- طيّب خذ هذا الطيراوي يريد أن يسلم عليك.
- أهلا وسهلا.
- أنا من طيرة حيفا، في مخيم إربد حوالي خمسة آلاف مواطن أصلهم من الطيرة.
- أهلا وسهلا بالطيراوية. 
- كيفكم أنتم بفلسطين؟ 
- الحمد لله نحن بخير.
- الله يعينكم.
- الله يعين الجميع. 
- تعرف طيرة حيفا؟
- طبعا أعرفها، فيها الكثير من المعالم العربية، غرف المدرسة، وبيت المختار، والمقبرة الكبيرة، وغيرها، ولكن لا توجد سوى أسرة واحدة أو اثنتين من العرب. هذه الأسرة في صراع مع البلدية حول الأرض التي تملكها العائلة، فهي في موقع مهم في وسط المدينة، البلدية حوّلت معظم الأرض إلى حديقة عامة، كي تحرم هذه العائلة من البناء عليها، هناك محاكم بينهم منذ سنوات. 
- خذ هذا الزلمة من إجزم.
- أهلا أخي الجزماوي. 
- هل تعرف إجزم؟ 
- طبعا أكبر قرى الكرمل، مساحتها أكثر من ستة وأربعين ألف دونم، كان عدد سكانها أكثر من ثلاثة آلاف عام النكبة، أقيمت على أرضها كيبوتسات، يعني تعاونيات اشتراكية.
- خذ هذا جاري من أم الزينات..
- أهلا بالزيناتي أهلا.
- أم الزينات حلوة، صحيح؟
- من أجمل قرى فلسطين، قرى الكرمل كلها جميلة، ومنها أم الزينات، وعين حوض، وجبع، وعين غزال وكفرلام، وأبو شوشة، وغيرها، كان عدد سكان أم الزينات عام النكبة حوالي ألف وسبعمئة نسمة، على أكثر من إثنين وعشرين ألف دونم، من أجمل قرى فلسطين، طرد منها جميع سكانها. بقي منهم قلائل يعيشون في القرى القريبة مثل عسفيا.
- طيّب خذ هذا من عراق المنشية. 
- أهلا حبيبنا.
- تعرف عراق المنشية؟ 
-طبعا، هذه تابعة منطقة مجدل عسقلان، أقرب لغزة.
- صحيح، تحياتنا لكم يا أهلنا وأخوتنا.
يعود الهاتف إلى يد أبي أنس: 
- أنا بحب إتصل فيك، إنت بتغيّر لي مزاجي، شو ناوي تكتب هذا الأسبوع لـ «لقدس العربي»؟ 
- الحقيقة عندي موضوع عن كلب ألماني محكوم بالإعدام، يا سيّدي هذا الكلب المحترم قتل صاحبته وإبنها فحكموا عليه بالإعدام، فأقيمت حملة لجمع مليون توقيع ضد إعدام الكلب، وأنا أضم صوتي ضد إعدامه، سأقترح إقامة لجنة تحقيق لمعرفة سبب ارتكابه الجريمة، يجب التروي قبل الحكم على الكلب، يعني يا أخي ليس عدلا أن يقتل البشرُ الكلابَ بلا حساب، وحتى أن بعضهم يأكل لحمها، وعندما يَقتلُ كلبٌ إنسانا تقوم الدنيا ولا تقعد، هذا نوع من العنصرية والاستعلاء على الكلاب. 
- والله مقالاتك مشوّقة، ولكن أخي أبو سمير، الشباب هنا يطلبون أن تكتب عنهم، عن سوق إربد، عن حنينهم لفلسطين، أنتم عرب 48 تعطونا نفَسا، أنتم شهادتنا بأنها بلاد كانت عامرة، ولم تكن فارغة، كما تزعم الحركة الصهيونية.
- أخي نحن وأنتم واحد، الصدفة فقط، هي التي أبقتنا هنا، وأنتم هناك، كان ممكنا جدا أن أكون أنا في مخيم حمص، وأنت هنا في مجد الكروم.
- هل يوجد لاجئون خارج فلسطين من مجد الكروم؟ 
- طبعا، أكثرهم في مخيمات شاتيلا، وعين الحلوة، وبرج البراجنة، وبرج الشمالي، والرشيدية، ومنهم في مخيم حمص، والرمل قرب اللاذقية، واليرموك.
- خذ هذا واحد من الحَدَثة؟
-هلا هلا..
- مرحبا أهلنا في فلسطين، «والله مشتاقين»، هل تعرف الحدثة؟ 
- الحدثة؟ طبعا من قرى الهياجنة – أبو الهيجا – أكثر أهل الحدثة يقيمون في مدينة طمرة، وفي الذكرى السابعة والستين للنكبة، أقيمت مسيرة العودة السنوية على أرض الحدثة وهي سهلية خصبة، مساحتها أكثر من عشرة آلاف دونم، مزروعة بكروم اللوز والزيتون، فيها مَجْمعٌ كبير لمياه الأمطار، تقع جنوب غرب طبريا، يستغل أرضها مستوطنون من الجوار (سارونة وكفار كيش)، قدّم المستوطنون شكوى ضد جمعية الدفاع عن حقوق المهجرين، وادعوا بأن المشاركين في المسيرة، سرقوا ثلاثة أطنان من اللوز اليابس عن الشجر، أقسم بالله، يا دوب قطف بعض الشبان بضع حبات من اللوز، مسيرة العودة أزعجتهم فعاقبوا المنظمين.
- بدنا مقالك عن الجولة، في سوق مخيم إربد.
- طيّب خيّا أبو أنس، ولا يهمك، بحاول لأنه اليوم الإربعاء، والوقت محشور.
- طيّب، لكان أتركك بأمان الله.
- الله معكم، منحكي.
- إن شاء الله، منحكي.

الأربعاء، 4 أبريل 2018

مذكرات نسائية: حبل الغسيل

21/9/2016
الغسيل ... من الأعمال المنزلية التي تقوم بها ربّات البيوت في مختلف بقاع الأرض، وقد تغيرت طقوس هذه العملية وما يرافقها على مرّ الزمان مع انتقال الغسيل من عملية يدوية إلى عملية آلية، ومن كمياتِ ملابس قليلة إلى إنتاجٍ وفيرٍ جعل الفرد العادي في يومنا يملك من الثياب في خزانته ما لم يكن يملكه كبار القوم في غابر الأيام.
ولعل من أشهر القصص وأجملها المرتبطة بالغسيل وطقوسه -أيام كان الغسيل يتم قرب مياه الأنهار الجارية- قصة تعارف الأمير الأندلسي محمد  بن عباد باعتماد الرُّمَيكية، التي كانت تقوم بعملها المعتاد في غسيل الملابس على ضفة نهر الوادي الكبير، وانتهى اللقاء بينهما بحكايةٍ ما زالت تُروى تفاصيلُها في الكتب وتحكي جمال الحب واستمراره من القصور إلى المنافي ثم القبور.
ومهما اختلفت طرائقُ غسيل الملابس بين الماضي والحاضر وبين منطقة وأخرى إلا أن (نشر الملابس) بعد الانتهاء من غسيلها هو مرحلة لا بدّ منها، ولم يكن ممكناً تجاوزها إلا عندما تمَّ اختراعُ مجففات الملابس الكهربائية، وهي ترفٌ قد لا تملكه إلا نسبةٌ معينة من العائلات في مجتمعاتنا الفقيرة التي تملك شمساً ساطعةً على مدار العام، وتملكها نسبة محدودة كذلك في المجتمعات الغنية التي تؤمن بترشيد استهلاك الموارد في بيئةٍ ملبدة بالغيوم تحتفي بالشمس أيّما احتفال لو انكشفت عنها الحُجُبُ سويعاتٍ في النهار.

ولأني من اللواتي تصيبهن لعنةُ الغسيل مراتٍ عديدة خلال الأسبوع كي تكفي متطلبات أربعة أطفال، فإنّ لي مع الغسيل قصةً لا تختلف عن كثيرٍ من قصص الفتيات، اللواتي قد لا يعرفن طريقاً للغسّالة إلا حين تصير الواحدةُ في بيتها، فتجد أنه لا مفرّ من قدرها الجديد في مواجهة أعمالٍ منزليةٍ تكون في انتظارها خلف الباب الذي تدخله بثوبها الأبيض ليلة الزفاف.
ولئن كان غسيلُ الملابس قد أضحى أمراً لا يسرق الوقت والجهد مع انتشار الغسالات الأوتوماتيكية، التي تعفي ربات البيوت من مراحل الغسيل العديدة التي ترهق البدن وتجفف البشرة وتذهب بساعات النهار ... فإن نشرَ الغسيل مسألةٌ أخرى، لم تتخلص منها الكثيرات مع اضطرارها لاستعمال الحِبال لتجفيف الملابس.
تتعدّد أشكالُ مجففات الملابس وتختلف من مجتمعٍ لآخر ومن دولةٍ لأخرى. وتكمن وراءها فلسفةٌ من نوعٍ خاص تجاه الحياة لا يدركه كثيرٌ من الناس. فإن كان أجدادُنا اتخذوا من أغصان الأشجار وحجارة الأسوار مكاناً  ترتمي عليه الملابس الرطبة حتى تجف، فقد فرضَ أسلوبُ الحياة  ونمط العمارة المعاصرة علينا أشكالاً متنوعةً لتجفيف الملابس  تلتقي في معظمها على فكرة الحبل الرفيع الذي  تُعلَّق عليه الثياب.
لكن السفر والتجوال في بلاد الله الواسعة الذي يمنحك فرصةً رائعةً لتدرك أن الناس من نفسٍ واحدة مخلوقون، لا يمنع أنّ لكلٍّ منهم طريقتَه في أسلوب الحياة التي يرتضيها وتختلف تفاصيلُها بين بلد وآخر، بما ينمُّ عن اختلافاتٍ ثقافية وراء تلك المظاهر التي قد نمرّ عليها مرورَ الكرام في جولاتنا السياحية.
أذكر أنني أول عهدي ببيتي وحياتي العائلية قد اتخذتُ شيئاً جديداً لتجفيف الملابس، وهو منشر الغسيل، فقد اعتادت أمي وجدتي وقريباتهنّ وجاراتهنّ أن ينشرنَ الغسيل على حبالٍ طويلة تمتد على أسطح المنازل والبنايات وساحات البيوت، تستعرض فيها كلُّ واحدةٍ نظافةَ القطع القماشية ونصاعة ألوانها وهي معروضةٌ فوق الحبال بطريقةٍ تسرُّ الناظرين قائلة: هذه شهادتي على أنني ست بيت!!

