أرشيف المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 31 أكتوبر 2017

هل أنا أم مثالية؟

بقلم: رجاء العيادي

كثيرا ما تتساءل الأمهات إن كن أمهات جيدات لأبنائهن.. كثيرا ما تصاب الأم بالاحباط وهي تقارن نفسها بصديقتها أو ابنها بابن قريبتها.. أمهات يسعين للمثالية في تربيتهن لأطفالهن حتى لو لم يسعين إليها في أنفسهن..

ففي ظل انتشار صفحات الأمهات اللواتي يشاركن أنشطتهن مع أطفالهن؛ هذه تقوم بنشاط حسي حركي، وأخرى ترافق ابنها إلى نادي السباحة، وتلك تدرس ابنها بأحدث الانظمة النعليمية، وهذه تحفظ أبناءها القرآن منذ السنتين، وتلك أنشأت لابنها مسجدا في البيت، ناهيك عن التي تبدع في الأطباق المتنوعة والمزخرفة.. تجد الأم تتحسر بين هذه الصورة وتلك وتلوم نفسها لعدم قدرتها على توفير ما توفره الأمهات لأبنائهن، ولو أن تلك المشاركات قد يكون الهدف منها التشجيع وتبادل التجارب..

فاجأتني ابنتي في أحد أيام عطلة نهاية الأسبوع، التي لم يتيسر لنا فيها الخروج إلى أحد الملاهي أو الحدائق كما اعتدنا، فاكتفينا بمشاهدة أحد الأفلام في البيت منكمشين تحت غطاء واحد، فقالت: أمي، هذه أجمل عطلة نهاية أسبوع أمضيتها في حياتي.. وكذلك ابني الذي يفضل ألف مرة أن ألعب معه الكرة بكل عفوية على أن أسجله في أحد نوادي كرة القدم..

أنتِ، أسرتك، أبناؤك.. لستم نسخة من أحد، وليست هناك وصفة موحدة للتربية الناجحة والأسرة السعيدة.. كل له ظروفه وكل له شخصيته، وكل أسرة لها تركيبة خاصة بها تجعل منها حالة مختلفة تسعد بطريقتها وتربي بوسائلها وتعيش بنمطها..
يحز في نفسي عندما أجد أمّاً تشتغل وقلبها يتحرق على ابنها الرضيع الذي تركته مع المساعدة أو الجارة أو الحضانة.. وتجلد نفسها كل يوم على هذا الوضع، لأنها لم تعط طفلها حقه كما تفعل الأمهات المثاليات..
إنْ كنت قد اخترت العمل أو الدراسة، بعد أن فكرت مليا في الأمر وراعيت في ذلك جميع الظروف المتعلقة بهذا القرار من ظروف مادية واجتماعية وثقافية وشخصية، وراعيت فيها وضعية أبناءك، والاختيارات المتاحة.. وسددت وقاربت وتبين لك أنه القرار الأنسب في ظل كل تلك الظروف، فانطلقي إلى عملك وعيشي في سلام مع نفسك واعلمي أنك لم تظلمي أحدا وأنك أم مثالية.. وإن كنتِ قد اخترت عدم العمل ورعاية أبنائك بنفسك، لأن هذا أنسب بالنظر لظروفك، فأنت أم مثالية..

الأم المثالية قد تغضب وقد تصرخ، وهذا لا ينقص من قيمة أمومتها شيئا.. الأم المثالية قد تكتفي بوضع فطيرة خبز بالجبن وتفاحة في محفظة ابنها ليتناولها في الغذاء.. الأم المثالية قد لا تستيقظ باكرا لتعد الفطور لأبنائها في الصباح وتعطيهم تمرات وحليب.. الأم المثالية قد لا تراجع مع أبنائها دروسهم ولا تساعدهم في حل واجباتهم.. الأم المثالية لا تقوم بالضرورة بأنشطة المونتسوري مع أبنائها في البيت.. الأم المثالية قد تذهب لممارسة الرياضة وتترك أطفالها مع المساعدة… الأم المثالية قد لا ترضع طفلها حولين كاملين..
الأم المثالية تعطي أفضل ما عندها في ظل ظروفها.. فهذه تصبر وتعطي أفضل ما عندها في ظل قهر زوجها لها.. وتلك مطلقة تشتغل وتعطي أفضل ما لديها في ظل ظروفها.. والأخرى مريضة تكابر وتعطي أفضل ما لديها في ظل تعبها.. وأم عصبية تحاول أن تعالج الأمر وتعطي أفضل ما عندها في ظل عصبيتها.. والمتفرغة تلاعب أبناءها وتعطي أفضل ما لديها في ظل تفرغها.. والغنية تدرس ابنها في أحسن المدارس وتعطي أفضل ما لديها في ظل غناها.. والطالبة تدرس وتعطي أفضل ما لديها في ظل انشغالها..
فيكفي أن تحبي أبناءك وتغدقي عليهم من حنانك، تمضي معهم وقتا نوعيا ولو كان قليلا، تسعديهم بما يحبون، تقتربي منهم في ساعة فرحك، وتعتزليهم ساعة غضبك.. حاولي أن تبحثي في عالم التربية وتستفيدي من التجارب، ونزليها بتصرف وفق امكانياتك وتطلعاتهم.. أعطيهم أفضل ما عندك في ظل ظروفك..
وأبشري فأنت أم مثالية..

الأحد، 29 أكتوبر 2017

الباب الخشبي!

منقول
لم يلاحِظ آثارَ البكاءِ على ملامحِ ابنِـه ذي الثلاثةَ عشَرَ ربيعاً عندما التقطه من أمامِ بوابةِ المدرسة نـهايةَ الدوام؛ استمرَّ في القيادةِ حتى وصلَ البيتَ، وصَعِدا معاً الدرجاتِ القليلةَ التي تؤدي إلى بيته في الطابق الأول.
 اتجه الابن فوراً نحو غرفته، بينما دخل الزوجُ إلى المطبخِ حيث كانت الزوجةُ تضفي لمساتِها الأخيرةَ على وجبة الغداء. بادرها بالسلام فردَّتـهُ بأحسنَ منه، ثم قالت وهي تبتسم:"كيف كان يومك؟" ردَّ بآليةٍ وهو يلتقط بأصابعه بضعَ حباتٍ من الأرز: "تمام، تأخرتُ قليلاً على محمد، ولكنني وجدتُه ينتظرُ عندَ البوابةِ".
ضحكتْ الزوجةُ وقالت: "هذا جيد، فهو ما زال غاضباً منك لأنك نسيتَه البارحة، واضطُرَّ إلى العودة وحدَه"... تحرَّك خارجاً من المطبخ وهو يقول بلامبالاة: "كنتُ سأنساه اليومَ أيضاً لولا أنْ ذكَّرْتِـني....غداً سيصطحبه جارُنا أبو محمود، لقد طلبت منه أن يتولى المهمة".
كانت الزوجةُ ترتب الأطباقَ على الطاولة عندما خرج محمدٌ من غرفتِهِ يحمل منشفته متجهاً نحو الحمام، فبادرته بالقول: "محمد؟! دخلتَ إلى غرفتك دون أن تحيِّـيني!". أحنى رأسَه قليلاً وهو يواصل مسيره نحو الحمام:"آسف، دقائق وسأعود" . كان يحاول أنْ يتملَّصَ منها، إلا أنَّ صوتَـهُ المتهدِّجَ حالَ دون ذلك؛ فقد كشف ذلك الصوتُ عن أنَّ الصبيَّ كان يبكي بحرقة؛ التفتتْ إليه بقلقٍ ولهفة واقتربت منه قائلةً:"لحظة، ما بك؟ أكنتَ تبكي؟" ...

انفجر في البكاء فوراً وتَحَشْرَجَ صوتُه بالكلمات:"نعم كنتُ أبكي، أريد أنْ أستحمَّ الآن، اتركيني وحدي"... تركَتْـهُ وهي تفكر في أنَّ الماءَ الباردَ في هذا الجوِّ الحارِّ ربما يهدِّئُ من نفسه قليلاً... على أي حال ستراقبه، إذا تأخر لنْ تتركه وستستعجله على الفور.
خرج الزوج بعد أنْ استبدل ثيابَه ليجلسَ إلى الطاولة ويبدأ فوراً في سكب الطعام في صحنه، قال:"أضحكني أبو محمود اليوم، فقد كان عندي وتحادَثْـنـا بشأنِ عودة الصبيَّـيْن من المدرسة، حضر للورشة حتى يطلبَ مني استبدال بابَهُ الحديديَّ بآخر، قد صدَأَ بابُـهم لكثرةِ ما تغرقه زوجتُه بالماء، كان يمازحني محاولاً معرفةَ سببِ عدم صدأ بابِنا رغم مرور سنواتٍ عديدة" .
لم تردّ الزوجةُ ولم يأبه الزوجُ لعدم ردِّها واستمرَّ في الحديث: "الطعام ينقصه بعض الملح، ناوليني الملح لو سمحتِ" ناولته الملح وقالت:"ألاحظت أن محمدا يبكي؟" أجاب:"لا، متى كان يبكي؟".
 قالت الأم:"الآن، قد كان يبكي بالفعل، أرجوك أن تتحدث إليه".لم يتوقف الزوج عن تناول الطعام وهو يقول بلامبالاة: "عزيزتي، سبق وتحدثنا في هذا الأمر، إن عبءَ التربيةِ يقع عليكِ وحدَكِ، أنا لستُ متفرغاً لمثل هذه التفاهات". ارتفعت حدَّةُ صوتِ الزوجة قليلاً وهي تقول باستنكار:"تفاهات؟! أنت لا تـهتم بأيِّ شيءٍ على الإطلاق، لا فيما يتعلق بمحمد فقط".. أضاف بـهدوءٍ ساخر:"وأنا لا أتقن إلا العمل والإنفاق على المنـزل، وأنا لا أتدخل في شؤون البيت، وأنا لا أرافقكِ إلى السوق، وأنا لا أخرجُ معكما للتنـزه … أكملي يا عزيزتي.. أم هل أكملُ أنا؟!" .
تأففت ونـهضت لتستعجل محمداً ثم عادت لتجلس بعصبية، سحبتْ نفساً عميقاً وقالت:"عزيزي، إنَّ محمداً قد كبر، وهو الآن يخلع عنه ثوبَ الطفولة ليرتدي حُـلَّةَ الرجال، هو أحوجُ إليكَ مني".
 قال الزوجُ الجائع دون أنْ ينظر إليها:"حسنٌ قولُكِ، سأعتني به حالما يترك الدراسة ويأتي للعمل معي في الورشة، سأعلمه كيف يصنع أبواباً لا تصدأ مثل بابِنا، سأصنعُ منه رجلاً وسأفخر به بين الرجال".
ردَّت بيأس:"أهذا ما تريد؟ ألن تعتني به إلا إذا اختار طريقك؟ إنَّ ابنك قد اختار طريقاً آخر فسانِـدْه حتى لا تفقدَه، إنكَ تفقد كلانا يوماً بعد يوم: تحلُّ علينا كالضيف، لا تعلم بأدق تفاصيل حياتنا،  ولا تعلم عنا شيئاً يُذكر ".

