أرشيف المدونة الإلكترونية

الأحد، 9 أبريل 2017

نكهة الرسائل

بقلم: أ.د. صلاح جرار
جريدة الرأي

لستُ أنسى عندما كنت طالباً في الجامعة في مرحلة البكالوريوس كيف اعتمدتُ مكان دراستي عنواناً بريدياً لرسائلي التي تصل إليّ من أصدقائي وسواهم، وكنت كما كان جميع الطلبة آنذاك، أذهب كلّ يوم إلى لوحةٍ في عمادة الكليّة تعلّق فيها لائحةٌ بأسماء الطلبة الذين تصل إليهم رسائل جديدة، فنذهب إلى ديوان الكليّة ونتناول رسائلنا بشوق وشغف شديدين! وكنا نميّز الرسالة التي مصدرها خارجيّ من الرسالة التي مصدرها داخلي عن طريق لون المغلّف، فإنْ كان أبيض مخطّطاً بالأزرق فهي في الغالب من الخارج، وإن كان أبيض خالصاً فيكون في الغالب من الداخل. كان كلّ واحدٍ يخطف رسالته وينتبذ زاوية ويقلب الرسالة من الوجه ومن الخلف لمعرفة مرسلها ومصدرها ثمّ يسارع في نزع غلافها ويأخذ في قراءتها، فبعضنا يظهر على وجهه علامات الفرح والسعادة وبعضنا يكتئب ويعود حزيناً بعد أن يدسّ الرسالة في جيبه الداخليّ.
ولا أنسى عندما كنت طالباً في جامعة لندن خلال إعدادي لدرجة الدكتوراه، كيف كان للرسائل التي تصل عبر البريد إلى منزلي مع طلوع الشمس، مذاق خاصّ جدّاً، لم أعد أجد له نظيراً بعد أن رجعت من الدراسة، وافتقدته بالكامل بعد ظهور وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة، من إنترنت وفيسبوك وواتس أب وفايبر وسكايب وسواها ممّا قضى على الحاجة إلى استخدام الورق والرسائل والطوابع والخطوط اليدوية قضاءً شبه تام.
كانت الرسائل التي تصل إليّ من عمّان إلى لندن ذات قيمة خاصّة، وكان الشوق الذي يرافق وصولها أو يسبقه شوقاً له مذاقه الخاصّ ونكهته الخاصّة، كان ساعي البريد يدسّ الرسالة أو الرسائل التي بحوزته من شقّ صغير في الباب يؤدّي إلى سلّة معلّقة في الوجه الداخلي للباب، لم نكن نسمع صوته وهو يدسّ الرسائل عبر الشقّ لكن كنّا نسمعه عندما ترتد سدّادة الشقّ المعدنية إلى مكانها، فنصحو على صوتها ونسرع نحو الباب بلهفة شديدة، كنّا نفرح كثيراً عندما نجد رسالة في مغلف أبيض ذي خطوط زرقاء فنعرف أنها من عمّان، وكانت تصيبنا الخيبة إن كانت الرسائل مجرد دعايات أو فواتير ومطالبات ماليّة!!
لم تكن الرسائل التي كنّا نتلقّاها، في أيّ مكان ومن أيّ مصدر، مجرّد ورق وحبر، بل كان لها أهميتها الخاصّة، كان للون الرسالة لغته، ولملمسها معناه، وللخطّ الذي كتبت به نكهته لأنّ الخطّ في الرسالة جزء من هويّة كاتبها، وكان للطابع الذي ألصق على وجه غلافها دلالته، وكلّ شيء في تلك الرسائل كان جميلاً، ولذلك كنّا نحتفظ بها ونحرص على عدم فقدانها، حتّى إنّني ما زلت أحتفظ برسائل منذ أكثر من أربعين عاماً، ولم يكن مضمون الرسالة وحده هو الباعث على الاحتفاظ بها، بل أن تأتيك رسالة فهذا سبب كافٍ للفرح بها والاحتفاظ بها.

وما زلت إلى اليوم ينتابني شعورٌ بالفرح لأي رسالة تأتيني مكتوبة بخطّ اليد وبمغلّفٍ عليه طابعٌ بريديّ وأختامٌ بريديّة وتحمل تاريخ الإرسال وتاريخ الوصول واسم المكتب البريدي الذي أرسلت منه والمكتب البريدي الذي وصلت إليه واسم المرسل وعنوانه بخطّ يده واسم المرسل إليه. وما زلت أثق بمثل هذه الرسائل حتّى لو خلت من أيّ خبر مهمّ أكثر من عشر رسائل تصل إليّ عبر البريد الإلكتروني والواتس أب والمسنجر وسواها حتّى لو كانت تحمل لي بشائر الغنى والسعادة وأنواعاً من الأخبار السارّة.
وبعد ثورة تكنولوجيا الاتصال والمعلومات التي تجتاح العالم طوْعاً أو كرْهاً، أصبح بإمكان أي شخص على وجه الأرض أن يبلغ رسالته إلى أيّ مكان على وجه الأرض في ثوانٍ قليلة وبكبسة واحدة على أحد الأزرار في جهاز حاسوبه الخاص. وبين يدي هذه الثورة هل نستطيع القول إنّ عهد الرسائل الورقية المكتوبة بخطّ اليد قد ولّى إلى غير رجعة؟! وهل أصبحت الرسائل والخطوط التي تكتب بها- أو هل ستصبح قريباً- تراثاً نادر الوجود وذكرى من ذكريات الشعوب؟!
إنني أدعو كلّ من لديه رسائل بخطّ اليد قديمة أو حديثة أن يحتفظ بها، فربما تصبح هذه الرسائل ذات يوم شاهداً على زمن جميل كان ممزوجاً بالشوق والمحبة واللهفة.


الأربعاء، 5 أبريل 2017

الكتابة في منتصف العمر

بقلم غازي الذيبة
جريدة الغد/   الأحد 5 نيسان 2015

"أريد يدا ثالثة"، قال صديقي الشاعر الستيني ذات مساء، وهو ينظر من شرفة منزله المطلة على مكعبات الإسمنت في مدينة عمان "لأكتب كل شيء".
**
أن تكتب، وأنت أساسا منشغل بهذا الهم، يعني أنك تخلِّق عالمك، تصوغ مدنك، أناسك، حيواتك. حتى لو كتبت عن الكائنات الفضائية، فأنت تكتب ذاتك، تكتب المهمة التي هبطت عليك في لحظة انعتاق تبحث فيك، فيما حولك، في دقتك العالية لاكتشافها في التقاط المعنى وإرساله مرة ثانية محملا بك، بدلالاتك، بحركة روحك، بتوهجك فيه.
في منتصف العمر، يصبح الأمر ملحا جدا. تصبح الكتابة طريقة حياة كاملة، لا تستطيع الفكاك منها، حتى وأنت تفكر ببيت رخيٍّ في جزيرة نائية، لتجلس على شاطئ البحر فيما سنارتك ملقاة في الماء، تنتظر أن  يعلق بها شيء، وقد لا يعلق، لكنك تظل محدقا في اللحظة تلك، محتدما في المنحة الخارقة التي جذبتك إلى هذا الصفاء كي تتأمل وأنت تصطاد الفكرة/ السمك. 
خلال الانتظار ذاك، ستتفقد الحياة.. الأحلام، ستمر عليك الحيوات وميضا، بينما تتأمل موج البحر وفيروز الشاطئ، وستتخلص من زوان كثير في صفائك ذاك، وكما لو أنك في نطاق هيوليٍّ، إن خرجت منه، عدت إلى مرمى العادي، وصرت مسكونا به.
في منتصف العمر، الكتابة فضاء تواق لأن تشعل فيه وقدة أفكارك، تكون في لحظات نضج وصلتها بعد مرارات كثيرة من البحث والتقصي والحوارات والقراءة والتأمل، وربما الصراخ.

إذن، ستبقى يدك على أزرار الكيبورد، لترقن، وستبقى نظارتك قربك لتقرأ، وسيبقى ذهنك متوقدا لترى. كل حواسك ستكون مستعدة لأن تكثّف اللحظة التي تمر في رأسك، لتعيدها فعلا مكتوبا، حتى لو أخذت إجازة من الكتابة.
حين تصل إلى منتصف العمر، ستجد نفسك محاصرا بأسئلتك المرهقة عن الوجود والعدم. وستتساءل باستمرار عن جدوى التوقف عن الكتابة والاستمرار بها، لكن الغلبة ستكون لأن تستمر، بل إن هذا التساؤل سيكون كفة الميزان المائلة جهة الروح والقلب والعقل معا، منذ اللحظة التي يخطر لك سؤال: إلى متى أكتب؟.

نصف العمر، ليس مجرد وقت، يحدث لكل منا، لا، إنه مبتدأ لخوض نصف العمر الثاني، مستهل رفيع المستوى لاكتشاف اللهفة والتوق والحب مكتملين. طاقة مشعة على خوض الاكتمال في النصف الثاني منه، تضيء حدقات الروح، وتفسر مكامن الوجدان بعمق، وشفافية وحنكة المُدَرَب على اكتشاف الدروب في مفازات الوجود الوعرة. النصف الأول مجرد تجربة، تظل مشحونة بما سيتحقق، لا بما تحقق، والنصف الثاني ليس مجردا من شيء، إنه التجربة المشغولة بيد صانع ساعات سويسري ماهر.

السبت، 25 مارس 2017

لذة لم يذقها رجل!

بقلم غادة السمان
القدس العربي

قبل أربعة أيام مر عيد الأم العربية ومعه أشعر دائماً بالرغبة في كلمات دافئة، قلبية، بعيدة عن اللغة التقليدية التي يتم تكرارها كل عام.
أتذكر صوت الدكتور فايز سويدان حين قال لي: مبروك أنتِ حامل. لا كحول. لا سجائر. لا أدوية دون استشارتي.. وهكذا كان. وخضعت للمرة الأولى في حياتي (لديكتاتورية) ما.


أهلاً بالمحتل.. ووداعاً للأدب والتمرد

صار ذلك المخلوق الغامض يكبر في بطني ونشأت بيننا علاقة حميمة كعلاقة السجناء في زنزانتين متلاصقتين.. يتواصلان بالقرع على جدران السجن كما في رواية «الكونت دي مونت كريستو».. ولكن تصادف ان تلك الجدران كانت بطني الذي انتفخ وصرت أمشي مثل طائر البطريق «البنغوان». تلك العلاقة الحميمة عطلت فعالياتي الفكرية كلها. صرت عاجزة عن الكتابة، وعن العمل، وذلك المخلوق الذي ينمو في جسدي احتلني وشل طاقاتي كلها وسخرني لحمايته! انه المخلوق الوحيد الذي نفرح باحتلاله لنا ونرفع أعلامه ونخفض أعلامنا دون الشعور بالهزيمة بل بالبهجة.
وأخيراً قررت طفلتي/طفلي مغادرة سجنه/سجنها وتصادف ذلك ليلة زيارة الشاعر أدونيس لنا بموعد سابق. جاء برفقة سمير الصايغ الرسام والشاعر.

أدونيس يقرأ شعره وكلي آهات!

اقتادهما زوجي إلى غرفة نومنا قائلاً إنني متوعكة إذ كنت عاجزة عن النهوض، وكان أدونيس قد عاد للتو من نيويورك التي ألهمته قصيدة ولطالما تذوقت شعره وقرأ علينا ليلتها قصيدته الجديدة غير المنشورة بعد يومئذ، بعنوان «قبر من أجل نيويورك».
هو يقرأ وأنا لا أفهم شيئاً غير الإنصات لرفسات طفلي وموجات ألم تجتاحني وكلي آهات. فجأة، توقفت حواسي كلها عن التلقي. وانشغلت بذلك (الجار) الحبيب في بطني الذي لم يكتف تلك الليلة بالركض جيئةً وذهاباً داخل قشرتي البشرية بل سبب لي ألماً مفاجئاً مبرحاً في بطني. أدونيس لاحظ انني في كوكب آخر لا تطاله الأبجدية مهما كانت مبدعة، وأنجز قراءة «قبر من اجل نيويورك» ومضى وسمير الصايغ، ومضينا زوجي وأنا إلى المستشفى..

النشوة المطلقة التي لن يعرفها رجل

بعد ساعات من الأوجاع قال الطبيب فجراً، «مبروك … إنه صبي «. صبي أو بنت لا فرق.
الطبيب ناولني طفلي وشاهدته للمرة الأولى.. وكانت لحظة نشوة جارفة استثنائية.. ها انا التقي اخيراً بذلك المخلوق الذي احتلني شهوراً وعطلني عن الكتابة وحرية الحركة، ها هو كحلم ضوئي شفاف بأصابع دقيقة كعيدان الكبريت. وحين وضعت اصبعي داخل يده انطبقت أصابعه على يدي وعلى روحي وككل ام عرفت انها لن تنفك يوماً عن قلبي.. واظن ان كل أم عاشت تلك اللحظة الاستثنائية: لقاء طفلتها/طفلها للمرة الأولى. إنها لحظة النشوة واللذة التي لم يذقها رجل بشحنتها الخاصة. ثم يأتي والد الطفل، الذي لا غنى عنه في حياة المولود، ولكن تلك الشهور التسعة من العلاقة الحميمة المميزة التي لا تشبهها صلة تظل استثنائية ـ سواء كبر وصار مجرماً أو قاتلاً او إنساناً سوياً او مليونيراً او متسولاً. إنه الحب اللا مشروط. الحب الوحيد الذي يتقبل الآخر كما هو بكل نقائصه.

رسائل حب كتبتها دامعة!