وعندما أخذتُ في تجهيز بيتي- أقدمتُ على شراء منشرِ الغسيل المعدني في تجربةٍ جديدة لم نعهدها في العائلة، وقد سررتُ بمتعة نشرِ الملابس على حبلٍ لا يتجاوز ارتفاعُه خصري، يمنح اليدين راحةً وهي تقوم بترتيب القطع فوق الحبال القصيرة التي لا تتجاوز مترا بنظامٍ لا استعراض فيه؛ لأن صاحبَ البيت وحده هو من يدرك جمال ذلك النظام، لا الجيران أو المتطفلين كما في نشرِ الملابس على حبالٍ طويلةٍ فوق أسطح البنايات أو الأماكن المكشوفة. وقد حباني اللهُ وقتَها في منزلي بشرفةٍ مشمسةٍ تتسع لمنشرِ الغسيل، فكانت تلك التجربةُ أولَّ شيءٍ أجده يسيراً من مراحلِ عمليةِ الغسيل المرهقة التي تستنزف الجهدَ والوقت... والتي لا بُدّ منها فوق هذا كله!!
وكما تُستَقبَل الأشياءُ الجديدةُ عادةً ما بين رفضٍ وقبول- انتشر الهمزُ واللّمزُ من عائلتي الجديدة بأنّ الغسيل يجب أن تضربه الشمس والهواء خارج الجدران، فما هذه الطريقة في نشر الغسيل أيتها العروس؟! كان هذا التعليق قد استقرّ في باطن عقلي خلايا نائمة تصحو على كل حبل غسيل يصادفني في الشوارع والبنايات وبيوت الأصدقاء وعلى الأرض أمام صالونات الحلاقين، ثم توارى ذلك التعليق حتى غاب. وصرتُ أرى أن الأصل في تجفيف الملابس في الشقق الحديثة هو تلك الحبال المعدنية القصيرة اليسير تناولها وتخزينها، بدل إضاعة الوقت في صعود الأدراج واعتلاء أسطح البنايات ورفع الأيدي لتعليق الأقمشة على الحبال العالية في استعراض مكشوف.
وقد واظبتُ على شراء منشر غسيل مناسب في كل بلد انتقلت للإقامة فيه، وكانت محطتي الأولى في أبوظبي المدينة الخليجية الحارة شديدة الرطوبة، التي يعيش عامة المقيمين فيها في أبنية شاهقة أو متوسطة الارتفاع تخلو معظم الأحيان من الشرفات التي قد تنفع لتجفيف الملابس، لكن الأجواء الحارة الرطبة تجعل تجفيف الملابس في الشرفات  أمراً عبثيا لا طائل منه إذ تعود الأقمشة أكثر رطوبة من ذي قبل وتصبح ذات رائحة غير طيبة، لكن الصورة النمطية لسيدات البيوت في بلادنا الشرقية تجعل الحبال خارج النوافذ وفي الشرفات وفي الأزقة الضيقة بين البنايات مشهداً مألوفاً في الأحياء . حتى اضطرت البلدية إلى منع تلك الممارسات تحت طائلة المخالفات بذريعة تشويه المنظر الحضاري للمدينة!
وكنتُ شخصياً أجد في تلك المشاهد تلوثاً بصرياً يؤذي الذائقة الحضارية للسكان ويجعلهم يعتادون هذه التشوهات (العمرانية) كما اعتادوا مناظر أكياس القمامة قرب الحاويات المخصصة لها!!
إزاء كل هذا رجعت إلى ما اعتدتُ عليه في بداية حياتي البيتية من نشر الغسيل على منشرٍ صغير، ولكن هذه المرة صار تجفيف الملابس داخل الشقة المكيفة وقرب النوافذ الواسعة صديقة الشمس. وقد نجح الأمر وتغلبت بذلك على ما كنت أعتقد أنه معضلة. وتكرر الاعتقاد بوجود المعضلة عندما انتقلت للإقامة في أقصى الشمال البريطاني في مدينة إدنبرة الاسكتلندية، حيث الأمطار الغزيرة طوال العام، وحيث الغيوم لا تكاد تغادرنا، وحيث الشقق الضيقة الخالية من الشرفات ..
وعندما سارعتُ للبحث عن (منشر غسيل) مناسب أعجبني أنني وجدتُ ضالتي  في تصميم جديد لم يفت الإنجليز أن يلائم نمط الحياة التي يعيشون، وكان أجمل ما في فكرة التصميم أنّ ما اعتدْنا عليه من تجفيف الملابس على شكل أفقي قد غدا عمودياً، في تصميم خاص لمنشر غسيل مناسب للمساحات الصغيرة تنتظم فيه الحبالُ المعدنية القصيرة فوق بعضها لا بجانب بعضها بعضاً؛ على نحو يتيسَّر فيه أن تقف الملابسُ الرطبة قرب لوحة التدفئة المركزية فتجفّ على نحوٍ أسرع من كونها على حبالٍ أفقية متراصة جنباً إلى جنب!
لم تنته قصتي مع نشر الغسيل حتى هنا، بل إنني في زيارتي للأندلس الحبيبة إلى قلبي ذات صيفٍ حار، وفي أثناء إقامتي في أحد البيوت القديمة في غرناطة، اضطررتُ لغسل الملابس، وحين فكرتُ في تجفيفها  لم أجد أمامي في الشقة الصغيرة شيئاً مناسباً لا أفقياً ولا عمودياً!! ثم التفتُّ من النافذة إلى الفناء الداخلي المجاور وهو ركن أساسي في البيوت الغرناطية العربية المستمدة فكرتها من (أرض الديار) في البيوت الشامية العتيقة، لأجد أن صاحبة الشقة المسـتأجرة قد أعدَّت مجموعةً من الحبال في المكان، وكأني أستعيد رائحةَ التاريخ المشترك بيننا، أستعيده في تاريخ أمي وجدتي وجارتي وقريبتي وغيرهن في بلادي، اللواتي أنفقن من أعمارهن ما تيسَّر منها في مهمة تجفيف الملابس على الحبال المعلقة على أسطح البنايات.
بعدستي.. من شوارع تل أبيب
 وهو التاريخ (المشترك) ذاته الذي التقطَتْهُ عيوني في مدينة تل أبيب على واجهات البنايات (الحديثة) في الشوارع المتواضعة التي تخترق وسط المدينة، حيث تنتشر الحبال التي تحمل الأقمشة من مختلف الأحجام والألوان، في مشهدٍ يحمل في داخله تناقضات المشهد السياسي المحيط بالمكان. لكنّ بعض اللمسات الفنية لا يضير؛ إذ تنتشر حول معظم حبال الغسيل   سواترُ بلاستيكيةٌ مفتوحة من الأسفل ومن الأعلى، وهي فقط تحيط بمكان تجفيف الملابس، وتستر قبح الأقمشة الرطبة عن العيون، بحيث لا يظهر لأعين المارّة منها شيء، وفي الوقت نفسه تبقى معرَّضةً للهواء الطلق حتى تجف تماماً. في محاولةٍ معقولةٍ للحفاظ على المناظر الحضارية اللائقة للمدينة، وفي الوقت نفسه لا يُظلم سكانُ الشقق المحرومون من الشرفات- من تجفيف ملابسهم بطريقة صحّية وطبيعية.
أما آخر وقفاتي مع حبل الغسيل فكانت قبل بضعة أشهر في الصين، التي شاهدتُ فيها شيئاً لم أره من قبل، ألا وهو نشر الملابس على شرفات الشقق والبيوت، بحيث تعلَّق كل قطعة على علّاقةِ الملابس العادية، ومن ثمَّ تُرفع تلك العلّاقة على سلسلةٍ حديدية عريضة قريبة من سقف الشرفة وتُترك الملابس لتجفَّ في الهواء، فترى الشرفات وقد تحوّلت إلى ما يشبه أن تكون خزانة ملابس لأحدهم مفتوحة أمامك تنظر إلى محتوياتها، ولكنْ ليس في غرفة جارك ... بل في الشارع!.
بعدستي.. مبنى سكن الطلاب
 في جامعة صن يات سين في مدينة  جوهاي/ الصين

