أرشيف المدونة الإلكترونية

الأحد، 12 فبراير 2017

رسائل كنفاني والحاجّ إلى غادة السمّان:- مأزق الحيّز الخاصّ والتأريخ الأدبيّ

بقلم: أيمن نبيل




شهد المجالُ الثقافيّ العربيّ قبل أسابيع مواقفَ محتدمةً بعد الإعلان عن نشر الأديبة غادة السمّان رسائلَ الشاعر اللبنانيّ أنسي الحاجّ إليها.(1) وهذه المواقف لها الركائزُ نفسُها تقريبًا من نشر السمّان رسائلَ الأديب والسياسيّ الفلسطينيّ غسّان كنفاني إليها، في مطلع التسعينيّات من القرن الماضي، مع بعض الفوارق المهمّة: مثل أنّ الضجّة (هجومًا ودفاعًا) في حالة الحاجّ كانت أكبرَ بسبب وسائل التواصل الاجتماعيّ؛ وأنّ الشراسة كانت أكبرَ في الهجوم على السمّان في حالة كنفاني بحكم موقع الأخير في الحياة السياسيّة في زمنه، وكذلك حالته العائليّة (الزوجيّة) أثناء دخوله في قصّة الحبّ تلك.

الهدف الرئيس من هذا المقال هو بناءُ تصوّر عامّ حول موضوع نشر رسائل الأدباء وفكرةِ الحيّز الخاصّ، انطلاقـًا من مناقشة حالةٍ محدّدة، هي حالةُ نشر السمّان لرسائل محبّيها.

أوّلًا:- الاجتهاد القانونيّ وقضيّةُ سالينغر
أهمّيّة استحضار أحكام القضاء في حوادث تاريخيّة مشابهة تكمن في أنّ هذه الأحكام هي ــــ في نهاية المطاف ــــ وجهاتُ نظرٍ يُعين الاطّلاعُ على حيثيّاتها في تكوين وجهةِ نظرٍ خاصّةٍ أكثرَ شمولًا. كما أنّ الرصدَ التاريخيّ لتطوّر القوانين والتشريعات العامّة، بخصوص الموادّ غير المنشورة عمومًا، يعطي الباحثين صورةً عن تطوّر النظرة الدولتيّة أو النخبويّة إلى أمور مثل "الحيّز الخاصّ" و"حقوق النشر" وغير ذلك. وسنتّخذ من القانون والقضاء الأميركيّيْن، في الربع الأخير من القرن العشرين، مثالًا؛ وذلك لعدّة عوامل، مثل: انفتاح الحيّز الأميركيّ العامّ، ولكون تلك الفترة الزمنيّة تتطابق مع الفترة التي نَشرتْ فيها السمّان رسائلَ كنفاني إليها.

أوّلُ ما يلفت النظرَ في موقف المدافعين عن سلوك السمّان قولُهم إنّها تمتلك الرسائلَ، ومن ثمّ يحقّ لها قانونيًّا التصرّفُ بما تمتلكه. في مسألة التملّك تمييزٌ قانونيٌّ دقيق: فالسمّان تمتلك الرسائلَ فعلًا، بما هي جسمٌ مادّيٌّ ملموس،(2) ولكنّها لا تمتلك محتواها، الذي يقع تحت قانون حقوق النشر، وهذه ترجع إلى المُرسِلِ أو إلى ورثتِه. وهذا التمييز، بين ملكيّة المادّة والمحتوى، يغيب غالبًا عن وجهات النظر المدافعة عن السمّان.(3) لهذا لا يُسمح للمرسَل إليه بنشر محتواها من دون موافقة صاحب حقوق النشر.(4)

.لتعميق النقاش، سنستعرض قضيّةً شهيرةً في عالم النشر، هي قضية سالنغر ــــ راندوم هاوس. وملخّصُها أنّ الناقد الإنجليزيّ إيان هاملتون قرّر كتابةَ سيرة الروائيّ الأميركيّ جاي. دي. سالنغر (توفّي سنة 2010). وكان هذا الأخير، كما يوصف، متنسّكًا، ويرفض كلَّ محاولات الاقتراب منه، ولهذا رفض التعاونَ مع هاملتون، فتحدّث الأخيرُ مع أصدقاء سالينغر، فتبرّع بعضُهم برسائله إلى مكتباتٍ جامعيّةٍ زارها هاملتون، وسُمح له بالاطّلاع عليها،(5) ولكنّه أعاد نشرَ جزءٍ كبيرٍ منها، وأعاد صياغةَ بعضٍ من هذه المقتطفات، بعد أن عرف سالينغر بالأمر ورفعَ قضيّةً عليه وعلى الدار التي نشرت الكتابَ.

في هذه القضيّة ظهرتْ حساسيّةُ موضوع نشر الرسائل الشخصيّة، لا من خلال مواقف المثقّفين المتضاربة حول الموضوع فحسب، بل من خلال تضارب الأحكام القضائيّة ذاتها أيضًا.(6) فالمحكمة الابتدائيّة أصدرتْ حُكمًا لصالح دار النشر، رغم إقرار هذه المحكمة بالضرر الذي لحق بخصوصيّة سالينغر؛ إذ اعتبرتْ أنّ حقوقَ نشره لم تُنتهكْ لأنّ استخدامَ هاملتون للرسائل من دون إذنِ سالينغر بقيتْ في حدود "الاستخدام المنْصِف."(7) لكنّ سالينغر طَعَنَ في الحكم لدى محكمة الاستئناف، وجاء حكمُ هذه الأخيرة سنة 1987 لصالحه: فمَنعتْ نشرَ الكتاب لانتهاكه حقوقَ النشر، ولأنّ الكتابَ أصلًا ستَعتمد قيمتُه في السوق على هذه الرسائل (أكانت مقتطفاتٍ أمْ إعادةَ صياغة)؛ ولحيثيّاتٍ أخرى وردتْ في منطوق الحكم.(8)
نشرت السمّان رسائلَ كنفاني بعد هذه القضيّة بخمس سنوات تقريبًا. وبالمقابلة بين سلوك هاملتون وسلوك السمّان، نستخلص ملاحظتيْن:-
الأولى، أنّ ما فعله هاملتون لم يكن نَسْخـًا للرسائل ونشرَها في كتابٍ مستقلّ، بل كان الغرضُ الرئيسُ من عمل هاملتون غرضًا نقديًّا وعلميًّا، ألا وهو كتابة سيرةِ أديبٍ، ستساعد مقتطفاتٌ من رسائله في إثراء المحتوى؛ ومع ذلك جاء حكمُ المحكمة بذلك الشكل التفصيليّ والصارم. أمّا ما فعلتْه السمّان فكان نشرَ الرسائل كاملةً كما هي، من غير أيّ غرضٍ نقديٍّ أو علميٍّ واضح؛ وهذا يجعل موقفَها أضعفَ بكثير من موقف هاملتون. وبحسب التمييزات التي يذكرها ويليام لايدز، فإنّ استعمال هاملتون الرسائلَ كان إنتاجيًّا، في حين أنّ استعمال السمّان كان توليديًّا أو نسْخيًّا.(9)
الثانية، أنّ الحُكم أشار إلى جانبٍ ربحيٍّ في الموضوع؛ فالرسائل ذاتُ ثمنٍ مادّيّ، ونشرُها ــــ أو حتّى نشرُ مقتطفاتٍ منها ــــ بغير إذن صاحب حقوق النشر يَخفض قيمتَها المادّيّةَ أو يُعدمه. الجدير ذكرُه أنّ المحكمة قدّرتْ قيمةَ رسائل سالنغر بما يفوق نصف مليون دولار، وكانت حمايةُ حقّه في بيع حقوق النشر إحدى حيثيّات الحكْم.

.من المؤسف أنّ الرأسماليّة جعلتْ لحظاتِنا الحميمةَ وتعبيراتِنا العاطفيّةَ قابلةً للبيع والشراء؛ ومن هنا يواصل ديفيد هارفي التشديدَ على أنّ الولعَ النيوليبراليّ بحقوق المِلْكيّة الفكريّة هو من أهمّ علامات "تسليع كّل شيء."(10) ومع اعترافنا بهذه الأمور المؤسفة، لكنّ المرسَل إليه، وفقًا لهذا الواقع، يعتدي على أصحاب حقوق النشر إذا نشر الرسائلَ من دون إذنهم.
في نهاية هذا المحور ينبغي القول إنّ مسائل نشر الرسائل والمذكّرات لا تمتلك معاييرَ قانونيّةً واضحةً دومًا؛ فهناك أحيانًا حدودٌ غير واضحة، وعواملُ معيّنة تجعل كلَّ القضيّة خاضعةً لاجتهادات المَحاكم، مثل "الاستعمال المنصف" و"الغنى الإخباريّ" وغيرهما. وليست المسألة في الدول الديمقراطيّة محسومةً لصالح النشر المفتوح بلا حساب، كما يروّج كثيرٌ من المثقّفين العرب. والسِيَر والتراجم ــــ التي تؤلَّف لأدباءَ لم تمرّ على وفاتهم خمسون سنةً بعدُ ــــ تتحرّى الدقّةَ والإيجازَ في الاقتطاف من الرسائل والمذكّرات غير المنشورة لهذه الاعتبارات القانونيّة المتداخلة والمهمّة.

ثانيًا:- ليبراليّون ومحافظون
بصورة اختزاليّة، يُعتبر "الحيّزُ الخاصّ" و"الحقوقُ الفرديّة" من أعزّ المفاهيم على قلب الليبراليّ، بينما ينحاز المحافظُ إلى التقاليد والأعراف الاجتماعيّة على حساب حرّيّة الفرد.
تُعدُّ حالةُ السمّان مثالًا رائعًا على نسف التصوّر أعلاه، واختلاطِ الحابل بالنابل، وتبادلِ المواقع للأسباب الخطأ، والتلاقي أيضًا للأسباب الخطأ. فمن المفترَض أن يقف الليبراليُّ ضدّ نشر السمّان لرسائل محبّيها لأنّها بذلك تمارس تعدّيًا على حقوقهم(11) بفتح حيّزهم الخاصّ لجميع الخلْق، علاوةً على ما أوردناه بخصوص الحقوق الماديّة. أمّا المحافظ المتطرّف، فيقف ضدّ هذا النشر لِما يراه من "ابتذالٍ" في فكرة الحبّ ذاتها، أو قد يشجّع ــــ في داخله ــــ هذا النشرَ لكي يجد مادّةً يلُوكها.
لكنّ الحال أنّ هناك مَن هاجم بعضَ "المتحرّرين" الذين وقفوا ضدّ نشر السمّان للرسائل، آخذين عليهم أنّهم "ناقضوا" قناعاتِهم المعلَنةَ إزاء نشر الرسائل.(12) وأرجعوا ذلك إلى نزعة أولئك "المتحرّرين" الذكوريّة المترسّبة، وثقافةِ العيب، والهوسِ بـ"تصنيم" الكتّاب والأدباء. غير أنّ هذه البواعث، في واقع الأمر، تُحرّك جزءًا كبيرًا من المدافعين والمهاجمين معًا. فمن الأسباب التي تُوقِع شخصًا "متحرّرًا" في تناقضٍ مريعٍ بدعمه لهدم الحيّز الخاصّ هو ألّا يُقال عنه إنّه ذكوريّ تُسيّرُه ثقافةُ العيب والنزعةُ الصنميّة! ومن هنا قد يُقْدم ليبراليٌّ أو تقدمّيٌّ اجتماعيّ عربيّ على التناقض مع أفكاره لا لشيء إلّا لأنّه يرى أنّ ما يدعو إليه خصمُه المحافظُ أخلاقويّةٌ كاذبةٌ؛ فيذهب هو إلى مناقضتها باعتبار أنّ هذا التناقض بينهما يعني ــــ آليًّا ــــ التقدميّةَ، ولو ضحّى بأفكاره التقدميّة ذاتها!