لم أصدق يوماً الإعلام الذي يلتقط صوراً لأم قُتل ابنها ومن المفترض انها تزغرد تحت أضواء (الكاميرات) لإعلام (موجّه) ستغوص سكين الافتقاد في قلب الأم. وأمنية كل ام ان ترحل عن كوكبنا قبل ابنتها/ابنها اياً كان كيفما كان. ولن انسى يوماً العاملة المنزلية «خدوج» التي لحقت بي ليلة العشاء لدى بعض الأصدقاء في بيروت وقالت دامعة: ارجوك.. اكتبي رسالة لإبني ليشفق عليّ ويتصل بي. إنها (خادمة) في أواخر الخمسينات من العمر، دامعة، نحيلة، يبدو ان ابنها الوحيد لا يبالي بشقائها ولا يتصل بها حتى هاتفياً. واظن انني كتبت اجمل رسائل الحب بخط يدي إلى ابن «خدوج»، وكانت تملي عليّ وكنت اكتب على طريقتي وادمع تأثراً..

أبناء المهاجرين إلى الغرب

في كل «احتفالية» يتم إخفاء السلبيات.. ولن استسلم لتلك اللعبة بل أرغب في الكلام باختزال عن خيبة الأمهات (والآباء ايضاً) ببعض الأبناء. وبالذات أولاد المهاجرين إلى حضارة غربية.. ولي صديق كبر أولاده في لندن وتطبعوا بالعادات الغربية وهو يريد منهم ان يكونوا عرباً وهذا مستحيل.. وعلى كل من يفكر في الهجرة ان يتذكر ان أولاده لن يكونوا نسخة عنه وعن قيم عالمه بل عن قيم عالم حملهم اطفالاً اليه أو ولدوا فيه وكبروا وتطبعوا بعاداته القائمة..

أمهات فلسطين ـ سوريا ـ العراق ـ اليمن ـ إلى آخره!..

اتعاطف بعمق في عيد الأم مع أمهات بلا أعياد. تلك الأم الفلسطينية مثلاً التي يذلها الإسرائيلي المجرم ويهدم بيتها ويقتاد أولادها إلى السجن والتعذيب لرفضهم الاحتلال ويكاد زوجها ينفجر لأنهم يمنعونه من الصلاة في المسجد الأقصى ومن الأذان ايضاً!
الأم السورية تبكي اطفالها الذين تقذف البحار بجثثهم على شواطئ الهرب المستحيل.. وربما بجثتها أيضاً في ملحمة حزينة من التيه عن البوصلة الفلسطينية/القضية الأولى..
الأم العراقية تندب على أبواب المزارات.
الأم اليمنية نسيت حكايا «اليمن السعيد» في دوامة عنف تخطف ذكور الاسرة وتهين النساء..
وباختصار: لا عيد حقاً للأم العربية هذا العام، ويومها هو غالباً مناسبة حزن عميق وحنين إلى لحظة النشوة تلك التي لم يذقها رجل حين ولد طفلها والتي ستظل تشعر بها سواء ولدته في خيمة تشرد او في مركب هارب او على شواطئ بحار مكهربة..
فالطفل الوليد لا يطلب (تأشيرة) للقدوم إلى كوكبنا!!

الجمعة، 24 مارس 2017

الموشحات الأندلسية قبَسٌ من الماضي الحاضر




الموشحات الأندلسية هي هذا الإرث الأندلسي الذي ما زلنا نستمتع بجماله إلى اليوم، وهي واحدةٌ من المبتكرات المميزة التي جادت بها قرائحُ الأندلسيين. وهي مأخوذةٌ في اسمها من وشاح المرأة المحلّى باللآلئ والمجوهرات الذي تتزين به.
والموشح في أبسط أوصافه قصيدة غنائية تمتاز بتنوُّع قوافيها وأوزانها، وتتكون من مقطوعاتٍ تتوالى حتى المقطوعة الأخيرة التي تسمى خرجة، وهي مركز الموشح كما كانت تعرف  في بداية نشأة هذا الفن: فهي التي كان الوشّاح يضع وفقها لحنَ موشحته ثم يعمد إلى نظم الكلام عليه. وعادة ما تكون الخرجة على ألسنة النساء أو الصبيان، وفيها من السخف والخفة والعامية والأعجمية ما يجعلها أملح ما في الموشح.
والموشحة أقرب إلى قطعة موسيقية منها إلى قصيدة شعرية؛ إذ كان للغناء أثره الكبير في ظهور هذا الفن بالأندلس، حيث انتشرت مجالس الأنس واللهو في المجتمع الأندلسي، وازدهر الغناء مع وفود زرياب إلى العاصمة قرطبة في القرن الثالث الهجري، وأضاف جمالُ الطبيعة سبباً آخر لجمع هذا كلِّه في الموشحات، فكانت لغتُها وإيقاعاتها السهلةُ الليّنةُ الخفيفة تلائم مزاج الجمهور الطَّروب، وتوافق أغراضها الأساسية التي قيلت فيها كالغزل والخمر والطبيعة ...
ثم ما لبثت الموشحاتُ أن ملكت قلوبَ العامة والخاصة، لكن اشتهار أمر الموشحات الأندلسية وازدهار هذا الفن على مستوى العامة في المجتمع الأندلسي لم يشفع له، فاعتذر مؤرخو الأدب الأندلسي عن الحديث عنها في مؤلفاتهم. إذ لم يلتفت بعضُهم إلى أصحاب هذا الفن لأنهم خرجوا على أعاريض العرب المعروفة، وبعضهم لم يعتد إيراد فن الموشحات في الكتب المجلَّدة المخلَّدة فانصرف عنها، وغيرُهم ما اعتادوا إدخال الهزل في معرض الجد فلم يأتوا على أخبارها!
ومهما يكن من موقف أولئك المؤرخين من فن الموشحات الأندلسية فإننا لا نعدم أن نجد لها في المشرق من المعجبين والمأخوذين بها حدّاً جعل المشارقةَ أصحابَ فضلٍ على محبّي هذا الفن، بأن تلقفوا الموشحاتِ الأندلسية ونظموا على منوالها مقلدين ومجددين .. ولم يكتفوا بذلك بل إن أهم كتابٍ لا غنى عنه للباحثين حتى اليوم في فن التوشيح – كتاب دار الطراز في عمل الموشحات قد ألَّفه أحد المفتونين بهذا الفن وهو المصري ابن سناء الملك (ت608هـ/1211م)، الذي كان أول من أقام صنعة هذا الفن وأحكامَ بنائه، والناس عيالٌ عليه في ذلك إلى اليوم.
ومهما قيل في جمال الموشحات الأندلسية وسحرها الذي سرى إلى المشرق وفتن أهلَ الكلمة والنغم، فإن الموشح كما عرفناه هو فنٌ تفرَّد به أهلُ الأندلس. وترجع أوليّتُه إلى أواخر القرن الثالث الهجري إلى الشاعر محمد القَبْري الذي كان يضع الموشحات على أشطار الأشعار، ومن بعده إلى ابن عبد ربه(ت328هـ/940هـ) .. ومع هذه البدايات المبكرة فليس بين أيدينا موشحات لهؤلاء تضيء لنا طريقتهم الأولى في ابتداع هذا الفن الجميل!
والمستقر بين الدارسين أنّ الشاعر عبادة بن ماء السماء(ت422هـ/1030م)  هو مبتدع الموشحات فكأنها "لم تُسمع بالأندلس إلا منه ولا أُخذت إلا عنه".
إن هذا الفن الذي أهدتْهُ الأندلس لعشاق الجمال والموسيقا هو فن مبتكَر كغيره من الفنون المبتكرة التي عرفها الأدبُ العربي في طريق التجديد والحداثة، إلا أن كثيراً من تلك الفنون خفَتَ ضوؤُها وانطوت صفحتُها أو بقيتْ مغمورةَ الشأن ضئيلة الأثر، في حين ازدادت الموشحاتُ تألقاً مع الأيام حتى تنامى معجبوها في مختلف الأصقاع والجِهات، وحفظوا لها هذا الودَّ والإعجاب في المعارضة والمحاكاة والتقليد.
ولم يكن تأثير الموشحات الأندلسية في أهل المشرق فحسب، وإنما امتدَّ تأثيرها إلى ظهور موشحات عبرية على مثال الموشحات العربية عُرفت بـ(البيزمون) القصيدة الغنائية الشعبية وهي تطوير للأناشيد الدينية العبرية.
فقد قلَّد الشعراءُ اليهود في الأندلس أقرانَهم من الشعراء العرب في نظم الموشحات، وأكثروا من معارضة الموشحات العربية  الأندلسية حتى فاقت الموشحاتُ العبريةُ -التي وصلتْنا- في عددها الموشحاتِ العربيةَ بكثير، وليست قيمةُ الموشحات العبرية في عددها الكبير بقدر ما هي في حفاظها على بعض السمات التي لم تحتفظ بها الموشحات العربية؛ لأن المصادر العربية لم تحتفظ بالكثير منها.
 وكان كبار شعراء العبرية في الأندلس قد أقبلوا على نظم الموشحات مجاراة لتطورِ الحياةِ وذوق العصر، في حين ترفَّع عن ذلك كبارُ شعراءالعربية هناك، الذين لم يستطيعوا أن يتجاوزوا نظرتهم الأولى إلى الموشحات بأنها فنٌ شعبي يُلقى إلى الجمهور على غير هدى عَروض الشعر العربي وقيوده المحكمة. على الرغم من أن ابن سناء الملك قد أدرك سرَّ هذه الموشحات حين وصف قسماً كبيراً من الموشحات بأنها مما لا وزنَ له على أوزان شعر العرب، وبأنه "ما لها عَروضٌ إلا التلحين" أي أنها أغنية يجبر اللحنُ الموسيقي كسرَها العَروضي. وحين وصف كذلك القسم الذي جاء على أوزان العرب مما اختلفت أوزانُ أقفاله عن أوزان أبياته قائلاً إنه "لا يجسر على عمله إلا الراسخون في العلم من أهل هذه الصناعة" صناعة الموشحات.
وكانت الموشحات العبرية قد ظهرت منتصف القرن الحادي عشر الميلادي مع ازدهار الشعر العربي في الأندلس وهي كذلك توافق فترة ازدهار الموشح العبري، وقد خرجت الموشحاتُ العبرية من عباءة الموشحات العربية مقلِّدةً لها في الشكل والبناء، والصور والأغراض، والأوزان والقوافي... وفي كل ما يتصل بها، وصارت الموشحاتُ جزءاً أساسياً في الشعر  الأندلسي العبري. وقد كان الوشّاحُ اليهودي يأخذ مطلعاً أو خرجةً من موشحٍ أندلسي عربي ويقيم عليها موشحته معارِضاً ومقلِّداً، وقد ظل الشعراءُ اليهود في الأندلس على متابعتهم للشعراء العرب المعاصرين لهم  ومعارضة موشحاتهم، ومن الذين اشتهروا في هذا موسى بن عزرا (ت530هـ/1135م)، ويهودا اللاوي (ت536هـ/1141م)، وإبراهيم بن عزرا (ت560هـ/1165م).
ومن أشهر الشعراء الذين عارضوا الموشحات العربية تاوضروس أبو العافية (ت1295م)، وقد أنشأ ديوان موشحاته على معارضته لأسلافه العرب واليهود الذي يقول في مقدمته: "وعلى رأس كل واحدة من هذه الموشحات سوف أذكر النموذج؛ لأنها بُنيت كلها على أسس عربية، وتلك عادة شُداة الألحان (أي الوشّاحين) أن يغنوا على قيثار إسماعيل".
فهذا هو بعضٌ من قبس الموشحات الأندلسية الذي أنار في الآداب الأخرى شموساً وأقماراً تملأ سماءها تنوعاً وجمالاً. وهي بعين المنصِف أثرٌ لا يُمحى للأندلس على التنوع والتعدد الثقافي والفني والحضاري الذي عاشتهُ تلك البلاد شطراً من الزمان، وملأتْ به الأرضَ من ثمراته التي ما زلنا إلى اليوم  نستطيب مذاقَها في كلِّ جمالٍ وألفةٍ تطرق أسماعنا وأرواحنا حين تلامسها كلمةُ الأندلس.


السبت، 18 مارس 2017

أغاني الزمن الجميل جسَّدت قصص حب خالدة بين الفنانين

https://bit.ly/2Sm3oZg

جريدة الغد-

 الغناء رسالة حب للحياة، والأغاني كثيراً ما تكون رسائل غرام بين المحبين من المستمعين. لكن هناك أغنيات اعتدنا سماعها، وقد نكون رددناها عشرات المرات من دون أن نعرف أنها كانت رسائل غرام حقيقية لفنانين حاولوا من خلالها الوصول إلى أحبائهم.
فوراء كل أغنية من تلك الأغاني قصة حب حقيقية، تستحق القراءة وربما الاستماع والغناء حسب تقرير لهافينغتون بوست. 

بتلوموني ليه
رغم ما رُوي عن قصص ربطت بينه وبين السندريلا أو سعاد حسني، وغيرها من نجمات الفن، فإن الفنان عبد الحليم حافظ يروي في مذكراته قصة حبه الوحيدة كما وصفها، حيث وقع في غرام "ذات العيون الزرقاء"، التي رفض الإفصاح عن اسمها، التي قيل إن اسمها "ليلى".
كان حليم قد رأى "ليلاه" للمرة الأولى في لندن خلال تسوقه هناك، وتعرف عليها وأحبها، لكن كان أمامهما عائق كبير، حيث كانت متزوجة ولديها ولدان في التاسعة والعاشرة من العمر. وكان طلاقها يعني انتقال حضانة الأطفال إلى والدهما، فلم تستطع طلب الطلاق، وهو ما تسبب لعبد الحليم وحبيبته في حزن كبير، فغنَّى حينها "بتلوموني ليه".