الاثنين، 2 أبريل 2018

خط القرار

بقلم: بروين حبيب
جريدة القدس العربي

ولد الحب أولا، ثم ولدت الخيانة بعده، ثم ترافقا معا على خط قدري واحد، مشى الحب في المقدمة، ومشت الخيانة في أثره مستاءة من تلك المسافات التي تفصل الفائز الدائم في تلك المسيرة الحياتية الغريبة.
قدّم الحب قرابينه الجميلة، واستخدمت الخيانة طقوس الاحتيال التي خبرتها بالفطرة للاستيلاء على محاصيل الحب دون عناء…
ثم جاءت الأسطورة الدينية لتؤكد على امتداد جذور الخيانة في التركيبة الآدمية، دون أن نفهم تماما هل كان آدم أول الخلق أم أنه المعجزة التي فصلت تاريخ البشرية إلى نصفين، ما قبل الذكاء وما بعده، مع أنه في كل الحالات هبط من جنان الله بعد أن خان الثقة الربانية..!
ثم جاءت الكتب على اختلافها، لتؤكد أن الخيانة هي التي تصنع الحدث، و هي التي تغذي الحياة بالاستمرار، وهي التي تُبنى عليها جماليات الأقوال و المقولات و الحكايات. فقبل تلك الخيانة العظمى لم تعد السكينة تسود الكون إلى يومنا هذا. 
تتلوّن الخيانة بألوان قوس قزح، أي أنها ترتدي أجمل حللها، و لها قدرات عجيبة غريبة، إذ بإمكانها أن تخترق السماء والماء، وتشق دروبها في الأراضي الوعرة وتبني مبانيها الشاهقة فينا وحولنا، فتجمع الخونة بالمحبين، وتكسر قلوبنا، وتفرق بين الناس، وتنشئ بينهم عداوات لا نهاية لها، ومع هذا لا نجد سبيلا لنبذها نهائيا من حياتنا، وكأنّها الملح الذي يعطي مذاقا طيبا لأيامنا، وكأنّها بكل أقنعتها البراقة روح الحياة، وكل ملذاّتها…
لا مكاسب للخائن حتى وإن كانت لنفسه، لأنّه لا يتلذذ بالنهايات السعيدة، و لا تهدأ نفسه إلا بتلويث حياة من حوله، لا ود علني له، ولكن الجميع يكن له محبة مبطنة، أو لنقل إنه محاط بالقبول الخفي، وإن كرهه البعض فإن البعض الآخر بحاجة إليه إلى أن تتحقق مآربه، ولهذا يُصِرّ على ممارسة هوايته علنا، ليس تباهيا بل ترويجا لمواهبه، ويبدو أن فعل الخيانة مقترن بمتعة ما، وإن كانت مؤقتة ويتبعها في الأخير ندم وحسرة، و إلاّ لماذا يخون الحبيب حبيبه والصديق صديقه…والآدمي خالقه؟ 
يولد الخير، ثم يليه الشر مرادفا، يجتمع الخير بالحب، و يجتمع الشر بكليهما، ألم يقل الأقدمون « و من الحب ما قتلـ«؟ فكيف للحب أن يقتل؟ و كيف للشر رغم بشاعته أن تُمنَح له فرصة ليعيش إلى الأبد؟ و إن شئنا أن نطرح الأسئلة المستحيلة فلنبدأها بالسؤال الذي يتهدد كل أسس إيماننا، لماذا يُمنح الشيطان فرصة ليعيش؟ ويُعاقب آدم عبر رحلة أرضية طويلة الأمد يرى فيها كل أنواع الأهوال مع سلالته…فيما ينتهي دور الشيطان في بدايته، ويصبح مقتصرا على إطلالات قليلة هي تبعات الكارثة التي حدثت بسببه.
يدور الأدب في فلك الحب والخيانات والدسائس أيضا، وكلما كان قريبا من هذه النفس العامرة بالمشاعر المتناقضة، كلما كان الأدب أنجح، وأقرب للمفهوم الإنساني العميق…
ويبدو أن خط الحب وحده لا إثارة فيه، وهو نفس خط الخير، وأن الحكمة من هذه الحياة تكمن في هذا الصراع المستمر بين هذه المشاعر المتناقضة.
حتى الناس يكتفون بهذه العناصر كملح لحكاياتهم، وهم لا يطلبون أكثر منها، أما القلة الذين يريدون حياة مثالية، تنبع من العدم الذي نجهله وتسلك مسارا واضحا وجميلا ومملا فهؤلاء حتما نقاد حالمون…فالخيانة والغدر و التخلي و ما شابهها أشياء تسكننا، وليس من الضروري أن نراها عند الجيران أو في الأفلام أو نقرأ عنها في القصص الديني لننسبها لكبير الخونة أو في مسرحيات شكسبير لننسبها للساحرات الشريرات، كل تلك العناصر المقيتة موجودة في داخلنا، وهي تتناسل في خلايانا وتتوالد عبر أجيال البشرية جمعاء…
في نصوصنا لا شيء مُبتكر، نحن نصف الأشياء كما نعيشها، نصف تلك الأصوات الصاخبة في داخلنا، و التي لا يسمعها الآخرون، نصف الخيانة كما هي في أعماقنا، سواء قمنا برعايتها علنا أو بقمعها وإخماد عنفوانها، إذ يبدو أن ازدهار تلك المشاعر والسلوكيات البغيضة خاضع حكما لقرارات نتخذها خلال عملية التفكير. بالتالي لا أدري إلى أي مدى يمكننا أن نحتفظ بتلك الشرور في صناديق رؤوسنا وتفكيرنا وقلوبنا؟
هل يمكن تخيل العملية بعد تفكيك عناصرها الأساسية، والتركيز عبر منظار الرؤية لتبَيُّنِ منبع الشيء وطريقة قمعه؟
تبدو العملية بأسرها عملية معقدة وهي في الغالب لا تهم الأغلبية منا، لكن هذا ما فعله بالضبط كل الذين اخترعوا الأدوية لأمراض مستعصية، و أجهزة لتسهيل حياتنا، وغيرها من عمليات التفكيك التي كشفت البنية الحقيقية لكل مكون أمامنا…
كلنا نتاج عملية تركيب لعناصر عديدة، وكما في علم الكيمياء الذي كشف سر الماء والهواء ومكونات العالم الذي نعيش فيه، فكذلك هو جسم الإنسان، اكتشف علم التشريح بعضا من أسراره، وتطورت العلوم لتفكك كل عضو من أعضائه، والآن نقف عند هذه النّفس التي تعج بكل ما يصنع منا ما نحن عليه، من رغبات وميولات وصفات جيدة وأخرى سيئة.
و أعتقد أن ما قرأناه لسيزار لومبروزو في الثانوي، ونحن مراهقون، ما كان يجب أن ندرسه آنذاك، لأن إستيعابنا للموضوع كانت تواجهه قلّة التجربة و قلة القراءات، وفي ذلك العمر ما كنا لنناقش تلك النظريات جميعها، بل كنا نتقبل النظرية مرفقة بنفيها جملة وتفصيلا لأنها لا تتفق مع خلفياتنا الدينية و الثقافية، ولعل أكثر ما جعلنا نقذف بشخص لومبروزو إلى سلة المهملات التي في رؤوسنا هي أنه يهودي، وهذا كان سببا كافيا آنذاك لتأكيد خبله…
أما الجامعات الجادة والأكاديميات المخصصة للبحث فقد وضعت معطيات الرجل أمامها وتعاملت معها بشكل علمي، ما أفرز نتائج مبهرة لدراسات حول موضوع الإجرام وفكك ألغازا قربت الحقيقة لمحاربي الجريمة و السلوكيات العدائية، ولعلنا نهمل فضله في التأسيس لعلم الجريمة، وإطلاق اختبار الكذب عبر جهاز يقيس نبض القلب…
عودتي لنظرية لومبروزو تقوم على كون الشر والخيانة والغدر وحب إيذاء الآخر بذور مختبئة فينا ولها ما يغذيها دائما، ولكي لا نبرر وجودها و نبيحه بسبب تلك المغذيات توقفت عند الحد الفاصل بين الخير والشر وهو « خط القرار» و هو وحده يرمي المسؤولية على صاحبه، و إن كنت أدرجت بعض العناصر الشريرة تحت عنوان واحد فإن ما يكتبه الروائيون عادة لا يختلف عن هذا العنوان الشامل لما عاشوه وعايشوه، فكل تعب وليد تراكمات، و كل حادثة خيانة تصادفها ثقة زائدة، والعجيب اليوم أن تلك الثقة سواء زادت أو نقصت إنما سببها مادة يفرزها الدماغ، وأن الرغبة في الخيانة كذلك…
خط القرار ذاك في النهاية ليس أكثر من تأثير مادة في أدمغتنا. بالله عليكم ألا تدهشكم « كيمياء الرأس « هذه؟ ألا يدهشكم أننا مستقبلا قد نُعدّل جميعا لنصبح كائنات مسالمة وطيبة؟ ألا يخيفكم أن تتناولوا تلك الحبة السحرية التي تمحي كل أثر للشر فيكم؟ شخصيا يخيفني الأمر..!

الخميس، 1 مارس 2018

ممنوع الاقتراب

بقلم
سما حسن
1 مارس 2017
يقولون إن الحقيقة كالشمس، من الصعب أن نحدّق بها طويلاً بعينين عاريتين، وحقيقة من نحب حين تُكشف، قد تودي بنا إلى صدمةٍ تُنهي العلاقة، أو تجعلها في حالة موت سريري، وكلنا أُغرمنا بكتّابنا وشعرائنا المفضّلين في مرحلةٍ من أعمارنا، علاوة على أننا، أي الجنس اللطيف، نُغرم في كلّ وقتٍ بممثل أو فنان، بغض النظر عن أعمارنا، فحبّ شخصية مجسّدة على الشاشة لا يعرف العمر، ولا يجيد وضع المستحيلات، ويتجاوز الخطوط الحمراء، حتى تفيق على حقيقة البطل بحادثةٍ تتناقلها وسائل الإعلام، فتُفجع فتاة وتُصدم امرأة حالمة، وتبكي سيدةً مرهفة، كانت تفتتح صباحها بموسيقاه، وتنهي نهارها بمشاهد من فيلمه الأخير. 