ثالثًا:- أساس نشر الرسائل
تتبنّى السمّان والمدافعون عن خطوات نشرها لرسائل كنفاني والحاجّ أفكارًا عدّةً، يُسفر نقاشُها عن ملاحظتين:-

أ ــــ "تحطيم التابو." تقول السمّان، في معرض حديثها عن نشر الرسائل، إنّها تقوم بدورٍ متمرّدٍ على البالي والتقليديّ، وتحطّم بذلك "التابو."(13)
تعريف "المُحرَّم" الجاري تحطيمُه هنا يُفترض أن يكون علاقةَ الحبّ بين رجل وامرأة . وواقع الأمر أنّ هذا المحرّم يمكن تحطيمُه بوسائلَ شتّى غير نشر الرسائل الشخصيّة: ككتابة سيرةٍ ذاتيّةٍ تحكي قصّةَ الحبّ هذه، من وجهةِ نظرها، وبلغتها كاعتراف؛* أو الإدلاء بتصريحاتٍ صحفيّةٍ تشير إليها.
أمّا التابو الذي نرجِّح أنّه المقصود في كلام السمّان فهو أن يَظهر ضعفُ العاشق أمام امرأةٍ لا تبادله الدرجةَ ذاتَها من المشاعر. ما نختلف مع السمّان عليه هو أنّ كسر هذا التابو لا قيمةَ له إنْ لم يُنجَزْ ذاتيًّا وعن إرادة؛ أمّا أن يُكسرَ على يد آخرين، وعلى حسابِ آخرين، فلا قيمة تحرّريّة أو ثوريّة حقيقيّة له، وإلّا عددنا كلَّ الفضائح التي تتعاور المشاهيرَ والفنّانين تحطيمًا للبالي وتثويرًا للوعي!

ب ــــ حق القرّاء والعمل الأدبيّ. بالإمكان تكريسُ حقّ المواطنين في الاطّلاع على كثير من خصوصيّات السياسيّ مسؤولِ الدولة بناءً على أساسٍ متين، ألا وهو: المسؤوليّة المباشرة لهذا الشخص عن المال العامّ، وعن مصالح الآلاف أو الملايين من الناس؛(14) بينما يصعب على المرء أن يؤسِّس لحقّ القارئ في معرفة خصوصيّات الأديب لعدم تحمّل هذا الأخير مسؤوليّةً قانونيّةً مباشرةً عن هؤلاء القرّاء. ومن المهمّ هنا التشديد على أنّنا نتحدّث عن "خصوصيّات" لا تمسّ الصالحَ العامّ، وإلّا حُقَّ للآخرين الاطّلاعُ عليها؛ ونذكر مثلًا الروائيّ التشيكيّ ميلان كونديرا والفضيحة المدوّية التي لحقتْ به أخيرًا، حين نُشرتْ وثائقُ تُثْبت عملَه مُخْبرًا ضدّ زملائه لصالح أجهزة المخابرات الشيوعيّة في بدايات شبابه.(15)

خاتمة:- الحيّز الخاص بين التأريخ الأدبيّ والحقّ الفرديّ 

في موضوع مساندة نشر رسائل الأدباء الشخصيّة حجّةٌ أساسٌ تُعدّ الأقوى، وهي أنّ ذلك مهمٌّ في التأريخ الأدبيّ. فلولا مذكّراتُ ماري هاسكل وبقيّةِ النساء اللواتي عرفن جبران، ولولا رسائلُ جبران المختلفة، لما كان كتابُ روبن ووترفيلد (جبران خليل جبران: نبيٌّ وعصرُه) بهذه الأهمّيّة البحثيّة، ولبقينا أسرى الصورة الملائكيّة التي رسمها جبرانُ عن نفسه. ولولا مذكّراتُ بعض النسوة ورسائلُ راينر ريلكه، لما استطاع عبد الرحمن بدوي أن يقدّم تلك السيرةَ الإنسانيّةَ المليئةَ بالاتّكال على النساء في كتابه المهمّ، الأدب الألمانيّ في نصف قرن.
على إنّ تجسير المسافة بين الحيّز الخاصّ والتأريخ الأدبيّ يكون بلفت نظر مساندي نشر المراسلات الشخصيّة إلى أمرٍ واحدٍ فقط، وهو: أنّ الاطّلاع على المراسلات لا نشرَها ــــ في حال غياب موافقة المعنيّين بالأمر ــــ قد يكون سبيلًا إلى حلّ هذا الإشكال.
من شائعات وسطنا الثقافيّ أنّ مراسلات الكتّاب الغربيين تُنشر كاملةً في كتبٍ مستقلّةٍ على الدوام؛ وهذا غيرُ صحيح. فالكتب والتراجم الخاصّة بكتّابٍ لم تمرّ على وفاتهم فترةٌ طويلةٌ(16) تَستشهد عادةً بمذكّراتٍ ورسائلَ شخصيّةٍ غيرِ منشورة، ولكنْ يمكن الاطّلاعُ عليها لوجودها في متاحفَ تضمّ مقتنياتِ المرسَلِ إليه، أو في أقسام المخطوطات في المكتبات الجامعيّة العريقة بسبب تبرّع مالك الرسائل بها. لقد قالت السمّان إنّها لا تريد إتلافَ الرسائل، وإنّها نشرتْها للأغراض الموضحة آنفًا؛ ولكنّ الاقتراح الذي كان من الواجب طرحُه عليها (وعلى غيرها من الأدباء والأديبات)، خارج ثنائيّة "الإتلاف أو النشر،" هو التبرّعُ بهذه الرسائل إلى مكتبةٍ جامعيّةٍ مثل مكتبة يافث في الجامعة الأميركيّة في بيروت (التي دَرَستْ فيها السمّان)، وهي مكتبة تحوي قِسمًا مهمًّا للمخطوطات.(17) إنّ خطوةً كهذه كانت ستجعل الغرضَ البحثيّ والتأريخيّ أكثرَ وضوحًا، وستحفظ التفاصيلَ الشخصيّةَ (لكون الاقتباسات من الرسائل محدودةٌ بطبيعتها)؛ كما أنّها ستحفظ الحقوقَ الماديّةَ لأصحابها إلى حين انتهاء انتفاع الورثة بها بعد مرور فترةٍ من وفاة المُرسِل.
أيًّا كان الأمر، فإنّ مسألة التمييز بين الخاصّ والعام ليست هيّنةً. غير أنّ صعوبتها لا تُعفي المشتغلين بالثقافة والشأن العامّ من نقاشها، ولا تبرّر اختيارَ "الحسم" بمطّ إطار أحد الحيّزين لكي يبتلع الآخر، فيمسي العامُّ خاصًّا أو الخاصُّ عامًّا.
إنّ جوهر المسألة دومًا هو تعيينُ الخطوط والتخوم، وهي ليست أبديّةً على أيّة حال؛ أي إنّ تعيينها عمليّةٌ تُنتَج باستمرار عن طريق الجدل مع الوقائع واليوميّات التي لا تنتهي.

ألمانيا

1- http://www.bbc.com/arabic/art-and-culture-38241434

2. http://www.law.uchicago.edu/…/fil…/01.landes.unpublished.pdf

3- على سبيل المثال، يغيب هذا التمييز في المقال أدناه غيابًا تامًّا: https://goo.gl/4sos8t

4- http://www.rightsofwriters.com/…/sixteen-things-writers-sho…

5- Systems and Procedures Exchange Center (SPEC), Unpublished Material: Libraries and Fair Use, compiled by Angie Whaley Le Clercq, Kit 192 (Washington DC: Association of Research Libraries, 1993) p 113- 114.

6- انظرْ تعارضَ الأحكام القضائيّة الموجود بالتفصيل في: SPEC

7- SPEC, p 114.

8- SPEC, p 115- 117.

9- Lades, p 10- 11.

10- ديفد هارفي، الليبراليّة الجديدة: موجز تاريخيّ، ترجمة: مجاب الإمام، ط1 (الرياض: مكتبة العبيكان، 2008)

11- نحن هنا لا نكذّب بالضرورة السيدة السمّان حين كتبتْ أنّ غسّانًا قد سمح لها بنشر رسائله إليها بعد موته، ولكنّ هذه الموافقة الشفويّة الخاصّة لا تكذيبٌ فيها ولا تصديق. انظر المقدّمة في: رسائل غسّان كنفاني إلى غادة السمّان، قدّمتْ لها: غادة السمّان، ط 5 (بيروت: دار الطليعة، 2005)

12- انظر مجموعة من الآراء حول نشر السمّان لرسائل الحاجّ: https://goo.gl/nQK6RX

13-http://www.alquds.co.uk/?p=646501

* هناك إشكال عند السمّان بخصوص مفهومها عن أدب الاعتراف؛ فهي أكّدتْ، في مقالها عن رسائل أنسي الحاجّ، ما سبق أن ذكرتْه في مقدّمة كتاب رسائل كنفاني، بخصوص رغبتها في إثراء المكتبة العربيّة التي لا تعرف أدب الاعتراف. فالاعتراف ذاتيٌّ بالضرورة، ولا دخل لنشر رسائل الآخرين بأدب الاعتراف أساسًا.

14- على الرغم من وجود هذا الأساس النظريّ القويّ للحقّ في المعرفة، فإنّ هناك أمورًا لا يُسمح للصحافة بها، ولا سيّما ما يخصّ الحياة الخاصّة للسياسيين. انظر:

http://www.bpb.de/…/lokalj…/151751/was-duerfen-journalisten…

15- https://www.theguardian.com/books/2008/oct/14/humanrights

16- من الأمور التي ميّزَتْ نشرَ رسائل جبران إلى ميّ زيادة (المجموعة في كتاب الشعلة الزرقاء) من مثيلها في حالة كنفاني أنّها تمّت بعد وفاة جبران بنصف قرن تقريبًا. وهذا يحقّق عدمَ إلحاق أيّ ضرر محتمل بأحد. كما أنّ الرسائل سُلّمتْ إلى الناشر من قِبل أقارب زيادة. انظر المقدّمة في: الشعلة الزرقاء: رسائل جبران خليل جبران إلى مي زيادة، تحقيق وتقديم: سلمى الحفار الكزبري والدكتور سهيل ب. بشروني، ط 2 (بيروت: مؤسّسة نوفل، 1984)

