أرشيف المدونة الإلكترونية

الخميس، 27 يوليو 2017

أحمد مطلوب في كتابه رفيقة عمري.. ردُّ الجميل إلى حواء

بقلم: د.فاضل عبود التميمي
جريدة الزمان

نادراً ما تكتب المرأة المثقّفة عن زوجها في المجتمع الشرقي، فالكثيرات يحجمن عن ذلك لأسباب تتعلّق بالخوف من مجانبة الموضوعيّة، أو الابتعاد عن تهمة الانحياز إلى الزوج بوصفه مشاركا فاعلا في الحياة لا سيّما حين يكون على قدر عال من الأهميّة الأدبيّة ، أو الاجتماعيّة ،أو العلميّة، ومنهّن من تصرف النظر عن هذه المهمّة بدوافع نفسيّة مختلفة، والواقع يشير بقوّة إلى نساء كَتَبْنَ عن أزواجهنّ كتبا مهمّة، فقد قُدّر لي أنْ أقرأ لـ(سوزان طه حسين) التي كتبت: (معك) عن تجربتها الحيّة مع عميد الأدب العربي زوجها (طه حسين) قد تكون هذه المرأة استثناء؛ لأنّها فرنسيّة الأصل، لكنّها -والحق يقال- تطبّعت بطباع الشرق وعاداته، وصارت أمّا مصريّة بامتياز، من النساء اللائي كتبن عن سيرة أزواجهنّ: (عبلة الرويني) التي كتبت سيرة زوجها الشاعر(أمل دنقل) في كتابها: (الجنوبي)، ثمّ (غادة السمّان) التي كتبت:(بشير الداعوق كأنّه الوداع) وفيه تحدّثت أول مرّة عن حياتها الزوجية ،وعشقها لزوجها الراحل الذي رافقته أربعين عاما كانت بالنسبة لها تاريخا شخصيّا لا ينسى.

أمّا في العراق فإنّ د. خديجة الحديثي قد أخذت على عاتقها مسؤوليّة الكتابة عن زوجها:(د.أحمد مطلوب) حين أصدرت كتابها الأخير:(رفيق عمري في كتابات الآخرين)، ويبدو لي أنّ الأزواج المثقفين يحجمون عن الكتابة عن زوجاتهم لأسباب كثيرة يقف في أوّلها الخجل المتوارث الذي جعل الحديث عن الزوجة يدخل في باب الحياء الموروث الذي تدحضه قامات النساء السامقات، وهنّ يمارسن وجودهن الفاعل في الحياة عاملات، و عالمات ، وأمّهات يشار إليهنّ بالبنان.
وربّما كان الدكتور أحمد مطلوب، و من باب ردّ الجميل إلى زوجته التي ابتدأت الكتابة عنه بوصفه شريكا لعمرها ، قد خاض تجربة الكتابة عن زوجته د. خديجة الحديثي ليصنّف كتابا استذكاريّا عنها، وهي لمّا تزل على قيد الحياة تعطي أكثر ممّا تأخذ في كتابه الموسوم بـ(رفيقة عمري) الصادر عن المطبعة المركزيّة في جامعة ديالى 2015، وقد جعله أستاذ الأجيال متنا يمور بما يشتهي القارئ المحبّ لشخصيّة خديجة الحديثي التي أجزم أنّ تاريخها ينبض بالبياض، والحبّ النقيّ لمن كان معها زميلا، أو طالبا ، أو جارا ، أو قريبا ،أو بعيدا فقد جُبلت هذه المرأة العراقيّة الراقية، والرقيقة على طبع الأمّهات الرابضات في منابع الطيبة ،والحنان ، فضلا عن أنّ الله سبحانه - وهذا من حسن حظّها-حباها علما ومعرفة ، وتسامحا ، وخصالا يندر أنْ تجتمع كلّها في عقل امرأة تعيش في عصر متقلّب الأهواء ،والولاءات.
كتب د. مطلوب مسترجعا صورتها الأولى قائلا: (كان من بين نساء العراق فتاةٌ وُلدت في قرية جنوب البصرة ،وتلقّت تعليمها في البيت لا متوسطة، ولا ثانوية في قريتها ودخلت في عام 1952م كليّة الآداب والعلوم) ص3، وقال واصفا إيّاها بعبارات ميسورة استمدت دلالاتها من تواضعها الجم في الجامعة، وفي بيتها أيضا:(ولم أرها يوما تشكو من تعب، أو تردّ من يسعى إليها لتعينه) ص5،وكان صيتها ملء الأسماع في العراق، وخارجه انتدبت للتدريس في جامعة الكويت ، وألقت محاضرات في جامعة وهران بالجزائر، ودعيت إلى المؤتمرات العالميّة فمثّلت العراق في المؤتمر الإسلامي الذي عقد في إندونيسيا سنة 1965م ، وحضرت المؤتمرات العلميّة في العراق، والأردن ،وقدّمت فيها البحوث، وترأست اللجان وكانت في جميعها مثالا يحتذى للمرأة المتعدّدة المهام، فضلا عن أنّها كُرّمت عدّة مرات لتميّزها.
لقد عُرفت الدكتورة بتواضعها المميّز، تواضع العلماء الذين يرون في ما وصلوا إليه بداية الانطلاق نحو العلم ، وكأنّهم في أوّل الطريق ، حدّثني يوما زميلي وقريبي الشهيد د. كريم أحمد جواد التميمي -رحمه الله- ،وهو من طلابها النابهين ،والمقربين إلى قلبها وعقلها عن تواضعها قائلا: كانت استاذتنا تدرّسنا في إحدى مراحل البكالوريوس في آداب بغداد ،وكانت تملأ بخط يدها سبورة القاعة شرحا وتعليقا على شواهد النحو أملا في تقريب المادّة إلى الأذهان ، وكانت كلّما امتلأت السبورة عمدت إلى تنظيفها بيدها الكريمة مرات وليس مرة واحدة، وهي في عمرها الجليل من دون أن تنتدب طالبا، أو طالبة للمهمّة ، كما يفعل قسمٌ من أساتذتنا، ما قاله التميمي جزء يسير يكشف شغف الدكتورة بالدرس الجامعي ، وتعلّقها بأساسيّات المهنة ، وتقاليدها، ليحيل على سجاياها ، وخصالها التي يعرفها الجميع.
بُني الكتاب الذي جاء بأربعمئة وخمس وخمسين صفحة على (ثلاثة وثمانين) نصّا ، لم أسمّها فصولا بل سميّتها (نصوصا) لاختلافها في مضمونها الدلالي بين نصّ سيرة، وقصائد، ومقالات، ومقابلات، و وثائق ، على وفق الآتي:
1- السيرة: 
في نصوص السيرة أدخل د. مطلوب في متن الكتاب سيرتين الأولى: السيرة العلميّة التي تتبّع فيها المصنّف الحديثيّة بدءا من تحصيلها الدراسي والعلمي وصولا إلى إشرافها على رسائل الماجستير و أطاريح الدكتوراه ، وانتهاء بالجوائز التي حصلت عليها ، والكتب المؤلّفة التي بلغت اثني عشر كتابا في النحو، و الصرف والمدارس النحويّة، وتيسير النحو ، والكتب المحقّقة التي بلغت عشرة كتب ، والكتب المدرسيّة التي ألّفت فيها كتابين ،والبحوث التي بلغت اثني عشر بحثا ،والمواد الموسوعيّة التي بلغت خمس عشرة مادة. 
أمّا السيرة الأخرى التي كتبها أستاذنا مطلوب فسيرتها الحياتيّة التي تتبّع فيها حياتها بدءا من الولادة في (السيبة) جنوب البصرة ، حتى اقامتها في بغداد أطال الله في عمرها ، وعمره ، وهي ما اصطُلح عليها نقديّا بـ(السيرة الغيريّة) التي يكتبها أديب عن سيرة غيره، وقد لفت انتباهي فيها أنّ د. مطلوب استبدل اسم (خديجة) بـ(وفاء)، ولعلّ ذلك يردّ إلى أنّه وجد في لفظة (وفاء) ما يقارب حقيقة المرأة التي أخلصت له ،ولبيته فكانت وفاء في وفاء.
و سيرة الأستاذة خديجة حافلة بالإشارات إلى الأمكنة التي صارت جزءا من عالمها، فـ(السيبة) قرية لا شارع فيها سوى ذلك الذي يربطها بـ(الفاو)،وقد دخلت كليّة الآداب (على استحياء ونظراتها معقودة على الأرض ، وخطواتها متعثرة ، حتى إذا ما بدأ الدرس الأول وَجَدَتْ نفسها بين سبعة طلاب ،وثلاث بنات طالبات فاطمأنت قليلا) ص20، فكانت خطوبتها بعد عامين من تعارفهما على مقاعد الدرس الجامعي ، ثمّ الزواج والعمل في الإعداديّة المركزيّة ببغداد، وهو معيدٌ في كليّة الآداب، ثم السفر إلى القاهرة للدراسة ، والعودة الى بغداد ، والعمل في الكويت ، والرجوع إلى بغداد التي لم يفارقاها بعد ذلك.
2- القصائد: 
وهي مجموعة من القصائد التي كتبها د. أحمد ، وكانت د. الحديثي موضوعا قويّا فيها، منها قصيدة:(ستّون) التي كتبها بمناسبة مرور ستّين عاما على زواجه منها، وقد قسّمها الشاعر على مجموعة أقسام كلّ قسم يتحدث عن رؤية معينة، فالاستهلال الذي كتبه شعرا عموديّا كان مقدمة للاحتفاء بالمناسبة، تلاه (اللقاء) الذي وقف من خلاله الشاعر عند أوّل لقاء كان بينهما، و(الطفولة) الذي تحدث فيه عن بواكير حياته في تكريت، و (بعد اللقاء) ، و (الاعتقال)، و(الإبحار)، و(المناجاة)، و(القرار)، و(عند الوداع)، القصيدة كتبت في العام 1957بنفس قصصي سلس عبّر فيه الشاعر عن تجربة حياتيّة بطلاها هما معا، فضلا عن قصائد أخرى كتبت في د. الحديثي منها: حبيبتي، وطيف، وأطياف، وحبيبتي، وعشرون، ووطن وزهرة ، و زهرتي، القصائد جميعها التي كُتبت في الدكتورة إمّا على وفق الشكل التفعيلي المعروف، أو العمودي الموروث جامعها المشترك : خديجة الحديثي بما تملك من مزايا جميلة أهّلتها لأن تكون زوجة ،وأمّا، وأستاذة أجيال، يقول في قصيدة (طفولة) مستذكرا مكانه الأول والخطاب لها:
حبيبتي (تكريت) كانت مرتعي الجميل
وكنت طفلا لا أعي حوادث الزمن
لكنّ أمي وأبي قالا وفي عيونهم أحزان
قد كان فيها العيش مرّا يصرع الانسان... ص31.