تقول رنا قباني، في أحد مقالاتها عن علاقتها بالشاعر الكبير محمود درويش، حين كانت زوجة له، إنها صُدمت حين رأت بيت الشاعر الذي أحبّت، والذي جعلها ترى الوجه الآخر للشاعر، بحيث لم يستطع زواجها منه أن يصمد أمام هذا الوجه، فهي تكتب عن تدنّي ذوقه في بيته المتواضع، فرنا قباني ذات جذور أرستقراطية، وفوجئت ببيتٍ لا يشبه ما نظمه الشاعر عن القهوة والأكواب والشرفات، فهي تقول، بكل جرأة، إن شقّته تخلو من الشاعرية، وأدوات المائدة لا تحمل أي رموزٍ ثقافية، وهي قد توقّعت أن يكون بيته أوسع وأرحب مما اعتادت. وهكذا انتهى الزواج، أو زالت الصورة الخيالية، فلم تستطع أن تُكمل مع الشاعر الذي ما زالت الشابات يقتبسن كلماته، كلما أردن التعبير عن مشاعر يشعرن بها، ولا يجدن غيره وسيطاً لتوصيلها. 
إذن، ضاع حب رنا الشاعر، حين رأته في الواقع، وهذا لا ينفي أنه كان مصدوماً مما رآه فيها، ولفت انتباهه، وجعله يطلب يدها للزواج، وهكذا ظلّت تجربة ذلك الزواج تضع علامات استفهام كثيرةٍ، ومنها: هل الاقتراب ممن نحب كثيراً يشوّه الخيال، ويجعلنا نبكي ونُصدم ونُخذل؟ وهل من الأفضل أن نبقى غارقين في الخيال، حتى النهاية؟ 
هناك فكرة شائعة لدى علماء النفس أن على الإنسان المُغرم بشاعر أو كاتب ألا يلتقيه في الحياة العامة، لكي لا يراه إنساناً عادياً لديه السلبيات والإيجابيات، ولكي نحافظ على الوهم، ونظل نقرأ لهم، وأمام هذه النظرية أو الفكرة، نتساءل أيضاً: هل علينا أن نُبقي كتّابنا وشعراءنا وفنانينا كالأشباح والصور الثمينة. 
في سني مراهقتي، كنت مغرمةً بكاتب مصري يؤلف روايات للجيب خاصة بالشباب، وكانت روايته تصل إلى فلسطين بصعوبة، لكني كنت أحرص على اقتنائها، لكي أعيش في عالمه السحري، عالمه الذي انتشلني من واقع مجتمعٍ مقيّدٍ بالعادات والتقاليد، ومتهالك من ظلم المرأة، ونظرته الدونية لها. صرت أحلم به، وأتخيّل نفسي ألتقيه وأتحدّث إليه، فأقف بين يديه كأني راهبةٌ في محراب، حتى مرت السنوات، وأنا لم أر منه إلا صورة شخصية لوجهه، والتي توضع على الغلاف الأخير لكل رواية ينشرها، والتقيته مصادفةً حين كنت في زيارة لمصر، وكان ذلك على شاطئ البحر. وقتها، انهارت الصورة وتكسّر الحلم، كما تتكسر الأمواج على الشاطئ، فجعني منظره، طريقة التهامه الطعام، وزجره بائعاً جائلاً مرّ بجواره، فبكيت كما لو كنت أُودع حبيباً الثرى، فلم أتخيّل لحظة أن هذا هو فارسي الذي كان يحملني فوق حصانه إلى عالم الخيال والسحر. 
درس جديد نتعلّمه من الحياة، وهو ألا نقترب كثيراً، فربما يكون سبب فشل معظم الزيجات التي تمّت بعد قصة حبٍّ هو الاقتراب، وربما يكون الإنسان نفسه هو من قرّر أن يخدع نفسه، حتى وقع في شرك الوجه الآخر. تساؤلات كثيرة تجعلنا، حين نفشل في الحب، نبحث عن قصة حب مع كاتب من كتاب العصور القديمة، لأن تواريهم منحهم سحراً ما زال يعبق عبر الزمن، أما من أحببناهم وعاصرناهم فهناك من قلّل من وطأة أسطوريتهم، كما حدث مع رنا قباني ودرويش، مثالاً من قائمة تطول.

الأحد، 18 فبراير 2018

أمومة المتن وأمومة الواقع.. كيف لا تقتل الأمهات أولادهن؟

بقلم:أروى الطويل
مدونات الجزيرة

قرأت موضوعا في إحدى المواقع الصحفية يتحدث عن جرائم الأمهات تجاه أبنائهن، الموضوع لم يقدم أي حلول أو تعمق في الظاهرة، هو فقط رصد الظاهرة وتصاعدها، خاصة مع ارتفاع احتمالية "إعلام" الناس بس، ذكرني هذا بمقال طويل قرأته لإيمان مرسال، تحت عنوان "الأمومة والعنف"، تتحدث فيه عن الأمومة بصفتها تماهٍ بين ذاتين، وكطاقة حب وعطاء لا محدودين حسب قولها، تتحدث إيمان عن أمومة المتن، وأمومة الهامش؛ أمومة المتن حيث هي السائدة، الأمومة المثالية التي لا كَدر فيها، العطاء التام، والتّضحية المطلقة، والتماهي التام مع الطفل، الأمومة المقدسة التي لا يمكن أن تصيبها أو تشوبها شائبة، أمومة المتن هي الأمومة العامة الجمعية الاجتماعية الدينية، حيث الجنة تحت أقدام الأمهات، وحيث الأمهات هن المقدسات للأبد..
 هي الأمومة التي يتحدث عنها مجد كيال في روايته "مأساة السيد مطر" بتصرف أذكره هنا "الابن يقتل كل احتمالات أمه، ...أليست الحياة هي الاحتمالات؟ الأم مقابل أمها معدومة الاحتمالات، معدومة الإمكانيات، إنها تقف هنا أمام الحقيقة الوحيدة بالنسبة إليها.. في هذه اللحظة تحرم الأم مما يسمونه الخطيئة أو الرذيلة، ..ما يتحدث عنه السيد مطر هو بالضبط ما تتحدث عنه إيمان، أمومة المتن الطاهر المكتوب والمنمق..
أمومة الواقع هي الأمومة في عالم يعشق التأنيب، التأنيب على كل شيء وأي شيء، إذا كنت أمّا فاستعدي للتأنيب على الرضاعة الصناعية أو الطبيعية. 

أمومة المتن التي تنقل الشابات المنطلقات الحالمات الطموحات لعالم جديد مملوء بالألم، ألم الإحساس بالذنب، حيث لا شيء فيه أصدق منه، وترتد المشاعر كلها على نفسها، ليكون الإحساس بالذنب جامعا للأمهات الجديدات، عن نفسي لم أر أمّا لا تشعر بالذنب، دائما وأبدا، البكاء يجمعهن والألم والحيرة، واعتدت على أن أراها حتى بدون سبب منطقي، شعور الأم بالذنب بدهيّ غير مسبب.. 
أما أمومة الهامش حسب إيمان "فهي أمومة قد تجد شظاياها السرديّة في بعض كتب الطب والنصوص الأدبيّة وقصص الجرائم الأسريّة، حيث هناك أصوات متفرقة تحاول -عبر المرض النفسيّ أو الكتابة أو الجريمة- التعبير عن الرعب والصراع والتوتر داخل أمومتها"
وأحب أن أضيف هنا عن "أمومة الواقع" -وهي أمومة خاصة جدا، خاصة بكل أم- تجربة دقيقة ومنفصلة عن كل شيء عدا واقعها المعيش يوميا، أمومة الواقع حيث الأمومة لا يمكن الرجوع فيها ولا عنها، حتى لو فقدت الأم كل أبنائها دفعة واحدة، لا يمكن أن تعود عن وضع الأمومة، يمكن للمرأة أن تتزوج وتنفصل، أن تعمل ثم تستقيل، ولكن لا يمكن للأم أن تكون أمّا ثم تكون "لا أم" ..
أمومة الواقع هي الأمومة في عالم يعشق التأنيب، التأنيب على كل شيء وأي شيء، إذا كنت أمّا فاستعدي للتأنيب على الرضاعة الصناعية أو الطبيعية، على الولادة الطبيعية أو القيصرية، على قرار الإطعام في عمر الأربعة أشهر، أو الستة أشهر، على العمل والأمومة في آن أو الأمومة وفقط، أنت مذنبة دائما، وإذا قررتِ أن تنصاعي للمؤنِّب؛ سيظهر شيء جديد تستحقين أن تؤنبي عليه.