17- http://www.aub.edu.lb/ulibraries/about/Pages/jafet.aspx

الأربعاء، 18 يناير 2017

باسم ورباب.. أين غابت وأين غاب؟

فتحَ حوارٌ قصير مع طالبتي سناء، بمناسبة وفاة الرسام ممتاز البحرة مبتكر شخصية باسم ورباب، فتح الحوارُ معها نوافذَ الذكرى على سنواتٍ خاليات أوائل عهدي بالدراسة الابتدائية، حين كانت مناهج "باسم ورباب" رفيقة جيلٍ من الفتيان والفتيات تربّى برفقة تلك العائلة بأفرادها وجيرانها وأصدقائها... وحكاياتهم التي لا تنتهي في البيت وفي المدرسة وفي الشارع وفي الحقل... وفي كل مكانٍ من وطننا الجميل، رافقناهم فيه من اليوم الأول للمدرسة حتى عطلة الصيف.
هيَّجت العباراتُ ذاكرتي فتلاحقت صورُ طفولتي أمام عينيّ ولقائي الأول بكتاب القراءة الجديد من بطولة باسم ورباب، فللوهلة الأولى لم يكن لقائي به ودياً على الإطلاق؛ ذلك أني كنتُ قد قطعتُ أشواطاً من دراستي الابتدائية بكتبٍ شاحبة باهتة الألوان، أشواطاً لا تتيح لي أن أكون كإخوتي واحدةً من التلاميذ الذين سيدرسون المنهاج الجديد بكتبه الملونة البهيجة! لكنّ ذلك لم يمنعني من استراق الوقت للنظر فيه ومذاكرته مع إخوتي وجيراني.
وللذين يتذكرون فإن منهاج "باسم ورباب" قد بدأ تدريسه في مدارس الأردن أواخر السبعينيات ومطلع الثمانينيات من القرن العشرين، وكان شيئاً جميلاً لعروبتنا أن نقرأ في الصفحةالداخلية لغلاف الكتاب، أنه قد "قررت وزارة التربية في الجمهورية العربية السورية وفي المملكة الأردنية الهاشمية تدريس هذا الكتاب في مدارسهما".
لم يكن شيئاً مستحيلا ولا مستهجناً أن يدرس أبناء دولةٍ (جمهورية) وأبناء دولةٍ (ملكية) منهاجاً واحداً!! فتجري على ألسنتهم جميعاً دروسٌ واحدة وأناشيدُ واحدة، ذلك الجيل في البلديْن ما زال يذكر الأنشودة الأولى التي يترنم بها تلميذ الأول الابتدائي بعد خطواته في القراءة " ماما ماما .. يا أنغاما.. تملأ قلبي بندى الحبِّ.." وكلنا نعرف من  هو عمي منصور النجار الذي يبدع في يده المنشار.. وفي الشمال وفي الجنوب كانت القلوب تهفو غرباً وتنشد "فلسطين داري ودرب انتصاري"..

لم يكن ذلك مستحيلاً فلماذا لا ندرس الآن شيئاً مشابها في المدرسة كما ندرس في الجامعة مثلاً؟! وأغلب المناهج الجامعية في العالم تتقاسم خطوطاً معرفيةً عامةً يدرسها الجميع، ونحن في أقسام اللغة العربية على سبيل المثال ندرس من المحيط إلى الخليج المنهج نفسه  .. فلماذا لا نقدر على شيءٍ مشابهٍ في مدراسنا؟؟ اليوم نبدو عاجزين حين نلتفت حولنا لنجد كل مدرسة خاصة تتخذ لنفسها شرعةً ومنهاجا يوافق هواها!!
لم يكن ذلك مستحيلاً في زمن كانت تجمعنا فيه بضعُ قنواتٍ تلفزيونية لا تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، كانت قلوبُنا جميعا رغم أن منابتنا شتى!
كنت أستمتع بمتابعة برنامج طلائع البعث للفتيان الصغار على القناة السورية دون أن يخطر ببالي يوما أن ذلك قد يطغى على حبي لبلدي الأردن، ما الذي يمكن أن نخسره لو تم توحيد مناهج اللغة العربية في بلادنا العربية؟؟ سيكون قطعةً من حلم الوحدة العربية يتحقق، ماذا جنيْنا من تفرقنا واختلافنا؟؟! زادت القُطرية وفشت، وتوالت الأحقاد ونمت.
 لقد وحَّدت بين قلوبنا وتطلُّعاتنا من قبل مناهجُ غرست فينا حبَّ اللغة العربية دون وعظ ودون دروس، كان الكتابُ المدرسي الملون شيئاً جديداً مبهجاً لنا نحن الصغار في الأردن، ولمّا لم يكن واجباً دراسياً عليّ فإنني كنتُ أقلّبه باستمرار، وما زلت لليوم أذكر كيف كنت أتابع على صفحاته خطوط الرسام وألوانه في اللوحات المتلاحقة  لأبطاله صفحةً بعد صفحة.
كانت نصوصُ الكتابِ مكتوبةً بخطِّ اليد بحجمٍ مناسب مضبوطة بالشكل بقدر معقول، يجعل تلميذ الصف الأول يتابع بيُسرٍ وبهجةٍ وشغف شكل الحروف والمقاطع في الكلمات.
نعرف ونعترف أن الزمن يتغير، وأن الأجيال تتبدل، وأن ما كان في زمنٍ سابقٍ يلائم جيلاً،قد لا يلائم بالضرورة جيلاً في زمان آخر. لكن ما الذي يمنع من استلهام التجارب الماضية لإنجاز حلولٍ للمشكلات الحاضرة؟!
ليس الوقوف على الرسومات والألوان والخطوط في الكتاب المدرسي إلا مدخلاً يقودنا بالضرورة للحديث عن الذائقة الأدبية والفنية التي نصقلها وننميها لدى أولادنا في المدرسة -من غير توجيهٍ مباشر قد يضايقهم- لنأخذ بأيديهم إلى الجمال والرقة،  فالكتاب المدرسي -خاصةً للصغار- ينبغي أن نُلقيه بيد فنانٍ عاشق لمهنته، فنانٍ له مدرسة يشق طريقه وسط الزحام بروحه الخاصة، بعيداً عن قوالب الوظيفة وسجون الروتين التي قد يُلقى فيها الرسام إنْ كان موظفاً في وزارة تربية!
والحديث يجر حديثاً فعلى قدر استمتاعي بالكتاب منهاج "باسم ورباب" برسوماته المميزة، حتى أصبحتُ أعرف أسلوب الفنان البحرة في أي صفحة قد تصادفني، فإنني (حين أقدمتُ على العمل بالتدريس الصفوف الابتدائية أوائل التسعينات وكانت وزارةالتربية قد بدأت تطبيق مناهج جديدة) هالني المستوى الرديء أو البدائي للرسوم التوضيحية والتعبيرية المرافقة للنصوص في الكتب المدرسية، خطوطٌ ضعيفة جدا للحركة والتعبير تجعل الطالب يقف حائراً أمام اللوحات فلا يدري أهي تشرح وتوضح الدروس؟ أم تُلقي في وجهه الأسئلة والألغاز؟ وتتركه فريسةً لهذا القبح لا يدرك أن للجمال وجهاً آخر بعيداً عن هذا العبث القبيح والذوق الفَجّ المنفِّر .
ومن المواقف التي لا أنساها في هذا أنني وقفتُ حائرة مع طلبتي في درس التعبير الشفوي والمحادثة المعد قبل درس القراءة؛ إذ كان على الطلبة أن يتحدثوا عن اللوحة المرافقة للدرس، فاختلفت مذاهبُهم فيها بسبب رداءة الرسومات فلم يكن الحكم ممكناً على الشخضيات فيها إنْ كانت سعيدة أم غاضبة أم حائرة أم غير ذلك، فالرسومات تبدو أنها مرسومة على عجل بريشة مبتدئ لا تكاد تختلف عن رسومات التلاميذ أنفسهم.. كانت مرسومةً بريشة صاحبِ وظيفة (الإخراج الفني).
يومها قفز إلى ذهني فوراً اسمُ واحدٍ من الرسامين المعروفين في الأردن سمير مطير، فلماذا لا يكون أمثالُه من الذين يزينون صفحات الكتب المدرسية بالصور والرسوم؟  ثم ما لبث أن تحققت أمنيتي حين رأيتُ أعمالَه الجميلة المتقنة الاحترافية في كتبٍ تعليمية بعيدة عن التعليم الحكومي، خاصة تلك الكتب المنشورة في دار المنهل، وتحسرت على موهبة مثله تضيع في بحر بلادنا الذي يبتلع أبناءه الموهوبين.
كانت الكتبُ في منهاج "باسم ورباب" قريبةً من طفولةِ الأطفال، قريبةً من حياتهم اليومية وانشغالاتهم البريئة، وأفراحهم الصغيرة وأحلامهم الكبيرة، وكانت تقدم في جُمَلٍ معدودة ونصوص رشيقة - معرفةً وسلوكاً وقيمةً تعجز عنها توجيهات مباشرة كثيرة، في مقطوعاتٍ تتراوح بين الخبر والسرد والحكاية والقصة.. والأناشيد التي لا غنى عنها بأقلام كبار الشعراء. لم يؤلف(المؤلفون) أنشودةً كي يحشوا بها عقل التلميذ بمواعظ وافتخارات لا تمس روحه، بل كانت الأناشيدُ قطعةً من روحه بمعانيها القريبة من القلب، وأهم ما فيها ألا وهو سر النشيد: الموسيقا والرشاقة اللفظية، فلا العبارة ثقيلة مصطنعة تتعثر على اللسان ، ولا الموسيقا غائبة بين فخامة العبارة وجزالة الفكرة.
وما زال جيل "باسم ورباب" إلى اليوم بعد عقود وعقود يحفظ تلك الأناشيد الرشيقة، ويترنم بها كلما طرَقتْ كلمةٌ منها أسماعه.
ومن الطرائف الجميلة التي أذكرها مع إخوتي وجيراني، أننا حين كنا ننتهي من إنشاد النشيد ننطق باسم الشاعر الراحل سليمان العيسى كأنه جزء من النص وهو مبدعه، وهو الشاعر الذي كان علامةً بارزةً ورفيقاً دائماً في الكتاب كما هي رسومات ممتاز البحرة. كنا نتعلّم اللغةَ والمفردةَ والتركيبَ والموسيقا والعَروض والوزنَ الشعري ... بلا مصطلحات وبلا حدود تُثقل على أَفهام الأطفال.
والشيء بالشيء يذكر .. إذ تدعونا السطورُ السابقة لنستذكر مَعلَماً مهماً في مدينة السلط الأردنية هو متحف الكتاب المدرسي التابع لوزارة التربية والتعليم، فكلما زاركم الحنينُ للأيام الخوالي يمكنكم أن تسترقوا اللحظات للنظر في تاريخ تعليمنا المعروض في متحف الكتاب المدرسي في مدينة السلط الأردنية، وهو فكرة جديرة بالتقدير والعناية.. فالأمم التي تحترم نفسَها لا تترك تاريخَها في مهب ريح الزمان يعبث به العابثون.


السبت، 31 ديسمبر 2016

فن أن تكون مثقفا فوق العادة

بقلم بروين حبيب
القدس العربي
http://www.alquds.co.uk/?p=652769
طرت إلى بيروت لتوقيع كتابي ولقاء الأصدقاء والصديقات وحضور فعاليات صالون الكتاب في بيروت. لكنني ما إن وصلت حتى ركضت إلى دار الطليعة لإقتناء «رسائل أنسي الحاج لغادة السّمان» ليس تلصصا على رسائل عاشق، بل لأني عاشقة لأنسي، وأعرف سلفا أن ما كتبه نابع من عشقه للمرأة الناجحة المتميزة وليس محصورا في شخص غادة السمان فقط.