وقد بيّن الدكتور المصنّف طبيعة هذه القصائد حين قال:(لكلّ قصيدة زمن وموقف فقصيدة (عند الوداع) صورة لموقف من الفراق جديد ، أي بعد خروجي من المعتقل ورحيلي الى (كركوك) لا برغبة ولكن بما اقتضته ظروف من تُفكّ عنه القيود، ومثّلت العراق - يعني د. خديجة - في (المؤتمر الإسلامي بإندونيسية) فكانت قصيدة (طيف)، ومثلها (أطياف)، و(عشرون)، و(وطن وزهوره)، وفي سنة 2004 تَوَجَّهَتْ إلى (مكّة المكرّمة ) لأداء فريضة الحج فكانت (زهرتي)، وكان ما أصبت به من مرض وحي (سلافة حب)، و(زهرة المنى)، وكانت هذه القصيدة تعبيرا عن صدق المسيرة التي قطعناها خلال عشرات السنين) ص6، يقول في قصيدة (الإبحار) ، والخطاب لمّا يزل موجّها إليها: 
حبيبتي سِرْنا وسارتْ معنا قوافلُ الأعوام
تحمُلُنا، نحمُلُها حبّا وما زلَّت بنا الأقدام 
نقذفُها، تقذفُنا في لجّة التيار
وانطلقَ البحّار
في قلبه عزيمةُ الأحرار
وصرخةُ الثوار...ص38.
3- ذكريات: 
وقد كتبها د. عبد الإله الصائغ التي ذكر فيها ):تسنمت الدكتوراه التي جعلني أدين لأفضل الأساتذة المربين الدكاترة: خديجة الحديثي –أم الأساتذة والطلبة بجدارة – وأحمد مطلوب ، وعناد غزوان ،وهادي الحمداني، وعبد الجبار المطلبي ،ورزوق فرج رزوق ، وجلال الخياط ، وسعدون الزبيدي[لعلّه علي الزبيدي] ، وإبراهيم حرج الوائلي ، وصلاح خالص ، وعلي جواد الطاهر ، وعدنان محمد سلمان...) ص78، وفي هذه الذكريات أماط الدكتور الصائغ اللثام عن قضايا كثيرة عاشها في كليّة الآداب لا يتّسع المقال لسردها.
4- مقالتان
كتبهما الدكتور شوقي ضيف –رحمه الله – عن د. الحديثي الأولى عنوانها: (كتاب أبنية الصرف في كتاب سيبويه) التي صارت فيما بعد مقدمة كتابها الذي كان في الأصل رسالة ماجستير أشرف عليها د. عبد الحليم النجار، وصدر في بغداد 1965م، والأخرى عن اطروحتها (أبو حيان النحوي) التي صارت مقدمة للكتاب بالاسم نفسه ، وصدر في بغداد 1966م ، وفي المقالتين أشاد ضيف بجهود د. خديجة وعلمها .
5- الدراسات التي كتبها طلاب الدكتورة الحديثي
 وهي دراسات علميّة وافية ناقش فيها كاتبوها كتب د. الحديثي عرضا وتحليلا ، وكانت بأقلام : د. محمد عبد المطلب البكّاء الذي كتب:(الدكتورة خديجة الحديثي صدق العزيمة والسبق العلمي)، ود جليل كمال الدين الذي كتب(سيبويه حياته وكتابه)، ومحمد حسين الصغير الذي كتب مقالة بالعنوان السابق نفسه، ود كريم أحمد جواد التميمي –رحمه الله- الذي كتب دراستين الأولى:(من أعلام الفكر النحوي المعاصر في العراق: الدكتورة خديجة الحديثي)، والأخرى: (سمات النحو البغدادي في ضوء كتاب بغداد والدرس النحوي)، ففي هذه الدراسات جميعا وقف الدارسون على أبرز ما يميّز الدكتورة الحديثي منهجا ، وإجراءات .
6- اللقاءات: 
وهي مجموعة من اللقاءات الصحفيّة التي أجريت للدكتورة قام بها عددٌ من الصحفيين العراقيين والعرب منهم: تهاني الرتقالي مراسلة مجلة المجالس الكويتية التي كانت حياة الدكتورة الخاصّة محور إحداها، وإبراهيم القيسي الذي أجرى ثلاثة لقاءات معها وكان عِلْمُ الدكتورة ،وبحثها متنها الأساسي، وفائدة [لعلها فائدة ال ياسين] التي أجرت لقاء محوره اهتمامات الحديثي وأثر القرآن الكريم في تعلّم العربيّة، وعالية طالب التي سألت عن الأخطاء اللغويّة عند المذيعين ، والصحافة الأدبيّة ، ومقابلة مهمّة جدا أجراها حميد المطبعي كان عمادها العربيّة والحضارة ، فضلا عن فلسفة د. الحديثي الحياتية، ومقابلة أخرى أجرتها الصحفيّة أسماء محمد مصطفى كان موضوعها النشاط العلمي الخاص للأستاذة الحديثي ، فضلا عن مقابلة أجرتها فاطمة العتبي تعلّقت بالبدايات الصعبة التي عاشتها أستاذتنا ،ومراحل دراستها، ومقابلة أخيرة أجراها سليم شريف لها سمت سيكولوجي تقصّى من خلالها الأجواء الروحانيّة للدكتورة ، وفي المقابلات جميعها أفاضت الدكتورة الحديثي الحديث عن تجربتيها في التعلّم ،و التعليم ، والتأليف، فضلا عن علاقاتها الإنسانيّة مع من يحيط بها.
7- مقدمات كُتُبِها: 
(أبنية الصرف في كتاب سيبويه)، و(أبو حيان التوحيدي) ،و( كتاب سيبويه وشروحه)، و(سيبويه)،و(الشاهد وأصول النحو في كتاب سيبويه) و(دراسات في كتاب سيبويه)، و(موقف النحاة من الاحتجاج بالحديث النبوي الشريف)،و(المدارس النحويّة)، و(المبرد سيرته ومؤلفاته)، و( بغداد والدرس النحوي)، و(تيسير النحو)، و( ابن الأنباري)، وهي فيها جميعا انطلقت من منهجيّة العرض العام للكتب لغرض الكشف عن فصولها ومباحثها.
8- مقالات أخرى كتبتها د. الحديثي في :
(عيد المعلم)، و( أشهر فاتنات التاريخ)،و( الرائدة) ،و( لغة الضاد)، فهي مقالات منوّعة استهوتها موضوعاتها فراحت تتأمل فيها وأجادت.
9- دراسات موجزة كتبتها الدكتورة
بتكليف من المنظمة العربيّة للتربية والثقافة والعلوم في تونس، وموسوعة الحضارة الإسلاميّة في (عمّان) كتبتها بمنهجيّة علميّة توخّت من خلالها الدقّة والموضوعيّة، وإحقاق الحقّ وهي: (ابن الانباريّ) ،و(ابن جابر الهوّاري)، و(ابن سيّد الكناني الإشبيلي)، و(ابن كيسان)، و(ابن الفَرُّخان)، و(ابن المرحل المالقي)، و(ابن مُغَلِّس الأندلسي)، و(أبو حيان النحوي)، و(أحمد الحملاوي) ، و(أحمد الهاشمي)، و(الاسم ودلالاته العربيّة)، و(إعراب القرآن)، و(ثعلب)،و (الزجاجي) ، و(نفطويه)...، واضح من خلال قراءة تلك المتون أنّها كُتبت بنفس موسوعيّ موجز حاول الإحاطة بالعلم المشار إليه ، أو الموضوع لغرض الكشف عن اسهاماته في تاريخ الحضارة العربيّة الإسلاميّة.
10- مقالتان كتبتا عن الحديثي
ونشرتا في الصحافة العراقيّة وقد خلتا من اسمي كاتبيهما الأولى:(خديجة الحديثي) ونشرت في جريدة الرأي البغداديّة في 15/ ت1/ 2000 والأخرى: (بغداد والدرس النحوي) وقد نشرت في جريدة الزمن في 7/ ت1/ 2001.
11- الوثائق: 
وفيها نُشرت قرارات حصول د. الحديثي ود أحمد مطلوب على شهادات البكالوريوس ، والماجستير، والدكتوراه .
12- الخاتمة: 
كتب د. أحمد مطلوب خاتمة الكتاب بروح أرادت الإشارة إلى حياته بوصفه (مصنّف) الكتاب؛ ولهذا عمد إلى الحديث عن بداياته العلميّة، والجوائز التي حصل عليها، والوظائف التي شغلها، والمجامع العلميّة التي عمل فيها عضوا مؤازرا، أو عاملا، أو مراسلا في مجامع عربيّة كثيرة.
وتحدّث أستاذنا في الخاتمة نفسها عن مؤلّفاته، وحياته الاسريّة، وأولاده، وبناته، وقد جعل للخاتمة ملاحق تضمّنت: رسالة شعريّة بمناسبة إصدار الكتاب أرسلها ابنهما الأكبر: أثير وهو يحمل دكتوراه في أمراض المفاصل والتأهيل الطبي، ورسالة نثريّة كتبها ابنهما الآخر: نضير حامل شهادة البورد العربي في الأمراض الجلديّة، ثمّ قصيدة بالمناسبة نفسها كتبتها الحفيدة رفل أثير.