 نـهض ناظراً إليها بضجر:"الحمد لله، قد شبعت، يبدو أنني سأخرج مبكراً فلست في مزاج للعراك". توجَّه نحوَ الباب وهمَّ بالخروج عندما نادته الزوجة قائلةً: "أبا محمد".. التفتَ إليها.. فبادرته بالسؤال:"أتعلم لماذا لم يصدأ بابُنا رغم مرور السنين؟"..  عقد حاجبيه في فضول، لقد كان يريد أن يعرف الجواب حقاً، قالت وهي تعقد ذراعيها أمام صدرها وتنظر إليه باستخفاف:"لأن بابنا ليس حديدياً"!!

السبت، 14 أكتوبر 2017

حذار من تصديقهم دائما!

غادة السمان
http://www.alquds.co.uk/?p=808272

قرأت في الصحف عن إشكالية مدرسية أثارها الأستاذ محمد خمريش ـ من جامعة «الحسن الأول» في المغرب ـ بسبب سؤال طرحه على التلامذة في الامتحان، وأثار سؤاله استغراب العديد من النشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي بل والاستنكار «للجهل الفظيع لدى بعض أساتذة الجامعات». كما قال بعضهم. ولا ادري ما إذا كانوا على حق ام لا، لأنني لم أطلع على السؤال إياه. ولكن ذكرني ذلك كله بحكاية شخصية حدثت لي وعلمتني عدم الثقة كثيرا في البيت الشعري الذي يقول:

قــم للمـعــلم وفــــه التبجــــيلا
كـاد المعــلم أن يكـــون رســـولا..

ولكنه ليس كذلك في بعض الأوقات.. ولي تجربة شخصية (تحذيرية) لسواي في هذا الحقل.

ابنك لا يصلح للعلم!
لا زلت أذكر اليوم الأول لإبني في المدرسة حين وقفنا على الرصيف والده وأنا ومشى للمرة الأولى إلى داخل المدرسة، بعدما التفت نحونا نصف خائف وفرحنا بدخوله إلى «حقل العلم»..
وبعد عام من ذلك اليوم وصلتنا ورقة من معلمته في المدرسة (ل.م) تحدد لنا موعدا لمقابلتها لأن ابننا غير صالح للعلم وفهمنا من نبرة سطورها أنها لا تحبه!..
واتصلت بصديقة (حميمة) لي تعمل أستاذة في المدرسة ذاتها هي (ن.ش) وطلبت منها أن تحصل على بعض المعلومات من معلمته عن سبب حكمها الخطير عليه. وبعدها بأيام ذهبت إلى المدرسة انطلاقا من موعد مع الأستاذة صديقتي ناديا. ش. وما كادت تراني حتى قالت لي بالحرف الواحد كلمتين بالعامية اللبنانية لن أنساهما يوما هما: «ابنك طش» أي أنه «لا يصلح للعلم»
لم أعلق. غادرتها بحزن عميق ولكنني قلت لنفسي وأنا أغادرها: ماذا لو كانت أستاذته هي (طش) لا هو؟ ماذا لو كانت همومها الشخصية تتغلب على حيادها العلمي والقضية مزاجية؟

انقلوه إلى مدرسة أخرى!
وهكذا قررت تبديل المدرسة بدلا من تبديل ابني! واستطعت تسجيله في مدرسة أخرى راقية أيضا وهناك نجح بتفوق، وتذكرت كل ما تقدم يوم حفل تخرج ابني من جامعة أمريكية شهيرة حاملا شهادة الدكتوراه ثم عمله كأستاذ جامعي في واحدة من أهم الجامعات في أمريكا..
وكان يــــرن في اذني صـوت صديقــــتي (الوفية): «ابــــنك طش» وأسخر منه. وأيضــا تذكرتها يوم قرأت اسمه في موسوعة who is who في أمريكا! وردد الصدى عبارة «ابنك طش»!!
وقد كتبت كل ما تقدم لأقول للأهل الذين يعانون من حكم أستاذة/أستاذ ما بأن أولادهم لا يصلحون للعلم بأنه قد يكون الأستاذ نفسه لا يصلح للتعليم!

مقدسات تقليدية لإعادة النظر
نعم. «كاد المعلم أن يكون رسولا» لكنه بشر يخطئ ويصيب.. ويقف أحيانا ضد الطالب دونما مبرر (علمي) لذلك بل بمبرر مزاجي. و(تقديس) المعلم في حاجة إلى إعادة نظر لأنه بشر وكثيرة هي (مقدساتنا) التقليدية التي ينبغي إعادة النظر فيها وتقضي الأمانة العلمية القول: ما أكثر الأساتذة الذين يغرسون ضوء المعرفة في النفوس مقابل مادي زهيد هو راتبهم!.. ولكن، قد يكون من المفيد للأهل تبديل مدرسة الطالب المتهم بأنه (طش) للاطلاع على وجهة نظر أخرى حوله، كما نعيد النظر في رأي طبي لا يقنعنا ونذهب إلى طبيب آخر لرأي إضافي ونكتشف أننا كنا على حق. وقد أحببت كتابة هذه السطور والمدارس في مطلع (اقتراف) سنة دراسية جديدة والوقت متاح لتبديل المدرسة لطالب متهم بأنه (طش)!..
أعرف أن التدريس يتطلب أصعب الشروط: الحياد العلمي وهو ما لا يحظى به الكثير من الطلاب الأطفال الصغار من أهل (الشغب!). ولأن الحياد المطلق ليس صناعة بشرية، لا مفر من إعادة النظر في المقدسات التقليدية كلها وبينها التعامل مع الأستاذ على انه بشر آخر له أمزجة وأخطاء.

إبداع «الرؤوس» أم «الأقدام»؟
قرأنا في الصحف أن لاعب الكرة البرازيلي «نيمار» سيحصل على 45 مليون يورو كراتب سنوي لخمسة أعوام لأنه انضم إلى PSG أي نادي «باريس سان جرمان» لكرة القدم. وأن النادي دفع 222 مليون يورو مقابل صفقة انتقاله من برشلونة الإسباني إلى PSG الباريسي.
فرنسا استقبلت «نيمار» استقبال الفاتحين في المطار والملعب وتسابق الشبان إلى تقليد تمشيطة شعره وارتداء قميص يحمل اسمه بل وبيع من تلك القمصان في يوم واحد مئات الآلاف.. وهو ما لم يحظَ به يوما أصحاب الأدمغة مثل أديسون واينشتاين ونيوتن ومدام كوري وسواهم من كبار العلماء الذين بدلوا حياتنا وأخص بالذكر مخترع الكهرباء..
صديقتي اللبنانية المقيمة في باريس مثلي التي قالت عن حفيدها معلمته الفرنسية ما معناه إنه (طش) في العلم، قالت لي إن ذلك (من حظه) فهو يعشق كرة القدم وبساقين موهوبتين في حقل مداعبة الكرة وركلها.. ترى هل صار علينا تطوير أفكارنا مع روح العصر والكف عن اعتبار (الرأس) أهم من (القدم) وعلينا الفرح لأن الأحفاد (طش) في العلم لكنهم يتقنون فن إدخال الكرة في الهدف؟..
أسئلة كثيرة يطرحها عصرنا على الذين ما زالوا مثلي يتوهمون أن إبداع الرأس أهم من مهارة القدم.. وأعترف أنني حائرة ولا أعرف: ترى هل كسب المال هو وحده مقياس النجاح في عصرنا؟ أم ماذا؟ وما رأي القراء في ذلك؟