أمومة الواقع في عالم بين بين، هو متخلف تماما عن العالم والحضارة والمحيط، ولكن تحكمه قيم الرأسمالية، والحداثة، لكنها ليست رأسمالية تماما، ولا حداثة تماما، هي كما أسلفت بين بين، حيث يكون مطلوبا من الانسان أن يبدل وجهه بسرعة تتماشى مع الأحداث والعالم، وهكذا على النساء أيضا، وبالطبع الأمهات، عالم بلا قوانين محسومة، يتحرك بسرعة هائلة بين نقيضين، ومطلوب من الأمهات أن تجاري كل شيء بأداء لا يختل ولا يحيد عن المثالية..
أمومة الواقع هي الأمومة التي تنحي إنسانية الأمهات لصالح أمومتهن، فإذا كنت أستاذة جامعية، أو طبيبة، أو صحفية أو أي وجه آخر من وجوه الامتداد الإنساني وأصبحتِ أمّا، فستنحى كل هذه المواهب اجتماعيا، وسيتم النظر لك أنك "أم" مع نظرة اشمئزاز وقلب الشفاه مع بعض الترهيب وتوقع لأداء سيء وغير مناسب، كونك أم يعني الافتراض تلقائيا بنقصان الأهلية، دون التساؤل عن الحقيقة..
أمومة الواقع هي ببساطة الأمومة المسكوت عنها، لأن الأمهات يخجلن ويستحيين ويشعرن بالعار أن يصرحن بالحقيقية، وإن حدث؛ فيتم التعامل معها باعتبارها "أمومة هامش"
أمومة الواقع هي "الأمومة المقهورة دائما"، الأمومة المقهورة بالحليب المحتبس في أثداء الأمهات في ساعات العمل، المقهورة بالنظرة المحتقرة لأجساد الأمهات بعد الشقوق الطولية والعرضية اللازمة للأمومة، الكلف والكيلوجرامات الإضافية الإلزامية، الأمومة المقهورة في الشركات والمؤسسات تحت لائحة "أنتن الأقل انتاجا"، الأمومة المقهورة بعدم التأثر، عدم التأثر بموت العائل أو الزوج، الأمومة السائرة كقطار فوق كل الظروف وحتى فوق جسد الأمهات أنفسهن إن استلزم الأمر ذلك..
الأمومة المقهورة تحت تحمل عبء الإنجاب وحيدة في حالات كثيرة، وتحمل المرأة وحدها اللوم عن التربية وسوئها دون الحديث عن اختلال معاني القوامة وواجباتها، وانقلاب الأوضاع وتقهقر أدوار الآباء في مقابل تحميل الأمهات كل أدوار التربية..
الأمومة المقهورة من أثر التصورات الخيالية عن كل شيء، فتتشكل فيه الأمومة من جديد في المخيال الخاص بالأنثى، تكون فيه الأمومة عبئا حقيقيا، عبئا على الجسد والجمال، عبئا على سعادتها الشخصية، عبئا على سكينتها، عبئا على مالها..
أمومة الواقع هي ببساطة الأمومة المسكوت عنها، لأن الأمهات يخجلن، ويستحيين ويشعرن بالعار أن يصرحن بالحقيقية، وإن حدث؛ فيتم التعامل معها باعتبارها "أمومة هامش" منبوذة ومكروهة.
في عالمنا تزداد الهوة بين أمومة المتن وأمومة الهامش وأمومة الواقع، حتى لو اقتربت الأمهات من أمومة المتن، فإنها لن تنفك عن واقعها، عن أحلامها التي انفصلت عنها وربما نبذتها، لن تنفك عن نظرة المجتمع الساخطة دائما، إن جلست لتربية أطفالها، أو إن خرجت للعمل الدؤوب في الشركات والمؤسسات المرموقة، النظرة الساخطة تطاردها وتغطيها برداء الذنب والعار دائما..
مهما اقتربت من أمومة المتن، فستظل أمومة الواقع تطاردها، الواقع الذي يخبرنا عن معدلات العنف الأسري، عن التحرش في المنزل والشارع والجامعة وبيئة العمل، كيف لي كأم أن أطمئن أبنائي في واقع غير مطمئن؟ مهما اقتربت من أمومة المتن، فستظل أمومة الواقع تطاردها، ماذا لو هجرني زوجي؟ ماذا أصلا لو كانت أمّا وحيدة بلا ظهر ولا عائلة ممتدة؟ ماذا لو كانت أمّا مطلقة بلا عائل؟ ماذا لو كانت أمّا متزوجة ولكن زوجها زوج متخل عن واجبه العائلي، فتصبح هي كأم كل شيء؟ وماذا لو كانت الأم الأرملة، والتي يتعامل معها وكأنها الأرملة السوداء، مع التعديل الدائم على كل خطوة وكل نظرة..؟
أمومة الواقع القاسية جدا، وفي نظري هي أقسى حتى من أمومة الهامش، فأمومة الهامش ستجد دائما من يبرر لها، "يا حرام مريضة"، سينظر لأمومة الهامش دائما بصفتها الاستثناء الذي يثبت القاعدة، والذي سيُستأصل لا محالة، لن ينظر لأمومة الهامش بصفتها إهمالا أو تقصيرا أو خروجا عن مجتمع يستدعي المحاصرة والعزل والعقاب والإبادة أحيانا... لكن أمومة الواقع تستدعي كذلك، أعرف عددا لا بأس به من الأمهات يخفين ما يفعلن مع أولادهن خوفا من الأم أو الحماة أو المجتمع عموما.. إذا كانت الأمومة خائفة فكيف يمكنها أن تكون أمومة جميلة أو رائقة؟
في أمومة المتن هناك أسئلة غير مجاب عنها دائما.. ماذا لو لم آخذ فرصتي للتعرف على ذاتي وإمكاناتها؟ ماذا لو لم آخذ فرصتي للتعرف على نفسي الحقيقة؟ ماذا لو نظرت للمرآة فلم أجد إلا وجها مشوها؟ ماذا لو لم أجدني في سرديتي الخاصة أو في سردية المجتمع العامة؟ ماذا لو تعرضت لما لا يمكنني أن أتجاوزه وأتخطاه؟ كيف يمكننا الفصل بين الاستبداد المتوحش الذي يحيطنا من كل اتجاه، وبين أدوارنا تجاه الأمومة؟ إجابات هذه الأسئلة هي من تصنع وتخلق أمومة الواقع، والسكوت عنها وتجاهلها هو ما ينتج أمومة الهامش..
عندما قرأت الموضوع الصحفي الذي أشرت له في أول التدوينة فكرت بيني وبين نفسي أن السؤال خطأ، إذا كانت هناك أم عانت من تحرشات جسدية ونفسية، وطفولة بائسة، وفقر، واستبداد، ثم تزوجت -كامتداد طبيعي لحالتها- من مدمن مخدرات منفك عن أسرته وعائلته ويعنفها، ثم أنجبت بدل الطفل ثلاثة أو أربعة، كيف لا تقتل أولادها؟؟ السؤال الصحيح هو كيف لا تقتل أولادها وتتخلص منهم؟ هذا هو السؤال الحقيقي، هؤلاء الأمهات مشكورات بكامل الامتنان أنهن قادرات على المحافظة على الشعرة -وأنا متأكدة من أنها شعرة- التي تحفظ عليهن عقولهن وتمنعهن من قتل أولادهن في عالمنا البائس الموحش..
سيكون عالمنا رائعا لو استطاعت الأمهات أن تعشن تجربة الأمومة كلها في المتن، حيث السكينة والهدوء والأمور المحسومة سابقً، والتقديس والعطاء المطلق، عالم لا تحكمه النيوبرالية، ولا الشركات الكبرى، ولا تحولات هائلة من مجتمع يقدس الأمومة لمجتمع ينبذ الأمومة ويحتقرها، لكننا عالقون في العالم الحقيقي؛ حيث لا شيء مثاليّ سوى أننا بشر يمكننا أن نخوض التجربة ..



الجمعة، 16 فبراير 2018

العمران جوا

بقلم: محمد معاذ شهبان
مدونات الجزيرة

في رحلتي الأخيرة إلى باريس أواخر شهر ديسمبر الماضي، وبُعيد لحظات من استقرار الطائرة في الجو مُغادرة مطار مراكش نحو فرنسا، جلستُ بمحاذاة النافذة متأملا المباني الكبيرة والمساكن البسيطة وهي تزداد صغرا في الحجم كلما ارتقت الطائرة في العلو، فكانت تبدو بلونها الأحمر متفاوتة من حيث التناسق والمعمار، يغلبُ عليها طابع الاختلاف البيِن على مستوى الواجهات والأسطح لحد يُفقدها جمالها الذي يستهوي الرائي وهو يتأملها متجولا بين دروبها غير مُدرك للشكل الذي تبدو عليه للعيان من فوق..
يشد انتباهك ذلك المعمار الذي لا يُفصح عن هويته وقد تداخلت أركانه دون أن تتركَ لمسة فنية على لوحة مدينة بحجم مراكش، فتتزاحم الصحون الهوائية مترامية من سطح لآخر وتبدو المساحات الخضراء وقد حوصرت من الجهات الأربع من قبل حيتان العقار الجشعة لضم كل ما وجدته أمامها. ثم ما تلبث الطائرة أن تتجه جهة الشمال الغربي عابرة جبالا ومدنا صغيرة، وبين هذه وتلك تبدو الأراضي الشاسعة عذراء خالية تماما من أي نشاط بشري.

تعبر المحيط الأطلسي فتلمح آخر نقطة من أفريقيا -طنجة- في الشمال يحُفها البحران الأطلسي غربا والمتوسط شرقا وهي تقابل أندلس الأمس بشكل بهي معلنة بدايةَ حكاية عنوانها أوروبا، وما أدراك ما أوروبا
وأنا أطالع كل تلك المساحات من على متن الطائرة قلت لنفسي: "ما بالنا نتخبط في أزمة السكن وتذهب نصف أجورنا في مصاريف الكراء وقد بسط الله لنا كل هذه الأراضي؟" لعله سؤال بعيد عن إكراهات الواقع  لكن له الحق أن يُطرح وأن يجد إجابة كافية. من الجو تبدو الأمور مختلفة تماما بخلاف ما تراه العين بشكل محدود في مساحة محدودة، هنا من الجو تتضح الصورة بشكل جلي لا زيادة فيها ولا نقصان، وإن كانت عين المتأمل غير مستوعبة لكل ما يمر أمامها في وقت وجيز فإن كل سحابة تحمل تحتها ما تحمله من مناظر ومشاهد قد تروقها أحيانا وتزعجها أحيانا أخرى.
بلا مساحيق هي الأرض من فوق، والجميل أن إبداع الخالق في الطبيعة يسر الناظرين سواء مررت بجبال أو وديان أو بحار، الطبيعة منتظمة بحكمة المصور بديع السماوات والأرض، متناسقة في تمازج الأخضر بأزرق البحار والطيني بالبياض الناصع على الجبال، ولا أبلَغ من جمال طبيعة الله سبحانه. تلك البحار اللامتناهية التي تفصل يابسة عن أخرى فسرعانَ ما تنقلك من خصائصَ جغرافية معينة إلى أخرى، تعبر المحيط الأطلسي فتلمح آخر نقطة من أفريقيا -طنجة- في الشمال يحفها البحران الأطلسي غربا والمتوسط شرقا وهي تقابل أندلس الأمس بشكل بهي معلنة بدايةَ حكاية عنوانها أوروبا، وما أدراك ما أوروبا...

ولجنا الأجواء الإسبانية عصرا وكان السحاب متباعدا تاركا للناظر متعةَ الاستمتاع بما يبرز تحته، يَظهر العمران في قرى إسبانيا المترامية شامخا بجدرانه البيضاء وأسقفه التي تتوسط أعلاها المداخن التي تنعكس عليها أشعة الشمس مشكلة لوحة جميلة. تبدو الدروب المخترقة لأزقة القرى والشوارع المعبدة على مستوى المدن وقد تفرعت بشكل جميل ثم تتلاقى في نقطة ما وتعود لتتفرع فاسحة المجال للعمران والمساحات الخضراء.
قبيل مغرب الشمس تستقبلنا الأجواء الفرنسية وقد أُنيرت شوارعها بأضواء هادئة غير فاقعة وكأنها تطريز على ثوب اختير بعناية. تلوح في الأفق باريس الجميلة يتوسطها برج إيفيل بمنارته التي تبث أضوائها في الأرجاء الأربعة على طول كيلومترات، تبرزُ الدوائر أو المقاطعات العشرون المكونة لباريس "les arrondissements" وقد تراصت بشكل هندسي معماري أنيق ضابط للتوسع العمراني غير آبه بالرأسمالية التوسعية التي لا تُلقي بالا لجمالية المدن وخصوصياتها فكبرياء باريس لا يقبل لها إلا أن تزداد جمالا وانتظاما. تبدأ الطائرةُ في الانخفاض تدريجيا في الأجواء معلنة قرب هبوطها بباريس فتزداد الصورة وضوحا، تلمح "المولات الكبرى" والمطاعم وقد أفصحت علاماتها التجارية عن هويتها، حتى أنني أتذكر أن أضواء المرور في الشوارع الكبرى بدت متقاربة لحد كبير منظمة حركة السير والسيارات فتظهر لك السيارات متوقفة بأضوائها الخلفية الحمراء وأخرى ماضية إلى حال سبيلها وقد أذنت لها أضواء المرور الخضراء.
وأنا أنزل من الطائرةِ إلى المدرج أَدركت حينها أن ما نراه ونحن فوق مهم بمكان في تشكيلِ انطباعنا عن البلاد التي يعبرها مسيرنا، فإن صلح العمران وأُحسنت هندسته أثلجت الصدور وإن غلبت العشوائية وبدا التخبط في التعمير واضحا نُغصت النفوس ولو كانت في متعة سفر..

