أرشيف المدونة الإلكترونية

الأحد، 3 أكتوبر 2010

خطبة 5: الرحلة بين الأمس واليوم



الخطبة ( 5 ) 
الهدف: نوِّع الصوت

الرحلة بين الأمس واليوم

...أشعث أغبر... مهلهل الثياب...تكاد لا تتبيَّن ملامـحه...هكذا كانت حال المسافر قديماً كما صوَّرَتْـها الكتب لنا، كان المسافر أو الرحالة يسمع بأقصى الأرض وأدناها فيعزم أمره على أن يضرب في الأرض تجوالاً وسفرا، فكيف كان يستعد لمثل ذلك الأمر؟ وكيف يستعد المسافرُ اليومَ لمثله؟ 
..كان المسافرُ يسمع بالبلاد الأخرى وآثارها وسكانها، لكنه كان يرسم لها صورة في ذهنه ليقرّبها إلى نفسه، وليس في ذهنه عنها إلا ما يجودُ به خياله ..وقراءاته..لا صورة (فوتوغرافية) ولا تقارير (تلفزيونية) ولا رحلات (افتراضية).
واليوم.. معظمكم عاد من الإجازة الصيفية وفي جعبته أخبار من رحلة قضاها هنا أو هناك برفقة الأهل أو الأصدقاء. فكيف كان استعدادكم للسفر؟
..هناك تفاصيل في حياتنا اليومية لا نتوقف عندها طويلاً بحكم الاعتياد والألفة، لكنها في الحقيقة -وفي موضوع السفر خاصة- تفاصيل مثيرة ، ولو تخيلتَ أنكَ تحدِّث بأخبارها إنساناً من القرون الخالية لظنَّ أن مساً من الجنون أصابك أو أنك على رأي المصريين (تاكل بعقله حلاوة)!
فنحن في هذا الزمان نعرف قبل أن نسافر إلى أي بلد صورةَ تلك البلاد، وهي متاحة لنا بوسائل عديدة، نشكر عليها العم (جوجل إيرث)؛ الذي جعل من الأماكن والطرق المؤدية إليها وخرائط تحديد المواقع وغيرها...بين أيدينا.
ثم إننا يمكن لنا كذلك أن نجلس إلى الحاسوب، في البيت ونقوم بعمليات الإعداد للسفر جميعها قبل أن نسافر: نشتري التذاكر.. ونختار أماكن الإقامة ابتداء من الغرف والشقق والمرافق الصحية ..ونعاينها بالصور العادية أو الزيارة الافتراضية .. وربما في المستقبل نتمكن من معاينة حتى مرتبة السرير أمريحة هي أم لا؟ 
كما يمكن لنا اليوم أن نعرف الأماكن المحيطة بالمكان الذي سننـزل فيه أثناء السفر من مطاعم وأماكن للتسلية والترفيه ومواقع تاريخية...وغيرها مما يستحق الزيارة.
ويتاح لنا اليوم أيضاً فرصة قراءة آراء الناس الذين زاروا تلك الأماكن ونزلوا فيها، فنستفيد من تجاربهم ونسترشد بآرائهم في اختيار المكان الملائم للإقامة أو لبدء الرحلة... أو اختيار وسائط النقل المناسبة... وغيرها من خيارات لا تنتهي يحتار المسافر أيها يسلك.
إننا اليوم نسافر إلى أي مكان في الدنيا ونحن نعرف عنه كل شيء تقريبا ..وقد خبِرْنا ربما أهله ومأكولاته وما يمتاز به ..وبقي علينا فقط أن نوجد في المكان نفسه على الحقيقة لا على الافتراض، وأن نشتمَّ روائحه التي لا تستطيع الصور المتوافرة حتى الآن أن تحتفظ بها وتنقلها لنا.
فهل فقدْنا في رحلاتنا اليوم متعة الاكتشاف وروعته التي كان المسافرون قبل عصر الصورة يعيشونها؟!؟ وهل فاتتْنا التفاصيلُ الصغيرة التي كانوا يعيشونها في أثناء رحلة السفر وعند الإقامة في الأماكن الجديدة؟
فهل كان خطَرَ في بال ابن بطوطة مثلا –قبل نحو 600سنة تقريبا- وهو ينوي زيارة بيت الله الحرام ..هل خطر بباله أننا اليومَ نرى الحرم كل لحظة وفي كل حين، وأننا نسمع صوت المؤذن فيه لكل صلاة من صلوات اليوم والليلة، ونستمتع بجولة افتراضية فيه يحملها إلينا الإنترنت والفضاء الرقمي الذي طوى المسافات وقدم لنا الأماكن على طبق من فضاء..
ومع ذلك كله فما زال السفر والترحال قادراً على أن يمنحنا متعة الانتقال ودهشة الحضور وروعة التواجد .. في أماكن جديدة برفقة أناسٍ آخرين؛ فالناس مختلفون باختلاف بقاع الأرض، والناس وحدهم هم الذين يضيفون تلك النكهة المميزة على المكان الذي نزوره في أي بقعة كان.

قال الشافعي :
سافِـرْ تجد عِوَضاً عمن تفارقهُ
وانْصَبْ فإنَّ لذيـذَ العيشِ في النَّـصَبِ
إني رأيتُ وقوفَ الماءِ يفسده
إنْ سالَ طابَ، وإنْ لم يَـجْـرِ لم يطبِ
والشمسُ لو وقفتْ في الفُلْكِ دائمةً
لَـمَـلَّها الناسُ من عجـمٍ ومن عربِ