الجمعة، 29 سبتمبر 2017

الوجه الآخر لآينشتاين

آلاء حمدان
مُنع آينشتاين من أن يكون طالباً رسميّاً في الجامعة بسبب رسوبه في كلّ المواد ما عدا الكيمياء والفيزياء والرياضيات. ولكنّ بعض الأساتذة سمحوا له بالحضور بشرط الالتزام كأيّ طالب، ولكن في النّهاية لن يحصل على شهادة منهم.
خلال ذلك، تعرّف على امرأة عبقريّة، اسمها كان ميليفا، ولقّبها هو بـ"دولي"؛ لأنّها تشبه الألعاب والدّمي الرّوسية، وكانت هي الطّالبة الأنثى الوحيدة التي سمحت لها العادات والتقاليد في ذلك الوقت في السعي وراء دراستها الجامعية في مجال مختصّ بالذّكور.
كانت الأذكى، بل وصفها البعض بأنّها متقدّمة بمراحل عن آينشتاين في التّفكير خارج الصّندوق. نجحت في كلّ الاختبارات بل وساعدت آينشتاين على اجتياز اختبار هام له.
في مرحلة ما، نشأت بينهما علاقة حبّ قويّة، وحملت بطفله الأوّل من خلال علاقة غير شرعيّة. لم تستطع بسبب ذلك تقديم امتحان التّخرج وفقدت بذلك شهادتها. 
عند حملها بطفلها الأوّل عادت لوالدها، وأخبرته أنّها رسبت في الاختبار، فقال لها بحماس "لا بأس، هناك اختبار قادم. لنبدأ التحضير له". وعندما حضنها اكتشف أنّها حامل. واكتشف أنّ جهده خلال كلّ تلك السّنوات التي مضت لأن يُخرج للعالم عالمة جديدة سيضيع فور ولادة هذا الطّفل.
كان والدها قد سعى بين كلّ المدارس ليوافقوا على ادخال ابنتهم الصّفوف التي كانت تعجّ بالأولاد، وربّاها على الجديّة في العمل وأن لا تتزوّج إلا بمن سيقف إلى جانبها ويشدّ على يديها وإن طال انتظارها.
الجميع كان يتوقّع فشلها في مرحلة ما، فهي امرأة، وبرأيهم لن تصل إلى أيّ مكان. مكان المرأة بيتها وزوجها، وخُلقت فقط لذلك.
(حسب الروايات التّاريخية، فإنّ طفل آينشتاين الأول مجهول الهويّة، ومصيره مجهول. فقد فُقد في عامه الثّاني. يقال أنّها كانت فتاة، ومرضت وتوفت، ويقال أنّها أصبحت من ذوي الحاجات الخاصة فتم ارسالها لبيت خاص وإنكار أصلها، أو تم عرضها للتّبني. ما يعرفه العالم أنّ هناك ابنة له، لا يعرف أيّ أحد ماذا حصل بها وأين ذهبت رغم كلّ الأبحاث التي لم تتوقف حتّى عامنا هذا)
بعد أعوام تزوّجا، دولي وآينشتاين، وأنجبت دولي طفله الثّاني فالثّالث. كانت علاقتهما أكثر من رائعة. كان كلّما فكّر بمشروع جديد يجد زوجته تسهر لأجله تكتب المشاريع معه وتفكّر، وأحياناً عندما يكون مرهقاً يستيقظ فيجدها قد كتبت كلّ البحث له، بل وصححت له الأخطاء التي لم ينتبه إليها.
كانت والدة دولي تسكن معهم وتهتم بالأطفال والمنزل عند انشغال ابنتها. ولكن اضطر آينشتاين بسبب عمله إلى السفر لبلاد أخرى وفجأة وجدت دولي نفسها تترك العلم والأبحاث وتقضي معظم وقتها تنظّف المنزل وتحضّر الطعام.
حاولت دولي بشتّى الطّرق الموازنة، ولكن كسل آينشتاين وأنانيّته المفرطة جعلها وحيدة، ولم يترك أيّ خيار لدولي، فتركت دولي كلّ شيء لتهتمّ بأبنائها، ووافقت أن تكون فقط ربّة منزل في سبيل تربيتهم. ( "فقط"، لأنّه بالنّسبة لها هذا ما لا تريده بتاتاً).
زادت الخلافات بين آينشتاين ودولي، كلّما رأته ينطلق في هذا العالم من مؤتمر إلى محاضرة إلى جائزة، وهي التي ترمي نفسها على الكنبة بعد ترتيب غرف الأطفال محاولة تذكّر آخر معادلة قامت بحلّها.
تضخّمت أنانيّة آينشتاين وعشقه للعلم عندما بدأت أبحاثه بالانتشار، وفي مرحلة ما تعرّف على فتاة جميلةأخرى، ونشأت بينهما علاقة، ومن بعد ذلك طلب الطّلاق من دولي.
وصف آينشتاين بيته مع دولي "بالغائم"، وبيته مع عشيقته "بالمشمس". فهو كان يرى في دولي الزّوجة الغاضبة، غير السعيدة، شعرها منكوش وتقضي وقتها تنتظر عودته من رحلاته لتسأله أين كنت. بينما كان يرى في عشيقته المرأة الذّكية الأنيقة، تلبس أجمل الألوان ودائما معطّرة وشعرها مصفّف. ولكنّ دولي رفضت الطّلاق. وبناء على القوانين اليهودية في ذلك الوقت لا يستطيع آينشتاين تطليق زوجته إلا بموافقتها، ولأنّها رفضت، وضع هو قائمة بالأمور التي يجب على دولي القيام بها في سبيل إنجاح هذه العلاقة.
وهذا ما احتوته القائمة:
١- توفير ٣ وجبات ساخنة يوميّاً
٢- الخروج للسّوق مرّة كل يومين للتّبضّع
٣- تنظيف المنزل يوميّاً دون مساعدة أحد
٤- عدم سؤال آينشتاين أي شيء عن عمله واجتماعاته
٥- عندما يطلب منها آينشتاين أن تغادر غرفة ما لأنّه مشغول بالتّفكير، عليها المغادرة فوراً دون اعتراض.
٦- أن لا تطلب منه أي مَهمّة منزليّة.
٧- قطع أي علاقة حميمية بينهم.
٨- أن لا ترافقه في أيّ اجتماع ولا رحلة عمل.
رغم أنّها كانت تعرف بخيانته، إلا أنّها نفّذت الشّروط خوفاً على أطفالها، ولأنّ المجتمع في ذلك الوقت كذلك كان ينظر للمرأة المطلّقة على أنّها "منحوسة" بينما ينظر للرّجل الخائن على أنّه يمر "بنزوة" أو أنّ زوجته بالتأكيد مقصّرة معه.
كانت تجلس لساعات تبكي لوحدها وهي ترى كل ما حلمت به، وكل ما حلم به والدها قد أصبح من الماضي. حتّى أنّ آينشتاين قام بنشر الكثير من الأبحاث التي كتبتها هي وبجهدها، وعندما طلبت منه وضع اسمها على البحث بجانب اسمه ردّ عليها "أنا وانتِ واحد، وليس من الضّروري التّفرقة بالأسماء". ومضت هذه الحال حتّى أصبحت زوجته انساناً شبحاً لا يعرفها أيّ أحد بعد أن كانت أذكى طالبة علوم في أوروبا كاملة.
بعد أن استحالت الحياة بينهما، تفرّقا دون طلاق لسنوات، وعاشا في بلدين مختلفين. قبل أن يعود ليطلب الطّلاق ليستطيع الزّواج من عشيقته.

هذه قصّة رجل عظيم عبقريّ، نعرف من علومه الكثير ولا نعرف عن حياته إلا القليل القليل.
سيرته مليئة بالتّخبطات الاجتماعيّة التي جعلته يشعر أنّ العلوم والبحث والنّجاح أولوية له، بينما الأولويّة لزوجته هي رعاية الأطفال. بطريقة غير مباشرة أشعرها أنّ ما يقدّمه للعالم.. أهم مما تقدّمه هي.
آينشتاين كان عبقريّاً بلا شك، وقدّم للعالم ما لم يقدّمه كل من سبقه، وحتى بعد الطلاق. ولكنّه حرم دولي والعالم مما كانت قد تكونه، وأنكر في أبحاثه أيّ دور لها في فترة كان فيها ضعيفاً وحتى هو كان يشكّ في علمه.
إيماني بفطرة الأمومة لدى المرأة ايمان قويّ، ولكن إيماني قويّ كذلك بأنّ هناك أحيانا نزعات أخرى ورغبات قد تتفوّق وتطغى وتنتصر على هذه الفطرة.
دولي لم تسعد يوماً في حياتها.. ولم ترد يوماً إنجاب أيّ طفل. وآينشتاين عاش يحمل ذنب أنّه حَرَمَ من يحب (دولي)، ممّا تُحب (العلوم)، وحوّلها لإنسانة لا تريد أن تكونها بسبب خضوعه لمجتمع حدّد لكل جنس، دوره.
وماتا على ذلك..
بعد مرور ١٠٠ عام على هذه القصّة، لا زالت تتكرّر كلّ يوم في مجتمعات كثيرة.
هذا هو دورك، وهذا هو دوره، وما غير ذلك لا يصحّ.. 

