أرشيف المدونة الإلكترونية

الأحد، 27 مارس 2016

لماذا يجب أن تكون الجنةُ بعيدة؟!

 رحلات في الوطن وخارجه
في بلادنا طبيعةٌ خلّابة ذات جمال خاص، يخالف الجمال الموروث في الماء والخضرة والوجه الحسن، إنّ في كل قطعة على هذه الأرض جمالٌ لا تدركه إلا العيون التي ترى الجمال بقلوبها، ففي رمال الصحراء الممتدة تحت لهيب الشمس الحارقة جمال، وفي السهول الثلجية الجليدية التي تنتهي إلى ليلٍ يطول شهورا- جمال، وفي الغابات الخضراء والجبال الشمّاء والسهول والأنهار والوديان والقيعان...فيها قِطَــعٌ من جمال مختلف ألوانه!
الجمال نعمة الخالق الجميل لأهل الأرض، لكنّ الإنسان لربه كنودٌ جحود! لا يقدّر قيمة الجمال الذي بين يديه، وهذا ما يمُرُّ في خاطري كلما ذهبتُ في بلادي بعيداً عن ضجيج المدينة وزحام الحجر والبشر فيها. فلا أدري ما الذي أصابَنا؟! وما هذا القبح الذي ننغمس فيه دون أن ندرك خطورة الأمر؟! إن في كل ما حولنا مسحةَ جمالٍ تنطفئ يوماً بعد يوم، ولولا بقيةُ عنايةٍ إلهية ترحم مَن في الأرض، لانتهى الجمالُ إلى غير رجعة.
                                                                          منطقة أم قيس الأثرية /الأردن 2016
إن مسألة الجمال واللياقة والأناقة والنظافة ليست ترفاً حضارياً أو ثقافياً يختصّ بمجتمع دون آخر أو بأمة دون أخرى، إنها قيمة إنسانية لا تفنى ولا تموت!
في رحلةٍ قصيرة إلى منطقة أم قيس الأثرية شمال الأردن، أو إلى قلعة عجلون، وفي رحلاتٍ أخرى تشبهها إلى البتراء الأثرية جنوب الأردن، وإلى قلعة الكرك، وفي رحلاتٍ إلى مواقع أثرية أخرى على أرض الأردن يتكرر المشهد مرةً تلو مرة ولا يختلف! أعود إليه طفلةً كأني ما فارَقْتُه إلا الساعة! لماذا؟! ماذا كنا نفعل طيلة السنوات التي مضت والتي تقترب من مئة هي عمر الدولة الأردنية الحديثة؟ ماذا كنا نفعل حتى نكون عاجزين عن تسويةِ طريقٍ في موقع أثري يمكن أن تسير فوقه على قدميْك، دون أن تُلقي بحذائك في سلة المهملات حين تعود من رحلتك لزيارة أيّ مَعلَمٍ أثري ؟!
                                                                                                                           منطقة أم قيس /الأردن2016
ماذا كنا نفعل طوال قرنٍ حتى تكون البتراء وأنا صبيةٌ سنة 1987 هي ذاتها البتراء سنة 2016؟!  وربما هي ذاتها البتراء التي أماطَ عنها اللثامَ جون بيركهارت الرحالة السويسري مكتشف المدينة الوردية العجيبة سنة 1812؟! لماذا تكون البتراءُ بغبارها وأتربتها  وفوضى الحواس التي تقع على معالمها هي هي قبل مئة عام وبعد مئة أخرى؟! ماذا كنا نفعل كي تقطع (السيق) الممتد في الوادي على قدميْك، وحالما تنتهي منه إذا بك أشعث أغبر وكلُّ خيبات العمر تصبح ماثلةً أمام عينيك، حين تنفتح نهايته على خيبةٍ تُنسيكَ جمال المبنى الوردي المنحوت في الصخر!
ما الذي دهانا في الأردن وفي بلادنا العربية حتى تختفي ذائقتُنا الحضارية في التنزه وارتياد الحدائق والرياض التي أبدعْناها وامتلأت بأخبارها كتب الفِلاحة والتاريخ والأدب. وامتلأت بها حواضرُ بلادنا وقراها وأريافها، لماذا يستقبلك القبح في مرابع المتنزِّهين بأكوامِ النفايات المبعثرة؟! ولماذا تطلُّ الأعشاب الضارة النامية هنا وهناك من بين الحجارة والآثار،فتأكل ما بقي منها؟! ولماذا تفتقد المواقعُ الأثرية إلى حدٍّ مقبولٍ من الخدمات التي لا يستغني عنها مسافر؟! ما الذي تفعله وزارة الآثار إذا طلب طفلي استخدام الحمام بعد يوم طويل من الرحلة؟! وما الذي تفعله تلك الوزارة لو احتاج والدي مكاناً للوضوء أو الصلاة؟ هل تظن أن جبايةَ رسوم الدخول للمواقع الأثرية هي السياحة؟؟ هل تظن أن دخولَ المواطن للموقع الأثري خلسةً بلا رقيب- هل تظن أنه سياحة هو الآخر؟؟ إن عقلية (الجباية) و(الفهلوة) و(السَّلْبَطَة) والاستخفاف بالمواطن العربي سرقت الجمال من قلوبنا وشوَّهت كلَّ جميلٍ في عيوننا.
لا تذهب النفس من هذه الخواطر إلا وتحضر البلاد الأخرى لتحتل الصورة، التي نتجرع حسرتها، مرة بعد مرة، فإذا كنتَ رحالةً على سفرٍ ذات مرة، أو كنتَ رحّالةً بين الصور مرة أخرى فسافرتَ في الأرض دون أن تغادر الشاشة التي أمامك، وصرتَ تحفظ ملامح المدن كما تحفظ وجوه النساء، فإنك ستعرف أن الجمالَ بعيدٌ عنا وأن الجنةَ بعيدةٌ جدا!
لماذا عندما نجوب مدن العالم نجد للمعالم الأثرية مذاقاً آخر؟ لماذا تحنو قلوبُ غيرنا على الحجارة، ونحن نقسو حتى لتكون قلوبُنا كالحجارة بل أشد قسوة؟! كثيراً ما تساءلتُ مثلاً في زيارتي لمدينة عكا وحيفا -فكَّ الله أسرهما من أيدي يهود- أمام بديع الجمال الربّاني الذي يأسر قلوبَ العاشقين: كيف تستحيلُ هذه الهِبَـــةُ الإلهيةُ قِطَعاً من سحرٍ فتّان يأسر القلوب فلا تغادرها؟! وكثيراً ما تساءلتُ: ماذا لو كانت حيفا مثلاً ما تزال بأيدينا، هل كانت شوارعها ستكون في تلك الأناقة والنظافة والسحر الحلال؟!!