الجمعة، 25 يونيو 2010

اللغة العربية في أكسفورد: حديث البدايات


منشور في الملحق الثقافي جريدة الدستور (الأردن) الجمعة 25/6/2010 

تزهو كثيرٌ من الجامعات الأوروبية بتاريخها العريق في تدريس اللغة العربية منذ قرون، لكن مئات السنين من تدريس اللغة العربية في الجامعات الأوروبية لم تكن حافلة جميعها بما نعرف اليوم من إجراءات تدريس اللغات؛ فقد كانت الجامعات الأوروبية ما تزال غضّة العود، وكانت الأنظمة والمناهج والأساتذة والطلبة... وحتى المباني الجامعية ما تزال هي الأخرى في طور نشأتها، هذا إذا لم نغفل عن جانب مهم وهو أن التعليم في ذلك الحين لم يكن منتشراً إلا بين جدران الأديرة وقصور الأغنياء.
لقد بدأ إنشاء الجامعات الأوروبية على نطاق محدود في القرن الثاني عشر تقريباً، على غرار كثير من الأنظمة التعليمية المتبعة في الجامعات الإسلامية منذ القرن التاسع على الأقل، وكانت مناهجها عادةً تنحو نحو الدراسات "الكلاسيكية" واللاهوتية، أما تدريس العربية في أوروبا الذي يمكن أن يكون بداية التأريخ الحقيقي للاستشراق فيعود إلى القرار الذي أصدره مجمع فيينّا الكنسي أوائل القرن الرابع عشر، ويدعو إلى تدريس اللغات الشرقية -ومنها العربية- في جامعات باريس وأكسفورد وبولونية وشلمنقة، استجابةً للدوافع الدينية وتحت تأثير ازدهار دراسات الكتاب المقدس، إلى جانب دوافع أخرى لا تقلّ عنها أهمية.
كانت أكسفورد إحدى الجامعات التي شملها القرار، ومن منا لم يسمع بأكسفورد؟ وهي أقدم الجامعات على الإطلاق في العالم الناطق بالإنجليزية، وتتمتع بسمعة علمية ومكانة رفيعة على مستوى العالم منذ مئات السنين، وهي في نفوس طلبة العلم -حتى اليوم- حلمٌ عزيزُ المنال لا يقدر على تحقيقه إلا المتميزون.
بيد أن بدايات تدريس اللغة العربية في هذه الجامعة كانت من الأمور الطريفة، شأن كل البدايات تأتي من مستصغر الشرر، لكنها مع ذلك تدعو حقاً إلى التأمل في الجهد الذي بذله أهلُ الجامعة، من الأساتذة والإداريين، حتى نالت سمعتَها تلك على مستوى العالم.
************
ظهرت أكسفورد أول أمرها في القرن الثاني عشر، وهي واحدة من الجامعات الأوروبية التي نـمَتْ تلقائياً من مدارس وكليات كانت موجودة من قبل، وكان مما ساهم في نموها منعُ الطلبةِ الإنجليز سنة 1167 من الالتحاق بجامعة باريس، التي كانت مقصدهم للدراسة، فعاد الطلبةُ أدراجهم واستقروا في أكسفورد. وهي تضم أقدم مكتبة في بريطانيا، مكتبة سانت ماري التي بنيت عام 1320 ثم تحولت إلى مكتبة بودليانا الشهيرة.
ولكنْ حين صدر قرار مجمع فيينّا يبدو أنه لم يؤخذ على محمل الجد ولم يوضع موضع التنفيذ في أكسفورد أول الأمر؛ واستمر ذلك حتى تأسيس كرسي اللغة العربية في الجامعة سنة 1636، الذي جاء بعد أربع سنوات على تأسيس كرسيٍّ مماثل في جامعة كامبردج المنافسِة.
وتنبغي الإشارة إلى أن عدداً من الملحوظات يجب أن تحضر في البال حين الحديث عن تدريس العربية في أكسفورد، منها ملحوظة عامة وهي أن تدريس اللغة العربية هناك أو اللغات الشرقية عامة لم يكن يعني –كما يعني اليوم- الحصول على درجة جامعية في مثل هذا التخصص؛ لأن ذلك لم يكن ممكناً في إنجلترا حتى سنة 1873 حين منحت كامبردج مثل هذه الدرجة.
ومن الملحوظات كذلك أنه كان من المعتاد للأستاذ الذي يشغل كرسي العربية أن يبقى بلا محاضرات وبلا طلبة مدةً من الزمن قد تمتد لسنوات؛ ففي ذلك الوقت لم يكن من وظيفة الأساتذة الأساسية تعليم الطلبة، بل كان الأساتذة عادة ما ينهمكون في بحوثهم الخاصة، ويصرفون جلّ اهتمامهم ومعظم وقتهم في الإفادة من المصادر والكتب العربية المتاحة.
وتثير الملحوظة الثالثة قدراً من التساؤلات عن أعداد الطلبة الذين أقبلوا على دراسة اللغة العربية، والمواد والمناهج التي اعتمدوا عليها في دراستهم، والأساتذة الذين اضطلعوا بأعباء تدريس العربية في أرضٍ غير أرضها ولغير أبنائها وفي زمن غير زماننا... زمن لم تكن فيه القواميس والمعاجم متوافرة للطالب كي تُعِـينَه على تعلُّم اللغات، ولا كتب مطالعة أو غيرها من أدوات ووسائل يستعين بـها طالبُ العربية غير العربي على تعلُّم هذه اللغة. في زمن كانت فيه صناعةُ النشر وطباعة الكتب ما تزال حديثة نوعاً ما، وخاصة ما يتصل منها بطباعة الحروف العربية التي ظهرت في ثمانينات القرن السادس عشر، وفي زمنٍ كانت الكتبُ فيه تُربَط بالسلاسل على نحوٍ معين في مكتبات الأديرة، وفي زمنٍ لم تكن المكتبات الجامعية أو العامة قد تأسست بعدُ، وكانت الكتب في أغلبها ذات مواضيع دينية، وفي زمن كانت فيه نسبة القراء ما تزال محدودة جداً ومحصورة في طبقات بعينها.
ويضاف إلى هذا كله، أنه على الرغم من تأسيس منصب كرسي اللغة العربية في أكسفورد منذ القرن السابع عشر، إلا أن تأسيس كلية منفصلة للغات الشرقية جرى أواخر القرن التاسع عشر، وأصبحت بعد الحرب العالمية الثانية كليةً للدراسات الشرقية، من أجل توسيع نطاق الاهتمام ليشمل التاريخ والثقافة وسواهما من آثار الشرق لا اللغات والآداب فقط.
ومع ما قد تشير إليه مثل هذه التفاصيل من ضعف تدريس العربية في أكسفورد، عكس الصورة التي نتخيلها، إلا أن القرن السابع عشر مع هذا كله كان عصراً ذهبياً للعربية بلا منازع في تاريخ الاستشراق في إنجلترا تحديداً، ممثلاً في جامعتيْها آنذاك: كامبردج وأكسفورد. فحين أطل القرن السابع عشر -قبل نحو أربعمائة سنة- لم يكن في أكسفورد ما يكفي من استعدادات لتدريس اللغة العربية، لكن العمل على إعادة تفسير الكتاب المقدس من جديد -إبّان حركة الإصلاح الديني- دفع إلى قراءة نصوصه المكتوبة بالعبرية، فوجد اللاهوتيون أن العربية تمدُّ لهم يد العون في فهم العبرية. فكان مبتدأ أمر الاعتناء بمعرفة اللغة العربية.
*************
من اللافت للنظر أن اهتمام أوروبا الشديد بمعرفة اللغة العربية والاطلاع على آثار العرب المكتوبة كان من ورائه أحياناً بعضُ الشخصيات المشرقية التي ساهم حضورها على مسرح الاستشراق في دفع تعليم العربية في أوروبا، ولها كذلك فضلٌ كبير حتى اليوم؛ ذلك بأن من المظاهر المهمة في عالم الاستشراق دخول العرب والشرقيين أنفسهم في الهيئات التدريسية في الجامعات الأوروبية، مما أثَّر في تنشيط تدريس الإسلام واللغة العربية.
 وكان من تلك الشخصيات في أكسفورد يوسف "أبو ذقن" القبطي المصري، الذي قدِمَ إليها سنة 1610 وطال مقامه فيها لثلاث سنوات، وكان أول مَن علَّم اللغةَ العربية هناك، وهو من الشخصيات الشرقية المثيرة؛ فقد كان عددٌ من الرهبان اللبنانيين قد زاروا أوروبا من قبل، لكنهم لم يتجاوزوا -إلا نادراً- في مقامهم مدينة روما مقر البابوية، ولم يرتحلوا أبعد منها، لكن "أبو ذقن" اتخذ من روما منطلقاً لتنقلاته في القارة الأوروبية، متخِذاً من تدريس اللغات الشرقية وسيلةً يعرض بـها خدماته على (مضيفيه) في البلدان الأوروبية.
وقد أسعده الحظ أن كانت رحلته إلى أوروبا قد وافقت بدايات القرن السابع عشر الذي شهد نمو الاهتمام بمعرفة اللغات الشرقية، التي كان المسيحيُّ الشرقي فيها موضع ترحيب وإجلال في أوروبا بسبب معرفته اللغة العربية.
كان يوسف "أبو ذقن" قد وصل روما سنة 1595 وفيها تحول إلى الكاثوليكية وتعلم الإيطالية وأتقنها، وتعلَّم كذلك اللاتينية واليونانية، ومن روما انتقل بعد سنوات إلى بلدان أوروبية عديدة، عمل فيها معتمداً على معرفته باللغات الشرقية التي لم تكن كافية على أي حال. وقد سنحت له الفرصة في البلدان الأوروبية التي زارها أن يلتقي عدداً من المستشرقين المعروفين، فقد انتقل من روما إلى باريس مترجماً في البلاط الملكي، والتقى هناك بالهولندي إربينوس سنة 1609، والتقى كذلك بالفرنسي إسحق كازوبون أمين المكتبة الملكية، واستيفان هوبرت طبيب الملك هنري الرابع، الذي كان مهتماً باللغة العربية كونه يعمل طبيباً...وقد وجد هؤلاء في "أبو ذقن" فرصة مواتية لا تصحّ إضاعتها لتعلّم العربية حتى وإن كانت بالعامية!!
استطاع "أبو ذقن" بفضل مواهبه أن يحصل من باريس على توصية من أجل الذهاب إلى إنجلترا، وهو أمر متعارف عليه في أوروبا آنذاك وحتى اليوم، وقد حمل توصية أخرى من أسقف كانتربري في إنجلترا، ومن أمين مكتبة أكسفورد (بودليانا) توماس بودلي، الذي كان متحمساً لكي يعمل "أبو ذقن" في تدريس العربية في الجامعة. وكانت مكتبة بودليانا مثلاً حين تولى أمرها بودلي هذا سنة 1600 غرفةً واحدةً فقط، وليس فيها كتاب بأي لغة قط؛ بسبب الاضطرابات الدينية التي أصابت البلاد منذ منتصف القرن السادس عشر!!، لكنْ حين عادت المكتبة وفتحت أبوابها من جديد سنة 1602 كانت تضم مخطوطة شرقية واحدة هي نسخة من القرآن الكريم، أما في نهاية القرن السابع عشر فقد ازدادت مقتنياتها الشرقية في مختلف حقول المعرفة إلى نحو ألف وأربعمائة كتاب.
ومن المثير أن نعرف أن يوسف "أبو ذقن" قد قدَّم بعض الدروس في تعليم العربية، لكن اللغة العربية التي أعطاها لبعض الطلبة في أكسفورد كانت العامية المصرية؛ إذ إنه لم يكن يتقن الفصحى ولا يملك من أمرها شيئاً، وهذا ظاهر جليّ في بعض رسائل له ملآى بالأخطاء من كل نوع، كتَبَها بخط يده غير الرشيق وبأسلوبه الركيك، أرسلها إلى المستشرق ويليام بدويل في أكسفورد، وظاهرٌ كذلك في رسائل أخرى متبادلة بينه وبين المستشرق الهولندي توماس إربينوس.
أمضى "أبو ذقن" في إنجلترا ثلاث سنوات تقريباً درَّس فيها العربية لبعض المهتمين، لكننا لا نعرف من هم هؤلاء، ولا تسعفنا الوثائق القليلة الموجودة في تبيان أعدادهم، فهو يشير في رسالةٍ إلى إربينوس إلى أن لديه بعض مَن يدرّسهم العربية، لكنه لا يذكر سوى واحد منهم كان قد وصفه أنه عالمٌ بكثير من العلوم والألسن، هذا إلى جانب أنه ليس هناك ما يؤكد عدد الدروس والمحاضرات التي ألقاها فعلاً وماذا قدم فيها، ويظهر من بعض رسائله الأخرى أنه أمضى معظم وقته في لندن لا في أكسفورد، مما يجعل عمله الفعليّ هناك موضع نظر.
*********
ثم غادر "أبو ذقن" إنجلترا سنة 1613 ولم يعد إليها، وحين ترك أكسفورد بقيت الجامعة دون دروس في اللغة العربية لثلاث عشرة سنة، حين قدوم أستاذ الرياضيات الألماني ماتياس باسُرْ، الذي كان قد نُفي من ألمانيا بسبب الحرب، وانتقل إلى ليدن، حيث أمضى بصحبة إربينوس شهراً تعلَّم فيه اللغة العربية، ومن ليدن قدِم إلى إنجلترا سنة 1624، ثم غادرها إلى باريس في عملٍ قصير، وقد استغل وجوده هناك في تعلّم العربية لبضعة شهور على يد أحد الرهبان اللبنانيين وهو جبرايل الصهيوني.
 ثم عاد ماتياس باسُرْ ثانية إلى إنجلترا فألقى بعض المحاضرات العامة في أكسفورد عن أهمية تعليم اللغة العربية لفائدتها في دراسة الكتاب المقدس، فهي برأيه ابنة العبرية، هذا إلى جانب انتشارها الجغرافي الواسع؛ إذ كانت العربية في ذلك الزمان لغة الأرض من الهند حتى المغرب، وعلى ذلك فمعرفتها ضرورية من أجل الحوار مع الشرقيين وتفنيد معتقداتهم! ومعرفتها مفيدة كذلك لطلبة العلم؛ لأن معظم مصنفات الطب والرياضيات والفلسفة ... مكتوبةٌ بها. كما قدّم باسُرْ مجموعةً من الدروس في تعليم العربية، اعتمد فيها على كتاب (النحو العربي) الذي وضعه إربينوس، وكتاب (الأمثال العربية) التي نشرها إربينوس كذلك.
ولكن ألا يحق لنا أن نتساءل: ما هو نوع تعليم اللغة العربية الذي يمكن أن يقدمه أستاذٌ تعلَّمَ اللغة العربية في شهر واحد بصحبة إربينوس؟ وإربينوس نفسه هو المستشرق الذي تكشِف بعضُ رسائله التي كتبها بالعربية عن محدودية إتقانه لها. وما هو نوع العربية التي يمكن أن يقدمها مَنْ تعلَّمَها في بضعة شهور على أحد الرهبان اللبنانيين في باريس؟ يبدو أن ماتياس باسُرْ -حسب رأي بعض المؤرخين- كان مستعداً للقيام بتدريس أي موضوع يمكن للجامعة أن تسمح له بتدريسه، سواء أكان في الرياضيات أو اللاهوت أو الجغرافيا أو الفلسفة أو اللغات الشرقية.
 إلا أن عمله في تدريس العربية في أكسفورد لم يكن سيئاً على أي حال؛ إذ قام مثلاً بتعداد الكتب العربية الموجودة في مكتبة بودليانا، وهذه المحاولة من جانبه تقفنا على فقر المكتبة في ذلك الوقت وعدم كفايتها لتكون مُعِيناً له أو لغيره في تدريس العربية تماشياً مع قرار فيينّا السابق ذكره. وجدير بالذكر أن ماتياس باسُرْ قد طالَب بتأسيس كرسيٍّ دائم للغة العربية في أكسفورد، لكن طلبه لم يلق تجاوباً حينها، فسبَـقَـتْها إلى ذلك جامعةُ كامبردج.
ثم غادر باسُرْ أكسفورد إلى جروننخن سنة 1629، وعمل فيها أستاذاً للفلسفة حتى وفاته بعدها بنحو ثلاثين سنة،لم يُعرف عنه خلالها أنه اهتم بالدراسات الشرقية أو باللغة العربية!! فعادت أكسفورد بعد مغادرته إلى ما كانت عليه قبل وصوله؛ إذ لم يكن هناك استعداد كافٍ لتدريس العربية، ولا مصادر كافية مطبوعة أو مخطوطة.
********
أما المرحلة التي شهدت نموَّ الدراسات العربية في أكسفورد، فتبدو في العمل الذي أنجزه رئيس الجامعة الأسقف وليام لود الذي تولى رئاستها بين 1630-1641 ومنَحَ الدراسات الشرقية فيها الكثير مما أينعت ثماره لاحقاً: فقد أولاها عناية خاصة مع أنه لم يكن مستشرقاً، لكنّ الصداقات التي جمعتْه مع عدد من المستشرقين جعلتْه يهتم بالدراسات الشرقية، وتجلى هذا الاهتمام في إنشاء كرسي العربية في الجامعة -الذي ما زال يحمل اسمه-، والعملِ على جمع المخطوطات الشرقية، التي كانت سبباً فيما تلا من اعتناءٍ بدراسة اللغة العربية وازدهارٍ لها في أكسفورد. ونجح في استصدار قرار ملكي يقضي بألا تعود أي سفينة من المشرق إلا وهي تحمل مخطوطة شرقية واحدة على الأقل، بالعربية أو بالفارسية، غير القرآن الكريم الذي تتوفر المكتبةُ على نسخٍ عديدة منه. كما عمل أيضاً على ابتعاث بعض المستشرقين إلى الشرق في سبيل هذا الهدف، وقد نجح في مسعاه، فكانت المخطوطات التي جمعوها نواة المجموعة الشرقية في بودليانا، وكانت أولاها مجموعةُ لود نفسه التي تضمنت 127 كتاباً عربياً. وقد فكر لود بتأسيس مطبعة للكتب الشرقية في أكسفورد التي كانت ما تزال تعتمد على غيرها من المطابع الأوروبية لطباعة الحروف العربية أو القيام بذلك بخط اليد مثلاً.
وكان لود قد عمل كذلك على إقرار تعليمات صارمة نوعاً ما بشأن تعليم اللغة العربية، منها إجبار طلبة البكالوريوس من مختلف التخصصات على حضور محاضرةٍ في اللغة العربية مرة في الأسبوع، هذا إلى جانب فرض غرامة مالية على كل طالب يتغيب عن تلك المحاضرات، وتُستعمل هذه الغرامات في تزويد المكتبة بكتب عربية.
ولا ينبغي أن تكون تلك التعليمات مستغربة لديكم -أيها القراء- لأن اللغة العربية في ذلك الزمان كانت لغة مصنفات العلوم البحتة والتطبيقية، وكانت تلك المصنفات قد بقيت مناهجَ للتدريس في الجامعات الأوروبية لعدة قرون، إلى أن استوت ثمار النهضة الأوروبية على سوقها، فأنكرت فضل من سبقها من حضارات!
************
إن الجهد المبذول في محاولات تدريس اللغة العربية في أكسفورد يبدو جميلاً، ويكتسي لوناً وردياً ينتشي لسماعه أبناءُ العربية، ولكنْ هل نُفِّذت مثل هذه التعليمات حقاً؟ تبدو الإجابة عن ذلك غير إيجابية! فما نعرفه هو أن معظم الطلبة لم يعرفوا عن العربية شيئاً، واقتصرت محاضراتها على  الطلبة الراغبين في دراستها.
 لكنّ ذلك لا يمنع أن تأسيس كرسي العربية في الجامعة هو إنجاز تحقَّق به للجامعة الكثير مما يمكن أن يقال في دعم تعليم اللغة العربية، وفعلاً استطاعت الجامعةُ ذلك بفضل أول من تولى هذا المنصب وهو المستشرق إدوارد بوكوك الأب.
ثم حدث أن ضعفت العناية بالعربية هناك أخريات القرن السابع عشر؛ في ظل ظروفٍ سياسية لحقت البلاد، وفي ظل تراجع الاهتمام بدراسات الكتاب المقدس التي أخذت تفقد مكانتها أمام العلوم التجريبية ومناهج البحث العلمي الناشئة، فطُويت بذلك صفحة مشرقة من تاريخ اهتمام أكسفورد بتعليم العربية، ولكن حتى حين.