السبت، 23 سبتمبر 2017

هذا الحبّ المُستَحدث

بقلم شهلا العجيلي

يتحدّث (ويل ديربيشاير) في مقدّمة كتابه الذي يحمل عنوانَه مقالي هذا ( This modern love) عن الكيفيّة التي ولدت فيها فكرة الكتاب، وكيف حوّل تجربة شخصيّة مفعمة بالمعاناة إلى نجاح ساحق، إذ يعدّ كتابه هذا، وهو أوّل مؤلّفاته المكتوبة، من الأكثر مبيعاً عبر العالم منذ صدوره في العام 2016، عن دار (بينجون راندوم هاوس) في بريطانيا. ويشير إلى ما يسمّيه ألم الفقد بسبب الحبّ، ويرجو أن يشفي بهذا الكتاب مكابدات ملايين المحبّين! لقد استطاع أن ينجز مؤلّفه عن طريق التفاعل مع قاعدة عريضة من متابعيه على منصّات تواصليّة عديدة، وعبر تبادل الخبرات معهم، فكتب عن العلاقات الإنسانيّة في عالم ما بعد الحداثة الذي ينماز بواقعه الافتراضيّ، وبتعدّد وسائل التواصل التي تفرض أدبيّاتها على أرقّ عواطفنا وأكثرها خصوصيّة. استطاع (ديربيشاير) أن ينجو بالتواصل مع الآخرين من تفاعلات كادت تودي به إلى دوّامة الاكتئاب والفشل، وتمكّن أيضاً من مساعدة الآخرين على الشفاء. يقول إنّه حين انفصل عن حبيبته شعر بأنّه قد دفن جزءاً منه لن يستعاد إلى الأبد! لم يطلب عوناً ممّن يعرفهم، لكنّه بدأ بالبوح للغرباء عبر وسائل التواصل، وبدأ يتلقّى رسائل المواساة، ومن ضمنها تجارب وذكريات قاسية للآخرين. وحين صارت الرسائل بالعشرات بدأ يشعر ببعض الجدوى، وبدأت آلامه تسكن، وفارقه الشعور بالوحدة، وكأنّ طاقة الألم توزّعت، فتضاءل أثرها على الفرد، لتعود من جديد إلى شكل آخر من أشكال الطاقة الفعّالة والمحبّبة. نعم لقد أنجز كتاباً رائعاً!
يبلغ (ويل ديبريشاير) ثلاثة وعشرين عاماً، وهو صانع أفلام بريطانيّ، ومدوّن، ويوتيوبر، له ما يزيد على مليون متابع على اليوتيوب وإنستغرام، وتويتر، وتتضمّن الفـــــيديوهات الخاصـــــّة به، نصائح حول العلاقات الإنسانيّة، والصحّة الذهنيّة، وخطط العـمل، والثقافة اليوميّة غير العالمة، والرحلات، إنّه واحد من الذين يُطلق عليهم لقب (مدرّبو الحياة) أو (وسطاء حياتيين). 
أعلن عبر قنواته عن رغبته في منهجة العمل لتأليف كتاب عن العلاقات في هذا المجتمع، مجتمع ما بعد الحداثة، وعن تمايزاتها عن العلاقات في حقب أخرى، إذ يشير إلى أنّنا نعيش في مجتمع معقّد، وفي فضاء يكتنف النقيضين معاً: تواصل دائم وعزلة لا تريم! طرح على متابعيه ستة أسئلة، عن الذكريات، ولحظة الانسحاق أو التهافت نتيجة الانفصال، وعن المفردات المؤثّرة، والصور، والأفكار…فكتبوا رسائلهم، ونشرت على المواقع بشفافيّة. أجاب بعضهم برسائل طويلة، وبعضهم الآخر أجاب بعبارات مقتضبة، وبعضهم بكلمة أو بصورة، فأدرج ذلك في الكتاب وفاقاً لمنهجة محدّدة تأخذ بعين الاعتبار نوع الرسالة من غير تحرير، أو نقد، أو وصاية أخلاقيّة، ولم يتدخّل حتّى في القواعد أو الترقيم، لقد ترك الرسائل تتكلم عن أصحابها.
تقبّله جمهور واسع، وثق به، و آمن بهذا المشروع عبر العالم، من ثمانية وتسعين بلداً، إذ كان مجموع الإجابات 15570، موزعة على بريد Gmail ، وتويتر، وإنستغرام…وجاءت الردود من ثمان وتسعين بلداً في العالم، خلال ستّة أشهر، وكانت أعمار الأكثر مشاركة بين 16 و 24 عاماً ، وبلغ عمر أصغر مشارك اثني عشرعاماً، وعمر أكبر مشارك واحداً وثمانين عاماً! 
يشير (داربيشاير) إلى أنّ الحبّ في العصور الحديثة فكرة معقدة، فنحن متّصلون جدّاً، ولسنا كذلك في الوقت عينه، وإنّ كتابه قد يجيب على أسئلة حول سيرورة عالم ما بعد الحداثة في مجال العلاقات بين البشر، فهل يجعلنا التواصل الإلكترونيّ المتاح دائماً أقرب؟ هل تمنحنا المسافات سعادة حقيقية أو انكساراً حقيقياً؟ وهل يمكننا الحفاظ على العلاقات عبر المسافات، مضحّين باحتياجاتنا الأساسية في القرب الفيزيائيّ، والملامسة، والبوح وجهاً لوجه! من جهة أخرى علينا أن نكون مغتبطين بهذه الحقبة، إذ ما كان مستحيلاً في العصور السابقة صار عادياً اليوم، وقد فرض سلوكات وأدبيات جديدة ثوّرت طريقة تفكيرنا بالحب، وكيفية تفاعل واحدنا مع الآخر.
بــــدأ كتابــــه بســطر للشـــــاعــــــر الرومــــانسيّ كيتــس: “I have so much of you in my heart”، أحمل أكثرك في قلبي! وجاءت كثير من الإجابات شعراً، واكتنفت صوراً فنيّة، وإشارات ثقافيّة في الفنّ، والأدب، والسينما، والأغاني…سنجد بعض الرسائل تكتنفها المرارة، وبعضها بسيطاً وعفويّاً، وبعضها مضحكاً، وبعضها يحمل الامتنان، لكنّها مجتمعة تجعلنا نفكر باحتياجاتنا ورغباتنا الأساسية، وتعكس حقيقة المجتمعات الكوزموبوليتانيّة، وتفاصيلها اليوميّة، وتمنح في الوقت ذاته مادّة إنسانيّة اجتماعيّة نحتاج إليها في الكتابة، وتكشف عن الرغبات التي لا تشيخ. 
صُمّم الكتاب نتيجة لحركة على منصّات تفاعليّة عدّة، وهذا يمنحنا مجالاً خصباً للعمل تحت مظلّة نظريّة التلقّي، من غير تهميش المؤلّف طبعاً، وأعتقد أنّه لابدّ للنقد الأدبيّ بل الثقافيّ من توجيه اهتمامه نحو هذه الأنواع الناشئة من الكتابة، والتي ما تزال بعيدة عن التصنيف، بل بعيدة عن الاعتراف الرسميّ بها في ثقافتنا العربيّة، على الرغم من تفاعل الشباب معها بشكل يثير الأسئلة ويوسّع الهوّة الثقافيّة بين الأجيال، وبين أشكال الكتابة أيضاً. هل نعدّها كتابة وثائقيّة، أم أدبيّة؟ هل هي أدب اعترافات أم مدوّنات إلكترونيّة؟ لعلّها مصنّفات أخبار، أو قصص أدبيّة غير خياليّة…
لابدّ هنا من أن نرفع القبّعة لذلك الشاب الذي عرفناه في قرطبة، في القرن الخامس الهجريّ، إنّه ابن حزم الأندلسيّ، صاحب المغامرة الشجاعة في كتابه (طوق الحمامة في الألفة والإيلاف)، الذي وضعه وله من العمر ثمانية وعشرون عاماً، هو حقّاً مغامرة رائدة ومبكّرة، وتحتاج قلباً رقيقاً، وجبلّة صافية، وذكاء فطريّاً، وثقافة، فأهل الطباع الخسيسة أبعد ما يكونون عن الشعور بالدقائق اللطيفة للقلب والعقل!
يشير مؤلّف (هذا الحبّ المستحدث) إلى اأنّ كل رسالة من هذه الرسائل حيوية، وقوية، وشخصيّة بطريقتها، وهي تتشابه ولا تتشابه، مثل قصص الحبّ عموماً، إذ لكلّ قصّة حب بداية، ووسط ،ونهاية. بدأت إحدى الرسائل بعبارة تقريريّة تقول: «إنّ الوقوع في الحبّ قرار يشبه قرارك أن تؤلّف كتاباً. «! تقول رسالة أخرى: «القطع المتناسبة تتلاقى، على حدّ قول فرانك سيناترا: غالباً أنتَ تحبّني بالطريقة ذاتها التي أحبّك بها!»، وتقول رسالة ناقدة: «قد يكـــون الوقوع في الحبّ أحياناً كالقفز في برميل مملوء بقناديل البحر، وعليك أن تخرج منه بأقلّ العضّات!»، ويختم صاحب الكتاب قائلاً : «مهما كان رأيكم، فالحبّ شيء مهم، بل الشيء الوحيد الأكثر أهميّة، الذي يمكن للإنسان منحه وتلقيه».

الأحد، 10 سبتمبر 2017

التدوينة باعتبارها جنساً مستقلاً

بقلم: ياسين عدنان
جريدة العرب 

يكاد التدوين الإلكتروني على مواقع التواصل الاجتماعي يتكرّس باعتباره جنسًا صحافيًّا خاصًّا، بل وأدبيًّا لدى البارعين فيه. فمثلما كان لدينا أدبٌ للرسائل يمكننا اليوم الزعم أن أدبا جديدا قيد التشكل في المشهد الإلكتروني هو أدب التدوين. إذ نبغ في أكثر من بلد عربي مدوِّنون بارعون تألقوا بشكل لافت وصار لهم مئات المتابعين و”المُليِّكين” والمُعلّقين يترقبون تدويناتهم الجديدة بفارغ صبر ويتفاعلون معها بحماس.

وبتعدُّد أقلام المدوِّنين تعددت أساليبهم وجماليات التدوين لديهم. ففيهم من يتوسّل البداهَة لغة ومنطقًا، ومنهم من يكتب بلغة شرسة غير مروّضة. فيهم من يتوسل الاستعارة وبينهم من برع في اقتناص المفارقات الفكِهَة. فيهم من يكتب بمزاج خاسر على الدوام، وفيهم من يصوغ تدويناته بروح مرحة ساخرة.

وفيهم من يقترح السُّرود والمحكيات الخفيفة، وفيهم من يكثّف التأملات والإشراقات الفكرية، وبينهم من يفضّل الاشتباك مع الشأن العام وقضاياه الساخنة. الأقلام متعدّدة والأساليب متباينة ومجالات التدوين متنوّعة، وفي البراح الإلكتروني الفسيح متّسعٌ للجميع.

لكن الملاحظ هو أن عددا من المدونين الذين لمعت أسماؤهم في الآونة الأخيرة سرعان ما انتقلوا إلى مجالات أخرى لم يكن التألق فيها مضمونا دائما. فمن انتقل منهم إلى عالم الصحافة سرعان ما وجد نفسه مُحاطا بالخطوط الحمراء، مطالَبًا بلجم حركته الحرة الرشيقة وضبطها على إيقاع الخط التحريري للجريدة.

وبينهم من اعتبر تدويناته التي أطراها شعب الفيسبوك مجرد تدريب على الكتابة الأدبية، فجازف باقتحام الأحواز الأدبية ليكتشف أن للجنس الأدبي إكراهات لم يوفَّق أغلب المدوِّنين الذين جرّبوا حظهم مع “سمك القرش” في أعالي السرد المزاوجة بينها وبين النَّفَس الحرّ المفتوح للتدوينة الإلكترونية. هكذا جاءت بعض أعمال المدوّنين الأدبية على طرافة مادتها فقيرة إلى التماسك والمتانة والبناء السردي المحكم.

ومع ذلك، يجب الاعتراف أن الكتابة الإلكترونية بشكل عام بدأت تنفث بعضا من روحها في الأدب الذي نكتبه اليوم، والمؤكد أنها بدأت تساهم جديًّا في تجديد أدب المستقبل. فقط يبقى علينا التفكير في التدوينة الإلكترونية باعتبارها جنسا أدبيا جديدا كالقصة القصيرة جدا وكالقصيدة الومضة مثلا، ونبحث في أسرار بلاغتها تماما كما اشتغلنا على بلاغة النادرة والمثل والأحجية والحكاية الشعبية.

والأهم هو أن نعطي للمدوِّن الإلكتروني قيمته الاعتبارية تماما كالشاعر والروائي والقاص، فلا يبقى حبيس نظرة دونية للتدوين تعتبره كتابة من درجة دُنيا أو تدريبًا حرًّا على الكتابة الصحافية والأدبية.

قبل أشهر فقط استقبل المغرب المدوِّنة الأميركية الشهيرة أماندا سيرني استقبال النجوم. خُصِّصت لها جولات سياحية وبرامج ترفيهية، وكان واضحا أن جهات في وزارة السياحة المغربية تعاملت بجدية مع هذه الزيارة في إطار خطّتها للترويج للمغرب كوجهة سياحية عالمية.

سبب ذلك أن أماندا سيرني فرضت اسمها في بلدها كمدوّنة وصار لها تأثير كبير على آلاف القراء، حتّى أنّ وزارة السياحة في بلد مثل المغرب ستخطب ودّ المدوّنة الشابة وتراهن على اليوميات التي ستكتبها أماندا من المغرب ويتلقّفها آلاف القرّاء في بلاد العم سام للترويج للبلد في أوساط الأميركيين.