الثلاثاء، 30 يناير 2018

عن كلبةٍ تدعى نورة...

والكلاب أوفى من بعض البشر!!
منقول عن صفحة سيدتي.نت 
صداقة جميلة تجمع ما بين كلبة تدعى نورة وطفل العائلة التي تحتضنها.. حيث التقطت اليزابيث سيبنس والدة الطفل العديد من المشاهد الجميلة التي تجمع ما بين الإثنين..

هذه الكلبة الإنجليزية الأصل والتي عانت سوء المعاملة من قبل مالكها الأصلي تم نقلها لملجأ للحيوانات قبل أن تتبناها عائلة كندية مكونة من الأم إليزابيث وزوجها واللذان يعيلان 3 أبناء بالإضافة لحيواناتهم الآليفة المكونة من 3 قطط وكلبين..
إليزابيث جسدت هذه العلاقة الرائعة التي تجمع ما بين جميع أفراد العائلة بلقطات حميمة ومدهشة نشاركها معكم.











الجمعة، 26 يناير 2018

ولقد كانت طعنتك مؤلمة يا صديق.

بقلم: د.أحمد خيري العمري

ولقد كانت طعنتك مؤلمة يا صديق.
مؤلمة جداً..
ربما لأنها أتت منك أنت بالذات..
لكني لن أسقط في دوامة لومك.. (قل هو من عند أنفسكم).. لا بد أني أخطأت في شيء ما.. ربما أخطأت في اختيارك أصلاً.. أو بالغت في الثقة بك.. ربما أخطأت بأن كشفت ظهري لك..

لا بد أن ما حدث كان نتيجة رؤية قاصرة مني..


كانت طعنتك مؤلمة يا صديق، ولأنها كانت كذلك، فسأحرص على أن لا تشفى تماماً، أريد من الجرح الذي نتج عن طعنتك أن يترك أثراً في ظهري، ندبة تذكرني بكل ما كان، تعلمني أن لا أنسى، أن أدقق أكثر في اختياراتي، أن أقنن من ثقتي بالآخرين، أن لا أترك ظهري مكشوفاً لهم..

سأجعل من أثر طعنتك نُصباً تذكارياً يذكرني دوماً بما كان، نُصباً تذكارياً يحذرني من أن أكرر ما فعلت، نُصباً تذكارياً يجعلني أواجه أخطائي.. وفي الوقت نفسه، يذكرني أن لا أفقد ثقتي بالجميع لمجرد أنك أنت قد طعنت..

ومن يدري، ربما ذات يوم، سأنظر إلى أثر طعنتك، فأبتسم، وأقول لك: شكراً يا صديق..

في حياة كل منا (أُحُدْ) ما، هزيمة ما، طعنة ما..
المهم هو، ماذا سنفعل، في اليوم الذي يلي هذه الطعنة..

الخميس، 25 يناير 2018

مرارة الفراق المزدوج

الصحفية رنا الصباغ ترثي زوجها السابق: 

في وداع نديم غرغور.. مرارة الفراق المزدوج

2017/12/30

قبل ثلاثة أيام، مررت بفاجعة شخصية لم أشهد مثيلا لها في حياتي؛ موت زوجي السابق نديم غرغور وفلذة كبده وحبيب قلبنا الغالي كريم، في حادث سير مرّوع على طريق البحر الميت.
رغم سنوات الغياب… يعجز الكلام عن وصف مرارتي في “حضرة الغياب” الأزلي. سأشتاق إليك ما حييت وأستحضر تفاصيل حياتنا بحلوها ومرها.
زواجنا أواخر القرن الماضي توّج ثلاث سنوات من المواعدة الاجتماعية تخلّلتها فترة الخطوبة. أربعة عشر عاما عشناها بمحبة ووئام لم يفرقّنا شيء سوى ضغط العمل والأسفار، وثم الطلاق عام 2011 لظروف معقدّة كانت أكبر منا في غياب العقلاء.
اليوم، يصعب علي تخطّي ما وصفه أحد الأصدقاء: ب”الحزن غير المعترف فيه” لوحدي.
ويحق لي التعبير عن وطأة الشعور بالخسارة الشخصية. تجربتنا الخاصة مرّت عبر سلسلة مراحل: حب جارف، محطّات جميلة، ظروف صعبة، أوقات توتر وقهر، وصولا إلى طلاق صعب وقاس، وبعده بسنتين مكاشفة وجاهية في بيروت وضعت حدّا للمرارة المصاحبة له. ساعدنا هذا اللقاء على إغلاق هذا الفصل الشائك.
بعد افتراقنا، كنّا نلمح بعضنا البعض في المناسبات الاجتماعية وواظبنا على تبادل التهنئة بعيدي ميلادنا وسائر الأعياد المجيدة.
على أن وفاتك يوم الخميس صعقتني وخلخلت توازني. لطالما توقعت أن يخطفني الموت قبلك، لأني كنت أراك قويا وأكبر من الحياة.
كثافة الحزن الذي ألم بي وبعائلتي لا يوصف. موتك طرح أمامي حزمة أسئلة صعبة عن رحلتنا القصيره عبر الحياة.
اليوم أشكر ربّي أننا طوينا صفحة الانفصال والمكاشفة خلال لقائنا السابق وليس بجانب فراش الموت، حيث يسعى معظم الناس للصفح وطي صفحات المرارة في علاقاتهم.
حضرت جنازتك لأشكركك على السنوات الجميلة التي قضّيتها معك؛ نبع ذكريات مدهشة ولحظات عديدة من السعادة الحقيقية، الحب والمسرّات والأسفار حول العالم. نعم، حقّقنا الكثير معا.
في أوقات المعاناة والألم، لا ضير في إطلاق العنان لأحاسيس الحزن والرحمة والغفران، بدلا من التقيد بالقواعد والأعراف الاجتماعية.
منذ صاعقة خبر وفاتك وحبيب القلب كريم، عدت لتصفح ألبومات صورنا معا وبطاقات المحبة التي كنت ترسلها عبر السنين وكذلك الهدايا الخاصة بمناسبة يوم مولدي وأعياد الميلاد، أو عندما كنت تعود من رحلات العمل. وأمضيت وقتا طويلا مع العائلة والأصدقاء، الذين يعنون لنا الكثير. اتصل مئات الأصدقاء والمعارف لتقديم العزاء واستذكار أوقات أمضوها معك وتجاربكم المشتركة في المدرسة، العمل أو فضاءات الحياة.
ولا تزال أمواج المشاعر الجياشّة تتدفق في قلبي. تتأرجع الأحاسيس بين الحزن على علاقة فشلت، قهر حيال ظروف صعبة خارج إرادتنا غزت حياتنا كزوجين، حنين إلى الأوقات الجميلة التي أمضيناها معا بما فيها لحظات الصعود والهبوط كما في أي علاقة زوجية طبيعية.
خسارتي ضخمة، شاقة ومزدوجة – رحيلك ورحيل كريم الذي أحبيت ورعيت خلال وجودي معكم.
لن أقاوم الحزن الذي تسلل إلى حياتي دون موعد في 28 كانون الأول/ 2017. وكأنك استعجلت الرحيل قبل أن تغيب شمس هذا العام المسكون بالأسى؛ خسرت فيه أحباء عدّة خصوصا عمتي سعاد، سندي منذ وعيت على الدنيا.
ستبقى محطات حياتي معك محفورة بذاكرتي. وأقولها الآن بثقة إن الأوقات الممتعة فاقت لحظات العتب والخصام.
علمتني الكثير في هذه الحياة يا نديم. خضنا معا العديد من الفرص وواجهنا تحديات مشتركة في الحياة والعمل.
لقاؤنا الأول كان في 16 كانون الثاني/ يناير 1995، يوم بلغ والدك حنا – رحمه الله- سن الثمانين. إجراءات طلاقنا اكتملت في 14 شباط/ فبراير، يوم احتفال الجميع بعيد الحب.
بين هذا وذاك، ارتبطنا معا في ظلال عائلة رائعة؛ في ظلال رحمة والدك حنا ورحمة والدتك الفاضلة والمحبة سيلفيا. أمضينا أياما استثنائية مع أبنائك؛ حنّا، كريم -الله يرحمه في ملكوته- وتامر.
أصلي إلى العلي القدير لأن يمنح باتي، وحنا وتانيا وتامر ورايا وكارول ورجا وجميع من كانوا جزءا من حياتك القوّة والعزاء لاجتياز هذه الخسارة المفجعة. لا شيء يزيل الحزن عن القلب. لكن السلام الداخلي، المسامحة والامتنان يمكنهم أن يسهّلوا عذابات الفؤاد ووجد الفراق.
لكنني أراهن على اعتمال الذكريات الجميلة في مخيلتي.
موتك المفاجىء وكريم تذكير صارخ بأننا جميعا مجرد شموع في مهب الريح.وهو ناقوس لنا جميعنا: كيف تكون حياة الإنسان هشّة وكيف تكون غير منصفة أيضا.
لترقد بسلام وراحة أبدية مع الغالي كريم إلى جانب أمك وأبيك والعمّة هيلين وابن العم رضا وسائر أفراد العائلة الذين غادرونا خلال العقدين الفائتين.