الأحد، 6 يونيو 2010

خطبة 4: عندما تكونين أُمَّـــاً في دولة أوروبية





الخطبة ( 4 ): وضح ما تعني
الهدف: تعلم إيماءات الجسد
عندما تكونين أُمّـاً في دولة أوروبية


ربما كان كثير منكم قد أمضى بعض الوقت في البلاد الغربية للدراسة أو الزيارة...، وربما يكون قد أنعم الله عليه في أثنائها هناك بمولودٍ أسعدَ أيامَه وأضفى البهجة عليها في ديار الغربة.
أحدثكم اليوم عن تجربة إنجاب طفل في دولة أوروبية، ولكنْ ليس من قبيل هل سيحصل المولود على الجنسية أو البطاقة الخضراء للإقامة الدائمة ...أو غيرها من المميزات المدنية التي قد تجول في خاطر الآباء عند التفكير بإنجاب طفل في تلك البلاد.
...لم يكن ابني عمر أول طفل لي، وكنتُ قد وصلتُ بريطانيا أوائل سنة 2000 (منذ عشر سنوات تقريباً) ... وكأيِّ زائر لبلادٍ جديدة، تقع في النفس انطباعاتٌ تبقى عالقةً في الذاكرة لا تزول، وهي ما أكلمكم عنه الآن: انطباعات وقعت في نفسِ أم.
استوقفتني أولاً في تلك البلاد أمور الاهتمام بالرعاية الصحية إلى حدٍّ كبير، إذ أولُّ الأعمال التي يجب أن تقوم بها من أجل أن تسري عليك قوانين البلاد للإقامة هو التسجيل لدى الطبيب العام في العيادة القريبة من البيت، وحرصهم على السؤال عن التاريخ الـمَرَضي للعائلة والمطاعيم للأطفال... وغيرها من أمور وتفاصيل تتعلق بجميع أفراد الأسرة..
وهذه كلها بالمجان نعم مجاناً .. مما يجعلك تلمس مدى حرصهم على (الصحة العامة) في بلادهم، لا على الامتيازات التي قد يتفضلون بها على المقيمين والزائرين! كما في بلادنا العربية حيث قد يُهمَل الوافد والمقيم صحياً بدعوى عدم المواطنة.

...أما تجربة إنجاب طفل في تلك البلاد، فهي بحق تجربة مختلفة، على الأقل بالنسبة لي، لقد أنجبتُ أطفالي من قبل في عمّان، وأول شيء يختلف عما سبق هو الذهاب إلى المستشفى مشياً على الأقدام...نعم؛ فهو قريب جداً من البيت، وقطعتُ المسافة مع زوجي وأنا أقول له سأركب التاكسي بعد قليل...سأركب بعد قليل...حتى وصلنا ، ولمَّا يكن ذلك القليل قد انتهى! كنا نسكن في وسط مدينة إدنبرة في Buccleuch Place، والمستشفى Royal Infirmary قريب من شقتنا، وهكذا وصلنا....



