في صفحاتٍ قليلةٍ من مادة مهارات العربية التي أدرِّسها – نبذةٌ عن الأدب والتكنولوجيا ووقفةٌ عند أدب الخيال العلمي، وفي كل فصلٍ حين أمرُّ تلك الدقائقَ القليلات على هذه الصفحات، أقفُ حائرةً أمام نفسي، ولكنْ ثابتةً أمام طلبتي، حين أجدُني أدافع عن محتوىً دراسيٍّ من (الخيال العلمي) في أدبنا العربي؛ إذ لا أقدر أنْ أُبْعِدَ عن خاطري أنَّ الأدبَ في عصرنا اليوم في بعض أجناسه -إنْ لم نقل في معظمها- لا يعودُ يعني الكثيرَ إذا لم يلتقِ بفنون الإبهار البصري الذي يحاصرنا في كل مكان بالصور المتحركة والثابتة، بأبعادها القديمة المعروفة أو بأبعادها الثلاثية الجديدة.
يحضرني هذا الخاطر وأنا أكتب الآن هذه السطور عن فيلم:
(المريخي) The Martian
وهو فيلم أمريكي مثير من أفلام ما يمكن تسميته الخيال العلمي، من إخراج ريدلي سكوتّْ وبطولة ماتّْ ديمون. وقد جرى تصوير مشاهده الخارجية في منطقة وادي رم في جنوب الأردن، التي تحاكي بيئةَ المريخ الوردية القاحلة الشاسعة، والتي جعلَها الفيلمُ بالتقنيات المبهرة وزوايا التصوير الفاتنة، قطعةً ساحرةً من أرضٍ لا نكاد نعرفها وهي أقربُ إلينا مما نتخيل، وجعلَنا نرى جمالَ بلادنا بمنظارٍ وبعيون جديدة.
يقوم الفيلم على حكايةٍ معروفة لا جديد فيها، إنها حكاية روبنسون كروزو، ولكنه هذه المرة في الفضاء! إذ يتعرض أحدُ رواد الفضاء في البعثة الاستكشافية للمريخ مع زملائه لعاصفةٍ شديدة، فتغادر البعثةُ على عجل معتقدين بوفاة زميلهم، فينقطعُ السبيلُ به وحده على ذلك الكوكب، وعندما يدرك هذه الحقيقة يكتشف أن عليه مواجهة مصيره من أجل البقاء، والعمل على أن يصلَ لأهلِ الأرض خبرٌ من أهل المريخ يقول إن هناك نفساً بشريةً ما تزال تنبض بالحياة على سطح الكوكب الأحمر.
وكما هي صورة البطل الخارق في الأفلام الأمريكية، يعمل فريقُ (ناسا) بأكمله على محاولة استرداد رائد الفضاء، مارك وتني، حيّاً من ذلك الكوكب البعيد، وهي محاولة تتكلل بالنجاح في نهاية الفيلم السعيدة.
وبين اللحظة التي يقرر فيها بطلُ الفيلم أنْ يخوضَ صراعَ البقاء، وبين اللحظة التي يعود فيها إلى أحضان الأرض، بينهما كثيرٌ من اللقطات والتفاصيل التي تُبهر المشاهد، وتثير في نفسه عدداً من الملاحظات الجديرة بالتأمل.
تستوقفني عادةً في الأعمال العلمية التي تلامسُ الفضاءَ والأفلاك العالية- فكرةُ الله، أو فكرة عظمة الخالق وتفاهة المخلوق: ففي اللقطات التي تُسحَر فيها العينُ في الفيلم بروعة الفضاء السرمدي الممتد حول روّاد الفضاء، والظلام المزيَّن بنجومٍ لا تُعدّ، والكواكب والنجوم والأفلاك والمدارات... والكون الذي يموج بكل ما فيه بلا توقف وأنتَ تنظر إليه ذاهلا- تجدُ الفطرةَ السليمةَ لا تملكُ أمام هذا كلِّه إلا أن تقول: سبحان الله ما أعظمكَ! وتجعلك ببساطة تفتشُ عن خالق هذا كله.
لهذا فإنني ما زلتُ أذكر كيف فوجئتُ حين حضرتُ محاضرةً مباشرة مع الفيزيائي الشهير ستيفن هوكينج، في جامعة نيويورك أبوظبي، بمناسبة ترجمة كتابه (التاريخ الأكثر إيجازاً للزمن) إلى اللغة العربية، فوجئتُ كيف لعالِمٍ فيزيائي من وزن هوكينج أن يجاهر بإلحاده على الرغم من علمه الغزير الذي أغنى به الفيزياء وأبهر العالم، وعلى الرغم من أنه لا بدَّ اقتربَ من الله الذي يخافه من عباده: العلماءُ.
لا أدري لمَ يثيرُ الشفقةَ في نفسي- أولئك الذين لا تقوى قلوبُهم ولا ألسنتُهم على استحضار تنزيهِ الله في مثل تلك المواقف بأي لغةٍ كانت وبأي إحساس وهي كثيرة في الأديان والثقافات، وأَحمَدُ اللهَ كثيراً على نعمته لأننا ما زلنا نستطيع أن نقول: سبحان الله! وما شاء الله! بتلقائيةٍ وعفوية يُحرَم منها المترفِّعون عن الإيمان به. لهذا لم يعجبني في الفيلم استخدامُ البطل إبان الكارثة التي حلَّت به، لكثيرٍ من الشتائم والألفاظ السوقية مثل الـ F. word. و الـ Sh. word ، التي تثير في النفس نفوراً من أولئك الذين يُفحشون في القول في مجالسهم، وهو من المقبوحات.