في يوم.. في شهر.. في سنة
اضطرت حبيبة عبد الحليم إلى البقاء مع زوجها خوفاً من فقدان ولديها، ولكن بعد فترة حصلت على الطلاق، وعادت لعبد الحليم وبدآ تأثيث عش الزوجية.
إلا أن القدر لم يسمح لهما بذلك، حيث تعرضت حبيبة العندليب لمرض شديد استدعى سفرها للندن للعلاج، وماتت هناك، فغنى عبد الحليم حافظ إحدى أشهر أغانيه: "في يوم في شهر في سنة، تهدى الجراح وتنام، وعمر جرحي أنا أطول من الأيام.. يا فرحة كانت مالية عينيا واستكترتها الدنيا عليا".

العيون السود
أحبت الفنانة وردة الملحن بليغ حمدي دون أن تراه، منذ أن كانت صبية في السادسة عشرة من العمر، وذلك بعد سماعها أغنية "تخونوه" للمطرب عبد الحليم حافظ، التي لحنها بليغ.
وعندما جاءت وردة من بلدها الجزائر إلى مصر، التقت الملحن الشاب للمرة الأولى في منزل الفنان محمد فوزي، وحينها قرَّر بليغ أن يلحن لها أغنية "يا نخلتين في العلالي"، التي أطلقت شهرة وردة مصر.
وبادل بليغ حمدي الفنانة وردة مشاعر الحب، وقرر أن يكمل معها حياته، وذلك حسبما روى الإعلامي الراحل وجدي الحكيم، في أحد حواراته التلفزيونية. وتقدم بليغ لوالدها لطلب يدها، إلا أن الوالد رفض طلبه وطرده من المنزل. وبعدها تزوجت وردة من ضابط واعتزلت الغناء.
وهنا عانى بليغ من ألم الفراق، وكتب مقدمة أغنية "العيون السود"، التي جاء فيها "لا الزمان ولا المكان قدروا يخلوا حبنا ده يبقى كان"، واستكمل الشاعر محمد حمزة كلمات الأغنية، وقرر ألا يعطيها لأحد من المغنين والاحتفاظ بها لوردة.
وبعد فترة من الفراق، التقى بليغ حمدي وردة في الجزائر مصادفة في بداية السبعينات من القرن الماضي، لتشتعل قصة حبهما من جديد، وتحصل وردة على الطلاق، وتتزوج من بليغ وتغني أغنية "العيون السود".

بعيد عنك
أغنية "العيون السود" لم تكن الوحيدة التي عبرت عن ألم بليغ حمدي من فراق وردة. فقد كتب أيضاً مقدمة أغنية "بعيد عنك" ولحنها، وغنتها أم كلثوم، كرسالة موجهة لوردة.
"بعيد عنك حياتي عذاب.. متبعدنيش بعيد عنك". وعندما علمت كوكب الشرق بالأمر قالت لبليغ مازحة "انت استخدمتني كوبري عشان توصل للبنت اللي بتحبها".
ظل زواج العاشقين 6 سنوات، ثم تم الطلاق بسبب تضرر وردة من اهتمام بليغ حمدى بشكل كبير بعمله على حساب بيته.

نورا يا نورا
غنَّى الفنان فريد الأطرش في حفل زفاف الملك فاروق والملكة ناريمان، ولم يكن يعلم أنه سيقع في حب الملكة ذات يوم. وبعد اندلاع أحداث ثورة 1952 سافر الزوجان الملكيان للخارج، لكن ناريمان لم تستطع تحمل الوضع في المنفى، وحصلت على الطلاق من فاروق وعادت إلى مصر.
عقب عودتها، اعتاد فريد الأطرش الذهاب إلى قصرها للغناء في الحفلات التي كانت تقيمها، ووقع في غرامها، لكنه لم يكن يعلم حقيقة مشاعرها، وغنى لها "نورا يا نورا" وهو اسم "الدلع" للملكة ناريمان.

جميل جمال
واستمر فريد الأطرش في حبه دون مصارحة الملكة ناريمان، بحسب صحيفة الحياة. ولكنه كان يعلم أنها معجبة به، وأنه مطربها المفضل، حتى إنه غنَّى لها أغنية "جميل جمال". وفي تلك الأثناء كانت الصحف المصرية تنشر أخباراً عن وجود علاقة بين ناريمان وفريد الأطرش.
وكان الأطرش ينوي التقدم للملكة ناريمان وطلب يدها، إلا إنه فوجئ بوالدة حبيبته السيدة "أصيلة" تنفي وجود علاقة بين ابنتها والأطرش، قائلة إنه أساء استغلال علاقته مع العائلة، حيث إنهم من أصول عريقة، ولا يمكن لابنتها الزواج من مطرب.
وبالفعل انتهى الأمر، ولم يحدث ارتباط بين الطرفين.

أروح لمين
رغم الشهرة الطاغية لكوكب الشرق أم كلثوم، إلا أنها رضيت أن تكون مرسال الغرام للشاعر عبد المنعم السباعي، الذي كتب لها أغنية "أروح لمين"، كرسالة حب للفنانة مديحة يسري، التي كانت متزوجة حينها من المطرب محمد فوزي.
وقالت الفنانة مديحة يسري في لقاء مع الإعلامي محمود سعد، إن أم كلثوم كانت تعلم بحب السباعي لها، حتى إنها قالت لها ذات يوم "حرام عليكي"، فردت عليها، قائلة: "يعني أنفصل من محمد فوزي وأتزوج عبد المنعم؟"، مشيرة إلى أنه كانت توجد علاقة صداقة بين الأخير وزوجها.
وكشفت مديحة يسري، أن أغنية 3 سلامات للفنان محمد قنديل، كانت موجهة إليها أيضاً من الشاعر عبد المنعم السباعي.

الجمعة، 17 مارس 2017

روج

بقلم: ابتهال الخطيب

ماذا تخفي النساء العربيات خلف أطنان المكياج وفي دواخل حقائب الماركات باهظة الثمن؟
لكي نجيب عن السؤال لربما من المجدي ذكر ملاحظة أن كمية المكياج وطبقية الحقيبة ترتفعان مع ارتفاع درجة القمع الإجتماعي والتضييق الحياتي، فنجد أن كمية الأصباغ وطبقية الحقائب ترتفع بدرجة كبيرة بين نساء الخليج، فيما سيدات منطقة الشام، لبنان والأردن وفلسطين وسوريا، معروفات «بطبيعية» المظهر بدرجة أكبر، حتى أنه من المتعارف عندنا في مراكز التجميل في دول الخليج أن من ترغب في مكياج خفيف تطلب «مكياجاً لبنانياً» دلالةً على طبيعية وقلة الكمية. فما الذي يحدث هنا أسفل الأصباغ وفي داخل الحقائب الفارهة؟
ليس لأي من البشر أن يدعي مثاليةً أو كمالاً، فمثلي مثل سيدات البشر، أستمتع بألوان المكياج أزين بها وجهي ويسعد قلبي فستان جديد أو حقيبة متقنة الصنع منتميان لنوعية لا أستطيع اقتناءها دائماً، فهذه الماديات، على سطحيتها وحساسية المفاهيم الاقتصادية بل والسياسية المختبئة خلفها، هي ماديات مهمة الى حد ما للسعادة، فكلنا نسعد بالجديد القيم الفاخر وإن حمل قيماً رأسمالية شريرة، وإن عبر عن سياسات إغوائية ضارية، فالتفكير البعيد الى هذا الحد عند اقتناء كل قطعة يصبح عذاباً وأحياناً يدخل في إطار المبالغة والتشدق بالمبادئ.
ولكن ماذا يحدث عندما تستحوذ هذه الماديات على الحياة وتصبح هي ما يعطي للحياة معنى لا ما يأخذ من الحياة قيمة؟
هنا يعود السؤال، لماذا تشتهر السيدات الخليجيات تحديداً بالكميات الثقيلة من المكياج في حفلاتهن وأحياناً كثيرة حتى في الحياة العامة؟ متى اتخذت الرموش الصناعية هذا الدور التجميلي الرئيسي حتى أصبحت الصغيرات قبل الكبيرات يلصقنها على أجفانهن في الصباح قبل المساء؟ لماذا أصبحت الحقيبة «الماركة» قطعة لا يمكن الاستغناء عنها ومقتنىً رئيسياً في الدولاب الخليجي؟
طبعاً لست أعمم هنا، ففي الخليج فقر واحتياج لا يختلف عن غيره في أنحاء الدنيا، وفي الخليج نساء جادات من مختلف الطبقات وفي المجالات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية كافة واللواتي لا تقتصر حيواتهن على هذه المظاهر، ولكنني أتكلم عن ظاهرة انتشرت وبشدة وتحديداً بين سيدات الطبقة الوسطى واللواتي يصرفن الكثير من أوقاتهن في التزيين المبالغ فيه للوجه واللواتي يتكلفن القروض والسلفيات ليقتنين حقائب أصبحت احتياجاً «حقيقياً» في حياتهن وليست كماليات، فما المعنى هنا وما التقييم النفسي لهذا المنحى المرهق لسيدات يحاولن باستمرار العيش في طبقة لا ينتمين إليها؟
لا بد أن لرفاهية المجتمع والوفرة المالية فيه من دور مهم في هذا المنحى، الا أنني أجد أن للموضوع بعداً آخر أشد عمقاً وخطورة. فالعلاقة الطردية لاستخدام أدوات التجميل واقتناء الحقائب الباهظة مع القمع الاجتماعي لها دلالة بالغة الأهمية. 
هنا نستدعي السؤال: أي هموم تخفي هذه الأصباغ وأي تعويض تقدم هذه الحقائب في مجتمعات لا تزال تضغط على المرأة بالخلطة المدمرة للتقاليد القديمة والدين «المصحراوي» المتشدد؟
عندما تصبح الأصباغ الثقيلة حاجة يومية فإنها تتحول الى قناع تنكري يخفي خلفه لربما تاريخاً طويلاً من القمع والحجب، وعندما تتحول الحقيبة الى محدد للهوية وللقيمة الإنسانية، فإنها تتحول الى كيس هموم تخفي فيه المرأة ضياع هويتها الاجتماعية وقيمتها الإنسانية التي لربما لم تعد تستطيع تأكيدها الا من خلال الإسم الشهير البارز المطرز بوضوح على حقيبتها الجلدية.
لست أدعي مثالية لا أملكها، ولا أدعي قدرات مادية لا أستطيعها. عندما يهديني والداي حقيبة ثمينة أسعد بها، وعندما أتسوق في المتاجر الفاخرة يقرصني داخلي بالرغبة في معروضاتها التي لا أستطيع اقتناءها، مثلي مثل كل النساء، أسعد بالجميل الفاخر الثمين.
ليست المشكلة في هذه الرغبة وليست المشكلة في الاقتناء بحد ذاته، إنما المشكلة في تحول هذه الماديات المرهقة الى ضرورة، الى محددات للهوية، الى مساطر اجتماعية تقيس بها النساء بعضها البعض. في أعراسنا الخليجية الفاخرة، أتجول بين الوجوه النسائية السمراء خارقة الجمال فأحزن بسبب طبقات الألوان الكثيفة، طبقات تذكرني بقناع الملكة إليزابيث الأولى وبكل ما كانت تخفيه أسفله من قهر وقمع ومعاناة.
سمراوات الخليج الفاتنات، نريد أن نرى وجوهكن السكرية الناصعة، وقلوبكن الصافية، بلا ألوان، بلا حقائب، فقط أنتن والدنيا أمامكن.

السبت، 11 مارس 2017

مي زيادة التي أحبها جبران

بقلم: الأستاذة رندة سقف الحيط


كان يوجد علاقة قوية بين مي وجبران خليل جبران امتدت لمدة طويلة من الزمن لم يلتقيا فيها أبداً وعلى الرغم من المسافات الشاسعة التي تفصل بينهما حيث كان يقيم جبران في نيويورك ومي بالقاهرة إلا أنه كان يوجد بينه وبينها الكثير من التفاهم والحب والصداقة، واستمرت المراسلات بينهم لمدة عشرين عاماً حتى وفاة جبران في نيويورك.
يعرف جبران بأنه كان أديباً وشاعراً ورساماً وقد جمع بينه وبين مي كتاب "بين الجزر والمد" مي كاتبة وجبران رساماً .
رسائل مي زيادة وجبران خليل جبران : 
من مي إلى جبران :
(...جبران! لقد كتبت كل هذه الصفحات لأتحايد كلمة الحب. إن الذين لا يتاجرون بمظهر الحب ودعواه في المراقص والاجتماعات، ينمي الحب في أعماقهم قوة ديناميكية قد يغبطون الذين يوزعون عواطفهم في اللألأ السطحي لأنهم لا يقاسون ضغط العواطف التي لم تنفجر، ولكنهم يغبطون الآخرين على راحتهم دون أن يتمنوها لنفوسهم، ويفضلون وحدتهم، ويفضلون السكوت، ويفضلون تضليل القلوب عن ودائعها، والتلهي بما لا علاقة له بالعاطفة. ويفضلون أي غربة وأي شقاء (وهل من شقاءٍ في غير وحدة القلب؟) على الاكتفاء بالقطرات الشحيحة.
ما معنى هذا الذي أكتبه؟ إني لا أعرف ماذا أعني به، ولكني أعرف أنك محبوبي، وأني أخاف الحب. أقول هذا مع علمي أن القليل من الحب الكثير. الجفاف والقحط واللاشيء بالحب خير من النزر اليسير. كيف أجسر على الإفضاء إليك بهذا. وكيف أفرط فيه؟ لا أدري. الحمد لله أني أكتبه على الورق ولا أتلفظ به لأنك لو كانت الآن حاضراً بالجسد لهربت خجلاً بعد هذا الكلام، ولاختفيت زمناً طويلاً، فما أدعك تراني إلا بعد أن تنسى. حتى الكتابة ألوم نفسي عليها، لأني بها حرة كل هذه الحرية.. أتذكر قول القدماء من الشرقيين: إن خير للبنت أن لا تقرأ ولا تكتب. إن القديس توما يظهر هنا وليس ما أبدي هنا أثراً للوراثة فحسب، بل هو شيء أبعد من الوراثة. ما هو؟ قل لي أنت ما هو. وقل لي ما إذا كنت على ضلال أو هدى فإني أثق بك.. وسواء أكنت مخطئة أم غير مخطئة فإن قلبي يسير إليك، وخير ما يفعل هو أن يظل حائماً حواليك، يحرسك ويحنو عليك.... غابت الشمس وراء الأفق، ومن خلال السحب العجيبة الأشكال والألوان حصحصت نجمة لامعة واحدة هي الزهرة، آلهة الحب، أترى يسكنها كأرضنا بشر يحبون ويتشوقون؟ ربما وجد فيها بنت هي مثلي، لها جبران واحد، حلو بعيد هو القريب القريب. تكتب إليه الآن والشفق يملأ الفضاء، وتعلم أن الظلام يخلف الشفق، وأن النور يتبع الظلام، وأن الليل سيخلف النهار، والنهار سيتبع الليل مرات كثيرة قبل أن ترى الذي تحب، فتتسرب إليها كل وحشة الشفق، وكل وحشة الليل، فتلقي بالقلم جانباً لتحتمي من الوحشة فاسم واحد: جبران).