المهم في نهاية الطريق ...وصلنا، وحين آن أوانُه.. ووصل عمر إلى هذه الدنيا، كان مما لاحظتُه بعد ولادته أنهم يُحضِرون الطفلَ إلى الأم ليكون بجانبها فوراً، دون غسيل وكما خلقه الله، ويبقى إلى جانبها طوال الوقت، بعكس ما كان في بلادنا حيث يحتفظون بالطفل في الحاضنة المخصصة للأطفال ويأتون به للأم بين الحين والآخر، نظيفاً ومغسولاً وفي ثياب خاصة، وربما يكون ذلك من أجل راحتها بعد عناء تلك العملية الشاقة. ولكن هذه كانت نقطة ملاحظة!
ويحضرني كذلك شغفُ الممرضات بعملهنّ؛ فهنّ صبورات.. ويُحــبِـبْنَ عملهن، وأنت تشعر بذلك من اهتمامهن الزائد بالطفل القادم، فالعامل هناك لا يعمل إلا في مهنة يحبها ولا توجد ثقافة عيب فيما يخص المهن، يطبقون قول عمر بن الخطاب:"أرى الرجل فيعجبني، فإذا قيل لاصناعة له سقط من عيني".
ولأن أطفالي دائما لديهم شعر على رؤوسهم وعيونهم حين يولدون ولأن الممرضات هناك شقراوات.. فإنهن أبديْنَ إعجاباً زائداً برموش عينيه، وكنَّ في الجيئة والذهاب يقلن له: Oh! lashes eyes!!
..ثم كان الخروج من المستشفى بعدها، وكان من ضمن إجراءات الخروج أن قدموا لي حقيبة هدية احتوت عينات تجارية مجانية لمستلزمات الأطفال والأم... ولم تكن الهدايا عينية فقط بل كانت هناك مفاجأة جميلة: مجموعة من الكتب وقصص الأطفال، وهدية أخرى هي بطاقة عضوية مكتبة للصغير في مكتبة المدينة!
... طوال عمرنا في العالم العربي نربط المكتبة بالهدوء، في المكتبة يرجى الهدوء. فهل يعقل أن نتصور: (طفل صغير في مكتبة)؟!! حتى في مكتبة الأطفال! لا لا!!!، فهذا لا يعقل في تصوراتنا.
بينما ... حتى مكتبة الكبار هناك يسمحون لك فيها باصطحاب الأطفال والعربات إلى داخل المبنى .. ولكن بطبيعة الحال أنت لن تذهب إلى المكتبة بصحبة طفلك إلا إن كنتَ مضطراً لذلك، لذا فلا بأس برفقة الأطفال لإرجاع كتاب مثلاً أو استعارة آخر، كي يعتاد على أجواء المكتبة.
كانت تلك التجربة – مكتبة الأطفال- من أجمل التجارب وأكثرها إثارة في إدنبرة. لكني لم أتمكن من اصطحاب طفلي إليها إلا بعد عدة أشهر، حتى استوعبت الفكرة!.
ومن التجارب التي تعيشها الأمهات العربيات في الدول الأوروبية تجربة الرعاية الصحية اللاحقة في البيوت؛ فنحن قد اعتدنا في بلادنا العربية - بحمد الله - على أن تُولي العائلةُ الممتدة الأمَّ الجديدة الرعاية اللازمة؛ فالأهل ينتظرون الحفيد القادم، والكل متأهب له، تغمرهم الفرحة بمقدمه، ولهذا يُعِـدُّون العدة لاستقباله، كما يلزم.. ومن ضمن ذلك الرعاية بالأم الجديدة.
لكنْ في تلك البلاد ليس لديهم مثل هذه الطقوس الاجتماعية الاحتفالية إلا على نطاق ضيق ربما، لكنهم تبنوا نظاماً شبيهاً يقوم مقام رعاية الأسرة الممتدة للأم الجديدة، خاصة مع وجود نسبة جيدة لديهم من الأمهات العازبات.
كان نظام القابلة Midwife التي تزور الأم الجديدة لعشرة أيام عقب وضعها طفلها- فكرة جميلة، وقد أعجبتني كثيراً وساعدتني على تجاوز بعض القلق تجاه صغيري؛ فقد كنتُ عشتُ من قبل تجربة الوفاة المفاجئة لطفلي الثاني، لذا كنت أتفقد عمر الصغير كل لحظة حتى أطمئن أنه على قيد الحياة، وأحاول الانتباه إلى كل صغيرة وكبيرة تمس لونه أو أنفاسه أو حركاته... وهكذا وفّرت زيارتها لي في تلك الأيام نوعاً من الاطمئنان، حتى مرت على ما يرام، وتجاوزتُها ...
وتستمر الرعاية لديهم بإرسال ممرضة الحي لزيارة الأمهات في البيوت ومتابعة النمو العام والمشكلات التي قد تواجههن مع أطفالهن، وقد كانت هذه تجربة مفيدة لي، وممتعة وجديدة.
أما مكتبة الأطفال فأعود إليها ثانية... فحين اشتد عود طفلي الصغير أخذت معي الأشياء التي كانت في حقيبة الهدايا: بطاقة المكتبة والأوراق التعريفية بالمكتبة وطلب الاشتراك.. سرتُ وفق الخريطة ووصلتُ المكان.. لأجد أن مكتبة الأطفال تلك هي جزءٌ من المكتبة العامة: غرفة معقولة الحجم، تقع في جزء خارجي ملتصق بالمبنى حتى يسهل الدخول إليها من الرصيف فوراً، لا درجات ولا سلالم؛ لتتمكن الأمهات من إدخال عربات الأطفال معهن، وكان هذا أول ما لفت نظري، فإذا صرنا في داخل القاعة، وجدتها منسقة بحيث توائم احتياجات الأطفال: الرفوف مليئة بالقصص والكتب والمجلات لمختلف الأعمار، وركن صغير يمكن للأهل فيه اختيار بعض الكتب للقراءة في أثناء انشغال أبنائهم في المكتبة.
وفي الوسط صناديق ملأى بالكتب القماشية والأوراق والألوان للأطفال الرضّع وفي سن ما قبل المدرسة الذين لا يعرفون القراءة، لكن هذه الأشياء تجعلهم يألفون الكتب ويأنسون بها.
ثم ركن صغير كذلك لهم للألعاب.. فالأطفال أطفال ...حتى في المكتبة..وهم بحاجة إلى اللهو، واللهو جزء أساسي من تركيبتهم. ومهم من أجل نموهم.
أعجبتني المكتبة وبقيتُ أجد فيها متعةً لي ولأطفالي لسنتين قادمتيْن هناك...رغم الأجواء الباردة أحياناً, وقد علمتني وعلَّمتْهم الكثير، ألجأ إليها معهم في زيارة أسبوعيا تقريباً، أجد فيها عزاءً عن القيود التي فرضتْها عليّ الإقامةُ في بلادٍ لا أجد فيها من يعتني بأطفالي غيري، مما جعلني مقيدة عن الخروج إلا برفقتهم. 
....هذه كانت بعض المعاني التي عشتُها أُمّاً عربية في دولة أوروبية، تجارب جديدة لم أمرّ بها من قبل في بلادي، بقيتْ في نفسي منها ذكرياتٌ حلوة أحببتُ أن أشارككم بها.

وهذه بعض الصور لمكتبة إدنبرة للأطفال بعد تجديدها في 2014



الجمعة، 23 أبريل 2010

الموشحات الأندلسية مسموعة لا مقروءة

منشور: في الملحق الثقافي جريدة الدستور الأردنية  23/4/2010

https://www.youtube.com/watch?v=13BPG5451Kc

سبحان الذي علَّمنا منطق الألحان، وأنعم علينا بمتعة السماع...وبعد، فما زال للموسيقا سحر خاص يفتن، ونشوة غامضة تننتشي لأجلها الروح، ولقد مرَّ حديثُ الموشحات الأندلسية على كثير منا في أثناء دراسة الأدب العربي، وما بقي في النفس من ذلك الحديث خلاصةٌ: أن الموشحات تجديد شعري وغنائي وموسيقي ابتدعه أهل الأندلس في القرن الرابع الهجري استجابة لظروف خاصة بهم زمانياً ومكانياً. وقد وجدنا أصداء هذا التجديد الأندلسي العبقري تتردد في المشرق العربي، حين انتقل ذلك الفن إلى هناك، وأصبح مَعْلَمةً لا تُنكر في صرح الموسيقا العربية.
لكن الذي ما فتئ يخطر في البال منذ أقدمتُ – بحكم المهنة- على تدريس بعض الموشحات الأندلسية هو: لماذا لا ندرِّس تلك الموشحات مسموعة؟! فماذا تنفعنا تلك الصفحات الملأى بأنواع الموشحات وأقسامها وأوزانها...وغير ذلك من قضايا، إزاء دقائق معدودة نقضيها في الاستماع إلى الموشحات مغناة بصوت عذب ترافقه الألحان الأندلسية المتميزة الإيقاعات؟
كنتُ أنفق حصة كاملة أقتطعها من جدول زمني لا يكاد يكفي لتدريس منهج اللغة العربية على النحو المطلوب؛ لأجعل طلبتي يستمعون - قبل الشروع في تدريس موضوع الموشحات- إلى بضع مقطوعات موسيقيية عثرتُ بها على إحدى المحطات الإذاعية العربية التي تبث من باريس، وقُدِّمت في الإذاعة على أنها نماذج مستوحاة من موسيقا زرياب الأندلسية، فقمتُ بتسجيلها وتقديمها للطلبة.
ولم أفهم وأنا أخوض التجربة كيف أن أساتذتنا، على ما لهم في قلوبنا من منزلة واحترام، كيف قاموا بتدريسنا موضوعاً كمثل الموشحات الأندلسية دون أن يفكر أحدهم في أن يُسْمِعنا شيئاً من الموشحات والأزجال الأندلسية المؤداة على نحو مخصوص على أنغام الموسيقا الأندلسية. ربما يكون ذلك من باب ركونهم إلى ما شاع بين أهل المشرق وعرفوه مما غَـنَّت فيروز من ألحان الرحابنة وغنّاه غيرها من المطربين من الموشحات الأندلسية، وأشهرها "يا زمان الوصل بالأندلس".
وبحكم الإقامة في المشرق العربي لم أزل بعيدة عن معرفة التراث الأندلسي الغنائي الذي ما زال حياً، والذي يحافظ عليه حتى اليوم عشاقُ الطرب الأندلسي في بلاد المغرب، ويتناقلونه جيلاً فجيلا، إلى أن حانت فرصة معرفة هذا الفن على نحو آخر حين أتاح تقدم وسائل الاتصال والإعلام -كالقنوات الفضائية مثلاً- في مشارق الأرض ومغاربها أمام الجمهور عرض الثقافات والفنون المتنوعة للأمم والشعوب، كان منها عرض مجالس غنائية للطرب الأندلسي على التلفزة المغربية تحديداً، وقد أثارت هذه المجالس إعجابي وكانت فاتحة عهد جديد لي مع الموشحات والأزجال الأندلسية، جعلتْني أراها كما لو أنني أسمع بها للمرة الأولى.
وازداد تعلقي بهذا الفن حين عَرَضت الوسائطُ الأخرى –كالإنترنت- تلك المجالسَ عرضاً جديداً لما كنا نسمع به، ولما كنا نقرؤه وندرسه مما يسمى الموشحات الأندلسية، وكانت شيئاً غير ما ألِفَه أهلُ المشرق من موشحات أندلسية أدّاها المغنّون المشارقة؛ فالموشحات المغنّاة في المشرق كانت توقَّع على أنغام وألحان لا تشبه تلك الألحان التي ابتدعها الأندلسيون خصيصا لتلك الموشحات، ولم تتشابه الإيقاعات المشرقية في أداء هذا الفن مع الموسيقا الأندلسية بإيقاعاتها وألحانها وآلاتها ومجالسها...التي كان قد وضع أسسها الأولى عبقري الأندلس زرياب - من أهل القرن الثالث الهجري- الذي طبقت شهرته الآفاق، وما زال تجديده الموسيقي هو سر هذا الفن الفريد؛ فقد "أورث [زرياب] بالأندلس من صناعة الغناء ما تناقلوه إلى أزمان ملوك الطوائف، وطما منها بإشبيلية بحر زاخر.."، على حد قول ابن خلدون في (فصل صناعة الغناء).
https://www.youtube.com/watch?v=PNJo23qbMgI