لقد كان من المثير لاستغرابي أن الفيلم في دقائقه التي تقرب من مئةٍ وأربعين دقيقة- لم يُذكَر اسمُ الله فيها إلا في حوارٍ قصير لأقل من دقيقة! لم يُذكر اللهُ الذي يلجأ إليه الإنسانُ عادةً في لحظات الضعف البشرية، عندما لا يجد ملجأً يأوي إليه. لم يُذكَر اللهُ الذي تجدُ نفسَكَ قريباً منه كلما ارتفعتَ أمتاراً معدودةً فوق الأرض في طائرة، فكيف إذا خرجتَ منها إلى الفضاءِ الكونيّ الواسع؟ وكيف إذن لا تستطيعُ أن تتلمَّس وجودَ اللهِ فيما حولك وأنت وحيدٌ متفرد على كوكبٍ يسامِتُ السماءَ ويسامتُ الله، وأنتَ تستذكرُ جوابَ الجاريةِ في الصحراء...أين الله؟ فقالت: إنه في السماء. فكيف لا يقترب من الله ذلك الفضائي، وهو وحيدٌ في فضاءٍ ممتد على كوكب جدب، لا رجاءَ فيه ولا مستقبل... إلا أن يشاء الله.
ومن الأشياء الباعثة على التأمل في الفيلم بعضُ الأفكار التي قد تبدو فلسفية؛ لذا فإن شيئاً هنا يُقال: فعندما أيقن رائدُ الفضاء أنَّ زملاءَه غادروا الكوكب الأحمر وأنه بقي وحيدا، لم يجزع كما يتوقع بل كان متماسكاً، وهي ربما من نقاط ضعف الفيلم حين أعمَتْ القائمين عليه صورةُ البطل الذي ينبغي أن يكون خارقاً، والذي لا تظهرُ طبيعتُه البشرية والضعفُ الذي قد يصيب نفسه في هكذا موقف رغماً عنه، كما خلا الفيلمُ تماماً من إشارات عاطفية للبطل، إلا ما كان منه عندما ذكَر والديْه حين ظنَّ بنفسه اقترابها من الموت، لكنَّ المخرج الذي جعل العالم كلَّه يشهدُ لحظةَ إنقاذ البطل وإعادته إلى المركبة الفضائية التي ستقلُّه إلى الأرض، لم يجعل لوالديه مكاناً بين الملايين من الناس الذين شهدوا عملية الإنقاذ، في مشهدٍ لا يخلو من استعراض القوة الخارقة في بلاد العم سام!
لقد كان البطلُ واقعياً جداً عندما قرَّر أنْ يبقى على قيد الحياة قدر احتماله، وقدر ما تسمح به الإمكاناتُ الخارجية التي تتيحها محطةٌ فضائية مهجورة على الكوكب، لكنَّ شيئاً واحدا كان هو سرَّه في البقاء والصمود ألا وهو الأمل، الأمل هو سرُّ البقاء، الأمل هو ما يبقيك حياً رغم تقلب الأحوال. ربما لم يقل الفيلمُ ذلك، لكنك ترى الأملَ في كل خطوةٍ يخطوها رائدُ الفضاءِ تجاه الهدف الذي وضعه نصب عينيه، وهو أن ينقذ نفسه من الكارثة التي حلَّت به.
وفي طريقه المزروع بالأمل بدأت رحلةُ حياته الجديدة التي تشبه رحلة البشرية منذ طفولتها في صراعها من أجل البقاء. فاهتدى أولاً إلى تأمينِ مصدرٍ غذائي يقيم أوَدَه، المدةَ المتوقعة التي قد تفصله عن رفاق رحلته في الفضاء حتى العودة إلى الأرض، وهي أولويةٌ لا بدَّ منها تعيدنا إلى هرم الاحتياجات الأساسية للإنسان. وهكذا تبدو فكرةُ استنبات البطاطا في الدفيئة التي هيَّأها للزراعة- خطوةً وفكرةً واقعيةً لا من باب الخيال العلمي، وخطوةً أولى في رفض الإنسان للاستسلام للواقع الذي يحيط به ولا يقدم شيئا. وكان استمطارُ الماء سببِ الحياة، وتوظيفُ معارفه العلمية ومهاراته العديد، والموجوداتُ الباقية في المحطة الفضائية، كانت كلُّها مسَّخَرّةً من أجل تحقيق الأمل: سرِّ البقاء. وحين نجحت تجربةُ الزراعة كان شيئاً رائعاً أن ترى الأوراقَ عياناً تشقُّ (أرضَ) مريخٍ بعيدٍ وتنبت، فيخلق اللونُ الأخضر في المشهد حياةً، نحن فقط على كوكب الأرض مَنْ يعرف جمالَها وفتنتها!
وآخر ما في الفيلم من انطباعاتٍ استقرت في نفسي كانت فكرةَ الخلود التي تؤرق البشر، وهي فكرة فطرية وجدت مع الوجود البشري؛ إذ يحاول رائدُ الفضاء المفقود على المريخ (مارك)، أن يترك أثراً أياً كان مقدارُه في المكان والزمان الذي يحلُّ فيه، وتجلَّى ذلك في بدئه تسجيلَ بعضِ المذكّرات اليومية بالصوت والصورة أو بالقلم، في كل لحظةٍ يراها تستحق التسجيل والتوثيق، بل حتى في اللحظات الأخيرة التي سيغادر فيها أرضَ كوكبِ المريخ تراه يسجل كلماته الأخيرة، ويوقع اسمه على ورقة صغيرة يتركها خلفه هناك على الكوكب الأحمر، لعلَّ زائراً قادما يمرُّ على دياره تلك فيقف على أطلالها.