من جبران إلى مي
نحن اليوم رهن عاصفة ثلجية جليلة مهيبة، وأنت تعلمين يا ماري أنا أحب جميع العواصف وخاصة الثلجية، أحب الثلج، أحب بياضه، وأحب هبوطه، وأحب سكوته العميق. وأحب الثلج في الأودية البعيدة المجهول حتى يتساقط مرفرفاً، ثم يتلألأ بنور الشمس، ثم يذوب ويسير أغنيته المنخفضة.
أحب الثلج وأحب النار، وهما من مصدر واحد، ولكن لم يكن حبي لهما قط سوى شكل من الاستعداد لحب أقوى وأعلى وأوسع. ما ألطف من قال:
يا مي عيدك يوم
وأنت عيد الزمان
انظري يا محبوبتي العذبة إلى قدس أقداس الحياة، عندما بلغت هذه الكلمة ((رفيقة)) ارتعش قلبي في صدري، فقمت ومشيت ذهاباً في هذه الغرفة كمن يبحث عن رفيقه. ما أغرب ما تفعله بنا كلمة واحدة في بعض الأحايين! وما أشبه تلك الكلمة الواحدة برنين جرس الكنيسة عند الغروب! إنها تحول الذات الخفية فينا من الكلام إلى السكوت، ومن العمل إلى الصلاة.
تقولين لي أنك تخافين الحب.
لماذا تخافين يا صغيرتي؟
أتخافين نور الشمس؟
أتخافين مد البحر؟
أتخافين مجيء الربيع؟
لماذا يا ترى تخافين الحب؟
أنا أعلم أن القليل من الحب لا يرضيك، كما أعلم أن القليل في الحب لا يرضيني، أنت وأنا لا ولن نرضى بالقليل. نحن نريد الكثير. نحن نريد كل شيء. نحن نريد الكمال. أقول يا ماري إن في الإرادة الحصول، فإذا كانت إرادتنا ظلاً من أظلال الله، فسوف نحصل بدون شك على نور من أنوار الله.
لا تخافي الحب يا ماري، لا تخافي الحب يا رفيقة قلبي، علينا أن نستسلم إليه رغم ما فيه من الألم والحنين والوحشة، ورغم ما فيه من الالتباس والحيرة.
اسمعي يا ماري: أنا اليوم في سجن من الرغائب، ولقد ولدت هذه الرغائب عندما ولدت. وأنا اليوم مقيد بقيود فكرة قديمة، قديمة كفصول السنة، فهل تستطيعين الوقوف معي في سجني حتى نخرج إلى نور النهار وهل تقفين إلى جانبي حتى تنكسر هذه القيود فنسير حرين طليقين نحو قمة جبالنا؟
والآن قربي جبهتك. قربي جبهتك الحلوة …والله يباركك ويحرسك يا رفيقة قلبي الحبيبة.
لا بأس – على أنني أخشى بلوغ النهاية قبل الحصول على هذا الشرف وهذا الثواب.
لنعد هنيهة إلى ((عيدك)) أريد أن أعرف في أي يوم من أيام السنة قد ولدت صغيرتي المحبوبة. أريد أن أعرف لأني أميل إلى الأعياد وإلى التعييد.
وسيكون لعيد ماري الأهمية الكبرى عندي. ستقولين لي ((كل يوم يوم مولدي يا جبران))
وسأجيبك قائلاً: ((نعم، وأنا أعيّد لك كل يوم، وكان لا بد من عيد خصوصي مرة كل سنة)).

من جبران إلى مي ..!!
لقد أعادت رسائلك إلى نفسي ذكرى ألف ربيع وألف خريف وأوقفتني ثانية أمام تلك الأشباح التي كنا نبتدعها ونسيرها مركبا إثر مركب .. تلك الأشباح التي ما ثار البركان في أوروبا حتى انزوت محتجة بالسكوت , وما أعمق ذلك السكوت وما أطوله ! .
هل تعلمين يا صديقتي بأني كنت أجد في حديثنا المتقطع التعزية والأنس والطمأنينة , وهل تعلمين بأني كنت أقول لذاتي , هناك في مشارق الأرض صبية ليست كالصبايا , قد دخلت الهيكل قبل ولادتها ووقفت في قدس الأقداس فعرفت السر العلوي الذي اتخذه جبابرة الصباح ثم اتخذت بلادي بلادا لها وقومي قوما لها.
هل تعلمين بأني كنت أهمس هذه الأنشودة في أذن خيالي كما وردت على رسالة منك ولو علمت لما انقطعت عن الكتابة إلي , وربما علمت فانقطعت وهذا لا يخلو من أصالة الرأي والحكمة
من جبران لمي
حضرة الأديبة الفاضلة.
قد فكرت بأمور كثيرة في تلك الشهور الخرساء التي مرت بدون خطاب ولا جواب ولكنه لم يخطر على بالي كونك " شريرة" أما الآن وقد صرّحت لي بوجود الشر في روحك فلا يجمل بي سوى تصديقك فأنا أصدق وأثق بكل كلمة تقولينها لي ! أنت بالطبع تفتخرين بقولك – أنا شريرة – ويحق لك الافتخار لأن الشر قوة تضارع الخير بعزمها وتأثيرها . ولكن اسمحي لي أن أقول لك مصرحاً بأنك مهما تماديت بالشر فلا تبلغين نصف ما بلغته فأنا شرير كالأشباح الساكنة في كهوف الجحيم بل أنا شرير كالروح السوداء التي تحرس أبواب الجحيم ! وأنت بالطبع ستصدقين كلامي هذا !.
غير أنني للآن لم أفهم الأسباب الحقيقية التي دعتك إلى استخدام الشر ضدي فهلا تكرمت بافهامي ؟ قد أجبت على كل رسالة تكرمت بها عليّ واسترسلت متعمقاً بمعاني كل لفظة تعطفت بهمسها في أذني فهل هناك أمر آخر كان يجب عليّ أن أفعله ؟ أو لم تبدعي لي من " لا شيء" ذنباً لتبيني لي مقدرتك على الاقتصاص ؟ لقد فلحت وأحسنت البيان , أما أنا فقد آمنت باقنومك الجديد الكلي المطلق الجامع بين أسياف " كالي" ربة الهند وسهام " ديانا" معبودة الأغريق .
والآن وقد فهم كل منا ما في روح الآخر من الشر والميل إلى الاقتصاص فلنعد إلى متابعة الحديث الذي ابتدأنا به منذ عامين . كيف أنت وكيف حالك ؟ هل أنت بصحة وعافية ( كما يقول سكان لبنان )؟ هل خلعت ذراعاً ثانية في الصيف الماضي أم منعتك والدتك من ركوب الخيل فعدت إلى مصر صحيحة الذراعين ؟ أما أنا فصحتي أشبه شيء بحديث السكران وقد صرفت الصيف والخريف متنقلاً بين أعالي الجبال وشواطئ البحر ثم عدت إلى نيويورك أصفر الوجه نحيل الجسم لمتابعة الأعمال ومصارعة الأحلام – تلك الأحلام الغريبة التي تصعد بي إلى قمة الجبل ثم تهبط بي إلى أعماق الوادي .
وقد سررت باستحسانك مجلة الفنون فهي أفضل ما ظهر من نوعها في العالم العربي , أما صاحبها فهو فتى عذب النفس دقيق الفكر وله كتابات لطيفة وقصائد مبتكرة ينشرها تحت اسم " ليف" ومما يستدعي الإعجاب بهذا الشاب هو أنه لم يترك شيئاً مما كتبه الافرنج إلا وعرفه حق المعرفة . أما صديقنا أمين الريحاني فقد ابتدأ بنشر رواية جديدة طويلة في مجلة فنون وقد قرأ لي أكثر فصولها فوجدتها جميلة للغاية ولقد أخبرت صاحب الفنون بأنك سوف تبعثين إليّ بمقالة ففرح وبات يترقب .
بكل أسف أقول انني لا أحسن الضرب على آلة من آلات الطرب ولكنني أحب الموسيقى محبتي الحياة ولي ولع خاص بدرس قواعدها ومبانيها والتعمق بتاريخ نشأتها وارتقائها , فان ابقتني الأيام سأكتب رسالة طويلة في الدوائر العربية والفارسية وكيفية ظهورها وتدرجها وتناسخها .
ولي ميل للموسقى الغربية يضارع ميلي للأنغام الشرقية فلا يمر أسبوع إلا وأذهب مرة أو مرتين إلى الأوبرا غير أني أفضل من البيان الموسيقي الأفرنجي تلك المعروفة بالسنفوني والسوناتا والكنتاتا على الأوبرا والسبب في ذلك خلوّ الأوبرا من البساطة الفنية التي تناسب أخلاقي وتتمايل مع أميالي . واسمحي لي الآن أن أغبط يدك على عودك وعودك على يدك وأرجوك أن تذكري اسمي مشفوعاً باستحساني كلما ضربت نغم النهوند على الأوتار فهو نغم أحبه ولي رأي فيه يشابه رأي " كارليل في النبي محمد ". ( كارلايل : أديب ومؤرخ انكليزي درس بعضا من العربية في جامعة كمبردج سنة 1795 وكتب عن النبي محمد فصلا ضمنه إعجابه بشخصيته البطولية في مؤلفه " الأبطال , عبادة الأبطال , والبطولة في التاريخ "
وهلا تكرمت بذكري أمام هيبة أبي الهول ؟ عندما كنت في مصر كنت أذهب مرتين في الأسبوع واصرف الساعات الطوال جالساً على الرمال الذهبية محدقاً بالأهرام وكنت في ذلك العهد صبياً في الثامنة عشرة ذا نفس ترتعش أمام المظاهر الفنية ارتعاش الأعشاب أمام العاصفة , أما أبو الهول فكان يبتسم لي ويملأ قلبي بحزن عذب وندبات مستحبة .
أنا معجب مثلك بالدكتور شميل فهو واحد من القليلين الذين انبتهم لبنان ليقوموا بالنهضة الحديثة في الشرق الأدنى وعندي أن الشرقيين يحتاجون إلى أمثال الدكتور شميل حاجة ماسة كرد فعل للتأثير الذي أوجده الصوفيون والمتعبدون في القطرين مصر وسوريا .
هل قرأت الكتاب الفرنساوي الذي وضعه خير الله افندي خير الله ؟ أنا لم أره بعد وقد أخبرني صديق أن في الكتاب فصل عنك وفصل آخر عني فإذا كان لديك نسختان تكرمي بإرسال نسخة منهما إليّ وأجرك على الله .
ها قد انتصف الليل فليسعد الله مساءك ويبقيك للمخلص ...!!
مي زيادة فراشة في سماء الأدب
أديبة وشاعرة متميزة ومثقفة، وصاحبة مكانة متميزة في الأوساط الأدبية والثقافية مي بين الأدباء والصحافيين بثقافتها الواسعة وتألقها الأدبي والفكري، وصالونها الأدبي الذي كان يزخر بالعديد من الأدباء والمفكرين الذين يتبارون في عرض إنتاجهم الأدبي والثقافي مما كان له تأثير كبير في تنشيط الحركة الأدبية في ذلك الوقت اشتهرت مي زيادة بثقافتها الواسعة والتي كانت تعمل دائماً على زيادتها بالقراءة والدراسة وأطلعت على العديد من الكتب سواء العربية أو الغريبة ساعدها في ذلك إلمامها بالعديد من اللغات، تعرفت مي على العديد من الشخصيات سواء من الكتاب أو الصحفيين وعرفت كأديبة وباحثة وناقدة، كما كانت لديها قدرة رائعة على الخطابة.
الحبُّ السماوي بين مي زيادة وجبران خليل جبران
إذا كان يحق لتراثنا العربي أن يفخر بأنه أنجب شعراً يتناول قصص الحب العذري ("قيس وليلى" "جميل بثينة" "قيس ولبنى") فإننا اليوم نعايش امتداد هذه الظاهرة في أدبنا الحديث بفضل الحب السماوي الذي بزغت أنواره بين قلبي الأديبين مي زيادة وجبران خليل جبران، رغم أنهما لم يلتقيا أبداً، فقد كانت الرسائل المتبادلة بين القاهرة حيث تقيم (مي) ونيويورك حيث يقيم (جبران) هي وثيقة هذا الحب الفريد
ولكن مع الأسف ضاعت معظم رسائل المرأة في الثلاثينيات وبقيت رسائل الرجل (كما ذاعت في الستينيات رسائل غادة السمان وبقيت رسائل غسان كنفاني) رغم أن (جبران) كان يعيش في أمريكا، حيث تتم العناية بكل ما يتركه الأديب، وفعلاً هذا ما حصل إثر وفاة جبران، إذ حافظت سكرتيرته وأخته على أعماله الأدبية والفنية وأشيائه!!...‏ هنا لابد أن نتساءل: هل المرأة أكثر حرصاً على رسائل حبها من الرجل؟ أم أن ميراث جبران قد تعرض لعملية سطو إثر وفاته، كي لا نظلم الرجل؟‏
نعتقد أن التساؤل الأول يخفي تعصباً نسوياً يهاجم وفاء الرجل، لذلك نميل إلى التساؤل الثاني، فقد ذكر ميخائيل نعيمة في كتابه عن حياة جبران أنه رأى تلك الرسائل لديه، لهذا من الأرجح أن تكون تلك الرسائل قد سرقت من قبل امرأة لبنانية أرادت أن تكون حبيبة جبران الوحيدة.‏ مهما تكن الإجابة فإن النتيجة واحدة، وهي غياب صوت المرأة في هذا الحب! كما غاب صوتها في الحب العذري الذي خلّده لنا الشعراء! وقد آلمني أن يضيع صوت المرأة في هذا العصر كما ضاع في الماضي، فحاولت نسج خيوط هذه العلاقة في "رواية الحب السماوي بين مي زيادة وجبران خليل جبران"، لعلي أقدّم معاناة المرأة عبر تخيل صوتها والاقتراب من تجربة حب فريد تعيشه المرأة معاناة يومية منذ تفتحها وحتى موتها!..‏ 
لم تكن مي امرأة عادية، فقد امتزجت في ملامح شخصيتها الريادة الأدبية بالريادة الاجتماعية في بداية القرن العشرين، لهذا كانت أولى خطواتها في هذا المجال هي الإقبال على التعليم والتفرغ للكتابة، وقد دفعها حبها للغة العربية أن تفتح بيتها، بتشجيع من والديها، لرجال الأدب، فكانت تحاورهم وتستمع إلى إبداعاتهم في صالونها الذي كانت تعقده كل يوم ثلاثاء، مما أثر إيجابياً على عملها الصحفي والأدبي، فقد عملت مع أبيها في صحيفته "المحروسة" التي افتتحها في القاهرة، كل ذلك في زمن لم تكن المرأة العربية تجرؤ على الخروج من المنزل وحدها.‏ 
لم تحاول مي الخروج من الأغلال الخارجية التي تقيد المرأة فقط، بل وجدناها تحاول الخروج من أغلال الذات، فكانت رائدة في محاولة التعبير عن أعماقها عبر الأدب ( الرسائل، المقالة، الخاطرة الوجدانية التي وجدناها في كتبها) أي عبر أجناس أدبية تظهر صوت (الأنا) صريحاً واضحاً، وبذلك استطعنا أن نعايش أعماقها بكل ما يعتلج فيها من عواطف وأحلام وصراعات، إذ من المعروف أن الكاتبة العربية لم تجرؤ على الخوض في هذا المجال إلا بعد (مي) بأكثر من خمسين سنة، وهي، غالباً، حين تريد أن تعبر عن ذاتها تتخذ قناع الشخصية الروائية (وهذا ما فعلته الأديبة غادة السمان في روايتها "الرواية المستحيلة فسيفساء دمشقية"(1997). والتي إلى الآن لم تصدر الجزء الثاني المتعلق بمرحلة الشباب، وتوقفت عند مرحلة الطفولة والمراهقة!!).‏ 
هنا يجدر بنا أن نوضح أن (مي) لم تكن في بداية علاقتها بجبران امرأة منطلقة في التعبير عن ذاتها، فقد اكتفت في البداية بالعلاقة الفكرية، بل دعت جبران للالتزام بحدودها، فاتسمت لغتها بالحذر، وتحصنت باللهجة الرسمية في الخطاب، فأخفت مشاعرها بألف قناع، حتى وجدنا جبران يتساءل مستغرباً شدة ترددها وحذرها: "أهو الخجل أم الكبرياء أم الاصطلاحات الاجتماعية". لعله كان يقارنها بالمرأة التي التقى بها في الغرب، والتي تتمتع بحرية التعبير عن أعماقها! دون أن يغفل عن خصوصية المرأة الشرقية وضغط القيود الاجتماعية عليها، مما تضطرها إلى الاحتماء بالخجل تارة وبالكبرياء تارة أخرى!..‏
من المؤكد أن (مي) في البداية سعت إلى توظيف المراسلة بينها وبين أديب مشهور، كي تجعلها عاملاً في تطويرها الفكري والأدبي، ولم تتوقع أن تقع أسيرة كلماته، لكنها حين أحست أنها بدأت تحرك عواطفها وتمتّع ذائقتها الفنية معاً، بدأت بالتهرب منها!..‏
هنا لا نستطيع أن نفصل بين مي الإنسانة والأديبة، فقد عشقت مي الأديبة كلماته ربما قبل المراسلة، وازدادت عشقاً لها بعدها، فانقلب العشق الفني إلى عاطفة متأججة يأباها عقلها، لهذا ملأ التردد ذاتها، وشاعت لديها الصرامة في محاسبة الذات ومحاسبة الطرف الآخر (المرسل) على كل كلمة، لهذا وصفها جبران في إحدى الرسائل بـ(الموسوسة) التي لا تعرف سوى التردد، من هنا لن نستغرب تكرار هذه الأفكار والمواقف التي نستشفها من رسائل جبران، فهي محبة يعجبها الاستمرار مع جبران في مثل هذه المغامرة، لكن سرعان ما يؤرقها صوت العقل الذي يذكرها بالواقع الاجتماعي الذي يعلي قيمة الأسرة والزواج في حياة المرأة، ولم يعتد مثل هذه علاقات الصداقة والحب بين المرأة والرجل دون رابط شرعي! كما يذكرها صوت العقل بوقع الزمن الذي لا يرحم المرأة، فكانت تنقطع عن مراسلته أشهراً طويلة، ثم تعود، ومع عودتها كانت تضطر لمعاودة الحوار مع ذاتها لإقناعها بضرورة علاقتها مع جبران، وقد كانت تعيش صراعاً دائماً مع ذاتها، فتتكرر محاسبتها لها، لهذا كانت تتكرر أسئلة جبران مستفهماً أسباب الانقطاع، فكانت تدافع عن وجهة نظرها بترداد حججها نفسها، التي تزداد مع الأيام وجاهة وإقناعاً! إذ تنطلق باسم العقل الذي لا ينفصل عن المشاعر كما يعتقد الكثيرون!! كما نجدها تنطق باسم المجتمع حيث كانت أمها أحد الأصوات القوية التي تردد على مسامعها أن الزمن لا يرحم وأن الاستقرار ضروري للمرأة!‏