فالموشحات المؤداة في المشرق تختلف اختلافاً واضحاً عما يؤدَّى في المغرب في هذا الباب؛ إذ تمتاز مجالس الطرب الأندلسي في المغرب بأن الموشحات فيها تؤدَّى بمرافقة الألحان المحفوظة والمتوارثة لدى أجيال أحفاد الأندلسيين ومن سار على خطاهم في حب هذا الفن، وهي تمتاز كذلك بأجواء خاصة ليس لأهل المشرق عهد بها: فأجواء مجالس الطرب الأندلسي خاصةٌ ومميزة، ابتداء بالمكان وليس انتهاء بأدق التفاصيل لدى المؤدّين والمؤديات من المغنين والعازفين والمردّدين جميعا: إذ يظهر أفراد الجوق (المجموعة الغنائية) بملابسهم المغربية التقليدية: الجلابة والطربوش والبلغة (الخُفّ) للرجال، و(التكشيطة) والقفطان الحريري للسيدات، وهذا تقليد متّبع حتى اليوم لكون هذا النوع من الغناء ارتبط سابقاً بأهل التصوف الذين كان منهم بعض العلماء والفقهاء والأدباء..ممّن تعاطوا غناء الموشحات الدينية، فظلّ طابع الوقار يلفّ مظهر مَنْ يغني الموشحات والأزجال الأندلسية حتى اليوم، وإن كانت كلماتها أحياناً بعيدة بعداً كبيراً عن مظهر مَنْ يغنّـيها.
ويجلس الجوق الغنائي في قاعة فسيحة تزدان فضاءاتها بالزخارف الفنية ذات الطابع الأندلسي الرفيع، وتمتد أمامهم السجاجيد الحمراء ذات النقوش الخاصة، المنتشرة في المجالس التقليدية المغربية، وربما تترقرق المياه في نافورة واسعة تناثرت على صفحاتها أوراق الورد. ويجلس أعضاء الجوق الغنائي جميعاً على مقاعد تُصّفُّ على نحوٍ معين، يحمل كلٌّ منهم آلته الموسيقية بيديه، الآلات الوترية منها والإيقاعية، ومنها: الكمان الذي يوضع على الفخذ على هيئة مخصوصة لا على الكتف، مخالفين بذلك ما اعتاده أهل المشرق .
وتستوقف عينَ الملاحِظ لهذه المجالس أن أعضاء الجوق يكونون عادة متفاوتين في أعمارهم: فتجد فيهم الطفل والشاب والرجل والكهل والعجوز والفتاة المليحة والمرأة الحسناء والمرأة العجوز، يجمعهم - على اختلاف مقاديرهم من الحياة- حبُّ الموسيقا الأندلسية وروعة الموشحات والأزجال.
كما أن جمهور حفلات الطرب الأندلسي التي يبثها التلفاز يستحق هو الآخر وقفة؛ فالناظر إلى جمهور تلك المجالس  الطربية يلمس بعينيه مدى تفاعل هؤلاء مع تلك النغمات الرائعات والأصوات العذبة الشجية والأداء الساحر الذي يأخذ بالألباب، يرددون على قلب رجل واحد كلمات الموشحات المغناة على طولها بلا كلل، حتى لتكاد قلوبهم تطير من نشوة الطرب، فترى عياناً ما كنتَ تقرؤه في الصفحات الكثيرات عن شيوع مجالس الطرب في بلاد الأندلس واعتياد الناس ارتيادها، ودَوْر ذلك في ازدهار فن الموشح والزجل الأندلسي وانتشارهما على كل صعيد بين الخاصة والعامة؛ كالقصة المعروفة التي تُروى عن ابن تِيفَلْويت "ملك سرقسطة" وممدوح الفيلسوف وصاحب التلاحين ابن باجة، إذ حضر ابنُ باجة مجلسَ ابن تِيفَلْوِيت، فغنَّت إحدى قيناته موشحة ابن باجة:
"جرر الذيل أيما جرِّ   وصل الشكر منك بالشكر"
فطرب الممدوح لذلك لما ختمها الشاعر بقوله : "عقد الله راية النصر   لأمير العلا أبي بكر" فلما طرق ذلك التلحين سمْعَ ابن تيفلويت صاح :واطرباه، وشقَّ ثيابه، وقال: ما أحسن ما بدأت وما ختمت، وحلفَ بالأَيْمان المغلَّظة لا يمشي ابن باجة إلى داره إلا على الذهب. فخاف الحكيم سوء العاقبة فاحتال بأن جعل ذهباً في نعله ومشى عليه.
وتجدر الإشارة إلى أن بعض الناس في عصرنا الحديث ربما فاتته لسبب أو لآخر فرصة أن يشنف آذانه بأصوات المغنين في مجلس حقيقي، ليس عن طريق الاستماع إلى تسجيلات إذاعية كانت أو تلفازية، فللأصوات الغنائية وللأنغام الموسيقية مذاق ساحر إذا سمعتْها الأذنُ دون مكبرات الصوت أو غيرها من أدوات التوصيل الإذاعي أو الفضائي، وهي تُحدِث في النفس أثراً يفوق بمرات ما يُحدِثه الاستماع إلى الأنغام والألحان والأصوات نفسها بالوسائط الإعلامية المتنوعة.
وقد يكون هذا من جملة الأسباب التي تقف وراء تلك القصص التي رُويت عن أهل الأندلس وعن مبلغ تأثرهم بالموشحات الأندلسية حين تُغَنَّى، وهي التي ما نشأت إلا لحاجة غنائية اقتضتْها ظروف الغناء في الأندلس وأجوائه والحاجة إلى تنويع القوافي والألحان والأوزان..وهو الجانب الأحرى أن ينال الاهتمام حين تدرَّس الموشحات الأندلسية، لذا فلا مناص من دراسة الموشحات والأزجال الأندلسية مسموعة لا مقروءة فقط، لأجل الوقوف على جماليات هذا الفن الفريد، وتنمية الذائقة الموسيقية، وتحقيق المتعة مجسَّمة في ألحان وكلمات وإيقاعات تمتلك الوجدان. فقد أسرف الباحثون في دراستهم الموشحات الأندلسية على أنه فن شعري حين حاولوا أن يُجروا عليه ما يجري على الشعر الموزون من ضوابط، فما نفع ذلك تماماً في حسم مسائل عديدة حول  ذلك الفن ما زالت محل خلاف بين المهتمين، وربما كان للمسألة وجه آخر لو أنهم أعاروا مسألة غناء الموشحات وألحانها قسطاً من عنايتهم، فالموشح ببساطة أغنية، والأغاني تُسمع بالدرجة الأولى ولا تقرَأ فقط.
ومما يعزز هذا أن ابن سناء المُلْك - من أهل القرن السابع الهجري - الشاعر المصري الذي أخذت منه الموشحات كل مأخذ وملكت عليه حياته وجنانه، الذي أقدم رائداً على تقعيد هذا الفن حين أهمل ذكرَه الأندلسيون، فوضع كتابه "دار الطراز في عمل الموشحات"، إن ابن سناء هذا -وإن لم يكن قد صرَّح أو اعترف في كتابه هذا أنه حضر مجالس الموشحات الأندلسية التي هام بها، إلا أن الناظر في "دار الطراز" وفي محاولته تقعيد هذا الفن ومحاكاته- لا يمكن إلا أن يقول إن ابن سناء قد سمع الموشحات الأندلسية مغناة، وليس فقط أنه قرأها في دواوين أصحابها وفي الكتب التي أتت على ذكرها. فقد أُغرم ابنُ سناء بهذا الفن حين كان صغيراً؛ إذ يقول في مقدمة كتابه: "...فكنتُ في طليعة العمر وفي رعيل السن قد هِـمْتُ بها [الموشحات] عشقاً، وشُغِفْتُ بها حباً، وصاحَـبْـتُها سَماعاً، وعاشرتُها حفظاً...ولبثتُ فيها من عمري سنين..". (ص30).
ولو قُدِّر لابن سناء أن يعيش في عصرنا هذا، عصر التسجيلات المتعددة الوسائط مرئية ومسموعة، لكان استمتع بسماع الموشحات في كل حين؛ وذلك لأننا نشعر بالحسرة في كلماته حين اعتذر لقارئه عن أي نقص قد يصيب كتابه : "...فاعذر أخاك فإنه لم يولد بالأندلس، ولا نشأ بالمغرب، ولا سكَنَ إشبيلية، ولا أرسى على مرسية، ولا عبر على مكناسة، ولا سمع الأرغن....ولا وجد شيخاً أخذ عنه هذا العلم، ولا مصنَّفاً تعلَّم منه هذا الفن..." (ص53). وهذا يعني أن الموشحات الأندلسية خُلقت لتُغَنّى أولاً، على الرغم من أن إنشاءها يأتي قبل غنائها.
ويعزز هذا أيضاً أن ابن بشري الأغرناطي - من أهل القرن الثامن الهجري- الذي جمع مجموعة موشحات أندلسية تناهز ثلاثمائة موشح، حفظتْها لنا يد الزمان في كتابه "عُدَّة الجليس ومؤانسة الوزير والرئيس"، قال في الخطبة القصيرة التي صدَّر بها كتابه عندما تحدث عن دوافعه لجمع الموشحات الأندلسية: "...فإني لم تزل تتوق هِـمَّتي وتستدعيني على طول المدى عزيمتي إلى تصنيفِ تأليفٍ يشتمل على ما استعذَبَـتْه المسامع، وإنْ أرهف الأفئدة وأسالَ المدامع، من  مختار ما سمحتْ به قرائحُ أرباب الأذواق من مهذِّبي الطِّباع الطيّـبـي الأخلاق، من التوشيحات التي تصبو لها الألباب، وتفتح على باب السرور كل باب، وتستلب من أعماق الأفئدة كلَّ همٍّ كمَن، وتصقل عنها كلَّ صدى [كذا] استحكم أو درن، بلفظٍ أوْقَعَ في الآذان من الزلال البارد للظمآن..."، بما لا يدع مجالاً للارتياب في أن ارتباط الموشح بالموسيقا والألحان وثيق جداً، وأن وظيفة الموشح الأساسية التي خُلِق من أجلها هي الغناء والسماع، فالموشح أغنية قبل أن يكون شيئاً آخر.