الأربعاء، 17 يناير 2018

7 رسائل بين «الجنوبيّ» وحبيبته «عبلة»


رحلة البحث عن 35 جرام تفاهُم بصُحبة المجنونة الصغيرة



بعد محاولاتٍ بائسة من الصحفيّة المبتدئة وقتها أن تلتقي الشاعر المُخضرم «أمير شُعراء الرفض»، لتُجري معه حوارًا لصالح جريدة «أخبار اليوم» لا تضمن تمامًا أنه سيُكلل بالنشر، فالشاعر اليساريّ لم يكُن وقتها خفيفًا على قلب من بيدهم أمر النشر من عدمه في الجريدة الحكوميّة، احتمل «جارسون» مقهى «ريش» مأوى الشاعِر المُفضل أول عربون الرسائل بين «أمل» و«عبلة» خطّت الصحفيّة فيها:
«الأستاذ أمل دُنقُل.. يبدو أن العثور عليك مُستحيل، يسعدني الاتصال بي في جريدة الأخبار، ويُشرفني أكثر حضورك»، لتترُكها الصحفيّة في حضرة فتى المقهى المُرشِد يحرُسها ويُعطيها للشاعِر الليليّ، ليكتفي الشاعر بإسعادها، حد وصفها في كتابها عنه «الجنوبيّ»، مادّا بذلك أوائل حِبال الود بين الشاعر والصحفيّة باتصاله بها على «تليفون» الجريدة.
«المصري لايت» يرصد قصّة لقاءه وغرامه بالصحفيّة «عبلة الرويني»، والتي ما إن جمع بينهُما القدر حتى باغته سرطان ملعون، بعدما كانت قد أرّخت لها باقة من رسائلهُما، وتنبّهت السيّدة لما تحمل هذه الرسائل من تفاصيل إنسانية متشابهة مع أغلب قصص المحبة تُرشحها بقوة لتُصبح نصوصًا رائعة من «أدب الرسائل»، لتنشُرها في غير موضع من بينها كتاب «الجنوبي» وأرشيف مجلة «أخبار الأدب».

7.من بين هدايا الصداقة الأولى، أهدى أمل لعبلة نسخة من ديوانه «العهد الآتي» قبل أن يُنشَر، وبخطوط مُلونة ومنمّقة اتخذ صفحته الأولى موضعًا لرسالة مُقتضبة تليق بين صديقين ما لبثت معرفة العمل أن تحوّلت إلى صداقة بينهُما:
«إلى صديقتي المُشاكسة، العزيزة جدًا علىّ، رغم أني لستُ عزيزًا عليها».

6.لكن على مايبدو أن ديوان «العهد الآتي» كان قد استحلى أن يكون محلاً لرسائل أمل وعبلة، فعلى نسخة الديوان المنشورة عن دار مدبولي عام 1975، وبعدما أصلح بعد أخطاءها المطبعية، كتب لها رسالةً قصيرة مُعلنًا عن تحوّل الصداقة مابينهما إلى محبّة وليدة:
«إلى الآنسة عبلة الرويني، كان من المُمكن أن تكون صديقتي، لكن عنادها حطم هذا الاحتمال، أرجو أن يكون هذا الكتاب عند حسن ظنها، مع تقديري لشاعريتها».

5.أمل، الذي لم يكُن مولعًا بالنثر تمامًا، اجتذبته محبة عبلة إلى ميدان النثر، فنظم لها خطابًا يُعلن لها عن حُبها له فيه، تقول عبلة في كتاب «الجنوبي» «أمام عدم قدرته على الإفصاح عن مشاعره بشكل صريح راح يكتُب لي».
«صباح الخير..
في المثلث الشمسي الممتد من الشباك إلى زاوية سريري أراك متمددة في الذرات الذهبية والزرقاء والبنفسجية التي لا تستقر على حال، تمامًا كنفسيتك ومع ذلك ابتسم لك وأقول صباح الخير أيتها المجنونة الصغيرة التي تريد أن تلف الدنيا على أصبعها، والتي تمشي فوق الماء وتريد ألا تبتلّ قدماها الفضيتان.
المسافة بين أمس واليوم لقاؤنا الممتد طريق ينشق في قلبي، في كل مرة أضطر إلى أن أتركك أحس أن لقاءنا الأول هو لقاؤنا الأخير، والعكس صحيح.. لا أعرف تماماً لماذا هذا الإحساس، لكني أرجح أنه نابع من إحساس بتقلبك الدائم وبحثك المستمر عن الحزن، لا أريد أن أفكر كثيراً في خلافاتي معك، فهذا الصباح أجمل ما فيه أنه يقع بين موعدين، بين ابتسامتين من عينيك، صحيح أنهما سرعان ما تنطفئان، لكني أسرقهما منك، وأحتفظ بهما في قلبي، وأتركك تغضبين وتغضبين.
حسنا لا يهم؛ فلقد عوَّدت نفسي على أن أعاملك طبقاً لإحساسي وليس طبقاً لانفعالاتك، أحبك ولا أريد أن أفقدك أيتها الفتاة البرية التي تكسو وجهها بمسحة الهدوء المنزلي الأليف.
صباح الخير أخرى، سأحاول أن أعود للنوم؛ فالساعة الآن لم تتجاوز العاشرة، هناك أربع ساعات باقية على موعدك، وأنا لم أنم جيداً، سأحاول أن أنام، أن آخذك بين ذراعي، وأخبئ رأسك العنيد في صدري لعله يهدأ ولعلي أستريح».

4.وبالرغم من نجاح عبلة في إنزال شاعر الرفض عن عرش التمنُع، إلا أن ذلك لم يمنع من بعضِ «مُبارزات الديَكة»، بل الكثير منها حد وصف عبلة، وفي ذلك كتب لها أمل:
«لو لم أكن أحبك كثيرا لما تحملت حساسيتك لحظة واحدة.. تقولين دائما عني ما أدهش كثيرا عند سماعه، أحيانا أنا ماكر، وأحيانا ذكي، رغم أنني لا أحتاج إلى المكر أو الذكاء في التعامل معك؛ لأن الحب وسادة في غرفة مقفلة أستريح فيها على سجيتي، ربما كنت محتاجا إلى استخدام المهارات الصغيرة معك في بداية العلاقة؛ لأنني كنت أريد أن أفهمك بحيث لا أفقدك، أما الآن فإنني أحب الاطمئنان الذي يملأ روحي عندما أحس بأن الحوار بيننا ينبسط ويمتد ويتشعب كاللبلاب الأخضر على سقيفة من الهدوء.
أكثر شيء أخافه هو تربيتك أو بالأحرى حياتك، ففي العادة تبحث كل الفتيات اللاتي لهن مثل ظروفك من الأمان في البيت والعمل عن قدر من القلق والانشغال وأنا لا ألومك في هذا بل وأصنعه لك متعمداً في كثير من الأحيان.
إنني أحتاج الكثير من الحُب، وكثير من الوفاء، وكثير من التفاني إذا صح هذا التعبير، ولكنك لا تعطيني أي شئ، لدرجة أني أحسست أني محتاج إلى كلمة حُب رفضتِ أن تنطقيها، وإذا طلبت منك طلبًا صغيرًا فأقرب شئ إلى لسانك هو كلمة الرفض.. إن قلبك قِفر جدًا لا يستطيع أن يكون وسادة لمُتعب أو رشفة لظمآن.»

3.على الشاطئ الآخر من رسائل أمل المُطوّلة المُسهِبة، جاءت رسائل عبلة تلغرافيّة قصيرة من جنس الطابع الصحفيّ الغالب عليها، والمُطعّم بشاعريّة مُميّزة رُبما اكتسبتها من طول مُلازمة أمل، فجاءت رسائلها على النحو التالي:
«كلما قرأت أشعارك أحس أن مكانك الطبيعي في صفوف الانقلابيين، ولهذا فأنت شاعرٌ جيد وعاشق شرير»
«نواظب بشكل جدي على قهوة الغضب الصباحيّة (كل مابيننا غضب وعناد ساطع) نشربها صامتين، يزهر الفنجان من بنهما: حبنا، والموت المُبكر»
«جلس اليوم أمامي في المترو شاب جميل الملامح، نظر إليّ وابتسم، أحست أن ابتسامته تغتالك من الخلف فتجهمت مدافعة عنك، أتمنى أن تكون جواري في مترو الغد لأبتسم لكل الملامح الجميلة، وأغتالك وحدي»
«الغفران ليس من طبيعتي، والنسيان أيضًا ليس من طبيعتي، لكنك حين تدخُل كالسيف في دوائر حلمي، أتحول إلى مساحات للحُب والغفران».
«أحبك.. أكثر اتساعًا من رؤئ عينيك، أكثر قربًا من مسامات جلدك، عصفور ينطلق من أطراف أصابعي، هاربًا من ضيق الحروف الأربعة»
«تسألني كل الفروع المُتسلقة فوق الأيام بلا جذر: ولماذا هو؟ لأنه لا يستطيع أن يكون أنتم».
«يسألني قلبي بعفوية شديدة: من هو؟ أرسمك امتدادًا».