لهذا كله انتظرت حوالي اثنتي عشرة سنة لتصرح بعواطفها كتابة لجبران، ولتبين له أن الورق هو الذي منحها الجرأة، وأنه لو كان يشاركها العيش في بلدها لما جرؤت على ذلك! لكن يبدو أن التصريح لم يجلب لها الراحة المتواخاة، أو الأمل بعرض للزواج يأتيها من جبران! لذلك تعود إلى ترددها وتهربها خاصة بعد أن غزا الشيب مفرقها!.. لكن عاطفتها القوية تلح عليها بالكتابة، يضاف إلى تلك العاطفة حس إنساني مرهف بآلام الآخرين، لهذا كان قلقها على صحة جبران من أسباب عودتها للكتابة إليه أحياناً!..‏
لعل هذا التردد في قبول مثل هذه العلاقة الاستثنائية أحال حياتها إلى مأساة، فعاشت القلق والمعاناة في علاقة كان عزاؤها فيها هو الخيال والرحلة عبر الكلمة إلى عوالم مدهشة، تنأى بها عن الواقع واحتياجاته الطبيعية.‏
لم تستطع (مي) الركون إلى هذه العلاقة سوى لحظات تحلق بها بعيداً، ثم ترتطم بالأرض، فالمرأة المثقفة والأديبة كانت تبحث عن علاقة طبيعية، تعيش فيها عواطفها وأمومتها! وفي الوقت نفسه تحلق روحها فيها بعيداً عن المألوف في علاقة أقرب إلى الاستثناء!..‏
أعتقد أن روعة شخصية (مي) تجلت في كونها أنهت صراعها الداخلي حين تأكدت في النهاية من مرض جبران، فبدت لنا امرأة عاشقة وأماً حانية، تسعى للوقوف إلى جانب جبران في محنته!... فتحيطه بعواطف الحب والأمومة معاً!!..‏
إن المتأمل في قصة الحب هذه، لابد أن تدهشه قدرة المرأة على الحب والعطاء، فقد منحت رجلاً لم تره أبداً كل حياتها، حتى أصبح هذا الحب مأساتها وعزاءها معاً! فقد أحبت جبران عبر كلماته، وأخلصت له، حتى إنها عاشت تستمد القوة منها سواء في حياة جبران أم بعد وفاته!..‏
للوهلة الأولى تبدو لنا (مي) امرأة تعيش حياة منطلقة بالقياس إلى نساء عصرها الشرقيات، إذ استطاعت أن تجمع في صالونها أبرز أدباء عصرها (طه حسين، العقاد، الرافعي...)، وذلك بفضل سماتها الشخصية (الثقافة واللباقة والروح المرحة والإخلاص والصدق) مما يدفعني إلى الاعتقاد بأنها أسهمت في تطوير الحركة الثقافية في تلك الفترة، خاصة أنها خلقت جواً تنافسياً بين الأدباء، فكل واحد منهم كان معنياً بكسب ودها، بل عاطفتها! لكنها رغم ذلك ظلت امرأة شرقية متحفظة في علاقتها مع الرجل، إلى درجة أن العقاد قال لها يوماً: أنت تعيشين كراهبة في صومعة! فهي من الناحية الشعورية ظلت أمينة لعادات الشرق وتقاليده، لهذا استطاعت أن تنال احترام مجتمعها رغم اختلاطها بالرجال هذا من جهة، ومن جهة أخرى كان ذلك خير دليل على إخلاصها لجبران!!..‏
لقد تجاوزت مي المألوف حين وجدت في كلمات الحب ملاذاً عاطفياً لها، فسجنت حياتها فيها، فاختارت حباً أشبه بالخيال على حياة عادية، فحرمت نفسها من دفء العائلة وضحت بسببها بالأمومة التي هي حلم كل امرأة!..‏ 
ولعل خير دليل على أهمية تلك الكلمات في حياة (مي) أنها عاشت متألقة في حياتها الاجتماعية والأدبية على وقع رسائل جبران، ولم تتدهور حياتها النفسية إلا بعد وفاة جبران (1931) إذ عدّت نفسها أرملته، فارتدت السواد عليه، ومما فاقم بؤسها وفاة أمها في إثره (1932) لعلها في تلك الفترة بدأت تشعر بعدم الرضى عن نفسها، واكتشفت أن قرارها بعدم الزواج لم يكن صائباً! وبدأت تحاسب نفسها بقسوة، فقد أحست بمدى الظلم الذي ألحقته بحياتها حين تعلقت بكلمات جبران، ووهبت شبابها لحب سماوي لا علاقة له بالواقع وبطبيعة البشر!..‏ 
لا يمكننا أن نحمّل الكلمة المجنحة المسؤولية عن تدهور حالتها النفسية وإغراقها في الكآبة، لأننا نلغي إرادتها في استمرار تلك العلاقة، التي جلبت لها الفرح والألم معاً!.. لكننا نستطيع أن نحمّل أقاربها في مصر ثم في لبنان تلك المسؤولية، إذ بدؤوا بإزعاجها منذ وفاة أبيها (1930) فطالبوها بالإرث، بل وصل بهم الطمع حد مطالبتهم بنصف ثروتها التي كونتها مع أبيها! وحين رفضت زاد إزعاجهم لها، حتى وصل شرهم حدّ تدبير مكيدة إدخالها مشفى المجانين في لبنان! ولولا مساعدة أهل المروءة من الأدباء (أمين الريحاني) والشرفاء من أمثال أولاد الأمير عبد القادر الجزائري وغيرهم من الصحفيين والمحامين لما خرجت من محنتها!!..‏ 
المدهش أن (مي) حملت رسائل جبران معها، في كل مكان رحلت إليه، ورافقتها في مأساتها في مشفى (ريفز) في بيروت أطلعت عليها جارتها في الغرفة المجاورة، فقد شكلت لها عزاء في مأساتها الرهيبة!..‏
إننا أمام امرأة غير عادية أخلصت لحب رجل، يعيش بعيداً عنها، ويعترف لها، في إحدى رسائله، أن حياته موزعة بين امرأتين، (امرأة الحلم وامرأة الواقع) فكان نصيب (مي) دور الملهمة التي تحمل روح الشرق الذي يحلم بالعودة إليه دون أن يستطيع، فيرسل لها تلك الكلمات المجنحة، التي تعبر عن عواطفه لها، فتشدّها إليه كلما حاولت فكّ أسرها! في حين كانت امرأة الواقع (ماري هاسكل) تقف إلى جانبه فتسانده مادياً ليكمل رحلته في عالم الفن، كما ساندته معرفياً، حين كانت تصحح له نسخ كتبه التي كان يكتبها بالإنكليزية! وتعترف ماري هاسكل أنه عرض عليها الزواج لكنها رفضت، ربما بسبب الفارق الكبير في السن، وربما بسبب علاقاته النسائية المتعددة! المهم أن صداقتها بجبران تستمر رغم زواجها، كما استمرت (مي) في حبها له رغم عدم زواجه بها! فقد أسرتها كلماته المدهشة، التي تستلب الروح والإرادة بعنفوانها وصدقها "أنت تحيين بي، وأنا أحيا بك" كما أسرتها صراحته، فقد وجدناه يكشف لها عيوب نفسه فهو يعيش في سجن طموحاته، يلاحقه إحساس أنه لم يقل شيئاً خالداً بعد، وأنه مؤرق بهاجس الإبداع الذي يحتاج تفرغاً كلياً، لعله يستطيع أن يقول كلمته، وهكذا يوضح لها أنه يعيش أسير مشروعاته الفنية والأدبية، وأن المرأة في حياته ملهمة ورفيقة إبداع بعيدة عن الأطر المألوفة!‏
لقد عاش جبران في الغرب كما يروي صديقه ميخائيل نعيمة حياة منطلقة دون أية قيود، فعرف العديد من النساء، وطمح إلى أن يعيش حياة خيالية مع امرأة شرقية، تغذي إبداعه بنبض خاص، كانت هذه الازدواجية تريحه وربما مصدر إلهام له، في حين كانت العلاقة بالنسبة إلى (مي) حياتها بأكملها رغم أنها خيال أقرب إلى الحلم! فبدت كلماته تسري في عروقها لتمنحها دماء الحياة وألقها، لقد كانت (مي) ضحية علاقة رسمها الرجل كما يريد له طموحه الإبداعي بمعزل عما تريده المرأة أو تحلم به.‏
إذاً لو كانت مي امرأة عادية لرفضت تلك العلاقة التي كانت عبءً عليها!! هنا نتساءل: هل طغت على (مي) رهافة حس الأديبة، فعاشت مخلصة للكلمة في حياتها الشخصية وفي حياتها العامة! هل رأت في الخيال جمالاً يفوق الواقع؟ هل كانت كلمات جبران حلماً لاذت به يعوضها عن بؤس الواقع؟... هل حياتها في مصر أي في بيئة غريبة عن بيتها في الشام سبباً في تعلقها بجبران، الذي رأت فيه وطناً تنتمي إليه!؟ هل أحست بأن هذه البيئة العربية قد عجزت عن إنجاب كفء لها؟.. فكان الخيال أرحم بها من الواقع!..‏
ربما افتقدت في محيطها الرجل الند لهذا عاشت قصة حب ترضي ذاتها، ولو كان ذلك عبر الوهم والخيال، مادام الواقع لم يطرح أمامها من يراه قلبها مناسباً فعاشت الصدق والإخلاص لعلاقة أشبه بالحلم، بل دعاها فيها جبران بامرأة الحلم.‏
لقد أدهشتني تضحية المرأة بشبابها من أجل حب سماوي، كما آلمني ضياع صوتها الخاص بضياع معظم رسائلها، رغم أنها ضحت بحياتها من أجل هذا الحب! لهذا تجرأت في كتابي "الحب السماوي بين مي زيادة وجبران خليل جبران" على تجسيده عبر الخيال مستعينة برسائل جبران، كي أستطيع استشفاف ردود فعل مي، وأبيّن أن الكلمة لم تكن محور حياتها الأدبية فقط، وإنما محور حياتها الشخصية!.. لهذا يمكنني القول بأن أبطال هذا الحب السماوي ثلاثة (مي وجبران والكلمة المجنحة).‏