فمتى يصير لمدوّنينا المؤثرين نفس الوضع الاعتباري ونفس التقدير دون أن يضطروا للتسلل إلى حياض الصحافة واقتحام المجال الأدبي لإضفاء القيمة على ما يكتبون؟

الثلاثاء، 29 أغسطس 2017

خواطر مسافرة في منتصف العمر: الرحلة إلى جامعة لايدن

... منذ أن قاربتُ على الانتهاء من مرحلة الدكتوراه، انقدحت في ذهني كثيرٌ من المشاريع البحثية، لكني لم أتمكن من إتمام شيءٍ منها كما أرغب!ولكني استجمعتُ عزمي وسعيتُ لتحقيق ما تأجل من أحلام وما تأخر، وصار لكل مشروعٍ بحثي أو ورقة أو كتاب- قصةٌ موازية حين عدتُ للعمل عليها من جديد، بعد أن كنت توقفت قليلاً مرغمة؛ في خضم صراعي مع الحياة. وربما يأتي اليوم الذي أحكي فيه حكايتي مع كل كلمة كتبتُها ومع كل بحث أو عملٍ أنجزته، كيف اعتصر من روحي ومن نفسي ما اعتصر.

مكتبة جامعة لايدن
كان حلمُ الوصول إلى جامعة لايدن يراودني في كل وقت، ووقف أحيانا ضيقُ ذات اليد عن إتمامه وأحيانا أخرى وقف في وجه ذلك الحلم ضيقُ ذات الوقت!! حتى تهيأت الفرصةُ بأمر الله لتحقيق الحلم قبل أسابيع، وهو في الحقيقة حلم على مرحلتين إن جاز التعبير- حققتُ الجزء الأول منه بالوصول إلى كنوز مكتبة جامعة لايدن، والجزء الثاني من الحلم بانتظار التحقيق في العمل على ما جمعتُه من هناك من مخطوطات وإخراجها إلى النور في دراسةٍ جديدة.
مكتبة جامعة لايدن من الداخل..المكتبة الآسيوية
رحلتي إلى لايدن كانت مختلفة وجميلة فاقت ما كنتُ أتوق إليه منها، فكانت هذه  اليوميات القصيرة التي هي أقرب للخواطر منها إلى نص إبداعي آخر!

الأسبوع الأول في مكتبة جامعة لايدن

اليوم الأول/ الثلاثاء 15/8/2017
كان الوصول إلى هذا المكان حلماً راودني مذ بدأتُ قراءاتي عن الاستشراق، إبان عملي على أطروحة الدكتوراه: الأدب الأندلسي في الدراسات الاستشراقية البريطانية.
صورة العالم في كتاب الاصطخري
لكن التنقيب والقراءات العنقودية، قادتني من موضوع إلى موضوع، ليستأثر الاستشراق الهولندي باهتمامي؛ حين لاحظت أن الريادة الهولندية في هذا المجال وكذلك في الدراسات الأندلسية هي شيء تستحقه بجدارة.
وقد لا يكون لي باع  في تحقيق المخطوطات ونشرها، إلا أن من الأمور التي تثير انتباهي الشديد هو عملية انتقال المخطوطات العربية والإسلامية إلى تلك الديار البعيدة: ذلك أن قَدَرَها السعيد -برأيي- هو الذي جعلها تستقر في مكتبات أنيقة وبأيدٍ حريصة على المحافظة على رونقها وصلاحها طيلة قرون.

من كتاب التصريف لمن عجز عن التأليف للطبيب الأندلسي الزهراوي 

 

عناية فائقة بالمخطوطات ومعاملة خاصة عند استعمالها والاطلاع عليها



صفحة من كتاب الحشائش لديسقوريدس  
في اليوم الأول كان لقائي ببعض الأساتذة الذين قرأتُ لهم وأعجز عن نطق أسمائهم الهولندية بشكلها الصحيح.. وكان كذلك لقائي ببعض تراثنا الغالي هناك محفوظاً كما تُحفظ المقتنيات التي لا تقدر بثمن...  فهناك وسائد خاصة لتصفح المخطوطات.. وعلب كرتونية لحفظها.. وغرف مجهزة بإضاءة مناسبة.. وعربات برفوفٍ متعددة تُحمَل عليها.. وعناية فائقة في لمس صفحاتها وتقليبها ومغازلتها بنظرة هنا أو لمسة هناك..
وهذه بعضها مما عايناه اليوم رفقة مجموعة مختارة من الباحثين من بلاد عديدة من أستراليا إلى أمريكا، يجمعنا اهتمام وعناية ودراسة... تحفظ لهذه الإرث مكانته في التراث الإنساني.

اليوم الثاني في لايدن

عندما كنت أقرأ عن هذه البلدة القريبة من أمستردام، التي شهدت بدايات تعليم اللغة العربية في هولندا منذ القرن السادس عشر  كانت المدينة في الغالب تشكو فقرا شديدا من وسائل تدريس هذه اللغة للراغبين بها، وكان رواد الاستشراق الهولندي قد بدأوا تعلم العربية على أنفسهم؛ يدرسونها، ويتعلمون مبادئها مما تيسر لهم  من مواد مكتوبة وصلت إلى أيديهم عبر مصادر شتى، كان منها بعض المكتبات الأوروبية التي اعتادت إعارة الكتب المخطوطة بين الباحثين على مستوى القارة الأوروبية.
 أما الحظ الكبير فكان أن يلتقي أحدهم في هذه البلدة بشخص عربي؛ فتتاح له فرصة أن يمارس شيئا منها في محادثة متبادلة معه.. لكن كان من النادر حدوث ذلك.
ولهذا عندما زار السفيرُ الأندلسي الموريسكي أحمد بن قاسم الحجري أفوقاي- عندما زار هولندا في ١٦١٣ ، والتقاه المستشرقُ إربينوس، اصطحبه إلى منزله وأبقاه في ضيافته نحو شهرين، يتجاذبان أطراف الحديث ويتبادلان المناقشات العلمية في الأمور الدينية واللغوية.. في فرصة لم تتكرر حينها لغيره.
واليوم عندما تسير في المدينة الصغيرة العريقة الصاخبة بشبابها، المزدحمة بالمقاهي والدراجات، تصادفك في مواقع عدة كلمات عربية هنا وهناك.. وصبايا يعتمرن الحجاب فوق رؤوسهن.. وبشرة سمراء تلتمع تحت الشمس الساطعة..
لايدن..البلدة الجميلة
 تسير في الأزقة الحجرية الحمراء.. تملأ  أعقاب السجائر مسافاتها الفارغة بين القطع المتراصة على الأرض.. لتجد أن أربعة قرون من تدريس العربية وطباعة حروفها، كانت قادرة على إحداث التغيير!!
فاليوم تسير قليلا قرب الحرم الجامعي الذي يعد رئة البلدة حين وضعت أركانه في النصف الثاني من القرن السادس عشر. فترى الحروف العربية أمامك ترحب بك ترحيبا خفيا وظاهرا
في علاقة حب صامتة لا تدري أيهما يأخذ وأيهما يعطي؟!.
مقهى في لايدن..وقصيدة لأدونيس على واجهته


وهذا مقهى لطيف يقدم الساندويتشات الخفيفة المعطرة بتوابل بلادنا يستقبلنا بحروفه العربية الجميلة تزين واجهته الخارجية..فإن كانت حروفه ضياعا في عُرف أدونيس..فإنّا وجدناها في قلوب عشاق العربية.


اليوم الثالث في لايدن

تحقق الحلم!!! وصارت رسائل بعض الشخصيات العربية للمستشرقين الهولنديين بين يدي!!
لا أستطيع أن أصف شعوري عندما تسلمتُ علبة كرتونية رمادية اللون، تحتوي المجموع الذي يتكون من أوراق عديدة؛ هي رسائل ومسودات رسائل متبادلة بين مستشرقين هولنديين تبادلوها مع بعض المتحدثين باللغة العربية، الذين كانوا يساعدونهم في جمع المخطوطات العربية من الشرق بالشراء أو النسخ. 
وهذا جانبٌ قلّما التفتت إليه الدراسات التي اعتنت بالمخطوطات الإسلامية: فهرستها وتحقيقها ونشرها.

فبعض المخطوطات لها قصص طريفة حول كيف انتهى بها المطاف إلى غرفةٍ معينة.. في مكتبةٍ معينة.. في بقعةٍ معينة من العالم الأوروبي؛ الذي شهد نشاطا ملحوظا لجمع المخطوطات الشرقية خاصة في القرن السابع عشر إبان التأسيس لفرع جديد من الدراسات الجامعية هو ما عُرِف ب (الدراسات الشرقية) أو (العربية والإسلامية).
وتعلمنا هذه الرسائل أشياء كثيرة عن تجارة الورق ونسخ الكتب وتصديرها وبيعها للزبائن، الذين يطلبونها دون أدنى شعور بالذنب! وليس كما نضيق نحن اليوم عن استيعاب ذلك! فلم تكن جميع عمليات البيع غصبا ولا من وراء حجاب عبر وكلاء...
بل كان للكتب سوق رائجة يأتيها القاصي والداني، وتذهب للذي يدفع أكثر في بعض الأحيان.
كما تخبرنا هذه الرسائل عن جوانب من الحياة اليومية في ذلك الزمن متصل بالكتابة وتبادل الرسائل: إذ كان الناس حريصين على عدم إهدار الورق.. فيجيب المرسَل إليه  على ورقة المرسِل أو يطوي الورقة على نحو خاص ليكون جسدُها هو نفسُه غلافا لها .
وهكذا ساعدت هذه الرؤية لتدوير الورق على حفظ عدد من الرسائل مع الردود عليها... لا يقف الحديث عنها هنا!!

اليوم الرابع في لايدن
كيف تستعير الكتاب؟

في مكتبة جامعة لايدن لا يُسمح للطلبة بالتجول بين الرفوف...
وخدمة استعارة الكتب متاحة فقط من خلال الموقع الإلكتروني الذي يعمل بدقة وسرعة عالية.
الخزائن المخصصة لاستلام الكتب المستعارة
أما الخطوات فسهلة جدا... تجعل من المكتبة مكاناً خالياً من الفوضى والطوابير.
عليك أولا أن تبحث عما تريد استعارته في فهرس المكتبة الإلكتروني، ثم وعبر أيقونات خاصة تطلب ما تريد استعارته، وتنتظر ما لا يتجاوز الساعة، أن تصل إلى بريدك الإلكتروني رسالةٌ تقول إن المطلوب من الكتب جاهزة لاستلامها.