2.وعلى ما يبدو أن أمل في مرّات التجأ إلى طابع عبلة التلغرافيّ في رسائلها، لكن هذه المرة وسّط بينهما في هذه الرسالة الغاضبة مكتب البريد، وبمزيد رسميّة كتب لها:
«الآنسة عبلة الرويني.. صفحة المسرح بجريدة الأخبار: أرجو إرسال 35 جرام ثقة، التفاهم مطلوب، مع إلغاء التفكير السابق، أخطرونا تلغرافيا.. أمل»

1.وفي مرّات كانت رسائل أمل لعبلة مناجاة نفس أكثر منها حديث حبيبين، لتتمتع بدرجة عُليا من مُصارحة الذات، بل وتعرية الذات والتحدُث عن أدق تفاصيل شخصية الشاعر ومخاوفه، كما كتب لها في هذه الرسالة:
«إنني لا أعتقد أن الشاعر في قلبي تقاسم الكينونة مع القاتل في أعماقي، لقد قتلت عبر سنوات العذاب كل أمل ينمو بداخلي قتلت حتى الرغبات الصغيرة، والضحك الطيب، لأنني كُنت أدرك دائمًا أنه غير مسوح لي بأن أعيش طفولتي، كما أنه من غير المسموح أن أعيش شبابي.
كنت أريد دائمًا أن يكون عقلي هو السيد الوحيد، لا الحُب ولا الجنس، ولا الأماني الصغيرة، لقد ظللت لا أقبل كلمة رقيقة من امرأة لأنني أضطر عندئد إلى الترقق معها، وهذا يعني بلغة إحساسي التودُد لها، وهو يمثل الضعف الذي لا يغتفر.
وقد لاتعرفين أنني ظللت إلى عهد قريب أخجل من كوني شاعرًا، لأن الشاعر يقترن في أذهان الناس بالرقة والنعومة وفجأة تطلُبين مني دفعة واحدة، أن أصير رقيقًا وهادئًا وناعمًا يعرف كيف ينمق الكلمات».

الأحد، 14 يناير 2018

لماذا تُصاب الأمهات بالجنون؟

https://goo.gl/28srvp
بقلم أحلام مصطفى
مدونات الجزيرة

كثيراً ما أقرأ منشورات لشباب وبنات في سن المراهقة أو في العشرينيات وربما الثلاثينيات يتحدثون فيها بصورة فكاهية عن جنون الأمهات، أو لنقل "عصبتيهن" كما يُشار إليها. والعصبية من الأعصاب كما نعرف، والأعصاب في تعبيراتنا اليومية تشير إلى الحالة النفسية بدرجة كبيرة، فنقول: أعصابي تعبت، وفقد أعصابه كترجمة للتعبير الإنجليزي "lost his nerves "، وأعصابه تعبانة.. إلى آخر ذلك.
 
دعوني أقول إنني كنت هكذا أيضاً، أفكر لماذا لا تكون أمي (التي أنجبت 9 أطفال وساعدت والدي في إطلاق عمله الخاص ثم عملت مدرسة لفترة من حياتها)، لماذا لا تكون هادئة قليلاً؟ لماذا لا تكون رائقة البال أكثر؟ لم أسمع إخوتي يبكون ليلا طلبا للحليب، ولم أسهر معهم عندما كانوا مرضى، ولم أتابع دراستهم ولم أخطط ميزانية أدواتهم المدرسية أو ثياب العيد أو أفكر في مشاكلهم الصحية. ولكنني كنت أفكر كثيرا لماذا لا تكون أمي هادئة قليلاً؟
أذكر أنني مرة استيقظت بسبب مغص في معدتي، فوجدت أمي تسهر بجانب أختي التي داهمها المرض ليلا. أعدت لي أمي كوبا من الميرمية بالسكر وعدت لأنام، بينما بقيت هي بجانب المريضة الأخرى. كثيرا ما كان والداي يتحدثان عن كثرة عددنا وكم أن هذا يثير الجنون في بعض الأحيان، فنرد عليهم: لم يجبركم أحد على إنجابنا! ولكن الحقيقة أنني الآن أحمد لله أنهما فعلا! مع أنهما مازالا يحملان الهم ويتابعان أعباء الباقين، ولكنهما لا يعرفان كم أضافا لهذا العالم بإنجابنا.
مهندسون وباحثون في السرطان واللغة وآباء وأمهات الآن وفي المستقبل إن أذن الله بذلك. كل منا ارتبطت حياته بحياة آخرين، لسنا مثاليين ولكننا ساهمنا بصورة ما في تغيير شيء من حولنا إلى ما نأمل أن يكون خيره أكثر من شره! فعلى ما الندم؟ ومن الذي يتجرأ ويصدر الأحكام على والدي بعد أن أفنيا عمرهما في إنشاء لا شخصا واحدا بل 9 أرواح إنسانية لهم من يحبهم ويحبونه، ويخدمون غيرهم وينشئون بدورهم أفرادا آخرين؟
 لقد استنفدت أمي صحتها وطاقتها في أكثر من 9 أجنة، وصل منهم إلى هذه الحياة من وصل، وغاب عنها من غاب. عظامها ودمها وعيونها ودماغها وكل جزء منها، أضف إلى ذلك "أعصابها" التي تعاملت مع الطفل الذي يبكي طوال النهار، والذي لا يريد الدرس، والذي تسبب في مشكلة في المدرسة، والتي تخاصمت مع صديقتها، والتي تعاني من مشاكل المراهقة وتبعاتها، والذي يعاني من مشاكل عاطفية، و و و...، ولكنني خلال كل ذلك لم أكن أنظر إلا إلى ما يمكن أن تفعله بصورة أفضل، وما يمكن أن تقوله بصوره أفضل، وطريقة التربية الأفضل التي كان من الممكن أن تتبعها، وعدم التفهم وعدم التقدير الذي نتلقاه كأبناء وبنات في القرن الحادي والعشرين!
لم أفكر يوما كم أنه من المتعب والمرهق للفكر والأعصاب أن تحاول التواصل مع شخصيات مختلفة في نفس الوقت وطوال الوقت، أو أن تقول لأحدهم أن يفعل شيئا يسهل عليها حياتها قليلاً فيرفض أو يتأخر لأسباب "تافهة"، كأن يتحدث مع زميل له في الهاتف، أو تشاهد أخرى برنامجا ما في التلفاز. لم أقدر صعوبة أن تغير طريقة تفكيرك لتتلاءم مع أشخاص ولدوا بعدك بـ 25 عاما لهم زمنهم وثقافتهم وخبراتهم الخاصة، صعوبة تجعلك تغضب من نفسك ومن هذا العالم معا.
لماذا تصاب الأمهات بالجنون أو بالانهيارات العصبية المفاجئة أو بنوبات بكاء غير مبررة أو بكآبة طاغية في أوقات غير منطقية؟
تقول إحدى الدراسات العلمية إنه بينما تركز غالبية المقالات والأبحاث على صحة المرأة النفسية خلال الحمل وبعد الولادة، إلا أن نتائجها توصلت إلى أن عددا كبيرا من الأمهات يعانين من مشاكل نفسية متعلقة بالأمومة بصورة مباشرة أو غير مباشرة حتى بعد مرور أربع سنوات من ولادة طفلهن الأول. أهم الأسباب التي يتحدثون عنها هي بكل بساطة "قلة النوم"!
الحرمان من النوم هو وسيلة معروفة من وسائل التعذيب، حتى معسكر جوانتنامو لم يستغنِ عنها! الحرمان من النوم قد يؤدي إلى أعراض تتمثل في: ضعف القدرات العقلية، التوتر، الغضب، والقابلية السريعة للاستجابة للاستفزاز، وسرعة التأثر، وحتى الأمراض النفسية. فتخيل أن الأمهات لا يحصلن على ليلة كاملة من النوم بصورة مزمنة تمتد لسنوات. وإن قررت الأم إنجاب أطفالها بفارق عمري بين العام أو العامين لأنه أفضل للأطفال كما ترى، فإنها قد تمضي من 4 إلى 6 سنوات من عمرها لا تنام بصورة كافية.
علينا بجانب حديثنا الطويل عن مشكلات الأمهات، ومواطن الخطأ بتربيتهن، ومواطن الإصلاح، أن نتحلى بشيء من المغفرة والرحمة بهن، والفهم الأعمق لحقيقة ما يقمن به
فما بالك وهذه الأم تضيف إلى هذا التعذيب عملا أو وظيفة؟ وعلاقات اجتماعية في غالبها تزيد من الأحمال بدلا من تخفيفها، والتزامات عائلية، وأدوار أخرى تقوم بها كل أم حسب ظروفها وعمرها ووضعها المادي والاجتماعي وغير ذلك. ومع ذلك فإن أمهاتنا يخرجن من الجهة الأخرى على قيد الحياة، بل ومحتفظات بغالبية قدراتهن العقلية سليمة معافاة، ويقمن بهذا الدور مجددا إن تطلب الأمر عندما تنجب بناتهن الأحفاد والحفيدات، فيسهرن حتى ترتاح الصبية، وتحملن عبء الأسابيع الأولى حتى تتعافى الشابة، وربما تابعن اهتمامهن بهؤلاء الأطفال لأن الابنة ستخرج للعمل قريبا، ولن تستطيع أن ترسل رضيعها للحضانة.
فلماذا لا نسأل من أين تأتي الأمهات بالصبر؟ ومن أين تأتي الأمهات بالطاقة؟ وكيف تحافظ الأمهات على صوابهن؟ لماذا نسأل فقط عن جنونهن المؤقت؟ لماذا نرى فقط لحظات ضعفهن ومواطن الخطأ في ما يبذلنه من جهد؟ ولماذا لا تنزاح غشاوة السذاجة عنا إلا عندما ننجب نحن أيضا أطفالا ونشرب من  الكأس نفسه؟
في مقطع من رواية "Dolores Claiborne" للكاتب (Stephen King) يقول في جملة قصيرة جداً: "ليس هناك أنثى شرسة أو مجنونة على وجه هذه الأرض كالأم المذعورة على أطفالها". إذا يبدو أن هناك انتشارا إلى حد كبير لفكرة أن الأمهات يصبن بالجنون، ولكننا ربما يجب أن نختلف حول طريقة نظرنا إلى هذا الجنون؟
وربما علينا أيضاً إلى جانب حديثنا الطويل عن مشكلات الأمهات في الأجيال التي سبقتنا وجيلنا، ومواطن الخطأ في تربيتهن، ومواطن الإصلاح، أن نتحلى بشيء من المغفرة والرحمة بهن، والفهم الأعمق لحقيقة ما يقمن به، بعيدا عن تكرار عبارات مثل "ما كل النسوان بتخلف"، والعبارة الأكثر تخلفا "ما الأرانب بتجيب ولاد"، ولنتوقف عن التقليل من شأن ما يعانينه، لأن ذلك بطبيعة الحال فيه مخاطرة بأن يصبحن أكثر جنوناً!