ورغم ضيق وقتي وانشغالي وارتباطي بمواعيد خلال ثلاثة أيام قصيرة في بيروت، اختليت بشاعري الأنيق وقرأت رسائله. وتيقنت أن تخميني كان «صح» منذ البداية. وأعتقد أنه لو صادف امرأة أخرى بحجم غادة أو أكبر لكتب لها الكلام نفسه.
وأتأسف أنّ كل ما قيل في الإعلام المكتوب ووسائل التواصل الاجتماعي بشأن هذه الرّسائل لم ينصف الرجل كما أنصفته غادة السّمان، ويبدو أننا لم نبلغ النضج الفكري اللازم لرؤية عظمة هذا الرجل من خلال رسائله وهو في مقتبل العمر. حتى حين نبرر أن هذه الرسائل تراث أدبي بحكم أنها تعود لحقبة الشباب للأديبين، فإننا ننسى أن معشر الشعراء والكتاب في الغالب تفادوا أن يبينوا مشاعرهم الإنسانية الخاصة بهم، حتى حين يكتبون ما يشبه سيرهم الذاتية. وكأنّ الجانب الإنساني فيهم هو الجانب الذي يضعفهم أمام جمهور القراء ويعرّيهم أمام النخبة، التي رغم ما تنادي به من أفكار ليبرالية لا تزال تقبع داخل جلودها تركيبتهم القبلية المعقدة. أن تخجل من الحب فذلك كارثة. أمّا أن تخجل كمثقف من التعبير عنه فهذه كارثة الكوارث.
ويبدو أن الأغلبية، إن لم يكن الجميع، يخجل من قول الحب والتشجيع عليه، ويخجل من كشف وجه الرّجل الإنساني الرقيق، وكأنّ قدره أن يرتدي أقنعة القسوة ليحافظ على صحة رجولته. ولا بأس أن نكتب قصائد في الحب لكن بادعاء الكذب على أنها نتاج مخيلة أدبية.
حين قرأت الرسائل أصبت بالدهشة لا لأن غادة السمان كشفت لنا للمرة الثانية أن الرجال ليسوا بالقسوة التي نتخيلها، وأن المناضل والثوري والأديب الملتزم لديهم جميعا في قلوبهم غرفة خاصة للمشاعر الجياشة قد تفجرها أي امرأة بمواصفات معينة، ويبدو جليا من خلال رسائل غسان كنفاني التي نشرتها سابقا ورسائل أنسي الحاج اليوم، أن ليست كل امرأة قادرة على تفجير مشاعر الرجل المثقف الرفيع في أخلاقه وأفكاره، فرجال بهذا الوزن تلزمهم نساء بوزن غادة، نساء قويات، ذكيات، ناجحات وحرائر في تقرير مصائرهن.
هؤلاء الرجال ليسوا بحاجة لنساء يختبئن خلف جدران بيوتهن، أو خلف الشبابيك والأبواب، أو خلف ظلال آبائهن وأخوتهن الذكور وينتظرن «عريس الهنا»…. لا نقاط تشابه بين رسائل حب يكتبها رجال لنساء ضعيفات مع هذه الرّسائل الفائقة الجما التي كتبها أنسي لغادة. لقد كتبها بروحه ولغته الرقراقة النابعة من أعماق العقل والقلب معا. خاطب امرأة تقف أمامه النّد للند، تفهم كل كلمة خطّها يراعه، وتعرف خبايا السطور والكلمات. ولو أنه أرسل هذه الرسائل لامرأة أخرى مقيّدة الفكر والروح بأغلال المجتمع، لكان مصيرها سلّة المهملات بعد أن تتزوج، معتقدة أن أي علاقة سابقة لها ولو من الطرف الآخر ليست أكثر من خطيئة يجب دفنها للأبد.
روعة أنسي الحاج في رسائله أيضا تكمن في هذا الكم من الصدق المنبعث من أخلاقه. يقول في فقرة قرأتها عشرات المرات: «إن كل حلمي ينحصر بأن أحب امرأة واحدة حبّا واحدا وحيدا، وأخلص لها إلى النهاية واستنفد نفسي وأجدد نفسي، وأستنفد نفسي وأجدّد نفسي معها إلى النهاية. حتى الآن إمّا أفشل في الوقوع على امرأة لائقة أو أحصل عليها وأفشل في إقناعها بحقيقتي» أي روعة تنافس هذه الروعة في وصف دواخل الذات؟ وأي عبقرية هذه تلك التي يخاطب بها رجل قلب امرأة دون المرور بوصف عينيها ونهديها وخصرها وعطرها، وأشياء سطحية تشغل النساء عموما ويعتمدها الرجال «طبخة جاهزة» لإقناع أي أنثى بميولهم العاطفية نحوهن. لقد قال أنسي الحاج ما شعرت به دائما، وكأنه عبّر عنّي في ذلك العمر المبكر وقبل حتى أن أولد. قال ما يدور في ذهن كل شخص منّا دون أن يُدخِل من أحب في متاهة الحيرة والتعلق بشباك العفة الوهمية التي يعشق رجالنا أن ينصبوها للمرأة. قال لها: «أنت أختي وحبيبتي» وفي هذا الوصف قداسة الاحترام والعشق معا، دون أن نعرف هل كان ينتقي الكلمات كما يكتب الشعر أو كما يكتب الرسائل؟ قال لها ما يجعلها حاجة دائمة في قلبه ووميضا دائما في قلبها، حين يعيد صياغة ردها الذكي:» إننا لن نلتقي أبدا ولن نفترق أبدا؟» أما ما تلا هذا التعبير الدبلوماسي الرفيع المستوى فقد كان شرحا يشبه عملية تشريح جثة واستخلاص أسباب موتها.
في كل كلمة ذرفها أنسي الحاج لمعشوقته كان هناك حب مرعب. حب فاجأ رجلا متزنا ابن عائلة مثقفة وخرّيج «اللسيه فرنسيه ومعهد الحكمة»، رجلا تعلّم اتيكيت التعامل مع المرأة تماما كما تعلّم وتشبّع بثقافة احترام الذات والغير. ولمن لا يعرف نوعية التعليم في مؤسستين عريقتين كهاتين في بيروت عليه أن يسأل أبناء جيله عن ذلك. والأخطر أنّه كان متزوّجا، ولعلّ هذا سبب إصرار غادة السّمان على الهروب منه، تماما كما فعلت مع غسان كنفاني، وربما آخرين لم تكشف عن «وثائقهم العشقية» بعد… فلطالما رددت غادة السمان في أدبها أن الحب يجب أن يكون كاملا، وفيما معناه أن لا يطعن أحدا.
وهي إن كانت تلك المرأة التي وقع في حبها رجال كثر، أو أعجبوا بتمردها ولغتها الجريئة وأدبها الأجمل، إلا أنها كانت تكبر الجميع بوعيها، وقد حافظت على صداقتها مع كل الذين ركضوا خلفها ولم يحظوا بها، وأعتقد إن عدنا لكتابها الذي رثت فيه زوجها بشير الداعوق سنكتشف أن السمان أرادت أن تختار رجلها لا أن تكون موضع اختيار، وأن تبقى في موقع الريادة لا ذيلا لرجل يقنعها بالحب.
أرادت أن تقع هي في حب باذخ يناسب ثقلها وإيمانها بنفسها وبذاتها المستقلة وبتجربتها القاسية في حياتها المبكرة، فظلّت مهرة طليقة إلى أن جاء أميرها فامتطت الفرس معه ودخلت مملكة شاسعة بدون قضبان، فسيحة تناسب هوايتها في الركض، وغابت عن أنظار من أحبها ومن حسدها ومن كرهها. وأخلصت للداعوق ولأدبها إلى يومنا هذا.
لكن من بإمكانه أن يفهم ذلك وهو يقرأ رسائل أنسي الحاج وغسان كنفاني لها؟
بالنسبة لنا على المرأة أن تكون بدون ماضٍ ولو من باب الإعجاب بها. عليها أن تتصرّف دوما بما يناسب الرجال في تفكيرهم، ويحميهم ويحمي «شرفهم الهش» إن فتحت فمها بما يسيء لهم، عليها أن تكون كما يريدون، لا كما تريد هي وإلاّ وصفت بالمراهقة. وعليها أن تتقبل نمائمهم حين كانت صبية مع كم هائل من الشائعات العاطفية عنها وتخسر الكثير من سمعتها دون أن تعتب على أحد.
قلبت غادة السمان الطاولة الذكورية التي ألفناها، وقد اختارت المادة المناسبة في التوقيت المناسب لها لتُخرج مرة أخرى الأرنب الأبيض العجيب من قبعتها السحرية، لا لتدهش القارئ العربي، بل لتعطيه درسا لعله يتطور بفكره، وهو أن الأرنب ليس وليد القبعة، ولكنه وليد الخفة واللعبة البصرية، ولا سحر في الموضوع ولا هم يحزنون، فكل شيء وليد الحقيقة التي نحاول إخفاءها.
هذا هو أنسي الحاج وهذه هي غادة السمان. وإن لم تصل الفكرة فعلينا أن نعيد قراءة أديبة أحدثت زلزالا قويا على الأرض العربية أدبا، وكذا شاعرٍ صنع مجده بهذا الصدق والاحترام اللذين نفتقدهما في ساحتنا الأدبية اليوم.

السبت، 10 ديسمبر 2016

من مي زيادة إلى غادة السمان: رسائل حب في فضاء عام

http://www.bbc.com/arabic/art-and-culture-38241434



رواية لغادة السمانImage copyrightBOOK COVER PICTURE
Image captionكانت رواياتها جريئة في مجتمع محافظ
 "من الناحية الاخلاقية غسان هو مجرد نذل كبير ، كنفاني كان متزوجا من السويدية "آنا" وافتدته بحياتها ومع ذلك كان يخونها مع امراة صارحته منذ البداية بأنها لاتحبه"