السبت، 10 أبريل 2010

أمر محزن أن نضطر إلى التفكير بحماية اللغة العربية




رشا الخطيب : أمر محزن أن نضطر إلى التفكير بحماية اللغة العربية!

* اعداد : موسى حوامدة

باحثة أردنية مقيمة في الإمارات ، حاصلة على دكتوراه في اللغة العربية عن أطروحة بعنوان: "الأدب الأندلسي في الدراسات الاستشراقية البريطانية" ، عملت في تدريس اللغة العربية في الأردن وبريطانيا والإمارات. لها: "تجربة السجن في الشعر الأندلسي" ـ 1999 ، وعدد من البحوث والمقالات في دوريات مختلفة.


ماذا تقرئين حالياً؟


- أنهيت رواية سلام (بتشديد اللام) لهاني نقشبندي ، وهي تطرح بعض الأسئلة حول وجود المسلمين في الأندلس ، أسئلة ربما تكون معروفة ومشروعة لدى الباحثين في التاريخ والتراث الأندلسي ، لكنها أحدثت حيرة واستفزازاً لدى بعض القراء والنقاد حين نُشرت الرواية سنة ,2008


هل تشاهدين السينما أو المسرح؟


- السينما نعم ، المسرح لا ، فمنذ زمن لم أتابع على خشبته إلا الحفلات الموسيقية والغنائية ، منها يوم 25 ـ 3 حفل فرقة "أغاني العاشقين" على المسرح الوطني في أبوظبي ، ويوم 7 ـ 4 الحفل الموسيقي للفنان العراقي نصير شمة على العود بمرافقة الأوركسترا من مصر ومن سويسرا ، على مسرح قصر الإمارات.


ما الذي يشدّك في المحطات الفضائية؟


- من قبل كانت تشدني البرامج الحوارية ، أما الآن فتشدّني البرامج الوثائقية الاحترافية ، خاصة ذات المواضيع التاريخية ، على قناة الجزيرة الوثائقية وقناة "ناشيونال جيوغرافيك" أبوظبي ، وبرامج عن المدن الإسبانية على قناة "سفن ستارز" الأردنية. هذا بالتأكيد إلى جانب الفضائية المغربية الثانية "دوزيم" ، ولا أستغني فيها عن برنامج الطبخ المغربي الشهير - بالنسبة لي على الأقل - (شهيوات شميشة) وبرنامج (شذى الألحان) للموسيقا والطرب الأندلسي والمغربي.


ماذا تكتبين هذه الأيام؟


- حالياً أعمل على إعداد بعض البحوث عن الأندلس والاستشراق ، كما أعمل على الانتهاء من تنقيح أطروحة الدكتوراه لدفعها إلى المطبعة لتصدر في كتاب ، عما قريب إن شاء الله.


ما الذي أثار استفزازك مؤخراً؟


- يثير استفزازي في بلادنا العربية إهمال الطفل في الأنشطة العامة والثقافية التي يمكن للأمهات أن يشاركْن بحضورهن فيها: فكثير من الأمهات لا تجد في تلك الفعاليات مَن يفكر بأنّ لها أطفالاً قد لا يتوافر لديها مَنْ يعتني بهم ، فتُحجًم بسبب ذلك عن الحضور: في حين أن الفعاليات الترفيهية والاستهلاكية تفكر بالطفل أولاً وثانياً وإلى ما لا نهاية: مستهلًكاً وجاذًباً للأمهات وللآباء للمشاركة في حضور تلك الفعاليات ، كمثل معارض الكتب التي أصبحت تخصص جزءاً جيداً لاحتياجات الأطفال الاستهلاكية والترويحية ، فلماذا لا تتوافر مثل هذه التسهيلات في بعض الفعاليات الثقافية الجادة لتتمكن الأمهات من حضورها،


حالة ثقافية لم ترق لك؟


- استهزاء بعض حملة الشهادات والمناصب المهمة بالتظاهرات الثقافية الجادة كبعض المؤتمرات والندوات... وغيرها من المنتديات العامة ، التي يأمل المشاركون فيها عادةً بتنفيذ التوصيات التي يسعون بصدق لكي ترى النور.


حالة أو موقف أعجبك؟


- انخراط الشباب من طلبة الجامعات والمدارس في الأنشطة التطوعية المتعددة: التي تُغني تجربتهم الشخصية وخبرتهم في الحياة الحقيقية ، خارج مقاعد الدرس وبعيداً عن شاشات التلفزيون والكمبيوتر.


ما هو آخر نشاط إبداعي حضرته؟


- حفل توزيع جائزة "البوكر" للرواية العربية الشهر الماضي ، التي فاز بها السعودي عبده خال عن روايته"ترمي بشرر".


ما هي انشغالاتك الاجتماعية؟


- على الصعيد الخاص: الواجبات العائلية المعتادة ، وتبادل الزيارات مع الأصدقاء. وعلى الصعيد العام: الانضمام إلى جمعية حماية اللغة العربية ، وهذا الأمر في جوهره مفارقة محزنة: حين نضطر في دولة عربية وأهلها عرب إلى التفكير بحماية اللغة العربية،


فرصة ثمينة ضاعت منك؟


- فرصة إكمال الدراسات العليا فور التخرج في البكالوريوس.


ما الذي يشغل بالك مستقبلاً؟


- ليس هناك شيء محدد ، فالمستقبل آتْ سواء انشغلنا به أم لا ، ولكن ربما تكون مسألة ضمان حياة أفضل لأولادنا - أولوية مهمة.


هل لديك انشغالات وجودية؟


- يشغلني كثيراً التفكير في شكل العالم المستقبلي - البشري والطبيعي - في ضوء كثير من الإشارات والأحاديث النبوية عن نهاية الكون والقيامة ، وأربطها بما أستطيع أن أجد له تفسيراً في واقعنا الآن ، أو بما يجود به خيالي عن المستقبل.


ما الذي ينقص الثقافة العربية؟


- الجدية ، وثقافة الـ "ثقافة" ، أي أن تكون الثقافة والحضارة العربية أسلوب حياة ونمطاً اختيارياً يُقبًل عليه الناس.


ما الذي ينقصنا في الأردن على الصعيد الثقافي؟


- تنقصنا أشياء كثيرة ، ربما يكون أحدها: أخذ العمل الثقافي ـ بمستوياته جميعها ـ على محمل الجد.


رابط اللقاء المنشور في جريدة الدستور الأردنية:

السبت، 13 فبراير 2010

فضل الاستشراق الهولندي على الدراسات الأندلسية


منشور في جريدة الدستور الأردنية (الملحق الثقافي)، الجمعة 12/2/2010
د.رشأ الخطيب

لم تكن الدراسات الأندلسية التي نراها تزدهر يوماً بعد يوم وتلقى اهتمام الباحثين – على هذه الحال دائما؛ إذ يلاحظ أن ثمة فجوة تفصل بين ما صُنِّف حول التراث الأندلسي وبين الدراسات الحديثة التي قامت فيما بعد تعالج المنجز الحضاري للعرب والمسلمين في الأندلس، أو ما اصطلح المستشرقون على تسميته "إسبانيا الإسلامية"، فهناك حلقة مفقودة كان ينبغي لها أن تربط بين تأليف "نفح الطيب" في القرن السابع عشر، وبين نشر متون التراث الأندلسي ومصادره الأخرى وطباعتها على يد المستشرقين في القرن التاسع عشر.



قد يكون "نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب" للمقّري التلمساني (ت1041هـ/1631م) آخر المؤلفات التي وُضعت عن الأندلس في المدة الواقعة بين بقايا العصور المزدهرة للحضارة العربية الإسلامية وبين بدايات النهضة الحديثة في القرن التاسع عشر، وقد انتهى المؤلف من تصنيفه في حدود سنة 1628، ولا نكاد نلمح في القرون التالية لتأليف النفح عملاً يوازيه بناء ومضموناً في دراسة تراث الأندلس الحضاري المتعدد الجوانب؛ إذ توقفت دراسة التراث الأندلسي أو كادت حتى استأنفها المستشرقون، بعد نحو قرنين من وفاة المقّري.


ويشغل "نفح الطيب" منـزلة مميزة في التأريخ للدراسات الأندلسية في العصر الحديث؛ فقد فتحت معرفتُه والاطلاع عليه البابَ أمام الباحثين في تراث الأندلس فكان هادياً ومرشداً لهم في كثير من المسائل المتصلة بتاريخ الأندلس والحركة الأدبية والفكرية والثقافية فيها، كما كان أول كتاب أندلسي عرف طريقه إلى المطبعة في العصر الحديث في ديار المستشرقين أولاً ثم في البلاد العربية.