حدائق البهائيين المنسَّقَة الجميلة/ الكرمل- حيفا2013
على بوابة حدائق البهائيين التي تزهو بها حيفا على سفح جبل الكرمل، اقتربتُ بضع خطوات لإبراز تذكرة الدخول للموظفة، نظرَتْ في وجهي تتأمل في شفتيَّ المتحركتين، وقالت: العلكة!! ليس مسموحاً بها! كانت في كلماتها (صدمةً حضارية)، تلك الصدمة التي يحدثكَ عنها علماء الاجتماع تصيب الفرد حين ينتقل من مجتمعه الذي اعتاد إلى مجتمع آخر جديد!
(علكة) بحجم حبة الفستق يلوكها لساني تمنعني من دخول حدائق البهائيين في حيفا!! وعندما عدتُ أدراجي مساء ذلك اليوم كنتُ أستعيد كلماتِ الموظفة في سري وأقول: نعم إن مجرد قطعة علكة صغيرة تخلق الفرق! وبعضنا يسخر منك لو قلتَ له ممنوع التدخين!!
أما في قرطبة التي كانت بأيدينا زينةَ الدنيا وعاصمةَ الأرض، ففي ذات مرة كنا أمضينا والزملاءَ الصباحَ في زيارةٍ لدار البلدية ونحن بملابسنا الرسمية. وعندما انتهى اللقاء سِرنا في جولةٍ في المدينة القديمة في المواقع الأثرية التي يعرفها الناس في قرطبة. كنا نرتدي ملابسنا الرسمية وأحذيتنا غير الرياضية، قطَعْنا ساعاتٍ مشياً على الأقدام في الأزقّة الشابة التي جاوزت ألف عام من عمرها، فلم يأكل الغبارُ والأذى أحذيتَنا والثيابا!