أثار نشر الكاتبة السورية غادة السمان رسائل حب تلقتها من الشاعر اللبناني أنسي الحاج عاصفة في أوساط المثقفين والقراء العاديين على وسائل التواصل الاجتماعي.
لم تكن هذه المرة الأولى التي نشرت فيها غادة رسائل حب مرسلة إليها من شخصية أدبية معروفة، فقبل أنسي الحاج أثار نشرها لرسائل حب من الروائي والناشط السياسي الفلسطيني غسان كنفاني جدلا حاميا.
تباينت مواقف المتفاعلين بين من اعترضوا على نقل الحميم والخاص إلى الفضاء العام، ومن رأوا أن رسائل يكتبها مبدع هي شأن عام بالضرورة من حق معجبيه وقرائه الاطلاع عليه.
وأثار الموضوع إشكالية أخلاقية أيضا، فغادة السمان كانت متزوجة حين وقع كنفاني في حبها، وهو أيضا كان زوجا وأبا.
ولوحظ من ردود الفعل على رسائل كنفاني تشكل معسكرين يفصل بينهما الجنس: فغالبية من أبدوا رد فعل من الفتيات والنساء أعجبوا بالرسائل، وبعضهن تماهى معها وتمنى تلقي رسائل في رقتها وجمالها من حبيب المستقبل، إلا أنهن في نفس الوقت أخذن على غادة كشفها لعواطف غسان في الوقت الذي حجبت فيها رسائلها له.
أما المعسكر الرجالي فكان في أغلبه مستنكرا لكليهما، فقد أخذوا على غسان "ضعفه أمام امرأة لا تأبه بمشاعره" بل واتهمه البعض "بالنذالة" لكونه متزوجا من امرأة أجنبية ضحت مم أجله وتعاطفت مع قضيته فكافأها بالخيانة".
غادة لم تكن الأولى
ولكن غادة لم تكن أول من نشر نصوصا من مبدعين بعد رحيلهم، فقد نشرت الصحفية إيفانا مارشليان كتابا بعنوان "أنا الموقع أدناه" تقول إنه حوار بينها وبين محمود درويش خولها بنشره بعد وفاته.
ولم يقابل هذا الكتاب بالترحيب من الجميع، على الرغم من وجود رسالة تقول إنها موقعة من درويش يخولها فيها بالنشر.
وقبل ذلك عرف الوسط الأدبي رسائل الحب المتبادلة بين الكاتبة مي زيادة والكاتب جبران خليل جبران.
لم يكن جبران الوحيد الذي أحب مي وأرسل لها رسائل حب، فقد عرف ايضا عن الأديب المصري عباس محمود العقاد أنه كان متيما بها.
ربما كان جبران الوحيد الذي بادلته مي الحب حسب ما عرف لاحقا من رسائلها.
لكن لماذا لم تثر تلك الرسائل جدلا حاميا على المستوى الثقافي والشعبي ؟
دور وسائل التواصل الاجتماعي
لا شك أن وسائل التواصل الاجتماعي ساهمت في تفعيل "الرأي العام" بمفهومه الواسع ومضاعفة هامش المشاركين في نقاش القضايا العامة، ففي الماضي كانت وسائل التعبير المتاحة هي وسائل الإعلام المطبوعة التي كانت حكرا على الصحفيين المحترفين.
ولعل ما يميز ردود الفعل على وسائل التواصل الاجتماعي هو "اختلاط الحابل بالنابل"، فنجد بينها تعليقات ساخرة، وهزلية، وأخرى رصينة وفلسفية.
وكان بين التعليقات الهزلية "المتنبي يؤكد أنه لم يرسل رسائل حب إلى غادة" و "على كل كاتب، قبل وفاته، أن يعلن أنه لم يكتب رسائل لغادة".
ومن بين الذين علقوا على نشر رسائل أنسي مثقفون وقراء.
تقول الكاتبة سنابل قنو : " أرفض الهجمة العنيفة التي وجّهت ضد الكاتبة غادة السمان، واستهجنها كونها وجهت من قبل كتاب ومثقفين. إن من حق غادة نشر أي شيء تملكه بوجود من أرسلها أو بغيابه، ثم إنها نشرت رسالة لشاعر متوفي ربما كنوع من التقدير و الاحترام والاحتفاء بأديب محب أو لجعل القارئ العربي يتمتع برسائل جميلة ودافئة كتبها الشاعر أنسي الحاج، أو لشعورها بالحاجة لحب مثل الذي احتوته الرسائل فقررت نشرها. "
ووصفت سلوك الذين هاجموا غادة بالذكورية .
أما فاتن ناصر الدين، وهي قارئة متحمسة لكنفاني وكانت من المعجبين برسائله التي نشرتها غادة فتقول تعليقا على رسائل أنسي : " رأيي أن غادة كاتبة جريئة لذلك لا أستغرب لو نشرت صورا حميمة فكتاباتها تدل أنها لم تكن تخجل من شيء وهي صغيرة والآن أيضا لا تخجل من ذلك وهي كبيرة . وبالرغم من أنه ليس للرسائل محتوى مهم فهي كرسائل المراهقين لكني أعتبرها خيانة أمانة ممن أحبها وأهداها مشاعر برسائل يفترض أن لا يشعر بها غيرها، ورغم أنهم غير موجودين الآن ليتألموا من خيانتها لكني أرى أن ما فعلته مؤذ لكل من يحب كنفاني والحاج ويحبها ."
وأخذت فاتن على غادة عدم نشر رسائلها له.
وكان من بين ردود الفعل الغاضبة ما كتبه الأكاديمي هادي عبدالهادي العجلة على صفحته على فيسبوك مثلا" انا لا احب غادة السمان ولا أحب أن أقرأ لها. انسانة مغرورة جداً. نشرت فى السابق رسائل غسان كنفاني لها فى السبعينات واليوم تنشر رسائل أنسي الحاج. ما هذا المرض يا غادة السمان ؟".
ولم يسلم كنفاني من الغضب، فذهب الكاتب الحبيب العليلي إلى وصفه بالنذالة، كتب في تعليق في فيسبوك " من الناحية الاخلاقية غسان هو مجرد نذل كبير ، كنفاني كان متزوجا من السويدية "آنا" وافتدته بحياتها ومع ذلك كان يخونها مع امراة صارحته منذ البداية بأنها لاتحبه وكل ما تشعر به نحوه هو الشعور بالامتنان لانه ساعدها في الحصول على جواز سفر بعد كسر اقامتها في بريطانيا وانتهاء صلاحية جوازها السوري".
إذن هل حياة المبدع، بما فيها حياته الخاصة "شأن عام " ؟


واضح أن الجميع يعتبرها كذلك، فمن ينشر رسائله الخاصة ومن يسارع لاتخاذ موقف عام على وسائل التواصل الاجتماعي ينشره على الملأ وينتزع التعليقات والإعجاب أو الاستنكار من العشرات وربما المئات، وواضح أن الخط الفاصل بين الخاص والعام في حياة الشخصيات العامة هو خط واه ومن الصعب تحديده.

ثقافة "اللى على راسه بطحة".. رسائل أنسى الحاج لـ"غادة السمان" تكشف تناقض المثقفين..

بقلم حازم حسين

ثقافة "اللى على راسه بطحة".. رسائل أنسى الحاج لـ"غادة السمان" تكشف تناقض المثقفين.. أحكام قِيْمَة وانحيازات أخلاقية وهروب إلى الأمام.. وما زال الحب العربى بين "العادة السرية" واختلاط المفاهيم وخوف الخونة

هدأت الحمّى، وعاد ثوار الثقافة العربية أدراجهم، وخبا الدخان فى ثكنات غادة السمان ومعاقلها التى قصفها المثقفون الليبراليون المحافظون "الثوار"، والآن يمكننا أن نجلس على طاولة العقل، إن كان ثمة عقل فى كل ما تشهده الثقافة العربية.

بداية، لا أحب "الجادجمنتاليين" ولست منهم، وفى تصورى أن فساد الحكم والمنطق لدى أى شخص، يبدأ من رفع لافتة القيم، واتخاذ المواقف على أرضية أخلاقية، ومن هذه النقطة الضاربة لجذور التفكير السليم فى اعتقادى، رأيت سيلا عرما من التناقض والتسطيح وادعاء الفضيلة، فى قضية نشر الكاتبة السورية غادة السمان، رسائل الشاعر اللبنانى أنسى الحاج لها، المؤرخة بالعام 1963، وغنّى كل ناقد أو حاقد أو خائف على ليلاه، أو بالأصح رسائله المخبوءة فى بطن الغيب، ولم يقترب أحد أو يحاول، من الثقافة والإبداع والتقدمية وفكرة الشخصية العامة فى أى وجه من الوجوه الموجبة للنقاش الموضوعى، استجاب الجميع لثقافة "نجد" المُعمّمة على الخريطة العربية، منحازين إلى ممارسة العادة السرية، بدلا عن انتزاع قُبلة فى وضح النهار.
شخصيا لم أستسغ السير فى مواكب اللعنات والمحاكمة والفرز الأخلاقى، ولا قطعان الرفض والاستهجان وقصف الجبهات، ولمّا أقرأ الرسائل بعد، لهذا آثرت قراءة رسائل أنسى الحاج لغادة السمان قبل التفكير فى الاشتباك مع الموضوع، ولم أجد فى الرسائل التسعة ما يمثل انتهاكا لعصمة الشاعر اللبنانى وخصوصيته، ولا ما يمكننى حسابه فى إطار التلصص واستباحة المساحات الشخصية، لم آخذ موقفا ولو هيّنا من غادة أو من أنسى، ولكننى أخذت موقفا صريحا ولا تفكير فيه من طوابير القضاة الأخلاقيين، ويعلم الله عاداتهم السرية التى لا أعلمها، ولى عليهم فساد منطقهم واختلال مفاهيمهم وتداخلها.
هل أخطأت غادة؟ هل خان أنسى الحاج؟
البداية البسيطة والسطحية، على مذهب جموع الثائرين العرب، أنه إن كان ثمة خطأ فى موضوع رسائل أنسى الحاج لغادة السمان - وشخصيا لا أرى أى خطأ - فهو فى وجود الرسائل من الأساس لا فى نشرها، فى هذا الشاب العاقل ذى الستة والعشرين عاما، المتزوج ووالد الطفلين، الذى يكتب رسائل عاطفية حارة وملتاثة لفتاة فى منتهى عقدها الثانى، مقتحما خصوصية الفتاة ومبتزا لمشاعرها، إن كانت لم ترد على هذه الرسائل مثلما قالت، وإن ردت فالجريمة تخص أنسى وحده أيضا، ففى كل الأحوال هو رجل خائن، وفق فلسفة الرفاق الجادجمنتاليين الأخلاقيين، انتهك حقوق زوجة وطفلين، وطعن كرامة أنثى قارة فى بيتها طمعا فى أنثى هجرت وطنها بحثا عن العلم والأدب، ولا يختلف هذا المنطق لدى عمّن ينتقدون الأنثى ويحاسبونها على ما تلاقيه من تحرش، ومن يلومون المحاربة التى لا تصمت على انتهاك وتعدٍّ، ومن يرون النساء مشروعات جنسية مفتوحة وأهدافا محتملة للمتعة المجانية، أنا ضد هذه التصورات كلها، ولكن هذا منطق الثائرين الذى لم أستطع رؤية ثورتهم خارجه.
أزمة الرسائل.. خل المفاهيم لدى المثقفين العرب
البداية العاقلة فى رأيى تنطلق من التحرير الإجرائى للمفاهيم، لفكرة الكتابة ومجالاتها، لمعنى الشخصية العامة وحدودها، ولمستوى ولاية الشخص على دوائره الشخصية المتقاطعة مع الآخرين، أو بتصور أكثر بساطة، كيف يتأتى لمثقف امتدح رسائل جبران ومى زيادة، ورسائل المنفلوطى للشخصية نفسها، ورأى علاقة سارتر وسيمون دو بفوار فتحا إيجابيا، وامتدح كتابات هنرى ميلر وعلاقاته، وقس على هذه النماذج عشرات أخرى من الرطانات التى لاكها المثقفون العرب، يقف أمام رسائل أنسى لغادة موقفا أخلاقيا، يليق بشيخ جامع لا بمثقف ينتصر للكتابة والإبداع وقيادة العقل إلى حدود صكها الأسلاف ويأباها الواقع الحى، وأيضا كيف نتعامل مع الشخصية العامة وفق مفاهيم سوسيولوجية محافظة، تمنحهم عسل الحضور والشهرة والتحقق وتذبّ عنهم لدغات النحل، فالحقيقة أن أنسى الحاج شخصية عامة، يجوز فى حقه ما لا يجوز فى حق آخرين من عوام الناس وآحادهم، وفى ظرف موضوعى ناضج كان يُفترض أن يجد زائر بيروت مساحة تحمل اسم الرجل، تضم ملابسه قبل كتاباته، وتطلعنى على غرفة نومه لا على رسائله فقط، بينما لا يحق لى دخول غرفة نوم كائن عادى فى هذا العالم، والنقطة الثالثة والأهم فى تصورى، أن غادة السمان لم تخترق خصوصية أنسى الحاج، السيدة الفاضلة التى رمى الرعاع عرضها بسفالة واستخفاف، تقاطعت دائرتها الشخصية مع دائرة الشاعر اللبنانى العاشق، فحق لها أن تتصرف فى دائرتها كما شاءت، وحينما دبج الحاج رسائله التسعة، أخرجها من كهنوت الشخصى إلى مشاعية العام بدرجة ما من درجات العموم، باعتبار النسخ الأول وحدة ضئيلة وأولية من وحدات النشر العام، ولا فارق فى تصورى بين القلم وماكينة الطباعة، وحتى أسرار الدول وملفاتها الكبرى تتاح للنشر بعد مدة محددة من السرية، والسيدة الفاضلة سترت الرسائل أكثر من نصف القرن، رغم أنها شأن شخصى يخصها قدر ما يخص أنسى الحاج، وربما أكثر وأكثر، إذ بخروج الرسائل من عصمة صاحبها لم تعد مملوكة له بأى صورة من الصور، النموذج الأقرب إن شئت مقاربة نظرية وثقافية - مع حفظ مساحة التباين فى المثال ومجال عمل النظرية الأساسية - فكرة موت المؤلف لدى "رولان بارت" وانقطاع الذات المنشئة للخطاب عن خطابها، لم يعد أنسى حاكما للنص ولا طرفا فيه، أصبح نصا حيًّا يتنفس فى هذا العالم بمفرده، فقط للمصادفة شهد ولادته وبداية تنفسه شخصان، أنسى وغادة، ولا حق لهما فى مصادرته أو تفسيره، ولا واجب علينا فى اتخاذهما مرجعية لقراءته، ولا تثريب على ناشره وقارئه.
الحب العربى.. حرية "غادة" فى وجوه مثقفى العادة السرية
الخلل الأكثر عمقا وفداحة من فكرة تداخل المفاهيم السابقة، وفق ما أراه، هو استمرار عبادة المثقفين العرب لقيمهم القديمة الرثة، وموازنة أمور الراهن وفق تصورات مرجعية وإحالية لا تبتعد كثيرا عما أسس له الفقهاء ورجال الكهنوت الميتافيزيقى، ما زال الحب عادة سرية لدى الذهنية العربية، على كثرة ما تقترفها، تناضل لإثبات القطيعة الكاملة معها، اعتقادا عميقا منها بأنها مساحة ملوثة لا تليق بسيكولوجيات الأطهار المعصومين من آباء الكلمة، هكذا وفق مستوى مركزى من المعرفة المؤدلجة والمؤسسة على ركائز قبلية وعقدية، ومن هنا تكتسب العلانية التى تقف شامخة كاحتمال قائم لمآلات الرسائل والعلاقات المبتورة والعادات السرية لمثقفى الراهن المُعاش، تهديدا خطيرا وعضويا للصورة النمطية التى تأسست عليها الثقافة العربية وتشكلت وفقها صورة المثقف، وهكذا كانت الجموع الثائرة تحاول الثأر لأنفسها بمواقف استباقية، تحاول صيانة سرية رسائلها، الحالية أو المستقبلية، أكثر من الثورة لاسم أنسى الحاج والأسى لسريته المهدرة.
رسائل غادة تنتصر لـ"أنسى الحاج" بالحب 
ما فعلته غادة السمان حق شخصى لها، لا يجوز لأحد انتقاده أو قياسه بمازورة أخلاقية، وبعيدا عن فكرة الحق، فالسيدة لم تتلصص ولم تتحرش ولم تفتح دولاب أنسى الحاج ولا غيره، السيدة لم تقتحم الناس فى صناديق الرسائل الخاصة ولم تخطف رجلا من زوجته، والدليل على هذا الرسائل نفسها، لم تدخل علاقتين فى وقت واحد، ولم تتمرن على النوم الهادئ فى أكثر من سرير، وحدها العقلية المحافظة الأخلاقية تفعل هذا وتنتقده ويصدمها نشره أو الحديث عنه، العقلية السوية - مثل غادة السمان ومن على شاكلتها رجالا ونساء - يعرفون حقيقة أننا بشر، بشر وحسب، لا يحق لنا أن نعيشها ملائكة ولا أن نزايد على الناس بدنسنا المخفى عن عيونهم، لهذا ستجدها تكتب هكذا، وتنشر هكذا، وتعيش هكذا، وستجدها وهى سيدة فى الرابعة والسبعين من عمرها، غضة القلب والروح، تعرف قيمة أن تكون حقيقيا وعلى طبيعتك طوال الوقت، وتنتصر لقلوب العشرينيين أكثر من انتصار أصحابها لها، وتصون حق أنسى الحاج فى أن يطلق رئتيه على وسعهما، كيفما شاءت له الحياة وهواؤها، لا أن يقبض على صدره بذراعيه ليحبس الهواء الذى لم يُخلق ليُحبَس، فقط يفعل "الجادجمنتاليون" هذا، فقط يفعله مثقفو العادة السرية.
سيدتى غادة السمان، محبة لروحك، وأسف على تطاول المتطاولين، ووردة بين دفتى رسائل أنسى لك، كونى بخير حتى يكون أنسى وغسان وجبران ومى والعقاد والمنفلوطى وكل المحبين بخير