وهنا تأخذك خطواتُك إلى الطابق الأول حيث واجهات الخزائن السوداء، التي تشبه في فكرتها صناديق البريد العادية، وهذه الواجهات مزودة بشاشات صغيرة وماسحات ضوئية خاصة لبطاقات هوية المكتبة.
المسح الضوئي لبطاقة المكتبة
وتبدأ عملية استلام الكتب بهدوء يليق بمكتبة عريقة: إذ تمسح هويتك عبر الماسح الضوئي، فتظهر على الشاشة الصغيرة أعلاه رسالة تقول "افتح الخزانة ذات الرقم... ثم استلم ما طلبت".. فتذهب لاستلامها!
رسالة تخبرك بمكان الكتب المطلوبة
فتح الصندوق واستلام الكتب المطلوبة



التوجه إلى الصناديق المحددة في الشاشة الصغيرة

واجهة إرجاع الكتب المستعارة. وعلى اليسار النافذة المخصصة لترك الكتب 
إرجاع الكتاب بدفعه وتركه ينزلق على العجلات الصغيرة
هكذا في ثلاث خطوات بسيطة يكون الكتابُ بين يديك.
وإذا ما فرغت من الكتاب، تعيده في نافذةٍ صغيرة حيث تترك الكتاب ينزلق  فوق شريط متحرك كالذي تسافر عبره حقائب السفر ... بكل هدوء.. دون أن تعيق موظفَ المكتبة المنهمك في عمله، أو تضيع وقتك في انتظارٍ لا طائل من ورائه!
أترككم مع الصور. ..تغني عن الكلام!


صلاة الجمعة في لايدن

من الأشياء التي تستهويني في السفر: زيارة المساجد في غير البلاد العربية للصلاة فيها.
لا أدري ما الذي يجعلني أشعر أنها مختلفة عن بلادنا.. فهل هي كذلك حقاً؟!
اليوم بحثتُ عن مسجد قريب من مكتبة جامعة لايدن فوجدت مسجد الهجرة، واتجهت، بعد انتهاء المحاضرات، إليه لأداء صلاة الجمعة.
سألتُ زميلتي، الفتاة التركية زينب، عن المسجد فأجابت إنه مسجد للمغاربة.
 فقلت لها: لا يهمني لمن المسجد... (فأنا ذاهبة لأصلي)!!
مسجد الهجرة - لايدن
 اتخذتُ طريقي عبر الخريطة وشاهدتُ في أثناء سيري سيدات شابات وكهلات بالقفطان المغربي الزاهية ألوانه، فخمّنتُ في نفسي أنهن كذلك ذاهبات لصلاة الجمعة.
 ولكني بعد حين وصلتُ الزقاق المقصود، وراعني أن السيدات القريبات مني تابعن سيرهن، فقلت في نفسي: لعلي أخطأت التقدير؛ فلكل امرئ شأنٌ يعنيه يوم الجمعة وليس بالضرورة أن يكون الصلاة!
كانت الخريطة تقول إن باب المسجد على يسار الطريق، وإذا به مفتوح على مصراع واحد..فدخلت.. و(الزليج) المغربي يرحب بي على الجدران.
وجدت في المربع الصغير درجات على يساري تؤدي للطابق العلوي، وبابيْن أمامي واحد مغلق وآخر مفتوح.. فنظرت من الباب المفتوح وإذا برجل في القاعة، يقول قبل أن أبادر بالسؤال: إن مكان الصلاة للنساء هو من الباب المغلق. حاولت فتحه... فقال اطرقي الباب مرات عدة. وهكذا كان .. حتى صرتُ في قاعة الصلاة المخصصة للنساء في المسجد.
وحين جلستُ أتأمل المكان والحاضِرات انتبهتُ أن هناك باباً خلفياً للقاعة منه تدخل النساء وتخرج، غير الباب الذي عبرتُ أنا منه لدخول المكان.
وهكذا استعادت ذاكرتي السؤال المكرور ذاته: لماذا في مساجدنا العربية نتشبث بفكرة (الحريم) وفصل النساء في المساجد خلف جدران وبهذا الشكل الحاد؟ بينما في تركيا نفسها مبتدِعة (الحريم)، تدخل النساء المساجد رفقة الرجال من الأبواب نفسها.. بل إنه يمكنهن الصلاة خلف صفوف الرجال، لا يفصلهن عنهم إلا ساترٌ قماشي رقيق أو حاجز خشبي من (الأرابيسك)!!
أما الانطباعات الجميلة في مساجد العالم فهو هذا الهدوء اللطيف الخالي من ضجيج الصغار.. ثم ذلك الإنصات بصمت لخطبة الجمعة بالعربية ثم بالهولندية... إلى جانب تلك المودة والألفة التي تستقبلكِ بها السيداتُ اللواتي يأتين للمسجد؛ فقد صافحَتني وقبّلَتني تقريبا جميعُ السيدات الحاضرات، رغم أنهن لا يعرفنني وأنا أبدو بينهن غريبة بلا (قفطان)!


إجازة نهاية الأسبوع بين لايدن وأمستردام

كانت ليلة السبت مطيرة؛ لم تتوقف الأمطار عن الهطول بغزارة طوال الليل حتى موعد الشروق في اليوم التالي. فعدلنا أنا وزميلتي التركية زينب، عن خطة زيارة أمستردام وقررنا استكشاف البلدة في لايدن.
وقبيل الموعد المحدد للقاء فاجأتنا الشمس بأشعتها الذهبية تنتشر في كل بقعة..
 كان مكان اللقاء قرب المحطة الرئيسية فاتخذنا القرار بسرعة وقطعنا تذكرة القطار إلى أمستردام .. فاتَنا القطار الأول لأننا لم نفهم أين نقف لانتظاره!! 
وحين لحقنا القطار التالي تبيّن بعد عدة محطات أننا نسير في الاتجاه الخطأ، وأن علينا العودة إلى محطة المطار لركوب القطار الصحيح، الذي يصل بنا إلى المحطة المركزية في أمستردام!!
سوق الزهور في أمستردام


سوق الزهور في أمستردام

زيتونة.. في سوق الزهور في أمستردام

نخلة تعانق السماء في أمستردام





كنيس يهودي من معالم المدينة السياحية..في أمستردام
كان موقفا طريفا، فعاوتني ذكرى فيلم (همام في أمستردام) وأخبرت زميلتي التركية عنه. وأنا أخشى في قلبي أنه قد تكون زيارتنا للمدينة مغامرة أو مقلبا كالتي نشاهدها في السينما! 
وعندما وصلنا.. خرجنا من مبنى المحطة إلى الساحة الواسعة أمامنا المزدحمة بالبشر والقطارات والحافلات.. وتنقّلنا من مكان لآخر ونحن نسأل عن الجولات السياحية في المدينة، ووقفنا بعض الوقت في طابور طويل، فلما التقينا الموظفة المسؤولة، تبين لنا أننا نسأل شركة أخرى عن الرحلة التي نريدها😭 ولم تتقبل الموظفة الإجابة عن جميع استفساراتنا قائلة إنها لا تقدم خدمات مجانية كمرشدة سياحية!!
خرجنا إلى الساحة من جديد، لنلتفت قليلا فنعثر على ضالتنا..إنه الباص الأحمر المكشوف!
وهكذا كان.. اتجهنا للباص لنسأل عن مكان شراء التذاكر، وكان هناك طابور طويل يقف بانتظار الصعود لبدء الرحلة.. وإذا بالشاب الأشقر المسؤول يقول: لقد وصلتم؛ يمكنكم ببساطة شراء التذاكر في الباص... ولكن قفوا خلف طابور المنتظِرين.
أسرعنا إلى نهاية الصف ووقفنا... وكان الناس يصطفون على طول نحو عشرة أمتار.
وإذا بالشاب الأشقر يسارع إلينا قائلا: لا لا... الطابور يبدأ من هناك. وهو يشير إلى الرصيف المقابل، وإلى طابورٍ طويل آخر يزيد على عشرة أمتار كذلك😃
فأخذنا نغذّ السير إلى حيث أشار، ونحن لا نملك من أمرنا شيئا. ووقفنا في الانتظار تحت الشمس لنحو ساعة تقريبا!!
لكن كان من حسن حظنا أن هذا الانتظار الطويل قد انتهى إلى أن نكون أول الراكبين في الباص، فاتخذنا مقاعدنا في الدور العلوي في الصف الأول من المقاعد.
والباص بطبيعة الحال مزود بشروح بمختلف اللغات - ومنها لحسن حظي بالعربية- للمحطات السياحية التي يتوقف عندها في أثناء جولة استكشاف المدينة. 
هذه كانت البداية الطريفة للجولة في أمستردام، المزدحمة بالسياح خاصة يوم السبت..
ثم اتخذنا سبيلنا في الطرقات بين المحطات السياحية المختلفة من متاحف وشوارع وجسور تنتظم المدينة الجميلة بطبيعتها الساحرة ما بين الخضرة والماء والوجوه الحسنة التي تؤمها..
وانتهى بنا المطاف بعد الجوع بوجبة شاورما لذيذة في المطعم التركي  علي أوجك باشا..

أما ظهيرة يوم الأحد فكان برنامج الجامعة قد أعد للمشاركين جولة بالقارب في بلدة لايدن الصغيرة؛ للتعرف إلى بعض معالمها عبر القنوات المائية التي تخترق المدينة، التي تتخذ كغيرها من بعض المدن الهولندية شكل النجمة؛ كي يسهل الدفاع عنها أمام الأعداء. مما يجعلنا نستعيد مغامرات القراصنة  ونستحضر  الاسفنجة الصفراء (سبونج بوب) في حلقات المسلسل الشهير الذي يبدأ بالقرصان الهولندي!!.
ومن الطريف في هذه الجولة هو ما في حركة السير عبر القنوات المائية من نظام يتواضع عليه قباطنة المراكب..
فالجسور المقامة بين الشوارع والأزقة فوق الماء منخفضة، وفي بعض الأحيان تستدعي من الركاب انخفاضا شديدا كي يتم مرورهم بأمان تحتها، وتستدعي من قبطان كل مركب الحذر والتمهل الشديد في أثناء القيادة، وإعطاء الأولوية، وانتظار مرور المراكب الأخرى في حال عجقة السير. 