وبعد: فكتاب (رفيقة عمري) ليس كتاب سيرة غيريّة خالصة فحسب، إنّما هو كتاب استذكاريّ استحضر فيه (المصنّف) الأستاذة الدكتورة خديجة الحديثي في سيرتيها الحياتيّة والعلميّة، ثمّ أضاف إلى متنه ما كتبه عنها بعض أساتذتها، وطلابها الذين كان لها ولمّا يزل موقفٌ في نفوسهم، وقد قطعت شوطا جليلا من حياتها وهي تدرّس أو تحقّق كتبا، أو تبحث في مظان التراث، فضلا عن أثرها في تاريخ تعليم النحو، والصرف في العراق والوطن العربي.
والكتاب الاستذكاري ينحو منحى قريبا من المادة الموسوعيّة بسبب سعة عقل الشخصيّة المحتفى بها، وهي هنا شخصية د. خديجة الحديثي التي كتبت في حقول علمية وثقافية لا يمكن انكارها، فضلا عن حضورها الطاغي في الوسط الاكاديمي بوصفها أوّل امرأة عراقيّة، وربّما عربيّة تختصّ بعلمي النحو، و الصرف، ولو قيّض لأستاذنا د. أحمد مطلوب أن يعثر على كلّ ما كُتب عن الدكتورة لكان كتابه موسوعة بمجلدات، فقد قدّر لكثير ممّا كُتب عنها أن تلتهمه النيران التي باغتت مخزن الأسرة الذي كان بمنزلة ارشيفها في نيسان 2008.
تحيّة حبّ وعرفان لأستاذنا د. أحمد مطلوب الذي كانت له إسهاماته في التعليم العالي ، والتأليف ، والكتابة في النقد العربيّ القديم والحديث ، والبلاغة ، والتحقيق ، والشعر ، والمذكّرات ، فضلا عن رياسته الجمع العلمي العراقي ، وكان له الفضل في كشف ما غمض من حياة استاذتنا د. خديجة الحديثي.

الاثنين، 24 يوليو 2017

عصر "هواة المراسلة"!

لا نعرف كثيرا عن وسائل تكوين الصداقات قبل الستينيات والسبعينيات، ولا كيف كان الناس يجدون من يشبهونهم.. اجتماعيات الحياة عبر التاريخ مجهولة للغاية، حتى في تلك العصور التي نحسب أننا أحطنا بها علما.. نكتشف ذلك حين نفتش في التفاصيل، حين نسأل أسئلة تبدو في عصر جيلنا ساذجة بديهية.. مثلا: كيف كان الناس يتعرفون إلى بعضهم؟ هذا السؤال الذي لا يبدو موضع تفكر مهم عند جيل مواقع التواصل، وسيبدو أكثر سطحية عند الأجيال اللاحقة التي لا نعرف كيف ستلعب التقنية في تصوراتهم عن حياة السابقين.
حاجة الإنسان إلى البوح والحكاية متأصلة فيه منذ نزل إلى الأرض، وشغف البحث عمّن يشبهونه ظل -دائما- ميزان رحلة الراحة والقرار، لا شك أن الناس عبر التاريخ حاولوا أن يكسروا جدران المحيط الصغير، ليصلوا إلى أوسع أفق ممكن، لكن كيف؟ التفاصيل الصغيرة تبدو دائما عصية على الترصد والمراقبة.. التقنية تبتلع التفاصيل، التطور يبدو أسرع من الوقوف على الخبايا.. حياة الناس خلال السنوات العشر الأخيرة بدت هيسترية، اختراعات انطلقت واستخدمت واختفت على هامش التاريخ، التقنية ابتلعها، لم ولن يلتفت إليها أحد!
أتذكر قبل خمس سنوات فقط، أعلنت شركة أمريكية متخصصة في العقار عن تصميم "ثوري" لدورات المياة في المنازل الراقية، كان "الاختراع" عبارة عن مكتبة يتم ملؤها بكتب خفيفة متنوعة تُرفق بجوار المرحاض، لتسلية المستخدم أثناء قضاء حاجته.. اقتصاديون توقعوا أن تحصد الفكرة ملايين الدولارات.. مثقفون قالوا إن الفكرة ستسهم في رفع حجم الإقبال على القرآءة.. وساخرون تحدثوا عن أجيال ستبني ثقافتها في دورات المياه، أو كما أسماها أحدهم حينها بظاهرة "الثقافة الحمامية".
لم يكن يدور بخلد أحد من هؤلاء أن الفكرة "العبقرية" ستنهار قبل أن تبدأ، وأن شركة صغيرة متخصصة في إنتاج التطبيقات الذكية، ستنسف "عبقرية" الاختراع الباهر، عبر تطبيق صغير يضم سلسلة ألعاب تسلية على شاشة الجوال الذكي.. مَن قد يفكر اليوم في بناء مكتبة في حمام بيته؟.. يصيح شاب عشريني: "ما هذه الفكرة السخيفة!".. صدقني -عزيزي- كانت فكرة عبقرية حين انطلقت!
انظر كم الأمر مضحك؟ أنا -ابن السبعة والعشرين عاما- أحكي عن "ذكرياتي" التي لا يعرفها أبناء هذا الجيل! هل تدرك الآن كيف تبتلع التقنية تفاصيل التاريخ؟ لقد أصبحنا عواجيز وأصحاب قصص حصرية لمجرد أننا أدركنا أياما قبل اختراع الهواتف الذكية أو الإنترنت!.. بإمكاننا اليوم أن نحكي للصغار قصصا يفتحون من غرابتها أفواههم.. بينما نحن نتذكرها كأنها بالأمس القريب!
إن مصطلح الجيل اختلف كثيرا هذه الأيام.. قديما كان الجيل يعني من عاشوا نحو مئة سنة أو يزيد.. نقول جيل الستينيات، وجيل السبعينيات.. التطور كان بطيئا، من السهل أن تجد قواسم مشتركة بين سكان الأرض لقرن كامل.. اليوم، يبدو هذا الأمر مستحيلا، فمواليد التسعنيات وحدهم يمكن تصنيفهم إلى أجيال مختلفة.. مختلفة تماما!
من سيفكر بعد عشرين عاما في أن يقرأ ردودًا صرف عبد الوهاب مطاوع شطرا من عمره في خطها، ظنّا أنه يحجز مساحة في ذاكرة التاريخ ستكون عصية على النسيان؟
قبل سنوات فقط، شهد التاريخ واحدة من طرق التواصل المرهقة، ربما لم تعد تلتفت إليها الأجيال المعاصرة رغم أن بعضهم قد استخدمها فعليا، وبالقطع لن تسمع عنها الأجيال اللاحقة شيئا.. "أبحث عن مطلقة"، "أريد علاقة جادة".. عبارات على هذا النحو كانت تظهر على شاشة التلفاز ضمن "شريط الشات"، وأخرى في جروبات الياهو ومواقع محادثات الجافا ومنتديات التواصل.. كلها كانت وسائل للتعارف، ظن أصحابها أنهم يمسكون طرف التقدم حينما اقتحموها، اليوم كثير منهم ينزوي خارج التطور، فقد تجاوزته التقنية وابتلعته تطورات التاريخ.
حكى لي أبي -مرة- كيف أن ثورة وسائل التواصل في عصره كانت الهاتف الأرضي، الذي لم يكن متوفراً في كل البيوت، والهاتف الآلي لا يمكنك تحصيله إلا في المحافظات والمدن الكبيرة، أما القرى المحظوظة، فلم يكن أمام أهلها إلا طلب الرقم بواسطة عامل "السنترال" الذي يتولى عملية التوصيل مع الطرف الآخر، وكان التواصل الدولي يعني انتظار ساعات للعثور على لحظة الحظ التي يكون فيها الخط الدولي غير مشغول.
قبل والدي بجيل واحد، كانت وسيلة تواصلهم المثالية هي البريد العادي، (وقتها لم يكن عاديًا)، كان نافذة جيلهم للتواصل مع العالم الخارجي سواء ضمن أنحاء البلد الواحد، أو خارج حدود البلاد.. وكان لها طقوسها الخاصة، كما يصفها المدون زاهر هاشم: "كنا غالباً ما نرفق الرسالة بصورة أزهار وأطفال سعداء، أو نضع رشة من العطر على الرسالة، وأحياناً نرسل بعض الأزهار والنباتات المجففة للتعبير عن المشاعر، بسبب عدم وجود الوجوه التعبيرية للتعبير عن الفرح أو الحزن".
هل تسمع عن بريد الجمعة في صحيفة الأهرام؟ الأمر ليس بعيدا، فقط قبل سنوات، بإمكانك أن تدرك بعضا منها على شبكة الإنترنت.. حين ستقرأ بعض تلك الرسائل، ستتذكر فجأة الحلقات الإذاعية الشهيرة في الراديو حين تحكي فتيات معاناتهن في الحب لصاحب الصوت الرخيم البارز.. لكن هل تجد ذلك يختلف كثيرا عما يدور الآن في مواقع تبادل الأسئلة والإجابات وتطبيقات الصراحة؟ هل استوعبت أن كلّا منّا صار اليوم يمتلك إذاعته الخاصة وبرنامجه المميِز؟ هل فكرتَ -مرة- لمَ فقدت تلك المراسلات متعتها حين أصبحت في متناول الجميع؟ من سيفكر بعد عشرين عاما في أن يقرأ ردودًا صرف عبد الوهاب مطاوع شطرا من عمره في خطها، ظنّا أنه يحجز مساحة في ذاكرة التاريخ ستكون عصية على النسيان، لا في وجودها كعنوان، وإنما في تفاصيل سطورها وكلماتها.. كلنا يعرف اليوم "بريد الجمعة"، لكن كم منّا قرأ شيئا منه؟.. أخبرك أمرًا، يوما بعد يوم، سيجيئ جيل لن يعرف حتى عن عنوانها شيئا.. سوف يبتلعها التاريخ أيضا!
في صحافة الستينات والسبعينات، انتشرت زوايا متخصصة بهواة المراسلة، يرسل القراء صورهم وينشرون عناوينهم ويعلنون رغبتهم بالمراسلة وبناء صداقات مع آخرين، كان الشباب يتبادلون معلومات الأصدقاء ويرشحونها لبعضهم البعض، بصورة تقترب مما يجري في فيسبوك حالياً لكن بطريقة بدائية.. يدفعني الفضول أحيانا كثيرة إلى استعراض مجموعة من صور وأسماء تعود لعدد من هواة المراسلة، أسماء منشورة قبل عام 1970.. أصحابها كانوا في العشرين من أعمارهم حينها، هذا يعني أنهم الآن في أواخر الستينات.
كثيرا ما أتأمل صورهم والمعلومات تحتها، وأتمنى لو أصل إلى بعضهم -هذه الأيام؛ لأسأله: هل حققت مراسلتك غايتها؟ هل راسلك أحد؟ هل كنت تتخيل وقتها أن تعيش إلى زمان الفيسبوك -كما أعيش- لأراقب التقنية في سكون، في انتظار الثورة التواصلية القادمة، التي ستجعل من يقرأ هذه التدوينة بعد أعوام يصيح متعجبًا: كاتب مسكين.. منبهر بزمان الفيسبوك القديم!
الأجيال اللاحقة لن تعرف كيف كانت معاناة سابقيهم في الحصول على شبيه، في الوصول إلى مساحة للبوح دون خوف أو قلق، خارج حدود الجوار
التفكير في التفاصيل مرهق جدا، إحدى المراسلات كانت لفتاة تعتذر عن نشر صورتها، وأخرى كتبت في شروط استقبالها للمراسلات أنها "للفتيات فقط".. هل تجد ذلك يختلف كثيرا عن مثيلاتهن في عالم الفيسبوك اليوم؟ ألا تزال تلك الكلمة -هي هي- منسوخة فوق حسابات بعض بنات جيلنا؟ هل ثمة تطابق في القضايا ونقاط الخلاف؟.. ولمَ خافت تلك الفتيات من نشر معلوماتهن؟ هل كن سلفيات قبل السلفية؟ أم أن اشتراطات مجتمعية منعتهن من ذلك؟ هل كان المجتمع وقتها يرى في من تفعل ذلك تحررًا زائدا لا يليق بمقام زوجة ولا مسؤولية بيت وحياة؟ هل كن يخشين التحرش؟ هل كانت بعضهن فعلا تستقبل "مراسلات" من شبان غير مسؤولين؟ هل كانت تلك الصفحات وقتها مكانا لاصطياد الفتيات؟.. تفاصيل وتفاصيل وتفاصيل!
يضرب هاشم مثالا على إحدى الرسائل التي استقبلها حين وضع معلوماته في زاوية "هواة المراسلة" في السبعنيات.. كانت الرسالة تقول: الأخ العزيز: أرسل لكم كلماتي هذه عبر أثير الشوق والحنان لتصل إليكم وأنتم في أتم الصحة وموفور العافية، كلماتي هذه أسطرها بمداد من الشوق، وأعطرها بعبق من الذكريات التي لا تنسى، آملاً أن تصلكم وأنتم تكتسون ثوب العافية".. تلك الرسالة التي ظل قرابة أسبوعين يراقب صندوق البريد في انتظار أن تطرح بذرته أي ثمرة.. يظل التراسل بالبريد متواصلا أشهر كاملة، والقصة السعيدة هي من تنتهي بلقاء، وهو أمر كان نادر الحدوث.
غاية القول، جريان الحياة أسرع منا، التقنية تبتلع تفاصيل تاريخ الأجيال، وسهولة التواصل هذه الأيام جعلت من العلاقات بمختلف أنواعها من صداقة وحب وبغض وتحالف وعداء، أمرا فاقد القيمة.. الأجيال اللاحقة لن تعرف كيف كانت معاناة سابقيهم في الحصول على شبيه، في الوصول إلى مساحة للبوح دون خوف أو قلق، في معاناة البحث عن صديق عمر أو توأم روح، خارج حدود الجوار.