السبت، 5 نوفمبر 2016

رسائل حب من رئيس الجمهورية!

بقلم غادة السمان
جريدة القدس العربي

صدر مؤخراً في باريس (منشورات غاليمار) كتاب بعنوان «رسائل إلى آن» ويضم (1218) رسالة حب كتبها السياسي المحنك رئيس الجمهــــورية الفرنسية سابقاً فرنســــوا ميــتران. والرسائل كلها موجهة إلى حبيبة عمره آن بانجو، سطرها على طول أكثر من ثلاثة عقود من الغرام الملتهب حتى موته.
البوسطجية اشتكوا..
لعل ميتران يستطيع الدخول في موسوعة «غينيس» بعدد رسائل الحب التي سطرها حاكم لامرأة واحدة. والمدهش أن ذلك الحب لم يزلزل أركان حياته، وظل يعيش مع زوجته دانيال وولديه منها. ذلك السياسي الكبير «المكيافيلي» كان يتحول إلى تلميذ مراهق في «مدرسة الحب» حين يخط الرسائل لحبيبته، ويعري بذلك ضعف النفس البشرية وغموض أهوائها وتعقيد دهاليزها. التقاها للمرة الأولى عام 1963 بحكم صداقته مع أبويها. كان نائباً في المجلس النيابي وعمره 47 سنة، وكانت طالبة عمرها 19 سنة.. وامتد بين عينيهما ذلك الشعاع المكهرب اللامرئي المدعو بالحب على الرغم من فارق السن.. وتابعت دراستها في باريس ثم صارت أمينة «متحف دورساي» الباريسي على ضفة نهر السين ونهر الحب صار يجري جيئة وذهاباً بين قصر الاليزيه حيث ميتران ومتحف دورساي.
(تانجو) الحب مع بانجو
لم تجر الرياح دائماً بما تشتهي السفن الغرامية لميتران. بانجو شابة تتقن فيما يبدو رقصة التانغو العاطفية مع فرنسوا (ميتران).. تمضي خطوة نحوه، ثم أخرى إلى الخلف.. وتعاشر سواه من أندادها الشبان، مما يزيد غرامه تأججاً.. ويلحظ فارق العمر بينهما فيكتب في إحدى رسائله: «حبي لك أكثر شباباً مني. أنت لي الحياة. الدم. الروح. الأمل. البهجة. النار التي تطهرني وتؤلمني». لكنه نسي أن يضيف: شرط أن تظلي «امرأة السر» في مربعك الخاص بك على شطرنج حياتي!!
ذلك الرجل الذي هزم الجنرال ديغول في الانتخابات هزمته امرأة وهزمها إذ حاصرها بحبه وثقافته وإبداعه الأدبي، وكان وجه الأديب فيه غير مزور. وقد التقيت به مرتين في مكتبة في الحي اللاتيني وفوجئت كثيراً حين شاهدته للمرة الأولى وألقيت عليه التحية فرد بلطف.
ذلك الحب الرجيم
تراه أحبها أم أحب امتلاكها وسجنها داخل قمقم الحب؟ حاولت بانجو أن لا تصير السر الأكثر إخفاء في الجمهورية الفرنسية لكنه كان يصنع من إبداعه الأدبي (3 رسائل كل أسبوع) حبلاً يجرها به كما يفعل رعاة البقر بفرس يريدون ترويضها. خسرا معركة الفراق، وولدت ابنتهما مازارين عام 1974 وحملت اسم أمها: بانجو، لا اسم والدها.. ولم تظهر حبيبته آن علناً إلا يوم دفنه عام 1996 حيث وقفت وابنتها إلى جانب زوجته وولديه تحت أنظار كاميرات تلفزيونات العالم.
ذلك «الحب الرجيم» الذي سبب الألم للشبكة العنكبوتية الإنسانية المحيطة به استمر، وزوجته دانييل تألمت كما ولداه جان كريستوف وجيلبير، ولكن ميتران كتب للحبيبة يقول: «فقدك يعني لي الدمار، الوحشة، اليأس!»
هذه أمور تحدث أحياناً وميتران ليس وحده المتزوج الذي أحب أخرى..

لو كان ميتران مسلماً..
قال لي صديق طالع الرسائل (الملتهبة): لو كان ميتران مسلماً لاستطاع اتخاذها زوجة ثانية دون أن يضطر لتطليق زوجته الأولى. 
قلت له إنني لا أعتقد ذلك، وإنه كان يريد أن تظل الأمور على حالها. ونجح في فرض ذلك على الجميع. وحده المرض هزمه وإمكانية موته عرته، وحين عرف أن مرض السرطان يلتهمه وأن أيامه باتت معدودة أعلن أبوته لمازارين على الطريقة الفرنسية: اصطحب مازارين للغداء في «مطعم ليب» الذي كان همنغواي يشرب جعته فيه في «سان جرمان دو بريه» في قلب الحي اللاتيني مقابل مقهى «ليه دوماغو» و»فلور» حيث شبح سارتر ودوبوفوار وعلى مقربة من المكتبات التي عشق أيضاً. وحين غادر وابنته المطعم كان (جيش) من المصورين بانتظارهما ونشرت صورهما على أغلفة المجلات الفرنسية مثل «باري ماتش» وسواها ناهيك عن الصحافة العالمية.
لا. لو كان ميتران مسلماً لما تزوج من آن!!
الفضيحة هي «اللاحب»!
صدرت هذه الرسائل في باريس ولم يرتفع صوت واحد يكتب أو يقول أن بانجو بنشرها «شوهت صورة ميتران» أو ليتهمها بأنها عميلة أجنبية ضد الاشتراكيين أو أن الرسائل مزورة، أو أن التخطيط لنشرها تم في البنتاغون كما كان سيحدث عندنا. أي أن ردة الفعل الفرنسية على صدور الرسائل كانت حارة وجميلة ورسائل الحب الرائعة المتبادلة بين مبدعين تلقى إقبالاً وترحاباً في الغرب. أما نحن فما زلنا نصر على الازدواجية، ونعتبر قول الحقيقة البشرية مؤامرة ضد القبيلة، والحب عندنا «فضيحة». 
وقد عبر عن ذلك عباس بيضون باخــــتزال فني رائع حين قال معلقاً على مطالبة البعض لكاتبة بنشر رسائلها إلى الحبيب مع رسائله (وهي ليست بحوزتها طبعاً) قائلاً: كأنهم يقولون هاتي فضيحتك. أيضاً «وضعوا فضيحة مقابل فضيحة».
وختاما أحب التذكير بأننا كعرب شعب (طاعن) في الحب وعريق أما اليوم فرسائل الحب عندنا مصيرها التمزيق أو الفضيحة.

ترى هل كان أجدادنا أكثر تحرراً منا وصدقاً؟ هكذا نتساءل ونحن نقرأ قصائد ابن زيدون إلى الحبيبة ولادة بنت المستكفي وردها العلني عليه.. وقولها:
ترقبْ إذا جُنّ الظلام زيارتي/فإني رأيت الليل أكتم للسر..
ويا له من سر وهي تعلن عزمها على لقائه ليلاً!