وإذا ما ساد الاعتقاد بأن جُلَّ ما بقي من التراث الأندلسي المخطوط -بعد سقوط دولة المسلمين في الأندلس- الذي تُحكِم إسبانيا عليه قبضتَها، سيجعل مستشرقي هذا البلد أَوْلى من غيرهم بفتح باب الدراسات الأندلسية على مصراعيه في العصر الحديث– فإن خيبة الأمل كبيرة؛ إذ قد كانت بدايات الدراسة العلمية المنظمة للتراث الأندلسي قد بدأت في القرن التاسع عشر في هولندا لا في إسبانيا؛ وذلك لعوامل عديدة تتصل بنشأة الدراسات العربية في البلاد المنخفضة وبنشاط المستشرقين في جامعاتها.

كان الهولندي هندريك فايِرْس (ت1840) قد نشر في ليدَن سنة 1830 أطروحته الجامعية التي جمع فيها بعض شعر ابن زيدون من المصادر الأندلسية والعربية المحفوظة في مكتبة جامعة ليدَن، وقد حقّق ذلك الشعر وترجمه إلى اللاتينية، وكان هذا الأستاذ يمضي وقتاً طويلاً مع طلبته في الجامعة يتلو على مسامعهم شعر ابن زيدون وأشعاراً أندلسية أخرى، أتاحتْها له وفرة المخطوطات العربية في مكتبة ليدَن، راجياً أن يكون من بين تلاميذه من يلتفت إلى هذا الشعر الرقيق، لكن لم يطل به العمر حتى فارق الحياة قبل أن يتمّ الأربعين.

وكان من بين أولئك التلاميذ الذين عرفوا الأدب الأندلسي على يديه الشاب هوغفليه Hoogvliet الذي نشر كتاباً سنة 1839 عن بني الأفطس حكام بطليوس بتشجيعٍ من أستاذه، ثم عكف على دراسة رثاء ابن عبدون لبني الأفطس في قصيدته المعروفة بالبسامة، لكن هذا التلميذ توفي ولمّا يبلغ الحادية والثلاثين.

وإذا كانت الدراسات الأندلسية في هولندا قد ابتُليت في بداياتها بوفاة المهتمين بها وهم في خطواتهم الأولى نحو إزالة الغبار عما تراكم من تراث المسلمين في الأندلس، فإن القدر لم يحرم عالَم البحث العلمي في التراث الأندلسي من التلميذ الثاني لفايِرْس الذي سيقيم أركان هذا الميدان، ليس في هولندا وحدها وإنما على مستوى أوروبا والعالم.

كان ذلك التلميذ رينهرت دوزي (ت1883) ، وقد كانت ميوله تجاه دراسة الرومانسية ودراسة أوروبا العصور الوسطى قد تحققت معاً في مجال دراسة "إسبانيا الإسلامية"، التي كانت تغلّفها أوائل القرن التاسع عشر الصبغة الرومانسية بتأثير بعض الكتّاب أمثال: شاتوبريان في روايته "مغامرات آخر أحفاد بني سرّاج"، وواشنطن أرفينج في روايته "الحمراء".

درَس دوزي على أستاذه فايِرْس وهو الذي عرّفه على المخطوطات العربية في مكتبة جامعة ليدَن حيث كان يعمل مديراً لقسم المخطوطات العربية فيها، وقد دفعه أستاذُه إلى البحث في تاريخ بني عبّاد حكّام مدينة إشبيلية، وكان دوزي موفّقاً في هذا الاختيار فأنجز أطروحته الجامعية عن تاريخ بني عباد واستكمل البحث في الموضوع حتى نشره سنة 1846 بعنوان "أخبار بني عبّاد عند الكتّاب العرب"، ثم انبرى هذا التلميذ النجيب وأتمّ تحقيق القصيدة البسامة لابن عبدون التي كان زميله قد بدأ في دراستها من قبل.

كان دوزي مجتهداً ومتعدد الاهتمامات، حتى إنه أنفق بعض أوقاته في شهر العسل الذي كان يمضيه في ألمانيا- يبحث في مكتباتها ويقلّب المخطوطات العربية فيها، وقد اكتشف من بينها كتاب "الذخيرة" وهو من المصادر الأندلسية المهمة. وألفى نفسه يؤسس لميدان الدراسات الأندلسية بالعديد من الإنجازات، كان من أهمها: العمل على تحقيق بعض المصادر الأندلسية المخطوطة ونشرها للمرة الأولى، وهي من المصادر التي لا غنى عنها للمبتدئ وللمتخصص في الأندلس، وقد اجتمع له من العمل فيها مادة غزيرة لم تتح لغيره من قبل في هذا الباب، أغنت مقالاته وبحوثه التي عالج فيها تاريخ المسلمين وحضارتهم في الأندلس.

وقد تجلت ثمرة جهود دوزي –بغضّ النظر عن آرائه المثيرة للجدل- في كتابه "تاريخ مسلمي إسبانيا"، وهو من الكتب "الكلاسيكية" في مجاله، كان قد نشره سنة 1861 باللغة الفرنسية، وطُبع أكثر من عشرين مرة حول العالم، وتُرجم إلى لغاتٍ عديدة، العربية واحدة منها.

ومن بين المستشرقين الهولنديين الذين كانت لديهم اهتمامات بجوانب من التراث الأندلسي ميخائيل دي خويه (ت1909)، الذي اشتهر بعمله على إخراج مجموعة من المصادر عُرفت بـ"مكتبة الجغرافيين العرب". وكان من جهوده فيما يتصل بالتراث الأندلسي– عمله مع أستاذه دوزي سنة 1866 على إخراج قطعة من "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق" للشريف الإدريسي (ت560هـ/ 1166م)، وفيها القسم الخاص بإفريقيا والأندلس، مع ترجمة إلى الفرنسية. ونشْره سنة 1897 "صلة تاريخ الطبري" لعَريب بن سعد القرطبي (ت370هـ/980م)، الذي اختصر فيه تاريخ الطبري وأضاف إليه تاريخ المغرب والأندلس. كما أعاد دي خويه تحقيق رحلة ابن جبير (ت614هـ/1217م) التي كان الإنجليزي وليم رايت (ت1889) قد نشرها باللغة العربية سنة 1852 عن نسخة وحيدة في مكتبة ليدَن.

ومن الجوانب الأخرى التي شجّعت على الاهتمام بالدراسات الأندلسية في هولندا: اقتناء المخطوطات العربية ومن بينها الأندلسية؛ الذي ابتدأ أواخر القرن السادس عشر مع العناية بتدريس اللغة العربية إبّان تأسيس جامعة ليدَن سنة 1575.

فقد كان الحرص على اقتناء المخطوطات العربية من الأعمال التي نفذها مجموعة من المستشرقين الهولنديين -الذين أقام بعضهم في المشرق أو في المغرب- بالتعاون مع تجار المخطوطات الشرقية. وقد نشط هؤلاء المستشرقون في القرن السابع عشر على وجه التعيين؛ إذ تمكنت مكتبة جامعة ليدَن في ذلك القرن من اقتناء مجموعة مهمة من المخطوطات العربية، حققت لها سمعة علمية رفيعة على مستوى أوروبا وعلى مستوى العالم في مجال الدراسات الشرقية.

وتجدر الإشارة إلى أن هولندا تحتفظ بمجموعة من المخطوطات الأندلسية المهمة بعضها فريدٌ على مستوى العالم، فمكتبة جامعة ليدَن تضم النسخة الفريدة التي نعرفها لما وصل إلينا من كتاب "طوق الحمامة" لابن حزم الأندلسي (ت456هـ/1064م)، وهي إحدى المخطوطات في مجموعة ليفي فارنر (ت1665) الذي كان سفيراً لهولندا في القسطنطينية، وهو أحد تلامذة المستشرق الهولندي ياكوب خوليوس (ت1667) أستاذ العربية في ليدَن، وقد عمل فارنر في أثناء إقامته هناك على جمع ما أمكن من الكتب، كان من بينها نسخة الطوق التي اشتراها عام 1660 في القسطنطينية، وحين توفي وهَبَ مكتبته التي احتوت ألف مخطوطة شرقية- إلى مكتبة الجامعة.

وتضم المكتبة كذلك مجموعةً من مصادر التراث الأندلسي كانت موجودة في مكتبة ليدَن منذ القرن السابع عشر، وهي ثمرة لإقامة بعض المستشرقين الهولنديين في المغرب واتصالهم بأهله ، مثل أستاذ العربية في ليدَن توماس إربينوس (ت1624) الذي أمضى بعض الوقت يتعلم اللغة العربية ويعلِّمها –تعلمها على يد المغربي الأندلسي الموريسكي أبي القاسم الحجري- وقد جمع بعض الكتب العربية، المخطوطة، لكن مجموعته تلك لم تصل بكاملها إلى مكتبة ليدَن بعد وفاته بل أخذت طريقها إلى إنجلترا؛ حين اشترتها مكتبة جامعة كامبردج.

أما خليفته ياكوب خوليوس الذي اشترك في بعثة دبلوماسية إلى المغرب 1623 فقد استغل وجوده هناك في الحصول على بعض الكتب العربية، وتشير مراسلاته المحفوظة في مكتبة الجامعة مع بعض الوسطاء العرب من تجار الكتب، إلى الجهد والمال الذي أنفقه في سبيل الحصول عليها. وتحتفظ جامعة ليدن بمجموعته الشرقية في مكتبتها، ومن بينها مصادر أندلسية مهمة مثل: "قلائد العقيان" و"البيان المُغرِب"، أفاد منها في القرن التاسع عشر- دوزي ومن قبله أستاذه فايِرْس في البحوث الأولى التي أُنجزت في ميدان الدراسات الأندلسية في العصر الحديث.

وهكذا يتبين من النظر في تاريخ الاستشراق الأوروبي أن ميدان الدراسات الأندلسية الحديث يدين بالفضل في بداياته إلى جهود المستشرقين في هولندا؛ وكان مما أعانهم على هذا بعض العوامل منها: أن إسبانيا وريثة التراث الأندلسي ومهد ما بقي منه من شواهد وآثار- قد اتخذت موقف العداء الصريح والقطيعة التامة تجاه كل ما يذكّرها بماضيها حين كانت تحت حكم المسلمين، وكان من مظاهر تلك القطيعة التعتيم على التاريخ العربي الإسلامي فيها، لذا فإن إسبانيا لم تعتنِ بالتراث الأندلسي المحفوظ لديها إلا عندما نشطت الدراسات الأندلسية على يد مستشرقي الدول الأخرى.