الاثنين، 5 يونيو 2017

إلى الذين لم تُختبر مبادئهم بعد

بقلم: محمد الخشاب
مدونات الجزيرة 

عن أكثر الكلمات جدلًا، وأثقلهم وزنًا ومقاما، عن سلاح النّفْس الأول، النافذة التي مِن خلالها يَميز الإنسان غَيره، أصادق هو؟ -يتمشى قوله مع فعله-، أم أنه كالمِذياع، ينطق ولا يعمل، عن المبادئ ستكون رحلتنا. هل هي الكلمات المَوزونة الرنّانة بنغمات الشدة والثبات، أم إنها جوادٌ لا تُعرف حقيقته إلا في أرض المعركة؟

في عالمِنا -عالم الشكليات والنفاق- ما أكثر الذين يتغنون بالمبادئ والقيم! وكنت منهم- يرسمون لوحاتها على جدار الحياة فرحين، وفي مُخيلتهم أن ذلك أصوب الصواب، فإذا ما كانوا في المأزق الأشد؛ إذ تُختبر مبادئهم، ويا لشدة الموقف؛ فترى الذين حَسبتهم عِلية نفسٍ أحطها وأوضعها، فالمبادئ -سلمك الله- ليست عبارات تُردد أو كلمات تُحفظ على غير بينة، فتسقط وتذبل كأوراق الشجر، إنما هي مواقف وقرارات تُعدها العزيمة والإرادة ويستظهرها الصبر واليقين، ويعلنها والإيمان والعمل، حتى تكون واحد من أمرين:
* إما الذين اُختبروا، فثبتوا غير مُزحزحين ولو شبرًا حتى آخر ذفرة، أولئك أصحاب القلوب المضيئة الصادقة -وما أنا بمنهم- ذوو الطرق المستقيمة، أصحاب الإيمان الأصدق، والعمل الأتقن، الذين تُروى حقول الصبر واليقين من مواقفهم وأخلاقهم، تحتمي في صدورهم مرادفات العزيمة والإصرار، أولئك من فازوا وانتصروا، فازوا بنفوسهم النقية، وانتصروا على الحياة الفانية الكاذبة، أولئك لهم أن يفخروا بأنفسهم حق الفخر، فلمثل هذا كان الفخر موجودا.
إن الحياة معادلةٌ لا وزن لها ولا ميزان؛ إذ إنك بقدر ما تعطيها تأبى أن تعدل، فتسلبك ضعف ما أخذت وليس ذلك فحسب، بل ولن تختبرك إلا فيما تعلّقت به حد الموت
* أو الذين اُختبروا، فتماسكوا وحاولوا، إلا إنهم سقطوا -وأنا منهم-، وهنا يكون للسقطة علامة في ذاكرة المرء؛ إذ تُعطيه درسًا لا يُنسى، وتفتح مداركه على حقيقة الحياة، فيستشعر مواطن القوة وينزلها، ويعرف منازل الضعف والهوان فيبعُدها، ومثلنا يرممون مبادئهم، لا يبكون حظهم، ولا يزيدهم هذا إلا قوةً وإصرارا، يبدأون طُرقًا جديدة، ولا يستسلمون حتى تُختبر مبادئهم أخرى، فتضئ هذه المرة وتُزلزل تحتها ثباتًا وقوة.
والعجب كل العجب منك يا من لم تُختبر مبادئك بعد، وتعتز بنفسك وتختال فخرًا، وتبني فضيلتك على سقطات الآخرين، كالذي يتسول هددا منازلهم ليبني قصرًا، فلن تعرف معنى الثبات والصدق حتى تكون في طليعة المعركة، تنزل بين الوضّاعين والفاسدين وتسير غير آبه لقيل أو قال، تضرب بكلام الفواهين من البشر عرض الحائط، لتنظر هل تظهر قوة مبادئك وقتها أم ستصبح سرابًا لا وجود له؟
فالمسألة وقت لا غير، ستُختبر مهما بَعُد الميعاد، فكل منّا لديه معركته الخاصة، فقط نختلف في الوقت الذي تبدأ فيه الحياة، وفي وقت الاختبار تظهر العزائم على حقيقتها، ويتجرد الجميع من أقنعته، يوم تُغلق طرق كنت تظنها لا تنتهي، وتُهدم أحلام خِلتها ستبلغ عَنان السماء، وتُسلب منك أشياءً كانت كقطعة منك، وتُفارق أرواحًا كانت كمصباح لك، إن تمر بهذا كله -يا صديقي- وتَثبت مبادئك حقًا، لك أن تفتخر وتختال كما شِئت، لكن لا تكن كالسباح الجبان يقف على الشاطئ المالح ويحتفل بغرق الذين حاول الوصول للمياه العذبة.
مهما ثَبت، ستزِل قدمك يومًا؛ فالحياة لا تدوم لأحدٍ. الأهم مهما هُزمت، كن شجعًا ولا تيأس، أعد المحاولة، استفد من أخطائك، رتب خطواتك ولا تجعل ثرثرة الناس تُثنيك عن هدفك
إن الحياة معادلةٌ لا وزن لها ولا ميزان؛ إذ إنك بقدر ما تعطيها تأبى أن تعدل، فتسلبك ضعف ما أخذت وليس ذلك فحسب، بل ولن تختبرك إلا فيما تعلّقت به حد الموت، هكذا هي دائمًا بقدر ما نتعلق بالأشياء فيها بقدر ما تزداد رغبتها في القضاء عليه، لنصل إلى حقيقة كلنا نعمى عنها مهما تفتحت أعيننا: "كل شيء ما خلا الله باطل، وكل نعيمٍ لا محالة زائل".
ومهما ثَبتّ، ستزِل قدمك يومًا؛ فالحياة لا تدوم لأحدٍ. الأهم مهما هُزمت، كن شجعًا ولا تيأس، أعد المحاولة، استفد من أخطائك، رتب خطواتك ولا تجعل ثرثرة الناس تُثنيك عن هدفك، فالناس يغيرون وجوههم كل يوم، بل كل ساعة، والله -وحده- من يَهبنا فرصة جديدة في الحياة.