الاثنين، 31 أكتوبر 2016

الحب الحقيقي

بقلم : سما حسن

قالت لي : هددني زوجي، وبعد عشرة ثلاثين سنة أنه في حال بقاء أثر حرق على ساقي بسبب انسكاب الطعام الساخن فوقه، فإنه سوف يتزوج بامرأة أخرى، تحدثت بخوف وتربص لأن زوجها يهمه كثيراً مظهرها وجمالها والذي تحرص على العناية به رغم فقرها، فتقتنص قروشاً قليلة لتعيد صبغ شعرها كل فترة بحيث لا تترك الفرصة للشعيرات البيضاء التي غزته أن تظهر لعيني زوجها، ولا تتوقف حسب طلبه عن وضع المساحيق على وجهها حتى في أيام حدادها على والدها، ولكن تهديده الأخير لها أزاح الستار عن حقيقة مؤلمة أمام عينيها وهي أن زوجها يحب جمالها وشبابها الذي يوشك أن يولي، أما هو فقد ترك يد الزمن تعبث بمظهره كيفما تشاء بعد أن تجاوز الستين بقليل.

إذا كانت هذه المرأة قد أصيبت بتشوه بسيط وظهر موقف زوجها الذي عاشرته عمراً وذهلت بأن الميثاق الذي بينهما لم يكن غليظاً، واعترفت لي بقولها جزى الله الشدائد التي تكشف الحقائق، وذكرت بتهكم موجع مثلاً شعبياً تردده الجدات بصدق وهو أن " زوجي يحبني قوية،وأهلي يحبوني غنية"، ويعني أن الزوج يظل على وفائه للزوجة حتى تمرض فيبدأ بالانسحاب التكتيكي وانتقاء العروض والبدائل التي أمامه خاصة حين يتوفر لديه المال ويؤيده المجتمع الذكوري المنحاز له، ويتذكر فجأة أن الإسلام قد حلل له أربع نساء وأنه يخشى على نفسه من الفتنة.
وبمناسبة أن شهر أكتوبر هو الشهر الوردي لمحاربة السرطان، فقد خلص استطلاع شمل 600 امرأة مريضة بالسرطان في غزة أن 38% منهن قد طلقهن أزواجهن بسبب إصابتهن بالمرض العضال، وقد تناسى أزواجهن أيام العشرة والأولاد الذين يربطون بينهما، وبأن هذه الزوجة كانت في يوم من الأيام قوية وجميلة وبصحة وعافية، إن هذا الاستطلاع صادم بجعلنا نتوقف طويلاً ونسأل أنفسنا: ما الذي يجمع بين الزوج والزوجة؟ أو متى ينتهي الحب بين الزوجين؟ والإجابة أسهل مما نتصور وهي أن من يقدم على طلاق زوجته بمجرد أن تقع طريحة الفراش لم يكن يحبها، ويضرب بكل المعايير والأخلاق عرض الحائط وأنه قد تزوج بآلة يقرر أن يلقيها جانباً بمجرد أن تصاب بالعطب ولا يفكر بمحاولة إصلاحها، ويكون بذلك قد قتلها قبل أن يفتك بها السرطان اللعين.
يؤكد علماء النفس أن المرض هو المحك الأول لاختبار إخلاص الشريك، وإن كان سيبقى حتى النهاية مع شريكه، وإذا كان التاريخ قد حفل بقصص ومواقف الجحود، فهو أي التاريخ لم يخل من المواقف المضيئة لأزواج وقفوا إلى جوار زوجاتهم حتى النهاية في صراعهم مع أكثر الأمراض فتكاً بالبشر بعد الإيدز، حيث يفتك سرطان الثدي بحوالي مليون امرأة. عالمياً، وإن كانت نسبة الشفاء منه تصل إلى 90% في حال التشخيص المبكر، كما أن العامل النفسي يلعب دوراً كبيراً في تقدم الشفاء، ومن المواقف المضيئة في هذا الشأن موقف زوج الكاتبة والإعلامية الراحلة فوزية سلامة والتي كتبت عنه في مذكراتها الأخيرة وهي تصارع السرطان أنها كانت تبحث عنه في الليل فلا تجده في السرير المجاور في غرفتها في المستشفى، حتى اعترف لها أنه يقضي الليل قائماً يصلي ويدعو الله أن يمن بالشفاء على زوجته الحبيبة،وفي غزة التي تفتقر لمستشفى متخصص لعلاج السرطان فقد أطلق أحد المهندسين حملة لإنشاء مستشفى لمرضى السرطان سيكون الأول من نوعه في غزة وذلك بعد إصابة زوجته وأم أولاده بهذا المرض في العام 2009، وقد ظل هذا الزوج وفياً لزوجته لمدة 7سنوات وهو يرعاها ويرعى أبناءه ويبذل كل جهده لإنجاح حملته، وإن كانت الزوجة قد توفيت قبل شهرين إلا أن الحملة لا زالت مستمرة، ونأمل أن تجد من يدعمها من أجل آلاف المرضى المحاصرين ومن أجل هذا الزوج الوفي والمخلص وليأخذنا الأمل لأبعد من ذلك بأن يطلق اسم الزوجة على المستشفى الحلم.

الاثنين، 10 أكتوبر 2016

خيانة

بقلم : منال عبد الوهاب الأخضر
استيقظت هذا الصباح أبكر من عادتي… فتحت حاسوبي و شغّلت أغاني فيروزية صباحية… سارعت إلى إعداد قهوتي… وضعت بعض البسكويت في طبق و عدت إلى غرفتي… فتحت النافذة على مصراعيها و رفعت الستار الذي أبقيه في العادة مُسدلا… و كأنّني بذلك أحفظ خصوصية مملكتي الصغيرة…
استيقظت هذا الصباح و بدأت بملء وقتي حتى أنفض عن روحي غبار ليلة عصيبة مررت بها.. ليلة أصبحت فاصلة في حياتي.. ليلة خرجت منها بإستنتاج واحد… هوّ أنّني إنسانة ساذجة… تعيش في إنفصال تامّ عن واقعها الذي يعجّ بظلال الفزّاعات من المنافقين و المنافقات…
ليلة أمضيتها و أنا أبكي…. أبكي كي أعاقب نفسي.. و كلّما قاربت الهدوء أغمضت عيني و تذكّرت الخيانة التي تعرّضت لها حتى ينهمر دمعي أكثر فيشتدّ ألم ناظري و صداع رأسي… كي لا أنسى أبدا ما حدث معي… جلست على طرف السرير أترشّف قهوتي و أتصفّح ألبوم صوري.. صوري مع أفراد عائلتي و مع أصدقائي الذين لم تكن بينهم تلك التي سبّبت لي تمزّقا في عضلات الروح و ثقبا في صمام الأمان… فلم أعد أثق في هذه الحياة و حتى ثقتي بنفسي تعاني حالة حرجة بسبب ما فعلته بي… أخذت نفسا عميقا و توقّفت كي أُفكّر…
الأقربون طعناتهم أخطر ..  فهي تأتي من مسافات قصيرة 

أتُراني أخطأت في حق تلك التي إعتبرتها يوما ما صديقة؟ أتُراني أستحقّ ما فعلته بي؟ أم أنّني أخطأت بحقّ نفسي حين سمحت لشخص مثلها بأن يكون أحد شخوص حياتي؟… لقد كنت أؤمن دوما بأنّ إحساسنا الأوّلي تجاه شخص ما غالبا ما يصدق… فإذا شعرنا بالإرتياح نحو أحدهم فإن شعورنا ذاك هوّ إشارة إيجابية كي نتقبّله في حياتنا و إذا راودنا شعور سلبي تجاهه فمن الضروري أن نحذر منه… و لكنّي حطّمت ذاك الإيمان يوم تجاوزت ما رأيته في عينيها من خبث و لؤم و إتّخذتها صديقة… بكيت من أجلها حين كانت تتألّم و ضحكت معها حين كانت سعيدة… كنت أتجاهل كلّ الإشارات التي وضعها القدر في طريقي كي أحذر منها فكان عقابي أن طعنتني بظهري دون أن تضع إعتبارا لما عايشناه معا… ربّما لأنّها زائفة بالأساس… غير حقيقية… كاذبة… بل أكثر من ذلك… شريرة و حقودة… ربّما لم تكن صداقتها حقيقية و لكنّ خيانتها جدّ حقيقية…لعلّ كلّ ما في الأمر أنّها إتّخذتني عدوّة منذ اللّحظة الأولى لكنّي خلتها تتودّد لي… ربّما و ربّما و ربّما… كلّها إفتراضات يعجّ بها رأسي في حين يحثّني عقلي الباطن على العودة إلى النوم حتى لا أشعر بما أشعر به من خيبة و ألم… و حتّى لا أصبّ جامّ غضبي على نفسي… و لكنّي مصرّة على أن أستجمع شتات روحي و أن أسند نفسي بنفسي و أمضي…. فرغم خيانة إحداهنّ لي إلاّ أنّ حولي صديقات حقيقيات… و في حياتي الكثير ممّا يدفعني إلى الإنتفاض على حالة الحنق و الغضب التي تتملّكني…. لن أخون نفسي و أستسلم… فقط لقد أدركت أنّي في حاجة إلى دروس مكثّفة في الحياة حتى أتخلّص من سذاجتي… لقد أيقنت أيضا أنّ في هذا العالم مسوخ على هيئة بشر…




على الأقلّ أصبحت أعلم الآن أنّك لا تحتاج أن تؤذي الآخرين حتى يأتي من يؤذيك… يكفي أن تكون حقيقيا… صادقا و نقيّا حتى يأتيك الأذى من حيث لا تدري… 
وللأسف هكذا هي الحياة…