ومن جانب آخر أتاحت ظروف التاريخ والجغرافيا لهولندا بعض العلاقات الدبلوماسية والتجارية النابعة من المصالح المشتركة- مع دولة المغرب؛ فقد جمع بين هولندا والمغرب عداؤهما المشترك لإسبانيا، التي كانت تحتل قسماً من الأراضي الهولندية، وفي الوقت نفسه تعادي المغرب جارتها اللدود على الضفة المقابلة للمتوسط، مما جعل التقارب ممكناً بين هولندا والمغرب، وقد تجلى هذا التقارب على صعيد العلاقات الدبلوماسية والتجارية بين البلدين، بما تتطلبه هذه العلاقات من الحاجة إلى زيارات أو سفارات متبادلة، والحاجة إلى مترجمين على دراية باللسان العربي واللسان اللاتيني. فكانت العلاقات بينهما سبباً قوياً في معرفة المستعربين الهولنديين المخطوطات المغربية التي ضمت جزءاً جيداً من التراث الأندلسي، وليس أدلّ عليها من صفحات أقدم وثيقة تؤرخ لبدايات الدراسات العربية في أوروبا وتحتفظ بها مكتبة ليدَن، وهي صفحاتٌ من معجمٍ عربي-لاتيني كان في مُلْك بعض المستعربين الهولنديين، وتظهر في تلك الصفحات صورة الكلمات العربية مكتوبة بالقلم المغربي لا المشرقي؛ مما يشير إلى أن مَنْ كتبها من الأوروبيين كان قد تعلّم الكتابة العربية على الرسم المغربي الأندلسي المعروف في المغرب، وهو قلم غير منتشر بين أوساط الكتّاب والنسّاخ في المشرق على نحو واسع.






الأحد، 31 يناير 2010

خطبة 3: المدينة

 
الخطبة (3) الهدف: نظِّم خطبتك
عنوان الخطبة: الـمديـنة
 
..استوقفني قبل أسابيع كاريكاتير يـجمع ما قلَّ ودلّ في مسألة تمسُّ حياة كثير ممن يعيشون في أبوظبي.. فيه يبدو الرجل منهكاً من البحث عن موقفٍ لسيارته، وفي نـهاية الأمر تقول له الزوجة التي تجلس إلى جانبه: خلاص، طلع الصباح، وصِّلْني عالشغل!!
هذه مسألة من مسائل عديدة تخطر في البال ونحن نتأمل أنماط السلوك الاجتماعي المختلفة حول العالم ؛ فلكل مدينة تحط فيها رحالك نمط حياة خاص بها، وإن نظرنا جيداً وجدنا أن هذه المسألة تتصل من ناحية أو أخرى بالأسلوب المعماري الذي تـمتاز به كل مدينة عن غيرها. فهل هناك ثمة صلة ما بين العمارة والبنيان من جهة والسلوك الاجتماعي من جهة أخرى؟
الجواب بطبيعة الحال لدى إخواننا المهندسين، وهو جواب أدق مما لديّ، لكنني لا أملك نفسي من أنقل إليكم خواطر كثيرة تعرض في خاطري تجعلني أفكر في هذه المسألة. وسأضرب بعض الأمثلة للتوضيح، فالمدن بشوارعها وطرقاتها وتوزيع مبانيها وتصميم منازلها...وغير ذلك، تفرض نوعاً من العلاقات الاجتماعية أو هي انعكاس لتلك العلاقات، ففي المدينة العربية مثلاً كان المسجد الكبير هو مركز المدينة تتوزع حوله الأسواق والأماكن الرسمية والإدارة الحكومية وحتى قصر الخليفة، ثم تتناثر منازل الناس في الضواحي والأطراف، وامتازت البيوت العربية بالأسوار العالية الجرداء والمظهر البسيط من الخارج بسبب دواعي الاحتشام الذي تفرضه التقاليد العربية والإسلامية؛ فليس هناك نوافذ كثيرة أو كبيرة تطل على الخارج إلا مرتفعة، وقد أدى ذلك إلى أن تتجه جماليات الزخرفة الفنية والزينة الإسلامية إلى الفضاء الداخلي للمنـزل؛ فامتلأ بالزخارف والنقوش والتشكيلات الفنية المتنوعة العناصر كالماء في الفوّارة ( النافورة، الفسقية ) والأصص الفخارية التي تحتوي النباتات والأزهار ...فعوَّضت هذه المبالغات الزخرفية والفنية في الداخل، الملامح الجرداء للمنـزل من الخارج.
في حين أنك تلاحظ في المدن الأوروبية البيوتَ الصغيرة المتلاصقة المتراصّة، التي فرضت نوعاً من السلوكيات بقيت شاهدة على ذلك التأثير المتبادل بين النمط المعماري والسلوك الاجتماعي؛ فأبواب البيوت ومداخلها الرئيسية متقاربة مما يخلق نوعاً من فضول الجيران تجاه جيرانهم، كما أن نوافذ البيوت -التي ربما كانت ملاصقة لرصيف الشارع أحياناً- تـمتاز في الواجهات الأمامية للبيوت بأنـها كبيرة الحجم ، وقد يكون ذلك طلباً للنور في بلادٍ تخجل الشمسُ فيها من الظهور كثيراً على الملأ ! فهم لا يتحرجون من أن تكون ستائر النوافذ رقيقة شفافة لا تمنع أعين المارة الفضوليين من اقتحام خصوصياتهم. كما أنهم لا يتحرَّجون من أن تكون نافذة الحمام واسعة وكبيرة تحتل واجهة المنـزل الأمامية – كما كانت حالي حين سكنتُ في شقةٍ أرضيةٍ في مدينة إدنبرة في أسكتلندا، وكانت واجهة الشقة ذات نافذة ضخمة للحمام على غير ما اعتدنا في بلادنا !
وكان لصغر حجم بيوتـهم أثرٌ في تصميم الأثاث بطريقة يُراعَى فيها استغلال المساحات الضيقة إلى أقصى درجة ممكنة، وتجدون الأمثلة عليها لدى محلات "إيكيا" مثلاً التي تنتشر متاجرها في الإمارات، وهي تقدم أفكاراً خلاقة مبدعة لاستغلال الفراغات والإفادة منها. ولضيق بيوتهم أيضاً تراهم يعشقون السفر والترحال، وقضاء الوقت خارج تلك المنازل الصغيرة.
 
...ولن أنتقل بعيداً للتوضيح، فانظروا حالكم اليوم في هذا الاجتماع وفي الاجتماع الماضي، حين انتقلنا إلى مركز أبوظبي، لقد تأخّر بعض الحضور عن موعدهم المعتاد، وماذا كان سبب التأخير يا ترى؟ الازدحام!
والازدحام في هذه المنطقة من أبوظبي –كما تعلمون- سببه مشاريع عملاقة تغيّر وجه المدينة بإنشاء شبكة طرق جديدة وعصرية. وقد أثَّرت هذه المشاريع على حياة الناس في مظاهر كثيرة في السلوك الاجتماعي ، بـما يجعلنا نلمس أثر النمط المعماري الذي تعيشه مجموعة من البشر في مكانٍ ما. فالازدحام في أبوظبي قد غيَّر في سلوكنا في مواقف عديدة منها: مثلاً مواعيد الخروج لقضاء بعض متطلبات الحياة كالتنـزّه والتسوّق والترفيه...وغيرها. من منكم ما زال يقصد " أبوظبي مول" للتسوق والترفيه؟ مغامراً بالوقوع في براثن الأزمة الخانقة، التي لا ترحم.
أصبح السير في بعض الطرقات في أوقات معينة يتطلب ضعفَيْ الوقت الذي كان يستغرقه في السابق، مما ساتدعى المرء أن يفكر  بهذا ويأخذه في الحسبان حين يخرج.
كما انعكس الازدحام في سلوك السائقين والسائقات ؛ فقد كانت من اولى الملحوظات حين قدتُ سيارتي للمرة الأولى في أبوظبي أن السائقين يمتازون بالذوق والأخلاق ، مما يجعل القيادة سلسة وآمنة ، فأنتَ تجد الغالبيى ملتزمة بقواعد المرورية خاصة الأولويات....فيا سبحان مغير الأحوال ، لم نعد نرى –إلا فيما ندر- مَن يسمح لك بالمرور والانتقال من مسرب إلى آخر، وتجد السائقين كالوحوش الكل مترقب لاقتناص فرصة الانتقال من مسرب طويل لآخر قصير في سبيل السباق تجاه خط النهاية وهو الإشارة الضوئية.
تجده يعتدي على حقك حين تنتظر دورك في طابور طويل ممل  بطيء، يأتي ليقطع الطريق أمامك ويعتدي على دورك الذي أنفقتَ في سبيله وفتكوأعصابك وأنت تنتظر... أما الشاحنات الكبيرة فحدَّث ولا حرج عن سلوك سائقيها حين يظن الواحد منهم أنه (خفيف الظل) فيقتحم الطريق ويغلق أمامك الأرض والسماء،  ولا تملك من أمرك معه شيئاً، فمثله لا يمكن المزاح معه!!
وتحضرني هنا قصة تروى في الأردن، التي تعاني من مشكلات في انسيابية حركة المرور في الشوارع الرئيسية ، فأحضروا خبيراً يابانياً ليدرس وضع حلول مقترحة تسهم في حل المشكلة، وبعد حين من إقامته في البلاد قال إن المشكلة ليست في تجهيزات الطرق أو الإشارات الضوئية والمرورية والإرشادية... إنما المشكلة في أن السائقين لا يتقيدون بالقواعد المرورية وأولها الشعار الشهير: القيادة فن  وذوق وأخلاق.
حقا إن النمط المديني يؤثر في أخلاق الناس وسلوكياتهم.