الأحد، 28 مايو 2017

صياماً مقبولاً

بقلم د.لانا مامكغ
جريدة الرأي
أحكمتْ وضع الأغطية على أولادها بعد تناولهم السّحور، أعادت الأشياءَ إلى أمورِها في المطبخ، غسلت ما وجبَ غسلُه وترتيبَ ما وجبَ ترتيبُه، توجّهت إلى الفراش، ولم يمضِ وقتٌ حتى استيقظت مذعورة، إذ حسبت أنّ المنبّه قد رنّ دون أن تسمعَه، فقرّرت النّهوض حتى لا يقعَ المحظور ويتأخّر الأبناء عن المدرسة، فعادت لتوقظهم بعد حين، لتساعدهم على الاستعداد ليومٍ دراسيّ جديد، وتمضي إلى عملِها بعد ذلك.
عند انتهاء الدّوام؛ سارعت إلى المنزل، غيّرت ثيابها، غسلت يديها، هرعت إلى المطبخ فوراً وهي تدعو الله أن تتمكّن من إنهاء وجبة الإفطار وتبعاتها قبل الغروب، وفيما هي منهمكةٌ في التّحضير؛ وصلها صوتُ أحد أبنائها طالباً منها مساعدته في فهم إحدى قصائد الشّعر... تركت ما بين يديها وقامت بالمطلوب، ثم عادت إلى طناجِرها، لم تمضِ لحظات حتى دخلَ الزّوج حاملاً معه كميّةً من القطايف وبعض الخضروات... رماها جانباً وهو يقول: «سأغتسلُ وأنام الآن، اعملي القطايف بالجبنة هذه المرّة، وزيدي كثافة القطْر لو سمحتِ، لم تعجبني حلاوة القطايف أمس!»
خرجَ ثم عاد مسرعاً ليضيف: «انتبهي أرجوكِ لكميّة الخلّ والزّيت في الفتّوش، الدّقة ضرورية، وإلا طغى طعم الخلّ، ولا تبالغي في تحميرِ الخبز، سأنامُ أنا الآن...»
بعد قليل، دخل الابنُ الثاني ليسألها عن نظرية «فيثاغورس»... شرحتها له وهي تفرُم كميّة من الخيار، وحين لم يفهم، تركت ما بين يديها، لتجلس معه، وتفسّر له النّظرية، إلى أن تأكّدت أنّه فهم هذه المرّة، عادت مسرعة إلى المطبخ لتستأنفَ عملها وهي تنظرُ إلى السّاعة بذعرٍ كلّ لحظة...
قبيل الغروب بقليل كانت قد سكبت أطباق الحساء، والفتّوش، والوجبةَ الرئيسية، وحضّرت العصائر، وجهّزت القطايف، ثم أيقظت الزّوج...
بعد الانتهاء من الوجبة، جلس هو والأبناء أمام التلفزيون، وبدأت هي بجمع الأطباق، والأكواب، والصّواني، والأوعية، وبدأت بتنظيفها... ثم لمَّعت الغاز، وشطفت أرضيّة المطبخ، حتى جاءها صوتُه يطلب القهوة، سارعت إلى عملها وتقديمها له، ليقول لها وهو مستغرقٌ في مشاهدة أحد البرامج الكوميدية: «حان الوقت لنبدأ بالدّعوات الآن، سأبدأ بأهلي... لقد دعوتهم وهم قادمون غدا للإفطار» ثم أطلق ضحكةً مجلجلة على أحد المواقف المعروضة على الشّاشة الصّغيرة، فيما جلست تفكّرُ وتحسبُ عدد الأشخاص المدعوين، وعدد الأصناف المطلوب تحضيرُها، ومدّة الوقت المُتاح... فقرّرت العودة إلى المطبخ، والبدء ببعض التّحضير استغلالاً للوقت، لكن في لحظةٍ ما، أحسّت بتعبٍ شديد... فتوجّهت إلى السّرير وهي تتعثّر بالأثاث الموجود في الطريق، ونامت بعد أن تأكّدت أنّها ضبطت المنبّه لإيقاظ العائلة على السّحور...
في اليوم التّالي؛ وفيما كانت السّاعة قد قاربت الثانية عشرة، شعرت بالخوف من أنّ السّاعات المتبقّية للغروب قد لا تكفي لإنجاز ما هو مطلوب منها، دخلت على المسؤول المباشر عنها تستأذنه بالمغادرة بعد أن شرحت له السّبب باقتضاب، فقال وهو يحملق في منفضة السّجائر الّلامعة أمامه: «هذا ليس بعذْر يا أختي، ساعات الدوام محدّدة ومعروفة» ثم أردفَ وهو يعبثُ بمسبحتِه بعصبية دون أن يرفع عينَه عن المنفضة» في رمضان كانوا يجاهدون ويغزون ويفتحون البلاد...»
ولم تجد في نفسها طاقة على النّقاش، انتظرت انتهاء الدوام، طارت إلى المنزل، بدأت بالعمل في سباقٍ محموم مع الزّمن حتى جاء وقت الإفطار، حضرَ الضّيوف... أكلوا، وشربوا، وسهروا، وغادروا... لتبقى في المطبخ حتى منتصف الليل فتنهي شؤون التّنظيف وإعادة التّرتيب، إلى أن قرّرت الخلودَ إلى النوم أخيراً...
ألقت بنفسها في الفراش وهي تشعرُ أنّ الأرضَ تميدُ بها، لكنها لم تتمكّن من الإغفاء؛ إذ خافت أن تستغرقَ في النّوم فلا تسمع صوتَ المنبّه، احتارت وجلست في السّرير ساهمةً تقاومُ ثقلَ جفنيها، وألمَ ظهرها، وقلقَها على الأبناء، وسحورهم، ومدرستهم... وظلّت هكذا حتى ارتفع شخيرُه فجأة، نادت عليه لتهمسَ له برفق شديد: «هل تستطيع إيقاظي بعد أن يرن المنبّه؟ أخشى ألّا أصحو لتحضير السّحور...»

غمغمَ بعصبيّة ليصرخَ قائلاً: «عجيبةٌ أنتِ، أنا أصحو لأوقظكِ؟ والله عال، ما رأيكِ لو حضّرت أنا السّحور بنفسي أيضاً؟ ألا تعرفين واجباتكِ تجاه عائلتكِ في رمضان؟ اللهُ أكبر... اللهُ أكبر!»
ثم أدارَ ظهرَه لها، ليلتحفَ بغطائه وهو يتمتمُ بين النّوم واليقظة بصوت متقطّع: «حسبيَ اللهُ ونعمَ الوكيل... حسبيَ اللهُ ونعمَ الوكيل!»

الأربعاء، 17 مايو 2017

عندما كان أبي "امرأة"

بقلم: مدلين أحمد/ مدونات الجزيرة

وَقفتُ راكية نصفي على بوابةِ المدرسة في آخر اليوم الدراسي، أنتظر حافلة منطقتي لتنتشلني من بيتي الثاني وتُلقي بي أمام بوابة بيتي الأول. أخرجت من حقيبتي شطيرة الجبن، سَرَحَت صديقتي قليلاً بما في يدي، فاعتقدتُ بأنها تشتهي القليل فمددت يدي فقالت: لا أريد، ولكنك في نهاية كل يوم وفي نفس الموعد تُخرجين شطيرة وتأكلينها، لِمَ تفعلين ذلك وبينك وبين البيت وموعد الغَداء دقائق؟!
أجبتها بأن موعد الغداء يتأخر دائماً في بيتي فلم تقتنع، سَكَتت وقالت: صارحيني؛ هل تملكون طعاماً في البيت؟ ضحكتُ من غرابة السؤال وأجبتها بأن سؤالها سخيف وبالتأكيد نملك طعام، فقالت وهي تُفكر إن كانت ستُحرجني فشجعتها على البوح بما يجول في ذهنها فأكملت: والدتك مُتوفيه وأنت صغيرة ولا تعرفين كيفية إعداد الطعام ووالدك لم يتزوج، فكيف تأكلون؟ لم أفكر وسارعت بالإجابة وقلت بصراحة لم أحسب توابعها: أبي يصنع لنا كل ما نشتهي من الطعام! 
لم أرَها تضحك في حياتي بقدر تلك اللحظة واعتقَدَت بأني أمازحها وقالت لصديقتها: والدها يطهو، فالتفتت الأُخرى وقالت: صدقاً كيف تأكلون وأنتم في غُربة بلا أم أو أقارب، هل حقاً والدك يدخل المطبخ - وحاجبها يستهزئ-؟!
لا أدري لِمَ تَعجبَوا، فكرتُ أن أقول لها بأن والدي كان يبحث في دفتر وصفات أمي ويُجرب كل شيء، وحتى أنه تعلم أن يعجن لأكثر من مرة ولم ييأس، لأن أخي الصغير يُحب معجنات أمي وبأنه يُقشر الخُضار ويطبخ الكوسا ويلف أوراق العنب، وبأنه يغسل الأواني ويُلمع الأطباق ويقضي نصف يومه في المَطبخ. 
فكرت أن أقول لها بأنه يغسل قميصي الأبيض للمدرسة على يديه خشية أن أخلطه مع باقي الألوان، وإن كان زر القميص يتهاوى من موضعه فكان يبحث عن لون يُناسب قميصي ويسند أزراري؛ أو أن أقول لها بأنه كان يُنظف السجاد بمهارة عالية، وبأنه كان بارعاً في تنظيف أرضية المنزل.
فكرت في أن أقول لها بأنه كان يُنسق لي ملابس العيد بالألوان التي أحب، وبأنه كان يُتابع معي مسلسلاتي السخيفة التي يمقُتها؛ وبأنه يُتابع الحَلَقات التي فاتتني ليُخبرني بمُختصر الأحداث التي لم أكُن أمام الشاشة أرقبها. 
فكرت في أن أقول لها بأنه يُنظف شبابيك منزلنا ويَنفض الغبار عن الستائر ويُنزلها ويُرجعها وقد تأخذ يوماً من عمره؛ وبأنه كان يبتاع كل مسُتلزماتي التافهة والتي لا أهمية لها سوى أنها لي.. فكرت أن أقول لها بأنه لا يصعب شيء على أبي ولكنها تظُن بأن من يفعل كل هذا قد يُشبه المرأة؛ بعد كل هذا التفكير غِرتُ على رجولة أبي وقلت: بالتأكيد أمازحك، فوالدي رَجل كوالدك والرجال لا يدخلون المطابخ.. ليتَك يا أباها تقرأ؛ فَبِئس ما قَد زَرَعت..