البيوت العائمة..والسيدة تنشر الغسيل على شرفة (البيت)

كما كان من اللافت للنظر، تلك الإشارة المرورية التي يُمنع فيها استعمال الموسيقا تحت الجسور!!
وتلك البيوت العائمة الراقدة بسلام على جنبات القنوات. وهي بيوت يعيش فيها الناس حياتهم كغيرهم ممن يعيشون على الأرض..لكن المار إلى جانب تلك المنازل يشعر أن ساكنيها هم في نزهة مستمرة.. على الرغم من منشر غسيل الملابس.. وأواني النباتات قرب النوافذ.. والشرفات المزينة بالزهور.. والمقاعد المعَدّة للاسترخاء.

كل هذا المشهد الفاتن من الخضرة والماء  والهدوء الساحر.... استدعى إلى ذهني ممارسات السائقين لدينا في بلادنا... وصرت أتساءل بيني وبين نفسي: ماذا لو أن مثل هذه القنوات المائية كانت في بلدي، كيف ستكون القيادة؟؟ وكيف سيكون سطح الماء مليئا بقشور المكسرات وأعقاب السجائر وبقايا المناديل الورقية؟؟ وكيف سنملأ الاجواء ضجيجاً وخناقاً نعرف مثله في شوارعنا!!
لا أريد تخيل المنظر.. أريد أن أبقى في الواقع الجميل للمدينة الذي أنقله لكم في هذه الصور!!





الأسبوع الثاني في مكتبة جامعة لايدن

بين يدي المخطوطات الإسلامية
لا بد لمن يقارب الاستشراق بالدرس أو القراءة العابرة، أن يقرع سمعه اسم مكتبة لايدن مراراً وتكرارا؛ فهي واحدة من أقدم المكتبات الجامعية في أوروبا التي اهتمت بالدراسات الشرقية: عربية وإسلامية، إبان تأسيس الجامعة في الربع الأخير من القرن السادس عشر.
ولا بد أن الوصول إلى المجموعة الشرقية المميزة المحفوظة فيها هو شيء مميز كذلك.
ولقد كان من وصولي إلى هذا المكان قد فتح ذائقتي على تلك التساؤلات التي تستنطق تفاصيل الحياة اليومية التي عاشها أصحاب تلك المخطوطات، سواء من المؤلفين أو النُّسّاخ  أو الراغبين فيها، فكان اهتمامي بها موضوعاً للبحث الذي أقوم به حاليا.
ولكن ذلك لا يمنع من أن ألتفت إلى  تفاصيل أخرى تعيشها المخطوطات الإسلامية، التي انتقلت بوسائل شتى حتى استقرت في تلك البلاد بعيدا عن مواطنها التي رأت النور فيها..
ولمكتبة لايدن طريقتها اللطيفة في التعامل مع هذه الكنوز التي يعرفون قيمتها حق المعرفة.
قاعة المطالعة في قسم المجموعات الخاصة في مكتبة جامعة لايدن
إن أول ما يجب أن تعرفه هو أن مكتبة لايدن تحفظ المخطوطات الشرقية ضمن المجموعات الخاصة بالجامعة.
وقد كنت أتخيل أن مخطوطاتنا تلك ستكون عظيمة الحجم وضخمة، كمثل تأثيرها في عالم المعرفة الإنساني! ولكني أخطأت؛ إذ وجدت المخطوطات الشرقية محفوظة في غرفة خاصة خلف الأبواب بعيدة عن العيون. وهي التي كانت محفوظة في خزانة متوسطة تظهر في اللوحة الزيتية التاريخية لقاعة المكتبة..
ولكن ومع ذلك فإنه يُسمح للباحثين أو الطلبة الاطلاع على مايشاؤون من تلك المخطوطات بيسر؛ وذلك من خلال الطريقة التي حدثتكم عنها سابقا لاستعمال الكتب واستعارتها في المكتبة: وهي الطلب من خلال الفهرس الإلكتروني للجامعة، ثم يجري تحضير المخطوطات المطلوبة في مكان خاص هو قاعة مطالعة المجموعات الخاصة، وتقديمها للباحثين مقابل البطاقة المكتبية.. فقط!
وقد قمت بتلك الخطوات وطلبت ما أريد من كتب مخطوطة للاطلاع عليها.. وصلتني رسالة عبر الشاشة تقول إن المواد متوافرة في قاعة المطالعة.
وهنا تأتي الأناقة والحرص في التعامل الحقيقي مع تلك المواد الرقيقة، التي قد تتلفها نسمة هواء تجفف ما بقي في الأوراق من رواء.
إذ ينبغي استعمال وسادة  كبيرة (٩٠/٦٠سم) تحت الكتاب المخطوط؛ حتى يكون  في مأمن من الثني أو سقوط الأوراق أو تمزقها.
وتتيح لك المكتبة سلاسل خاصة مغلفة بقماش مخملي ناعم، وهي بطول نحو ٥٠ سنتمترا تعمل (ثقّالة)؛ يمكنك استخدامها من أجل بسط الصفحات برقة، دونما حاجة إلى استعمال يديك لتثبيتها.
وهذا يساعد على أن تكون الأوراق مسطحة كما ترغب، وتكون في مأمن من الخدوش المحتملة.
وقد كان من بين المخطوطات التي أعمل عليها، واحدٌ يتألف من مجموعة أوراق خاصة لا يجمعها مجلد، وهي محفوظة في صندوق كرتوني صغير رمادي اللون، وكل عشرة أوراق منه مضمومة في داخل صفحة ورق أبيض كي يسهل حملها والنظر فيها. لكن المدهش أن الموظفة قبل أن تسلمني المخطوط المطلوب قامت بتوزينه على ميزان دقيق خاص يشبه موازين الصاغة وبائعي الذهب ولكن بحجم أكبر!!
وهكذا حين يتم إرجاعه تقوم الموظفة بالتأكد منه بوزنه من جديد؛ خوفا من أن تضيع ورقة من أوراقه.
تثير هذه الدقة والرقة في التعامل مع إرث المخطوطات تقديرا وإعجابا يجعلنا نحمد الله في كثير من الأحيان أن سخر الله لهذه اللغة من يهتم لأمرها ويعتني بحروفها!
وأختم خواطري هذه، بإخباركم أنه في قاعة مطالعة المخطوطات من المجموعة الخاصة يُمنع اصطحاب المتعلقات الشخصية كالحقائب وغيرها. ولهذا الغرض خصصت المكتبةُ مجموعة من الخزائن سهلة الاستعمال قرب باب القاعة تحفظ فيها حقيبتك.. وهي مزودة بطريقة سهلة لإغلاقها وفتحها عن طريق رقم خاص تبتدعه أنت؛ بلا حاجة لأن تحمل بيدك مفتاحا صغيرا قد يضيع أو يحتاج جيباً...!!
كل هذا في مكتبة بالغة الأناقة والعملية في الوقت نفسه.. ومفعمة بالهدوء شبه التام؛ ترى الجميع فيها منغمساً في عمله، فتدرك أين تكمن قوة المعرفة وسر التقدم للأمم التي تريد أن تضع لها موطئ قدم بين الأمم المتحضرة.


الأسبوع الثاني في مكتبة جامعة لايدن

صباح الثلاثاء

يبحث أهل العلم والاختصاص عن المصادر العديدة مخطوطة أو مطبوعة، أو محفوظة في أشكال أخرى، ولكن قلةً منا من يفكر بأولئك الذي يقومون على صناعة الكتاب، وربما دون أن يقرؤوا من سطوره شيئا!

فمن المهمات الملحقة بالعناية بالمخطوطات مهنة ترميمها؛ للحفاظ عليها قابلة للاستعمال والتداول بين الأيدي. وهذه مهنة يعرفها كثيرون.

لكن محاضرة اليوم أخذتنا إلى جانب تقنيّ آخر للعناية بالمخطوطات ألا وهو رقمنة المخطوطات. تحدث إلينا فيها لنحو ساعتين شاب يعمل في رقمنة المخطوطات المتنوعة حول العالم.. وتحويلها إلى العالم الإلكتروني؛ كي تكون تحت تصرف عدد أكبر من المهتمين.

وما أن انتهت محاضرته الجميلة حتى كان شغفه الظاهر قد انتقل إلينا؛ حتى ليكاد الواحد منا يترك مجال بحوثه ويلتفت إلى التصوير!

وهذا ربما نعده شيئا سهلاً؛ لأن الهواتف الذكية الحديثة قد قلبت مفاهيم كثيرة في العالم الحديث ومنها كذلك مفاهيم التعامل مع المخطوطات؛ إذ طالما سمعنا من شيوخنا سعيهم وراء المخطوطات وانهماكهم في طلب نسخ مصورة على الورق أو على ميكروفيلم، أو غيرها من وسائل.. وطالما قرأنا عن المستشرقين كيف كان الواحد منهم يمضي وقته بين المكتبات ينتسخ الكتب ليحتفظ بنسخته الخاصة منه..

ومع هذا فإن هذه المهمة ما زالت مهمةً يضطلع بها متخصصون؛ على الرغم من توافر الهواتف الذكية والكاميرات الأذكى بين يدي الجميع.

واكتشفت اليوم أن مغامرةَ تصويرِ مخطوطة- هي أكثر من مجرد click على زر التصوير!!

ولا يحتاج الأمر من المهتمين كثيرا من المال لتبدأ العمل بل إن كاميرا عادية قد تفي بالغرض إذا التفتّ إلى الأدوات الصغيرة الأخرى الرخيصة الثمن، التي تعينك على عملك لتهيئة أفضل الظروف لالتقاط صور للمخطوطات المطلوبة.

مساء الثلاثاء
المبني الأكاديمي التاريخي لجامعة لايدن

في الخامسة مساء كان موعدنا لزيارة المبنى التاريخي القديم لمكتبة جامعة لايدن الذي يقبع في كنيسة جميلة البنيان متوسطة الحجم . وعُمر المكتبة من عمر الجامعة نفسها التي تأسست في ١٥٧٥ ، وقد عُدِّل مبنى الكنيسة ذي السقف الشاهق الارتفاع ليصبح طوابق عدة مرتبة من الأعلى حسب رفعة التخصصات، لتحتل الإلهيات الطابق العلوي تليها الفلسفة والفنون اللبرالية ثم يأتي الطب في أسفل المبنى.
صورة من الإنترنت للأستاذ يلقي محاضرته في لايدن

كانت الجولة داخل المبنى التاريخي لطيفة باختلاف الغرف التي زرناها.. ولكل غرفة منها حكاية.