السور الخارجي للمسجد الجامع بقرطبة والشارع الحجري النظيف اللامع/ الأندلس2014 

زقاق نظيف من أزقّة قرطبة زينة الدنيا/ الأندلس2014
وفي الليلة نفسها كنا نعاود رحلةَ المسير نفسها في ساعة متأخرة، وخريرُ مياهٍ متدفقٍ ينساب في الأذنين، وإذ برجالِ البلدية في ثيابهم الصفراء وصهاريج مياه متوسطة الحجم يجرُّونها خلفَهم يهرقون المياه على الأرض الحجرية الملساء فتغدو لامعةً براقة  من النظافة. لماذا تعلَّموا منّا كلَّ جميلٍ ونسيناه نحن؟؟!
فإن قال قائل إنّ شوارعَ قرطبة هي داخل المدينة القديمة نفسها، فلأذهب بكم إلى آثار المدينة الملكية المنكوبة (مدينة الزهراء) في ضواحي قرطبة التي لم تُبقِ منها حوادثُ الزمان إلا أطلالاً مهجورة، لكنَّ زيارتها في المكان الخالي البعيد عن قرطبة المدينة- لا يمنع أن تزورها وأنت بكامل أناقتك أيضا! فلن تحمل همَّ أذى الطريق ووعثاء السفر إليها؛ فالأرض ممهدةٌ، والدروبُ مبلَّطة، والطرقاتُ والدَرَجات والرَّوحات والجيئات، ميسَّرةٌ للماشي وللراكب.
أما في قصر الحمراء بمدينة غرناطة، فإنك تقطعُ دروباً طويلة صعوداً وهبوطاً تصعد إلى قصبة الحمراء تسير في أروقة القصروأجنحته وحدائقه وأنت بكامل أناقتكَ فلا تخرج منها إلا وقد ازددتَ جمالاً على جمال، يغمر روحَك عطرٌ أريجٌ يدوم ويبقى أثرُه في قلبك. فما بالُ الطريق إلى الحمراء عامرةً بوارف الظلال، تستقبلكَ المياه الجارية في غدران رفيعة على جوانب الطريق الصاعد إليها، وتحفُّ بك الأشجارُ الباسقةُ بحنانٍ يأسرك ضيفاً، وتنسى أنك عابر سبيل في تلك الأرض فتطيب لك الذكرى ويطيب لك المقام.
فما الذي قد نخسره ببذلِ قليلٍ من نظافةٍ وقليلٍ من أناقةٍ وقليل من ترتيب؟!
ما الذي قد نخسره لو استفَقْنا على مواقع بلادنا الأثرية وقد صارت طرقاتُها ممهَّدة موطَّأَة لكل زائر؟ وما الذي قد نخسره لو كان لأهل المسؤولية فينا -صغُرت أم كبرت-  بعضٌ من المسؤولية التي سيُسألون عنها يوماً؟! وما الذي يمكن أن يفوتنا لو كانت الأمانةُ عملاً لا قولاً يتقنه من هبَّ ودبّ؟!
ما الذي؟! وما الذي يمكن أن تكملوه أنتم في الأسطر الفارغة التالية
....
...
...
حتى  نقف على اليرموك مجدداً نكرر السؤال:


 "أجبني هل يفيقُ الشرقُ حقاً ... وينهض بعد أن أغفا وناما؟!!!"



الصور المرفقة بالمقال  بعدسة صاحبة المدوَّنة