الأربعاء، 10 مايو 2017

كتابة الذات

بقلم سعيد يقطين
جريدة القدس العربي

مدارسنا العربية، من الابتدائي إلى العالي، لا تعلمنا كيف نكون «نحن»، لا غيرنا، ولذلك فهي تواجه «الذات» و«الأنا». كنا نطالب بكتابة «الإنشاء» بالتركيز على الأشياء، لا على كيفية التعامل الذاتي معها. وكنا نخشى التعبير عن آرائنا حيال الأشياء المطلوب منا الحديث عنها. 
هذا الحديث ليس سوى عبارة عن صيغ علينا الامتثال لها، وأي خروج عن «العناصر» المقدمة من لدن المعلم، أو الأستاذ تكون له آثار وخيمة. لذلك لم نتعود على كتابة الذات، ولا على التصريح بآرائنا. علينا أن نعرف ميول كل أستاذ ونكتب له وفق ما يريد هو، أو ينسجم مع ميوله وأهوائه. بهذا كنا نتناصح لنفلح وننجح. ولم يكن البيت سوى صورة عن المدرسة. لم نتعلم كتابة المذكرات، ولا تسجيل الذكريات، لأن لا أحد يمكنه أن يحترم خصوصيتنا، ولا يدفعه الفضول ليطلع عليها. 
حتى في البحوث الأكاديمية العربية يُرفَض ضمير المتكلم، بالمفرد والجمع، رغم أننا لا نعرف متى نستعمل هذا أو ذاك، فنحن أبرياء من استعمالهما. تعجبت كثيرا وأنا أطالع الورقات البحثية للطلبة في الرياض ومسقط، حيث ينعدم المتكلم بصورة مطلقة. فالبحث هو الذي يتحدث، وهو «ما» يتكلم، ولا وجود لـ«الباحث». تقرأ مثل هذه الصيغ: «لن تتناول الدراسة»، و«يرى البحث أن»، «يتحدث هذا الفصل عن…» ومرة ناقشت أحد الطلبة في هذا، فقال لي: إنهم في المناقشة يركزون على استعمال الضمائر، ويتساءلون من أنت لتتحدث بضمير المتكلم؟ 
إذا انتقلنا من المدرسة والجامعة إلى الإبداع، نجد الشاعر العربي كان يتحدث عن ذاته، لأن الثقافة الشفاهية تسمح له بذلك، باعتباره «ممسوسا»، ينطق عن هوى ما يمليه عليه «شيطانه». وكانت «أنا» أبي الطيب استثنائية، ولذلك عد «متنبئا». لكن ما إن ظهرت الكتابة، حتى صار مسؤولا عن خطابه، إذ الكتابة قيد، وهي دالة على الكاتب. فصار لا يكتب عن ذاته إلا في صلتها بما هو مقبول ومتداول. وظهرت «السيرة الذاتية» في الغرب، لتجسد صورا جديدة من تطور النظر إلى الذات، والأنا والتعبير عنهما بأشكال مختلفة عما كان عليه الأمر في العصور القديمة. ومع الزمن صارت الذات تحتل موقعا مهما في الكتابة الأدبية الحديثة، سواء في الغرب أو عند العرب. 
لا تخلو أي كتابة، كيفما كان جنسها أو نوعها، من ذاتية صاحبها. لذاتية الكاتب مراتب ومراق يحكمها الخطاب الذي تنتجه، ويُبِين عنها ما يسمح به لتجليها وتحققها بصورة ما. ولا يمكن التعبير عن الذات، أو الكتابة عنها، إلا من خلال السرد، سواء ظهر من خلال الشعر أو النثر. في السرد الذاتي تبدو لنا الذات في أبهى صورها، وهي تكشف لنا عما يميزها أو يبين ملامحها، أو تقدم لنا بعض جوانبها غير المعروفة. يتحقق ذلك من خلال اتخاذ المؤلف ـ الراوي ـ الشخصية (الفاعل) محور هذا السرد الذاتي. السرد الذاتي موجود أبدا، وفي كل زمان ومكان. فكل واحد منا يسرد عن ذاته أكثر مما يتحدث عن غيره، سواء في الحياة اليومية أو الفنية، وأي سرد عن الذات، يمكن أن يكون واقعيا، كما يمكن أن يداخله «الكذب»، أو التزيد، أو الخيال، فيكون بذلك تعبيرا عن الذات المتحققة أو المفترضة أو الممكنة. 

ظهرت السيرة الذاتية في الأدب العربي تحت تأثير التطور الذي عرفته الذات العربية في العصر الحديث من جهة، وفي ضوء قراءة نصوص السير الذاتية الغربية وترجماتها إلى العربية من جهة أخرى. وحين نتعرف على عدد الكتاب العرب خلال قرن من الزمان، ونصطفي منهم من كتب سيرته الذاتية، نجد العدد ضئيلا جدا. فما مرد ندرة النصوص التي تتناول الذات الفردية، أو الجماعية في أدبنا العربي الحديث والمعاصر؟ أيكمن ذلك في سلطة المجتمع؟ أم في نكران الذات؟ أم في التقليل من أهمية التجربة الذاتية التي يمكن أن تجعلها قابلة للقراءة؟ 
أسئلة كثيرة يمكن أن تطرح، ليس فقط على الأدباء عامة، والساردين خاصة، ولكن على المثقفين والساسة ورجال الاقتصاد والاجتماع، لماذا حين نقارن ما ينتج من سير ذاتية في الغرب، مع ما يكتب بلغتنا نجد العدد هزيلا جدا؟ والأدهى من ذلك هو أننا، حتى في غمرة اهتمامنا بالقراءة النقدية للنصوص «الذاتية» لا نطرح مثل هذه الأسئلة. فنحن نتحدث عن ذواتنا بصورة أكبر مما يجب، إلى الحد الذي يجعل الكتابة عنها متجاوزة وغير مجدية، بل إن الكثير من الكتابات السردية العربية تطغى فيها الذات المتصلة بالكاتب مهما بدت لنا «المواد الحكائية» بعيدة عن الذات ومنفصلة عنها. يصل الأمر إلى حد أن يكون ذاك البعد والفصل فقط للتعمية وصرف النظر عن البعد الذاتي في الكتابة.
يبدو لنا ذلك بصورة أوضح في كون السارد حتى وهو يكتب نصا يتصل بذاته، يرفض اعتباره «سيرة ذاتية». فلماذا لا نكتب السيرة الذاتية؟ أو نرفض إدراج كتابتنا عن الذات ضمن السيرة الذاتية؟ حين نتعلم الصدق في الحياة، يمكن أن نمارس كتابة الذات.