ولكن ألم تكن الكلمة والخيال أحد أسباب كآبة (مي) التي ملأت الغصة حياتها؟
يعتبر جبران خليل جبران من الأدباء الذين أثروا فن المراسله عند العرب بما تركه من رسائل لفتت نظر الباحثين وأثارت فضولهم , فولجوا عبرها إلى عالم جبران المليء بالرموز والأسرار .. لقد فتح جبران فتحاً جديداً ورائعاً في دنيا الأدب العربي , عندما تحول عن التأليف بالعربيه ألى التأليف بالأنجليزيه.. حتى لمع أسمه في كثير من الدول الأجنبيه ..
وفي هذا الموضوع أود أن أسلّط الضوء على الحب الذي نشأ بين جبران ومي زياده , , حب فريد لامثيل له في تاريخ الأدب , أو في سير العشاق ,مثال للحب النادر المتجرد عن كل ماهو مادي وسطحي لقد دامت تلك العاطفه بينهما زهاء عشرين عاماً , دون أن يلتقيا الاّ في عالم الفكر والروح , والخيال الضبابي إذ كان جبران في مغارب الأرض مقيماً وكانت مي في مشارقها , كا ن في امريكا وكانت في القاهره. لم يكن حب جبران وليد نظره فابتسامه فسلام فكلام بل كان حباً نشأ ونما عبر مراسله أدبيه طريفه ومساجلات فكريه وروحيه ألفت بين قلبين وحيدين , وروحين مغتربين .ومع ذلك كانا أقرب قريبين وأشغف حبيبين ..

كان طبيعياً جداً أن يتعارف بطلا هذا الحب عن طريق الفكر والنشر في اوائل هذا القرن , بعد ان أصاب كل منهما شهره كبيره .. كانت مي معجبه بمقالات جبران وافكاره فبدأت بمراسلته عقب أطلاعها على قصته ( الأجنحه المتكسره ) التي نشرها في المهجر عام 1912م, كتبت له تعرب عن أعجابها بفكره واسلوبه , وتناقش اراءه في الزواج وقيوده , والحب وأطواره حسب رؤيته في هذه القصه التي قرأتها له وتعرض عليه رأيها في وجهة نظره في حرية المرأه التي طالب بها والتي اتفقت معه في أمر وعارضته في جانب آخر , حيث قالت " لايصح لكل أمرأه لم تجد في الزواج السعاده التي حلمت بها أن تبحث عن صديق غير زوجها فلا بد أن تتقيد المرأه بواجبات الشراكه الزوجيه تقيداً تام حتى لو هي سلاسل ثقيله , فلو توصل الفكر الى كسر قيود الأصطلاحات والتقاليد فلن يتوصل الى كسر القيود الطبيعه لأن أحكام الطبيعيه فوق كل شيء, وهذه تعتبر خيانه ولوفي مظهرها طاهر وتخون الهيأه الأجتماعيه التي هي عضو عامل فيها
ومن هنا كانت البدايه ومن ثم تواصل بالرسائل التي كان كل منهما يبحث عن روح الآخر في يقظته وأحلامه , كان كل منهما يسعى لرؤية ذاته في روح صاحبه حتى لكأن تلك الروح هي المرآة التي ينعكس على صفحتها نور الأخر ... وكلما قرأنا هذه الرسائل النابضه بالحياة الناضحه بالصدق , كلما أزددنا يقيناً بأن الحب الذي شد جبران الى مي , وشغف مي بجبران , حب عظيم , بل عشق يكاد يكون صوفياً لأنه تخطى حدود الزمان والمكان والحواس الى عالم تتحد فيه قوة الوجود
ويتضح لنا لدى التأمل في بعض الرسائل برغم ضياع بعضها أن الصله بين جبران ومي توثقت شيئاً فشيئاً لأن لهجته في مخاطبتها تدرّجت من التحفظ الى التودد , ومن الأعجاب الى صداقه حميمه , ومن ثمَ الى حب عام 1919م ما أن بلغ ذروته حتى عكرت صفوه سلسله من الخلافات بينهما التي عبّر عنها جبران مرةً " هي معاكسات التي تحوّل عسل القلب ألي مراره " وقال" ان الغريب حقاً في هذه الصله تأرجحها بين الحب الجامح والفتور , بين التفاهم التام الذي كان يضفي عليهما شفافيه روحيه تغمرهما بالسعاده ,وبين سوء التفاهم الذي كان يؤلمهما ويؤدي الى القطيعه احياناً ولكن شدة ولع كل منهما الآخر كانت تدفعهما للتصالح مجدداً..
وبرغم كل هذا الحب كان كل منهما يخشى التصريح بعواطفه فيلجأ جبران للتلميح , ويرمز إليها ويضع عبارات وصور مبتكره وجميله .. فلم ينادي مي قط بقوله 
حبيبتي" ولم يخاطبها باللغه المألوفه للعشاق , غير أنه عبّر عن حبه بما هو أبلغ عندما قال أنت تحيين فيّ , وانا أحيا فيكِ " ووصف علاقته بها " بأنها أصلب وأبقى بما لايقاس من الروابط الدمويه والأخلاقيه "وبعد أن باح لها , رجاها ان تطعم النار رسالته اذا لم تجد لبوحه الصدى المرجوا في نفسها كانت مي في حياة جبران الصديقه, والحبيبه الملهمه , وصلة الوصل بينه وبين وطنه , وأكثر ماحبه فيها عقلها النيّرالذى تجلى في مقالاتها وكتبها , وأحب فيها حبها له .., واعجابها بشخصيته وانتاجه الأدبي والفني الذي كانت تتناوله بالتقريظ والنقد في مقالاتها في مصر وعلى الرغم من كل ماكُتب عن علاقات جبران الغراميه من النساء امثال " ماري هاسكل " وميشلين " فأن حبه لمي كان الحب الوحيد الذي ملك قلبه وخياله ورافقه حتى نهاية حياته فقد كان حبه لها معادلاً حبه العارم لوطنه لبنان ..ولروحانية الشرق , وبالدم العربي الذي يجري في عروقه ,, وهذا مما تؤكده رسائل الشعله الزرقاء , التي هي جوهر النفس الأنسانيه في أسمى صفائها , ويميل المحللون للأعتقاد بأنه لم يكن يفكر في الزواج لاعتلال في صحته منذ شبابه ,, ولا ريب ان مي احبت جبران حباً جعل المقارنه بينه وبين الذين خطبوا ودّها أمراً مستحيلاً , برغم تردد مي في الأعراب عن مشاعرها وخشيتها في الأنطلاق على سجيتها في مراسلته , وذلك بسبب ان جبران كان يعيش في عالم متطور تحررت نساؤه من التقاليد , وحيث أن مي كانت مغلولة القلب والقلم بتأثير البيئه التي عاشت فيها .. وبرغم انها جعلت من بيتها صالوناً أدبياً يلتقي فيه كل ثلاثاء رجال الأدب والفكر امثال احمد لطفي السيد وخليل مطران وطه حسين وعباس محمود العقاد وغيرهم من الأدباء والمفكرين ...