الأحد، 2 أكتوبر 2016

عن أنجلينا الحزينة

بقلم: بسمة النسور

موقع العربي الجديد


صرّحت النجمة الجميلة، خفيفة الظل المحبوبة، جنيفر آنستون، بشكل هادئ ورزين وغير انفعالي، وهي الزوجة المخدوعة التي تعرّضت للخيانة، إن الطلاق المدوّي الذي تم بين براد بيت وغريمتها اللدود أنجلينا جولي الأسبوع الماضي، هو تحقق (الكارما)، أو العاقبة الأخلاقية، بمعنى أن من قام بالظلم بالعدوان يوماً سوف يتعرّض للظلم والعدوان بالضرورة، وفق هذا القانون البسيط الذي يحقّق العدالة على الأرض، ويتيح للمعتدى عليه تذوق حلاوة الانتقام العذب.
وكانت آنستون قالت، في تصريح سابق، إنها، بعد مرور عشرة أعوام من الشعور بالمرارة والغضب والحزن والإحساس بالخذلان، سامحت براد وأنجلينا، ولم تعد تشعر بالغضب تجاههما، وهذا، بحد ذاته، وعلى فرض أنه كلام حقيقي، وليس مجرد رد دبلوماسي، نصحها به خبراء ميديا، درس إنساني جميل في مهارة التسامح وأهمية المضي في الحياة والبحث عن أسباب السعادة فيها، على الرغم من الأحزان وانكسار الخاطر وخيبة الأمل والإهانة العلنية التي منيت بها، على مرأى من العالم، كامرأة متروكة جرى التخلي عنها من أجل امرأة أخرى، وهذه أكبر إساءة يمكن أن توجّه لأنثى.
قدّمت هذه الفنانة ذات الحضور العفوي درساً في اللباقة والتهذيب، ربما يحتاج كثيرون من جمهورها، في العالم العربي خصوصاً، وهم الذين أبدوا تشفياً وشماتة كبرى، ربما يحتاجون التعلم من المصير الذي حلّ بأنجلينا جولي، وهي، بحسبهم، الطرف الشرير في هذا الثالوث الهوليودي ذائع الصيت، حيث صنفوها "خطافة رجالة وخرابة بيوت"، كون براد بيت مجرد رجل أبله سهل الانقياد، عديم الإرادة فاقد الأهلية، بحيث سطت عليه، وصار من أملاكها، بمجرد أنها أرادت ذلك. وهكذا، ومثل العادة، تُدان الأنوثة جمعياً، باعتبارها سبب الغواية ومصدر الشرور كلها. الطريف أن الشامتات بها من النساء كثيرات، لعل أبرزهن فيفي عبده التي أجابت مرة عن سؤال في مقابلة تلفزيونية عن عدد زيجاتها، قائلة إنها ليست متأكدة من أنها خمس أو ست، فغرّدت على "توتير"، مخاطبة أنجلينا: "معلش، يا أنجلينا يختي، أصل الرجالة كلهم كده يا حبيبتي".
وغصّت مواقع التواصل الاجتماعي بتعليقات ساخرة عن مغبة انهماكها بالقضايا العامة، ومتابعة مآسي اللاجئين، وإهمال رجلها، في سياق المنطق التبريري نفسه، الذي يغفر للرجل خطاياه، ويصنفها ضمن الهفوات الصغيرة التي يمكن غفرانها، فيما إذا تحلت المرأة بالحكمة والصبر. وكان الخبر الصاعقة، بحسب وصف خبراء أعلام، انتشر وسط تضارب معلومات وإشاعات حول أسباب الطلاق الذي بات حديث الساعة، وانشغلت وسائل الإعلام، ليس في الولايات المتحدة فحسب، بل في العالم بأسره، في أصداء النبأ الجلل، وانخرط محللون في التحليل والتوقع والمتابعة.
 

وهذه مسألة مثيرة للعجب حقاً، إذ لا غرابة في هذه النهاية المتوقعة لعلاقة استنفدت أسباب بقائها. وبما أن الأرض كروية، والأحداث فيها لا تتوقف عند أحد، مهما كان مشهوراً أو مؤثراً، بما أن دوام الحال فيما يتعلق بالبشر يدخل في نطاق الاستحالة، لأن هناك دائماً نقطة نهاية، علينا أن نقبل بها، طالما احتفلنا بالبدايات. تلك طبيعة الأمور، والأحداث الحزينة جزء من مسار الحياة، كما أن من المملّ جداً أن تبقى الأشياء على حالها، رتيبةً متكرّرة، لا جديد فيها، لا يبقى شيء على حاله، وأن العلاقات الإنسانية حقل شائك سريع التغير، لا تبقى على إيقاعٍ واحد، وبما أن أمزجة الناس ومشاعرهم، كما أمنا الطبيعة، تتبدّل دورياً، فيصبح حبيب الأمس عدو اليوم، وزوج اليوم طليق الغد وهكذا.
ويبقى السؤال مشروعاً بشأن سر ارتجاج الدماغ الذي أصاب كثيرين من سكان هذا الكوكب، لمجرد إعلان الثنائي (برانجيلنا) عن نبأ طلاقهما. ألا يتطلق الناس يومياً في كل مكان يا عمي؟ وهل الناس من السذاجة والسطحية، بحيث ما زالوا قادرين على تصديق أكذوبة الحب المثالي كامل الأوصاف، حيث لون الحياة بامبي، والعصافير تزقزق على الدوام. صحيح أن أنجلينا أهدته جزيرةً على شكل قلب، ثمنها 12 مليون دولار حين بلوغه الخمسين، لكن ذلك لن يمنع من إعلان وفاة الحب، حين تحين ساعته، لا شيء كفيل باستبقائه، ولا ينبغي، والحالة هذه، سوى إفساح المدى أمامه، حين ينوي الرحيل، مردّدين مع فيروز، بنبل ورفعة، وبكثير من الحزن: الله معك يا هوانا.

سوبر ماما

بقلم مي ملكاوي 
مدونات الجزيرة




فتحت فمها مندهشة: غير معقول... ماجستير ولديك طفلتان؟"
ابتسمتُ وأنا أساعدها وهي تقوم بفحص "مريم".. وعلقت وهي تنظر ناحية "ميرة" التي لم تتوقف عن القفز في الغرفة منذ دخولها "أنا لا أعرف كيف فعلتِها؟... أنا حقاً منبهرة". 
كانت تلك الأخصائية في عيادة الأطفال، ألتقيها لأول مرة بعد غياب الأخصائية التي اعتدناها، وقد بدا عليها الفضول لمحاورتي. لكنني لم أستطيع إلا أن أقول لها: "أعرف الكثيرات ممن يقمن بأكثر من هذا، لي أخت تحضر الدكتوراة ولديها أربعة أبناء أنجبت آخرهم في فترة مناقشتها الأخيرة، كما أنني أعرف أكثر من صديقة حصلت على الدكتوراة في نفس الوقت الذي أنجبت فيه أطفالها كلهم، وعندي صديقات يقمن بعشرين مهمة وعمل بذات الوقت". زاد انبهارها، وقالت لي إنها أم لثلاثة لكنها لا تستطيع فعل شيء آخر سوى عملها اليومي، وأكدت إن الأمور صعبة. 
ليست هناك وصفة جاهزة تجعل من المرأة إنساناً ناجحاً، لأنها ببساطة مثل الرجل تحتاج الى قوة وعزيمة وإرادة للاستمرار، تضيف إليها قوة تحمل للضغط الكبير. 
لم يكن الوضع يسمح بمزيد من النقاش لكنها أدارت بعقلي الكثير من الكلام.. وتذكرت تعليقاً لإحدى الفتيات على مقالة كتبتها عند حصولي على شهادة الماجستير، قائلة: "لماذا علي أن أصل الى حافة الانهيار؟ أمومة وغربة وزواج ودراسة وعمل لماذا كل هذا؟".. وقد ردت عليها صديقتها معللة رغبتها في أن تكون مثلي "سوبر ماما" لأن في الأمر شعوراً جميلا وإنجازا رائعاً.
علقت معهما يومها.. وضحكت على نقاشهما، وتذكرت بالفعل كم كان الأمر صعباً، وكيف مرت أيامٌ متوترة وأخرى نكِدة حزينة، وأيامٌ بطيئة ومزعجة وأخرى سهلة جميلة.. وتذكرت كيف أنني كنت أنهار بالفعل في لحظات الضعف وأرتمي باكية في رغبة حقيقية بأن يتوقف الزمن كي أحظى بلحظات راحة أو بساعات نوم بدون تنغيص.
لكن هناك حقيقة يجب ذكرها: أنا لم أكن ولا للحظة واحدة لوحدي، كان الجميع حولي يساندونني: زوجي.. أختي الكبرى عبر الهاتف اليومي.. أهلنا من الجانبين، الكل كان يساندني من حيث لا يدري. ولو كان للحق أن يقال فإنني حقاً لم أقم بالأمر وحدي. 
أنا لست "سوبر ماما" ولا سوبر أي شيء آخر، فالمرأة الخارقة ليست سوى في الأفلام الأمريكية، وكل شخص في هذا العالم وليس فقط كل إمرأة عنده حدّ تنتهي عنده طاقته وقوته، ويحتاج الى أن يملأ خزان وقوده بكم كبيرٍ من الراحة الحقيقية، ولكن هناك أشخاصاً خزانات الوقود عندهم ذات سعة كبيرة فعلاً.. وهنا تكمن الفروقات في الإنجازات.

ليست هناك وصفة جاهزة تجعل من المرأة إنساناً ناجحاً لأنها ببساطة مثل الرجل تحتاج الى قوة وعزيمة وإرادة للاستمرار، تضيف إليها قوة تحمل للضغط الكبير، وبظني فغالبية النساء تستطعن ذلك بل إنني رأيت بعينيّ نساءً يقمن حقاً بعشرين مهمة في نفس الوقت ولا يشتكين. على الأقل أنا كنت أبكي كالأطفال في الأسبوع مرتين أو ثلاثة عندما تتراكم الواجبات الى جانب مهام العمل. ولكن الظروف والمحيط المتفهم قد لا يتوفر لكثيرات؛ بل قد تكون الحروب والنزاعات أكبر الدلائل على معنى الظروف الصعبة التي تمر بها النساء، لكن ذلك لا يمنع ولم يمنع كثيرات من التميز والاستمرار، وقد صرنا نرى كثيراً من الأمثلة الحية لنساء تحدين واقعهن بالفعل كي ينجحن وينطلقن.
عالمات ورياضيات ومخترعات وفنانات ورائدات أعمال وغيره، وهذا خلق حالة من الـ"غيرة" الإيجابية أو العدوى الإيجابية فأصبح الجميع راغبين بأن يكونوا جزءاً من هذا التميز. 
لا تحدثوني عن نساء خارقات، حدثوني عن همم حقيقية لا تغمض جفنيها عن أحلامها.. تسعى إليها سعياً وتضرب الأرض لتحقيقها 
لأن النجاح ببساطه هو إرادة.. وقد ذكر القرآن في الآية 28 من سورة يوسف "إن كيدكن عظيم" ورغم أن الكيد ذكر في مواضع كثيرة أخرى في القرآن الكريم في كثير منها ايجابية، إلا أنني أعتقد أن الله عزوجل خص المرأة بقدرتها على تسخير قوة عقلية هائلة حينما تريد شيئاً.. ولست أني هنا الكيد السلبي من غيرة وسواها، إنما أنا أعني مهارتها في التحايل للحصول على ما تريد سواء في بيتها مع عائلتها أو مع صديقاتها أو في عملها أو أي شيء آخر.. وهي تستطيع استخدام الحيلة الطيبة للوصول الى نجاحها الذي تصبو إليه.
هيلاري كلينتون - وقد استحضرت مثالها عمداً بغض النظر عن اتفاقنا او اختلافنا عليها- فقد تمكنت من الوصول الى المرحلة الأخيرة في الانتخابات الرئاسية الأمريكية وقد تصبح رئيستها خلال أيام معدودة وذلك لم يكن سهلاً أبدا على غيرها، وهي ليست إمرأة خارقة بالتأكيد، لكن كل الظروف والشخصيات والسياسات من حولها ساعدتها وهيئت لها هذا الوصول، وبالتأكيد جهدها وشخصيتها ساهما معها أيضاً.
لكن انظر الى أمثلة أخرى من نساء رائدات في مجالات متعددة.. وأسألهن عن الصعوبات الحقيقية التي واجهنها من إمراة مات عنها زوجها فربت أبنائها بإخلاص وليس في جيبها شيء، الى إمرأة هربت من الحرب وفقدت أبنائها أو أهلها لكنها تابعت مسيرتها في الحياة بقوة وبرزت، الى نساء قدمن لنا أمثلة حية في العلوم والاقتصاد والسياسة والفنون الأخرى. 
لا تحدثوني عن نساء خارقات، حدثوني عن همم حقيقية لا تغمض جفنيها عن أحلامها.. تسعى إليها سعياً وتضرب الأرض لتحقيقها.. نغبطها وننبهر بها نصفق لها جميعاً وكلنا "غبطة" أن نسير على ذات الطريق.