٭ كاتب مغربي


-  -
3 تعليقات
أحمد عزيز الحسين
May 10, 2017 at 6:29 am
في ظني أن سبب غياب ( ضمير المتكلم ) مما يكتب في الوطن العربي يعود إلى أن البنية الاجتماعية المهيمنة هي بنية بطركية أساساً لا تعترف بالهوية الذاتية للفرد ، ولا تربي أبناءها على أنهم ذوات مستقلة عنها، بل تربيهم على أنهم متماهون بها، معبرون عنها أكثر مما هم معبرون عن ذواتهم الفردية. ولذلك ينشأ الفرد من دون ذات تتكون ضمن علاقتها بالسياق الذي تتحرك فيه، بل إن الحاضن الاجتماعي الذي يحتضن الفرد العربي عموما ( بدءا من الأسرة مرورا بالمدرسة وصولا إلى مؤسسات المجتمع ككل ) يعمد إلى إلغات الذات الفردية، ويجعل من أبنائه نسخة مطابقة بلباقي أفراد المجتمع ككل، ثم تكمل الدولة التسلطية دورها في صياغة شخصية الفرد ، فتمحو من خلال بنيتها الأتوقراطية كل مظاهر تميزه وانفصاله عن القطيع ، وتبذل جهدها كي تجعل منه نسخة للمواطنين الرعايا لا الأفراد الذي يمتلكون ذوات مبدعة متميزة عن غيرهم، وحين يعارض ما هو مهيمن وسائد من سياستها أو آليات صياغتها لمواطنيها تمارس دورها في قمعه بـأكثر من طريقة، ولذلك لا يبقى له من سبيل سوى الطأطأة والانحناء وتقبل ما هو مهيمن وشائه ، مما هو يلغي فرديته ، ويجعله( إن تكلم)
يميل إلى استخدام صيغة الجمع بوصفه فردا غير متلك لهوية محددة تميزه من غيره ، وبوصف ضمير الجماعة تأكيدا على ذوبان شخصيته في الجماعة وفقدانه لهويته الفردية وذاتيته الإبداعية .
Reply
سوري
May 10, 2017 at 7:12 am
يبدو ان بينك وبين الاستاذ واسيني توارد خواطر، واختلافات في الرأي، أنا شخصيا مع كتابة الذات الصادقة التي تعبر عن واقع معيش ربما يعكس حالة عامة او شبه عامة كما فعل محمد شكري في الخبز الحافي التي عرفنا من روايته مدينة طنجة وحاراتها ووضعها الاجتماعي والامية المتفشية، حتى اني عندما عشت في طنجة لفترة زمنية رحت ابحث عن الاماكن التي ذكرها في الرواية مثل مقهى الحافة المطل على البحر، او المرفأ وسواهما، وقلما نجد قلما عربيا صادقا في الكتابة عن ذاته، لكن الشعر هو مسألة اخرى وخاصة عند العرب الاوائل لان الفخر كان موضوعا مفضلا لتضخيم الانا او في خطبهم
انا الذي نظر الاعمى
انا ابن جلى وطلاع الثنايا
الخيل والليل البيداء تعرفني
…الخ
Reply
الدكتورجمال البدري
May 10, 2017 at 8:25 am
تحياتي للدكتورسعيد يقطين : آلية فرض لغة الخطاب لها علاقة باحتكارالدوروالوظيفة.بمعنى (مؤسساتنا العتيدة ) لا تريد لغيرأركانها التعبيرعن حقيقة الأشياء كي لا ينافسها منافس من خارجها وإلا تتهمه بالغروروالتعالي وووو.فهي بالنتيجة عملية تجارية بين محتكرجشع باسم المعرفة ومستهلك راضخ باسم الحاجة.فيما لوعدنا لكتاب العربية الأكبرالقرآن نجد أنّ لغة الخطاب ( نحن وأنا ) قد وردت فيه كثيراً للتعبيرعن موقف مسؤول وقادر.وفي الوقت الذي كنت أيام الماجستيرمثقل بعشرات المصادروالمراجع…كان زميل لي قد أنجزّرسالته في الولايات المتحدة وعرض عليّ نسختها.إنها من مائة صفحة فقط من دون هوامش ولا مصادرولا مراجع.فأستغربت من هذا التقليد الأكاديمي.
فأخبرني أنّ أساتذه الأمريكي طلب منه أنْ يقرأ ما يشاء من المراجع والمصادر…ثمّ يأتي ويكتب ما هومفيد بشان الموضوع ويضيف له بأسلوبه ( الطالب ) وهذه الرسالة هي خلاصة لتلك المصادروالمراجع بلغة الطالب الذاتية…مع الرأي الذاتي ووجهات النظرالمنطقية…
فهي الآن لديهم قد أصبحت مرجعاً جديداً باسمي.فهل عندنا الإبداع ضريبة بل مصيبة ؛ وعندهم الإبداع خلق لفرصة جديدة ؟
Reply

الأحد، 23 أبريل 2017

الديوان العربي -الأيبيري -اللاتيني للفكر والتبادل الثقافي

https://goo.gl/qXSVZZ

 نظم المعهد الملكي للدراسات الدينية ومنتدى الفكر العربي،برعاية صاحب السمو الملكي الأمير الحسن بن طلال، مائدة مستديرة بعنوان "درب الأفكار" بمشاركة عدد من الأكاديميين والخبراء والدبلوماسيين من دول مختلفة وذلك بتاريخ 23 أبريل/نيسان 2017. وتم خلال الندوة إطلاق "الديوان العربي الأيبيري اللاتيني للفكر والتبادل الثقافي" كمنبر لتعزيز الحوار بين العالم العربي والعالم الأيبيري–اللاتيني، والتعاون على المستوى الأكاديمي والاجتماعي والثقافي. ويركز هذا المنبر على إحياء درب الأفكار والعودة إلى الإنتاج المعرفي وتبادل الآداب والعلوم عن طريق التراجم، ما يؤسس لحوارثقافي وديني فاعل بين هذيْن العالميْن.


    ويستلهم "الديوان" أفكاره من تجارب سابقة شهدتها الثقافة العربية في عواصم مختلفة مثل بغداد  وقرطبة، وعبّرت عن فترة مزدهرة من الإبداع الفكري والثقافي ضمّت مساهمات العرب والعجم من ديانات وأصول مختلفة في إطار من التعددية والتنوع. فتحققت الوحدة في ثقافة عربية واحدة حملت هدفا مشتركًا تمثّل في البحث عن حقيقة الذات الإنسانية. 

    كما يتطلع"الديوان" للاستفادة من تجارب مؤسّسات عملت على تعزيز الحوار الثقافي والإنساني ومهّدتْللتعاون من أجل آفاق جديدة للعمل الثقافي، باعتباره أداة مميزة لتعزيزالعلاقات بين الناس في شرق البحر الأبيض المتوسط وشبه الجزيرة الأيبيرية والعالم الجديد. في هذا الإطار،أشير إلى مؤسسة الثقافات الثلاث في إشبيلية و"الأكاديمية للثقافة اللاتينية"، التي تأسّست بهدف تعزيز التضامن والتكامل بين الدول والشعوب اللاتينية، ودعم التبادل الثقافي والعلمي بين ثقافات العالم.

    وتأتي هذه المبادرة تثمينًا لأهمية إنشاء نظام إنساني عالمي جديد يعيد التفاهم بين البشر،ويحقّقُ الفهم المشترك المنشود، الذي ينبثق من قناعتنا بأن الإنسان هو رأس المال الحقيقي الذي يجب استثماره والعمل على رعاية اللقاء الفكري والعاطفي بين البشر، وتعزيز العمل الثقافي لتسهيل الفهم التحليلي المقارن لنظرتنا لبعضنا البعض من أجل تحقيق فهم متبادل أفضل.

الأهداف:

تعزيز العمل الثقافي والأكاديمي في هذيْن العالميْن، علاوة على تعليم اللغات العربية، والإسبانية، والبرتغالية.
رعاية تبادل الباحثين، والأكاديميين، والطلبة بين الجامعات في هذيْن العالميْن، عن طريق "الديوان"، إضافة إلى تنظيم برامج بحثية بهدف (بناء وتطوير) تميّز رأس المال الإنساني.
تعزيز مفهوم "توأمة المدن" في هذيْن العالميْنلتحسين التعاون الثقافي، والتقني، والتجاري بينها.
تحسين مفهوم "التراث الإنساني المشترك" عبر الاعتراف بتنوع الثقافات، وتعدّد الديانات، والحضارات.
الإشادة بالجوانب المشتركة لمواجهة القوالب النمطية السلبية المتعلقة بالدين والثقافة، وتعزيز حرية العبادة وحقوق الإنسان.
دعم المبادرات التي تعزز الحوار بين الحضارات، والثقافات، والأديان، والناسبشِكل عام.
تشجيع الدول غير الأعضاء في مجموعة "آسباASPA" (دول أميركا الجنوبية والعالم العربي) على المشاركة في الحوار وتبادل الخبرات في إطار "الديوان".
إشراك الصحفيين في هذا المشروع، لغرض الترويج لصورة صحيحة شاملة لقيَم الحضارات المعنية.
الأنشطة:

تنظيم مشاريع بحثية، وندوات، ومؤتمرات، وورش عمل.
تنظيم أسابيع ثقافية تتضمن عروضًا للكتب، وندوات ثقافية وفكرية، وعروضًا للفنون الجميلة، وكتب الأطفال، والأزياء التقليدية، وعروضًا مسرحية وموسيقية.
عقد محاضرة "ايميليو غارثيا غوميز" السنوية.
التعاون على تنظيم مناسبة مشتركة في الأسبوع الأول من شهر شباط/ فبراير من كل عام للاحتفال بأسبوع الوئام العالمي بين الأديان، ويشمل جميع الأديان، والمذاهب، والمعتقدات.
توصيات الندوة:

خلُص المشاركون في الندوة إلى مجموعة من التوصيات:

تبنّي مبادرة جديدة بعنوان "دستور الشرق Codex Levanticus" لتأمين مستقبل هذه العلاقات، وتجاوز النزعة العرقية الأحادية وضمان مشاركة دول شرق البحر المتوسط من دون استبعاد أو تهميش لأي شخص تحت أي ظرف من الظروف؛ مؤكدين على القواسم المشتركة وتبادل الخبرات.
دعوة مملكة إسبانيا لقبول وتشجيع هذه المبادرة، جنبًا إلى جنب مع المملكة الأردنية الهاشمية، بحيث يدعم كل طرفٍ، بالاتفاق/بالتعاون مع دول أمريكا اللاتينية، المشاريع والمبادرات التي تسهم في تحقيق هذه الأهداف.
دعوة الأكاديميين المشاركين في المائدة المستديرة إلى عمل بحثي أكاديمي يجمع بيننا في هذيْن العالميْنويركز على القواسم الإنسانية في المجالات المختلفة وعلى حاجات شعوب العالميْن.
البحث عن العالميّة بمنأى عن المركزية الأوروبية.
إدماج الأدب والشعر اللاتيني في الجامعات والمدارس الأردنية.
الابتعاد عن إدانة التاريخ ودراسة أخبار دول أمريكا اللاتينية ونشرهاباللغة العربية، ومنها ما نُشر في صحف الجاليات العربية في تلك الدول على مدار سنوات مضت.
وسيَتولى المعهد الملكي للدراسات الدينية نشر الأوراق التي قدمها المشاركون في المائدة المستديرة في كتاب باللغتين العربية والإسبانية ليكون الإصدار الأول ضمن سلسلة إصدارات "الديوان".