لقد تمنى جبران ان تتحرر مي من عقدها النفسيه وشكوكها ! مي عانت صراعاً نفسياً حاداً في حبها لجبران سبّب لها الشقاء ولجبران العذاب والأرهاق ..وحين تجاوزت الخامسه والثلاثين من العمر لملمت كل شجاعتها وكتبت أجمل رسالة حب .. ولكن ألم تكن الكلمة والخيال أحد أسباب كآبة (مي) التي ملأت الغصة حياتها؟ يعتبر جبران خليل جبران من الأدباء الذين أثروا فن المراسله عند العرب بما تركه من رسائل لفتت نظر الباحثين وأثارت فضولهم , فولجوا عبرها إلى عالم جبران المليء بالرموز والأسرار .. لقد فتح جبران فتحاً جديداً ورائعاً في دنيا الأدب العربي , عندما تحول عن التأليف بالعربيه ألى التأليف بالأنجليزيه.. حتى لمع أسمه في كثير من الدول الأجنبيه
و هنا أود أن أسلّط الضوء على الحب الذي نشأ بين جبران ومي زياده , , حب فريد لامثيل له في تاريخ الأدب , أو في سير العشاق ,مثال للحب النادر المتجرد عن كل ماهو مادي وسطحي
لقد دامت تلك العاطفه بينهما زهاء عشرين عاماً , دون أن يلتقيا الاّ في عالم الفكر والروح , والخيال الضبابي إذ كان جبران في مغارب الأرض مقيماً وكانت مي في مشارقها , كا ن في امريكا وكانت في القاهره. لم يكن حب جبران وليد نظره فابتسامه فسلام فكلام بل كان حباً نشأ ونما عبر مراسله أدبيه طريفه ومساجلات فكريه وروحيه ألفت بين قلبين وحيدين , وروحين مغتربين .ومع ذلك كانا أقرب قريبين وأشغف حبيبين ..
كان طبيعياً جداً أن يتعارف بطلا هذا الحب عن طريق الفكر والنشر في اوائل هذا القرن , بعد ان أصاب كل منهما شهره كبيره .. كانت مي معجبه بمقالات جبران وافكاره فبدأت بمراسلته عقب أطلاعها على قصته ( الأجنحه المتكسره ) التي نشرها في المهجر عام 1912م, كتبت له تعرب عن أعجابها بفكره واسلوبه , وتناقش اراءه في الزواج وقيوده , والحب وأطواره حسب رؤيته في هذه القصه التي قرأتها له وتعرض عليه رأيها في وجهة نظره في حرية المرأه التي طالب بها والتي اتفقت معه في أمر وعارضته في جانب آخر , حيث قالت " لايصح لكل أمرأه لم تجد في الزواج السعاده التي حلمت بها أن تبحث عن صديق غير زوجها فلا بد أن تتقيد المرأه بواجبات الشراكه الزوجيه تقيداً تام حتى لو هي سلاسل ثقيله , فلو توصل الفكر الى كسر قيود الأصطلاحات والتقاليد فلن يتوصل الى كسر القيود الطبيعه لأن أحكام الطبيعيه فوق كل شيء, وهذه تعتبر خيانه ولوفي مظهرها طاهر وتخون الهيأه الأجتماعيه التي هي عضو عامل فيها "
ومن هنا كانت البدايه ومن ثم تواصل بالرسائل التي كان كل منهما يبحث عن روح الآخر في يقظته وأحلامه , كان كل منهما يسعى لرؤية ذاته في روح صاحبه حتى لكأن تلك الروح هي المرآة التي ينعكس على صفحتها نور الأخر ... وكلما قرأنا هذه الرسائل النابضه بالحياة الناضحه بالصدق , كلما أزددنا يقيناً بأن الحب الذي شد جبران الى مي , وشغف مي بجبران , حب عظيم , بل عشق يكاد يكون صوفياً لأنه تخطى حدود الزمان والمكان والحواس الى عالم تتحد فيه قوة الوجود ويتضح لنا لدى التأمل في بعض الرسائل برغم ضياع بعضها أن الصله بين جبران ومي توثقت شيئاً فشيئاً لأن لهجته في مخاطبتها تدرّجت من التحفظ الى التودد , ومن الأعجاب الى صداقه حميمه , ومن ثمَ الى حب عام 1919م ما أن بلغ ذروته حتى عكرت صفوه سلسله من الخلافات بينهما التي عبّر عنها جبران مرةً " هي معاكسات التي تحوّل عسل القلب ألي مراره " وقال" ان الغريب حقاً في هذه الصله تأرجحها بين الحب الجامح والفتور , بين التفاهم التام الذي كان يضفي عليهما شفافيه روحيه تغمرهما بالسعاده ,وبين سوء التفاهم الذي كان يؤلمهما ويؤدي الى القطيعه احياناً ,,]ولكن شدة ولع كل منهما الآخر كانت تدفعهما للتصالح مجدداً..
وبرغم كل هذا الحب كان كل منهما يخشى التصريح بعواطفه فيلجأ جبران للتلميح , ويرمز إليها ويضع عبارات وصور مبتكره وجميله .. فلم ينادي مي قط بقوله 
حبيبتي" ولم يخاطبها باللغه المألوفه للعشاق , غير أنه عبّر عن حبه بما هو أبلغ عندما قال أنت تحيين فيّ , وانا أحيا فيكِ " ووصف علاقته بها " بأنها أصلب وأبقى بما لايقاس من الروابط الدمويه والأخلاقيه "وبعد أن باح لها , رجاها ان تطعم النار رسالته اذا لم تجد لبوحه الصدى المرجوا في نفسها
كانت مي في حياة جبران الصديقه, والحبيبه الملهمه , وصلة الوصل بينه وبين وطنه , وأكثر ماحبه فيها عقلها النيّرالذى تجلى في مقالاتها وكتبها , وأحب فيها حبها له .., واعجابها بشخصيته وانتاجه الأدبي والفني الذي كانت تتناوله بالتقريظ والنقد في مقالاتها في مصر ...
وعلى الرغم من كل ماكُتب عن علاقات جبران الغراميه من النساء امثال " ماري هاسكل " وميشلين " فأن حبه لمي كان الحب الوحيد الذي ملك قلبه وخياله ورافقه حتى نهاية حياته فقد كان حبه لها معادلاً حبه العارم لوطنه لبنان ..ولروحانية الشرق , وبالدم العربي الذي يجري في عروقه ,, وهذا مما تؤكده رسائل الشعله الزرقاء , التي هي جوهر النفس الأنسانيه في أسمى صفائها , ويميل المحللون للأعتقاد بأنه لم يكن يفكر في الزواج لاعتلال في صحته منذ شبابه ,, ولا ريب ان مي احبت جبران حباً جعل المقارنه بينه وبين الذين خطبوا ودّها أمراً مستحيلاً , برغم تردد مي في الأعراب عن مشاعرها وخشيتها في الأنطلاق على سجيتها في مراسلته , وذلك بسبب ان جبران كان يعيش في عالم متطور تحررت نساؤه من التقاليد , وحيث أن مي كانت مغلولة القلب والقلم بتأثير البيئه التي عاشت فيها .. وبرغم انها جعلت من بيتها صالوناً أدبياً يلتقي فيه كل ثلاثاء رجال الأدب والفكر امثال احمد لطفي السيد وخليل مطران وطه حسين وعباس محمود العقاد وغيرهم من الأدباء والمفكرين ...
لقد تمنى جبران ان تتحرر مي من عقدها النفسيه وشكوكها ! مي عانت صراعاً نفسياً حاداً في حبها لجبران سبّب لها الشقاء ولجبران العذاب والأرهاق ..وحين تجاوزت الخامسه والثلاثين من العمر لملمت كل شجاعتها وكتبت أجمل رسالة حب..

جبران !
لقد كتبت كل هذه الصفحات لأتحايد كلمة الحب . ان الذين لايتاجرون بمظهر الحب ينمّي الحب في أعماقهم قوه ديناميكيه رهيبه قد يغبطون الذين يوزعون عواطفهم في الللاء السطحي لأنهم لايقاسون ضغط العواطف التي لم تنفجر ,, ويفضّلون تضليل قلوبهم عن ودائعها , والتلهي بما لاعلاقه له بالعاطفه , يفضلون أي غربه , وأي شقاء ( وهل من شقاء وغربه في غير وحدة القلب ؟) على الأكتفاء بالقطرات الشحيحه ..
مامعنى هذا الذي اكتبه ؟ اني لا أعرف ماذا أعني به ! ولكني أعرف انك " محبوبي " , وأني أخاف الحب , أقول هذا مع علمي بأن القليل من الحب كثير .. الجفاف ةالقحط والللا شيء بالحب خير من النزر اليسير , كيف أجسر على الأفضاء اليك بهذا , وكيف أفرّط فيه ؟ لا أدري , الحمدلله اني اكتبه على ورق ولا أتلفّظ به, لأنك لو كنت حاضراً بالجسد لهربت خجلاً بعد هذا الكلام , ولاختفيت زمناً طويلاً , فما أدعك تراني الا بعد أن تنسى .. حتى الكتابة ألوم نفسي عليها احياناً لأني بها حرة كل هذه الحريه .. قلي ماأذا كنت على ضلال أو هدى .. فأني أثق بك , وأصدق بالبداهه كل ماتقول ..! وسواء كنت مخطئه فان قلبي يسير اليك , وخير مايفعل هو أن يظل حائماً حواليك , يحرسك ويحنو عليك
غابت الشمس وراء الأفق ومن خلال الأشكال والألوان حصحصت نجمه لامعه واحده هي الزهره ,, اترىيسكنها كأرضنا بشر يحبون ويتشوقون ؟ ربما وُجد فيها من هي مثلي , لها جبران واحد , تكتب أليه الأن والشفق يملأ الفضاء وتعلم ان الظلام يخلف الشفق وان النور يتبع الظلام وأن الليل سيخلف النهار والنهار سيتبع الليل مرات كثيره قبل أن ترى الذي تحبه ... فتتسرب اليها كل وحشة الشفق , وكل وحشة الليل , فتلقي القلم جانباً لتحتمي من الوحشه في إسم واحد : جبران
ماري زياده

وكانت هذه الرساله تصوّر مي العاشقه أبلغ تصوير ... مما أفرح جبران بتجاوبه معها ...
وهذا الموضوع سأتناول عدة رسائل تمثّل جبران خليل جبران ومي زياده ليس فقط للروعه الأدبيه في الرسائل .. ووصف لأجمل مشاعر الحب خالد سيبقى اسطوره , بل لأنها تحتوي على ادب في فن المراسله ... تستحق الأطلاع عليها

رد جبران على رسالة مي ..
"ماألطف قول من قال :
ياميّ عيدك يوم ** وأنتِ عيد الزمان
ما أغرب ماتفعله كلمه واحد في بعض الأحيان , أنها تحوّل الذات الخفيه فينا من الكلام إلى السكوت .. تقولين أنك تخافين الحب ! لماذا تخافينه ؟ أتخافين نور الشمس ؟ أتخافين مدّ البحر ؟ أتخافين طلوع الفجر ؟ أتخافين مجيء الربيع ؟ لماذا ياترى تخافين الحب ؟
أنا أعلم أن القليل في الحب لايرضيكِ , كما أعلم أن القليل في الحب لايرضيني , أنتِ وأنا لا ولن نرضى بالقليل , نحن نريد الكمال ..الكثير , كل شيء ! لاتخافي الحب يارفيقة قلبي , علينا أن نستسلم إليه رغم مافيه من الألم والحنين والوحشه , ورغم مافيه من الألتباس والحيره
جبران

ارتاحت مي لهذه اللهجه , وتشجعت على مداعبته في الحديث , والأفضاء إليه بخوالج نفسها وهمومها .. كان همها أن يبقى جبران حبيبها الأوحد لتدوم تلك الشعله الزرقاء منهلاً للنعيم والنور في حياتها . أضحت مي شديدة القلق على صحة جبران في سنوات عمره الأخيره كما يبدوا جلياً في رسائله إليها ,وقد وصف جبران أسلوبها ورسائلها فقال انها كالنهر الرحيق الذي يتدفق من الأعالي ويسير مترنماً في وادي احلامي , بل كقيثارة التي تقرّب البعيد وتُبعد القريب , وتحوّل بارتعاشاتها السحريه الحجاره إلى شعلات متقّده , والأغصان اليابسه إلى أجنحه مضطربه  ... بما يكو ن أهل مي وبعض المقربين منها قد أطلعوا على صلتها بجبران في حياتها ,ولكن المرجّح انها كانت حريصه على اخفائها عن الناس جميعاً , وأبقتها سراً دفيناً في نفسها حتى ذلك اليوم الذي فجعت بموته عام 1931م , فبعد انقضاء شهر على وفاته اعترفت ميّ لقرائها بوجود مراسله طويله بينها وبين جبران وذلك في مقاله (جبران خليل جبران يصف نفسه في رسائله) ضمتها فقرات قصيره من رسائله اليها , وعبرت عن حزنها العميق عليه مصّوره غربتها وغربته في الوجود بعبارات موجعه قالت فيها

"حسناً فعلت بأن رحلت ! فاذا كان لديك كلمه أخرى فخير لك أن تصهرها وتثقفّها , وتطهرها لتستوفيها في عالم ربما يفضل عالمنا هذا في أمور شتى..."
وفي ختام تلك القطعه الوجدانيه المؤثره الفائضه بالحب واللوعه واليأس , أعربت ميّ عن شوقها للرحيل , ولكن مشيئة القدر فرض عليها ان تعيش بعد جبران عشر سنوات تقريباً كانت أسؤا مرحله في حياتها , فقد أستبد بها الحزن ..وعاشت في غمرة الأحزان تمزّقها الوحده والوحشه بعد فقده , أصيبت بانهيار عصبي , تبعه انهيار في صحتها , فاعتزلت الناس , أرسلت الى قريب لها في بيروت دكتور جوزيف زياده رساله مؤثره وصفت الآمها وتردّي صحتها , تلك المحنه قادتها الى لبنان موطنها الأصلي وأدخلتها ظلماً الى مصح الأمراض العقليه مما طعنها في كرامتها ,وقضت ثلاث سنوات متنقله بين ( العصفوريه ) كما يسمونه , ومصح دكتور بيريز وبين بيت متواضع , الى أن هبّوا اقاربائها لأنقاذها , وعادت لى القاهره عاشت سنتين ونصف , الى أن ذوت شيئاً فشيئاً ,فتوفيت عام 1941م

وماهو جدير بالذكر ان مي عندما كانت في لبنان اصطحبت رسائل جبران معها , وكانت تلجاً اليها على انفراد , حين يشفّها الوجد , وصوره لجبران كتبت بخطها الى جانب الصوره ...

(وهذه مصيبتي منذ أعوام )

مي زيادة وصالونها الأدبي

وهكذا دخلت المرأة قاعات الدرس وأسفرت بعضهن إمعانا في الدفاع عن كرامتهن وتعبيرا عن مساواتهن بالرجل فالمرأة ليست كائنا جنسيا وظيفته إمتاع الرجل وإنجاب الأولاد بل إنسانا حيا فاعلا خلاقا، وليست موضوعا غزليا يتغنى بالقد المياس والعين النجلاء والخد الأسيل فقط.
وقد أثمرت هذه الدعوة المباركة ثمارا طيبة تجلت في ظهور نساء وقفن ندا للرجل في السياسة والفكر والفن والأدب وكان منهن لبيبة هاشم وملك حفني ناصف وعائشة التيمورية وهدى شعراوي ومي زيادة وصولا إلى مفيدة عبد الرحمن وعائشة عبد الرحمن ونعمات فؤاد وفدوى طوقان ونازك الملائكة وسهير القلماوي وغيرهن.