ففي الطابق الأول الغرفة المخصصة لمناقشة أطروحات الدكتوراه، التي كانت مفتوحة للعامة وعائلات الطلبة، وربما تستمر ساعات طويلة تناهز سبعا أو ثماني حتى غُيرت القوانين وقيدت ب٣ساعات فقط.
في غرفة مناقشة أطروحات الدكتوراه. وفي الوسط المنصة الخاصة ليقف الطالب عليها ثم يرتقي الدرجة العليا ليلقي محاضرته بعدها.

وفي القاعة يقف الطالب، مدافعا عن أطروحته وآرائه، على الدرجة الأولى من الهيكل الذي أقف عليه في الصورة..

وحالما ينتهي من الدفاع ويجتاز المناقشة يرتفع الطالب إلى الدرجة العلوية الثانية، ويقف أمام جمهور الحاضرين؛ يقدم محاضرته الجامعية الافتتاحية الأولى..


ومن على هذا المنبر قدّم أستاذ العربية في جامعة لايدن توماس إربينوس محاضرته الافتتاحية سنة ١٦٢١م، وكانت حول أهمية تعليم اللغة العربية وتعلمها في البلاد المنخفضة.



توقيعات مميزة

توقيعات الخريجين حتى على الطاولة

سلم ..يساعدك في الوصول حيث تشاء أن تضع توقيعك

أما الغرفة القريبة منها فهي الغرفة التي كان يجلس بها الطلبة بانتظار المناقشة ثم تحولت في القرن ال١٨ إلى مكان يسجل فيه الطلبة بعد اجتيازهم المناقسة بنجاح- يسجلون توقيعاتهم على الجدران أعلاها وأسفلها وعلى سطح الطاولة... وفي كل نقطة من الغرفة يمكن أن تصلها أيديهم ويساعدهم في ذلك سلم مخصص لهذا الغرض! ويمكنكم رؤية توقيعات مميزة منها توقيع نيلسون مانديلا الذي حاز الدكتوراه الفخرية هنا. وبعض توقيعات الملوك والأمراء الذين مرّوا في دراستهم بهذه الجامعة.



وقريبا من تلكما الغرفتين خزانة زجاجية تضم الرداء الخاص بالأساتذة الجدد أو طلبة الدكتوراه.. وهذا الثوب مصنوع من الحرير الدمشقي الفاخر ويعود إلى القرن السابع عشر.
وبمناسبة الأثواب الخاصة بالمناقشة فهناك غرفة مخصصة لأثواب الأساتذة في الجامعة مع تعليمات خاصة بكيفية ارتداء ربطة العنق!!

غرفة الأرواب الجامعية
صورة أمير أورنج مؤسس جامعة لايدن تتوسط غرفة بورتريه أعضاء هيئة التدريس


أما الغرفة الأخيرة في الزيارة فكانت غرفة اجتماع أعضاء مجلس الجامعة..التي تحولت اواخر القرن الثامن عشر لتكون ما يشبه معرضا دائما للوحات بورتريه لأساتذة الجامعة بحجم متشابه..مع صورة كبيرة لأمير أورانج وابنه الأمير موريس الذي كان له الفضل في إقرار بناء الجامعة التي تمت بعد موافقته بنحو شهرين فقط!!

الأسبوع الثاني في مكتبة جامعة لايدن
طوق الحمامة... مع كل الحب😍💖

قبل دقائق كان مخطوط طوق الحمامة بين يديّ.. نعم! حملتُه بيديّ هاتين في القاعة المخصصة لمطالعة مخطوطات المجموعة الخاصة لمكتبة جامعة لايدن.
ويعرف عشاق الأندلس وعشاق الحب في كل مكان هذا الكتاب في الألفة والأُلّاف.. ويستمتعون بقصصه وأبوابه الغرامية اللطيفة، التي تكشف كيف كان ابن حزم الفقيه الأندلسي، ابن القرن الخامس الهجري، رقيق القلب عاشقا للشقراوات وذوات البشرة الفاتحة!
لكن الذي لا يعرفه عامة الناس أن هذه النسخة المحفوظة قريبا مني هنا، هي النسخة الوحيدة في العالم التي حفظت سِفر الألفة والألّاف من الضياع في دروب التاريخ.
أما كيف وصل مخطوط الكتاب إلى هذه البلاد البعيدة في الشمال الأوروبي؛ فإنه لم يكن قد عرف طريقه إلى لايدن من قرطبة القريبة، بل لقد سلك طريقا طويلة من المشرق ليستقر هنا في غرفة المجموعات الخاصة للمكتبة.
 كان الكتاب قد نُسخ على نحو مختصر من النسخة الأصلية، على يد ناسخ يدعى محمد بن عثمان في سنة ٧٣٨هجرية، واستقر في المكتبة الخاصة لحاجي خليفة (كاتب جلبي) الشهير في القسطنطينية.. ليأتي أحد تلامذة المستشرق خوليوس أستاذ العربية والرياضيات في جامعة لايدن، وهو السفير الهولندي في اسطنبول ليفي وارنر، الذي استقر في المدينة لنحو عشرين عاما بين ١٦٤٤_١٦٦٥.. ويشتريه من مكتبة حاجي خليفة نفسه. ليؤول مخطوط طوق الحمامة بعد وفاته سنة ١٦٦٥ إلى مكتبة لايدن؛ ضمن تركته التي خلفها. وليبقى هذا الكتاب طي الجهل والنسيان، حتى رأى نور المطبعة للمرة الأولى على يد الروسي بتروف في ١٩١٤.
وليعرف العالم كله من بعده هذا السفر الأندلسي الفريد في الحب والمحبين.

ملاحظة: هناك نسخة مصورة رقمية للمخطوطة متوافرة على شبكة الإنترنت ويمكن تحميلها مجانا.


اليوم الأخير 
في وداع لايدن

كانت الطريق إلى لايدن مزروعة بالآمال وكان الحلم بعيدا.. ثم صار في اليد.

أسبوعان من الإبحار في عالم المخطوطات الإسلامية في مكتبة جامعة لايدن يجعل كلَّ نفيسٍ رخيصاً في سبيلها، وكأننا نستعيد التاريخ، فنعود أدراجنا نسير في أثر حروفنا العربية المسافرة من يد إلى أخرى، حتى وقعت موقعها في هذه المدينة الصغيرة، التي سطرت اسمها من ذهب في تاريخ الدراسات العربية والإسلامية في أوروبا. وما زال صداها يبعث في نفوس الباحثين ارتياحاً وسعياً نحو مزيدٍ من البحث والتنقيب في كنوز الحروف العربية التي تضمها جدران المكتبة الجامعية.
لم تكن مدة أسبوعين كافية للتنقيب الحقيقي في تلك الآثار والكنوز لكنها فتحت طاقاتٍ من نور قد كانت بعيدة عن ناظري.
في وداع لايدن... سأفتقد أسبوعين من المحاضرات والعمل الجاد المتواصل، رفقة زملاء من شتى البلاد، يجمعنا اهتمامٌ معرفي علمي بهذا الإرث الإنساني الذي حقَّ لنا أن نفخر به أيّما فخر!
الآن لن أكتب عن المكتبة بل عن الطريق إليها.. في جوّ يناقض تماما مدينتي الجبلية الجافة عمان.
لايدن المدينة الجميلة ترقد على قنوات مائية تتغلغل في حياة الناس اليومية؛ فأنت في أقصر طريق يومي تسلكه من مكانٍ لآخر لا بد أن تعبر فوق أحد جسورها. في طريقي للمكتبة أعبر اثنين من تلك الجسور في أقل من عشر دقائق أمشيها من مكان إقامتي.
وللماء رفقة خاصة: إنه ماء أخضر رقراق.. يكاد يخلو من أشياء تطوف على صفحته، باستثناء الزنابق البيضاء والإوز والبط العائم فوقه بسلام.
فيالهذا المشهد الصباحي الذي يرتسم قبالة عينيك وأنت تسعى في درب هذه الحياة. بعيدا عن أزمة السير وعجقة المركبات.
فغالبية الناس هنا تعتمد على الدراجات الهوائية للتنقل من مكان لآخر.. يصادفك في الطريق الرجل ببدلة أنيقة وربطة عنق بديعة وحقيبة عمل تشي بعملٍ مرموق، وهو يستقل دراجته في الهواء النقي في رياضة صباحية تمنحه نشاطاً، لا أظن أن قيادة السيارة تمنحنا إياها!
وترى الأمهات والآباء يستقلون دراجاتهم بمقعد صغير أمامي أو خلفي، يضم طفلاً يرافق والديه في رحلة الحياة اليومية، دون خوف من (أثر الهواء على أخلاق البشر)!
وفي الشارع المؤدي إلى الجامعة تمتد على يساري القناة المائية الجميلة وعلى يميني تمتد البيوت والمباني ذات الآجر الأحمر الصغير. 
ومما كان  يبهج قلبي في غربتي القصيرة، تلك النباتات الخضراء والزهور الملونة التي تزين الحدائق والشرفات، وتجعلني أشتاق إلى نباتاتي التي أفارقها رغما عني.. وأدعو أن ألتقيها بخير. 

ومن اللطائف التي تلفت الانتباه في هذه المدينة، مخالفتها لما اعتدناه في بلادنا من علاقة خاصة بالزيتونة المباركة المحببة في بلادنا؛ فإذا كان من المعتاد في بلادنا أن نزيّن مداخل بيوتنا بنباتات الزينة، فإنه من اللطيف أن أذكر أن شجرة الزيتون هي واحدة من النباتات التي تُزرع في هذه البلاد في أصصٍ خاصة مناسِبة؛ كي تزين مداخل البيوت وحدائقها الصغيرة. حتى أنني اقتربت منها لأجدها لا يبدو أنها تحمل، ثماراً رغم اقتراب موسم قطاف الزيتون!!
 أما بعد مغادرتي محل إقامتي بخطوات فإنني كل يوم ألتقي بالمكان الذي ولد فيه الرسام الهولندي رامبرانت والطاحونة الهوائية التي كان والده يعمل فيها...مع لوحة وتمثال صغير يسلم على المارة كلَّ حين.
  وهكذا... فإن كانت مكتبة جامعة لايدن منبعاً لكنوزٍ لا تقدر بثمن، فإن الطريق إلى المكتبة لا تخلو هي الأخرى من تلك الكنوز اللطيفة الملهِمة.. تمنح القلبَ والروح والجسد طاقةً لبدء يومٍ جديد مثمر مزهر كمثل زنابق هولندا  بل أحلى.