ولا ريب أن الآنسة مي زيادة كانت أكثرهن شهرة وشغلا للرأي العام وإثارة لطبقة المثقفين ورجال السياسة والأدب ، فقد جمعت بين جمال الروح والجسد في تناغم عجيب، وألمت بالثقافة العربية والغربية إلماما مدهشا.كما أتقنت اللغات الأجنبية وفضلا عن ذلك كان جمالها الروحي والجسدي مغريا للأدباء بحبها والتعلق بها وقد اشتهر بحبها مصطفى صادق الرافعي وعباس محمود العقاد وجبران خليل جبران الذي عرفها عن بعد وهو في المهجر الأمريكي واقتصرت العلاقة بينهما على تبادل الرسائل ولا شك أن صالونها الأدبي الذي كان يجتمع فيه كبار مثقفي العصر، زادها شهرة وتقديرا فالصالون الأدبي فكرة غربية محضة اشتهرت بها بعض كاتبات الغرب فضلا عن كتابه وإنشاؤه وترسيخه في المجتمع العربي الخارج لتوه من عصرالظلمات فكرة خلاقة مدهشة تؤكد أن المرأة ليست مجرد وجه جميل ورحم ولود، هذا الصالون الذي أنشأته الآنسة مي زيادة زاد في شهرتها وفي تقدير المجتمع لها , خاصة طبقة المثقفين.

وللآنسة مي عدة مؤلفات منها " باحثة البادية " و" بين المد والجزر" و"سوانح فتاة " و" كلمات وإشارات " و"ظلمات وأشعة " و"ابتسامات ودموع " ولها ديوان شعر بالفرنسية بعنوان "أزاهير حلم" . لقد كانت مي زيادة محبة للعروبة ملمة بالأدب العربي وعلومه إلماما أدهش الرواد من أدباء مصر وحبها للعربية وتعلقها بالعروبة دفعها إلى نحت اسم لها عربي خالص من اسم "ماري" هو الذي عرفت به، وإن كان "مية" اسم عربي تردد

وقد كان رحيل مي وانفضاض مجلسها وغياب نبرتها الموسيقية وملامحها الهادئة الرشيقة، وكلماتها العذبة المليئة بالأفكار الخلاقة والمعاني البكر، كان ذلك حدثا مؤلما لشاعر القطرين خليل مطران الذي أقضته الذكرى، وأبكته حسرة الرحيل ومرارة الفراق وغياب اللحظات الجميلة وما أوجع الحزن، وما أشد الغصة، غصة الرحيل التي فعلت فعلهافي نفس الشاعر كما يوحي بها البيتان الأخيران. لقد كانت الآنسة مي بأدبها وبثقافتها، وبجمالها الروحي والجسدي رمزا للمرأة العربية الطامحة إلى عصر غير عصر الحريم، وإلى شعر لايكتفي منها بوصف النهود والأرداف والخدود، بل يشيد بعبقريتها وإنسانيتها وعطائها وإنتاجها العلمي والأدبي .


مما سبق نستنتج الخصائص الأسلوبيه لمي زياده : 
تناسق الاسلوب ورقه التعابير وسهوله اللغه .
صدق الأحساسات والمشاعر وهي خصيصه واضحه في كل كلمه من كتاباتها .
الأهتمام في الجمال وحب الطبيعه بما فيها من صيف جميل وافق لامع ووهاد متوجه في الجمال والخضره وبحر وغير ذلك .
الأهتمام في الاسلوب الانشائي وتكتر عندها عبارات النداء متل يا هذا الجمال ويا هذيه البريه وعبارات التعجب متل ما اروع الصيف وما احلى المسافاة .
حب الحريه والأنطلاق فهي تكره القيود وتحب انطلاقه الصيف وهذه الروح هي التي جعلت مي تدعو الى تحرير المراه من الجهل والخرافات .

الأربعاء، 8 مارس 2017

ذات ليلة

بقلم لانا مامكغ/ جريدةالرأي

ظلّ يبحث عن جهاز التّحكم وسط الألعاب التي كانت متناثرةً في غرفة المعيشة، حتى وجده أخيراً تحت إحدى الكنبات، جلس بعد يوم عملٍ طويل ليشاهد الأخبار، لكنّه لم يستطع الإنصات حين شاءت الصّغيرة الجلوسَ في حِجره لتوجّه له سؤالآً عن الدّيناصورات... ثمّ ليرتفع صوتُها باكية حين اقتربَ أخوها فجأةً ليختطف الكرة الملوّنة من يدها ويجري بعيداً !
صاح يناديه، فارتفعت ضحكة الشّقي وعلا بكاء الصّغيرة بالمقابل، كتمَ غضبَه واتّجه لفتح النّافذة لمّا أحسّ بالضّيق من رائحة الطّعام المنبعثة من المطبخ؛ تلك المختلطة مع رائحة أخرى لمسحوق تنظيف، فدخلت زوجته لتحذّره من اندفاع الهواء البارد على الأطفال... ثم لتقولَ أشياء عن الخضار التي أحضرها، وعن تأخّرها في العودةِ من عملها وعن... فقرّر ألّا يسمعها، ثمّ ليعود فيخرج من البيت دون أن ينبسَ بحرف !
سار طويلاً حتى أحسّ بالتّعب، فدخل أحد المقاهي ليجلسَ في الزّاوية ساهماً، ولم يعلم كم مرّ من الوقت حين التفتَ حوله فلمح مجموعةً من الشّابات يجلسن إلى طاولةٍ قريبة، نظرَ إليهنّ دون اهتمام حتى لفتته نظرةُ إحداهن... كانت تتطلّع نحوه بفضول، تجاهلَ الأمر وعاد ليسرحَ من جديد، لكنّه بقي يشعرُ بعينين تخترقان وحدَته... نظرَ مرّة أخرى، فلمح ابتسامة... ولم يدرِ ماذا يفعل، فتصنّع الشّرودَ للحظات، ثمّ عاد ونظر نحوها؛ ليرى أنّ الابتسامة قد اتّسعت !
ارتبك، ودون تفكير وجدَ نفسه يتفقّد وضعَ ياقته، ويتحسّسُ شعرَه... ما الذي استوقفها ؟ لم يعرف، هي جميلة جذّابة لاشك، وتبدو أنّها تدرك ذلك جيداً، هل توجّه له دعوةً لتجربة عاطفية معه ؟ ونفضَ رأسَه كأنّما يطرد الفكرة، ثمّ ليعود ويسرح: ماذا لو شجّعها ؟ إلامَ سيقودُه ذلك ؟ ماذا لو تواصل معها وتطوّرت الأمور ليجدَ نفسَه واقعاً في حبّها ؟ ثمّ لتسيرَ الحكاية نحو الارتباط... نحو حياةٍ جديدة، وبدأ السّيناريوالقادم بالتّشكّل في رأسه؛ كيف سيبلّغ زوجته ؟ من المؤكّد، حسب ما يعرفه عن شخصيّتها، أنّها ستنسحبُ من حياته فوراً انتصاراً لكرامتها... لكنّ شهامتَه تقتضي إكرامَها هي والأولاد، سيبحث عن عملٍ إضافي، وبإمكانه بيع قطعة الأرض البعيدة التي ورثها عن والده وكان يدّخرها لتعليم الأبناء، إذن، سيرتبط ليعودَ آخر النّهار إلى بيتٍ أنيقٍ هادىءٍ... سيتدفّق الدّمُ في أوصاله الباردة من جديد... سيهيمُ في عطر أنوثتها ليعود قلبُه السّاكن فيخفقَ بإيقاع لذيذ... ستكون قربَه في مثلِ هذه الليلة الباردة لتعيدَ الدّفءَ إلى روحه الكابية !

وقطعَ تداعياتِه ليعودَ وينظرَ نحوها من جديد، ما زالت هناك... عينان بلون الليل تحدّقان به باهتمامٍ وترقّب... فجأة، داهمه شعورٌ بالخوف... موجةٌ من عتمة داهمت كيانه كلّه لتتدفّق معها أسئلةٌ موجعة من مثل: مَن سيحكمُ الغطاء على أطفاله في الصّباحات الباردة؟ مَن سيستردّ لصغيرته الكرة حين تحتاجها ؟ في حضن مَن سيلوذ الشّقي الصّغير لمّا يقترفُ حماقةً ما ويهرب إليه من أمّه الغاضبة؟ لمن ستشكو هي من نوعية الخضار واسطوانة الغاز التي تفرغُ فجأة في أسوأ الأوقات؟
انتفضَ واقفاً ليضعَ بعضَ النّقود على الطّاولة ثمناً لفنجان قهوة لم يذقها... وغادرمسرعاً نحو البيت حتى وصل فرِحاً ملهوفاً ليدخل المطبخ فيعرض على زوجته المساعدة... ثمّ ليشرعَ باللعب مع الصّغيرين حتى علت ضحكاتُ ثلاثتِهم لتتردّد في أرجاء المكانِ كلّه !

الخميس، 2 مارس 2017

ممنوع الاقتراب

بقلم سما حسن
العربي الجديد

يقولون إن الحقيقة كالشمس، من الصعب أن نحدّق بها طويلاً بعينين عاريتين، وحقيقة من نحب حين تُكشف، قد تودي بنا إلى صدمةٍ تُنهي العلاقة، أو تجعلها في حالة موت سريري، وكلنا أُغرمنا بكتّابنا وشعرائنا المفضّلين في مرحلةٍ من أعمارنا، علاوة على أننا، أي الجنس اللطيف، نُغرم في كلّ وقتٍ بممثل أو فنان، بغض النظر عن أعمارنا، فحبّ شخصية مجسّدة على الشاشة لا يعرف العمر، ولا يجيد وضع المستحيلات، ويتجاوز الخطوط الحمراء، حتى تفيق على حقيقة البطل بحادثةٍ تتناقلها وسائل الإعلام، فتُفجع فتاة وتُصدم امرأة حالمة، وتبكي سيدةً مرهفة، كانت تفتتح صباحها بموسيقاه، وتنهي نهارها بمشاهد من فيلمه الأخير. 

تقول رنا قباني، في أحد مقالاتها عن علاقتها بالشاعر الكبير محمود درويش، حين كانت زوجة له، إنها صُدمت حين رأت بيت الشاعر الذي أحبّت، والذي جعلها ترى الوجه الآخر للشاعر، بحيث لم يستطع زواجها منه أن يصمد أمام هذا الوجه، فهي تكتب عن تدنّي ذوقه في بيته المتواضع، فرنا قباني ذات جذور أرستقراطية، وفوجئت ببيتٍ لا يشبه ما نظمه الشاعر عن القهوة والأكواب والشرفات، فهي تقول، بكل جرأة، إن شقّته تخلو من الشاعرية، وأدوات المائدة لا تحمل أي رموزٍ ثقافية، وهي قد توقّعت أن يكون بيته أوسع وأرحب مما اعتادت. وهكذا انتهى الزواج، أو زالت الصورة الخيالية، فلم تستطع أن تُكمل مع الشاعر الذي ما زالت الشابات يقتبسن كلماته، كلما أردن التعبير عن مشاعر يشعرن بها، ولا يجدن غيره وسيطاً لتوصيلها. 
إذن، ضاع حب رنا الشاعر، حين رأته في الواقع، وهذا لا ينفي أنه كان مصدوماً مما رآه فيها، ولفت انتباهه، وجعله يطلب يدها للزواج، وهكذا ظلّت تجربة ذلك الزواج تضع علامات استفهام كثيرةٍ، ومنها: هل الاقتراب ممن نحب كثيراً يشوّه الخيال، ويجعلنا نبكي ونُصدم ونُخذل؟ وهل من الأفضل أن نبقى غارقين في الخيال، حتى النهاية؟ 
هناك فكرة شائعة لدى علماء النفس أن على الإنسان المُغرم بشاعر أو كاتب ألا يلتقيه في الحياة العامة، لكي لا يراه إنساناً عادياً لديه السلبيات والإيجابيات، ولكي نحافظ على الوهم، ونظل نقرأ لهم، وأمام هذه النظرية أو الفكرة، نتساءل أيضاً: هل علينا أن نُبقي كتّابنا وشعراءنا وفنانينا كالأشباح والصور الثمينة. 
في سني مراهقتي، كنت مغرمةً بكاتب مصري يؤلف روايات للجيب خاصة بالشباب، وكانت روايته تصل إلى فلسطين بصعوبة، لكني كنت أحرص على اقتنائها، لكي أعيش في عالمه السحري، عالمه الذي انتشلني من واقع مجتمعٍ مقيّدٍ بالعادات والتقاليد، ومتهالك من ظلم المرأة، ونظرته الدونية لها. صرت أحلم به، وأتخيّل نفسي ألتقيه وأتحدّث إليه، فأقف بين يديه كأني راهبةٌ في محراب، حتى مرت السنوات، وأنا لم أر منه إلا صورة شخصية لوجهه، والتي توضع على الغلاف الأخير لكل رواية ينشرها، والتقيته مصادفةً حين كنت في زيارة لمصر، وكان ذلك على شاطئ البحر. وقتها، انهارت الصورة وتكسّر الحلم، كما تتكسر الأمواج على الشاطئ، فجعني منظره، طريقة التهامه الطعام، وزجره بائعاً جائلاً مرّ بجواره، فبكيت كما لو كنت أُودع حبيباً الثرى، فلم أتخيّل لحظة أن هذا هو فارسي الذي كان يحملني فوق حصانه إلى عالم الخيال والسحر. 
درس جديد نتعلّمه من الحياة، وهو ألا نقترب كثيراً، فربما يكون سبب فشل معظم الزيجات التي تمّت بعد قصة حبٍّ هو الاقتراب، وربما يكون الإنسان نفسه هو من قرّر أن يخدع نفسه، حتى وقع في شرك الوجه الآخر. تساؤلات كثيرة تجعلنا، حين نفشل في الحب، نبحث عن قصة حب مع كاتب من كتاب العصور القديمة، لأن تواريهم منحهم سحراً ما زال يعبق عبر الزمن، أما من أحببناهم وعاصرناهم فهناك من قلّل من وطأة أسطوريتهم، كما حدث مع رنا قباني ودرويش، مثالاً من قائمة تطول