شارك في هذه المبادرة:

سعادة سفير البرازيل Francisco Carlos Soares Luz
سعادة السفير التشيلي Eduardo Escobar
سعادة السفير إبراهيم عواوده – مدير إدارة شؤون أمريكا اللاتينية والوسطى في وزارة الخارجية الأردنية (السفير الأردني في تشيلي خلال فترة زيارة سموه - حفظه الله - إلى تشيلي في 2010)
سعادة السفير عاطف هلسة
سعادة السيد سمير الناعوري – سفير سابق في إسبانيا
الدكتورة رناد المومني – قسم اللغات الإسبانية في الجامعة الأردنية
الدكتورة هند أبو الشعر – أستاذة التاريخ في جامعة آل البيت
معالي الدكتور صلاح جرار– وزير الثقافة الأسبق/الأردن
الدكتورة رشا الخطيب – الباحثة في المستشرقين والدراسات الأندلسية – الجامعة الأردنية
الدكتورة سحر المجالي – أستاذ مشارك في تخصص التاريخ - جامعة البلقاء التطبيقية
الدكتور جمال الشلبي – أستاذ العلاقات الدولية والدراسات الاستراتيجية- الجامعة الهاشمية
سعادة السفير الإسباني
سعادة القائم بأعمال السفارة الاسبانية
ميكيل فوركادا – جامعة برشلونة/ إسبانيا
سعادة سفير المكسيك
الدكتور خلبيرتو كوندي زمبادا أستاذ التاريخ في مركز دراسات آسيا وإفريقيا والشرق الأوسط في جامعة المكسيكEl Colegio de Mexico
سعادة سفير فنزويلا
سعادة القنصل حسام العصامي – سفارة فنزويلا
السيدة عميرة زبيب زبيب – الوزيرة المفوضة في سفارة فنزويلا في لبنان
ستتم دعوة مفكرين وباحثين وأكاديميين من الدول العربية والأيبيرية واللاتينية للمشاركة في نشاطات "الديوان" القادمة.

الأحد، 16 أبريل 2017

نذل ..

عندما يمر نذلٌ في حياتك، فإن أسوأ ما يعلّمك إياه أنك تتوقع الشر من الآخرين إلى أن يَــثبُتَ منهم الخير!! 
ما أسوأ الحياة دون الإيمان بالناس!! وما أسوأ الاتهام إلى أن تظهر البراءة!!
فأين"..الموفون بعهدهم إذا عاهدوا"؟؟
الوفاء صفةٌ لا تتحقق ولا تُعرف في الأشخاص، إلا عند الاختبار، ولا تظهر إلا عند المحكّات. 
والعهد لا يؤخذ إلا في المواقف الجليلة والممحِّصة، عندما تبلغ القلوب الحناجر، كأنما أُدخلتَ الى النار، وتسوّل لك نفسُكَ الخيانة والنكث وتجد لنفسك كل التبريرات و الحجج ثم تتماسك وتفي بعهدك...عندها فقط تستحق صفة الوفي.

منقول

براعم

بقلم د.لانا مامكغ/ جريدة الرأي

أطالَ النّظرَ في وجهه، قضى وقتاً وهو يتأمّلُ آثارَ السّنين على ملامحه حتى شعرَ بوسامةٍ مفاجئة... فحلقَ ذقنه بتأنٍ، وتعطّر، ثمّ انتقى ثيابه بعناية ليلقي نظرةً أخيرة على هيئته، ثمّ ليمضي فرِحاً منتشياً إلى عمله.
كان يشعرُ أنّ نسماتِ ذلك الصّباح محمّلةٌ بعبيرٍآسر، في حين بدت له الأشجارُ أكثرَ اخضراراً، والسّماءُ أشدّ زرقةً، والأفقُ أكثرَ اتّساعاً... واللحن العذب ذاته عاد ليجولَ في وجدانه ككلّ صباح وهو متجّهٌ إلى مكتبه... إلى حيث يجدُها باستقباله مثلَ فراشةٍ خرجت للتوّ من شرنقتها؛ رقيقةٍ عذبةً ملوّنة تضجّ بالحياة... مثلَ برعمٍ ربيعي غضّ شاء أن يعيدَ الخِصبَ لروحِه الخريفية !

باتَ على يقين مؤخرّاً أنّها منجذبةٌ إليه وتبادله الشّعور ذاته، كان يقرأ هذا في التماعة عينيها... في حركتها المرتبكة وهي حوله، في صوتِها الذي يذوب رقّة... في ضحكتها السّاحرة حين تسمعُ تعليقاتِه العابرة على بعضهم، في عطرها الشّفيف الذي يملأ صباحاتِه بعبق الرّبيع...
أدرك أنّه يعيش معها سحرَ الحبِّ وسرّه... الحبِّ الذي لا يعترفُ بفرق العمر ولا بأيّ من تلك الترّهات، فبينه وبينها لغةٌ كونية تتمرّدُ على الكلمات ومفردات البشرِ كلّهم... إنّها هدّية القدَر بعد سنوات القحط مع شريكة تحوّلت إلى رفيقة سكن... تلك التي لم يعد يذكرُ متى تبادلَ معها جملةً واحدة مفيدة، تلك التي لمحته يخرجُ بكاملِ بهائه دون أن تكترث، هو على يقين الآن أنّ الزّمن أنصفه أخيراً، ومن حقّه أن يستمتعَ ويستعيدَ إنسانيته فيما تبقّى له من عمر !
انتهت تداعياتُه بوصوله إلى مكتبه، ليعيشَ يوماً آخر محلّقاً بين الغيوم... هائماً في حقلٍ من الزّنابق البرّية... مستسلماً مأخوذاً بسمفونيةٍ يومية باتت تصدحُ في أعماقِ روحه وخلايا جسده !

مضى ذلك اليوم كغيره دون أن يشعرَ بالوقت، إلى أن حلّ المساء، ليجدَ نفسَه في بيته يجلسُ مسترخياً وهو يقلّبُ هاتفه بيدِه باحثاً عن سببٍ ما للاتّصالِ بها وسماعِ صوتها... حتى قطعت زوجتُه عزلته لتبلغَه أنّ ابنتهما قد وجدت أخيراً فرصة عملٍ في إحدى الشّركات... وقبل أن يعلّق، دخلت الشّابة لتقولَ بصوتٍ يفيضُ بهجة: « نعم، عُيّنتُ سكرتيرة لدى المدير العام، رجلٌ دمثٌ محترم في مثل عمرك تقريباً... يا إلهي كم هو لطيف يا بابا... أشعرُ أنّه يعاملني معاملةً خاصّة ! « ووقع الهاتف من يده فجأة... ولم يعلم كم مضى من الوقتٌ وهو صامتٌ ساهمٌ سارح... إلى أن قامَ أخيراً متوجّهاً إلى سريره، تّقلب طويلاً دون أن يتمكّن من النوم... ظلّ يتقلّبُ حتى قرّر أخيراً بأن أوّل ما سيفعله في الصّباح؛ إصدارُ قرارٍ بنقلِ سكرتيرته إلى فرعٍ آخر... ثم ليقومَ بزيارةٍ عاجلةٍ سريعةٍ مباغتة لمديرِ ابنته !

الخميس، 13 أبريل 2017

دعاء

        قانون كوني (بعد أن يختفي الأصل، تمتلىء الطريق بالأشباه الزائفة)!
.... أولئكَ الذين يُناقِضُ فعلُهم قولَهم، القادرون على الحديث عن الثورة والمبادئ والثوابت. ثم إذا صادفتهم مرشدةٌ أسرية رخيصة باعوا أرواحَهم لشيطانها... ثمَّ إذا وعدوا أخلفوا وإذا حدّثوا كذبوا وإذا خاصموا فجروا. 
أولئك الخونة.. هم أكثر ما يُلجئنا لصدق الطلب والدعاء ألّا تجعلَـنا يا ربِّ مثلهم، وعلّمنا كيف نبقى وجهاً واحداً لا يعرف التلوين، وأهلَ مبدأ لا يقبلُ التزييف. 
علِّمنا يا رب أن نخافكَ ونخشاك في قلوب مَن نحب وفِي قلوب مَن نفارِق.

الأربعاء، 12 أبريل 2017

عبق الرسائل

بقلم: بروين حبيب

جريدة القدس العربي

"ترى إلى أي مدى كسر عصر الأنترنت رومانسية حياتنا؟ تلك الرّسائل التي تصلنا وعليها خط يد المحبوب وطابع بريد البلاد التي يقيم فيها. وساعي البريد وهو يقطع الشارع بدراجته، ويتوقف عند كل بيت… طقوس انقرضت، أو على عتبة الانقراض، لأن أجهزتنا الإلكترونية أخذت أمكنة الورق والطوابع وساعي البريد… في الغربة دوما غائب ما من كل بيت…
والرسائل الورقية تحمل رائحة المغترب وأنفاسه ولمسات يديه وروحه. نشمُّ الرسائل حين تصلنا من الأحبة، ونعانقها أحيانا… نعانقها كما لو أن «الغالي الذي كتبها» بين أحضاننا…
ننتظرها أشهرا، ونعتقد دوما أن ما تحمله الرّسالة أقوى من الكلام في الهاتف، وأقوى من اللقاء المباشر. ففي الرسالة جزء خفي من ذواتنا، نترك له العنان ليخرج نقيا كما هو من دون خوف من ضعفنا. هناك شجاعة جبّارة نتحلّى بها حين نمسك قلما ونجلس أمام بياض ورقة، ونكتب رسالة… ثم جاء عصر الإنترنت، وكأنه عصر جليدي جديد، جعل كل شيء باردا.
نعم يبقى للرسالة طعم آخر، خاصة حين تكون من حبيب، لكن أين وقع الرسالة الورقية من وقع الرسالة الإلكترونية التي يحملها الهاتف مثلا؟ نقبّل هاتفنا أحيانا حين تصلنا رسالة حب جميلة، أو رسالة تطمئننا على أحد الأحبة، لكنها ليست تلك الحرارة التي تشبه حرارة موسم بأكمله، ونحن نحضن الرسالة الورقية ونمرر أصابعنا على حروفها، ونخترع أكثر من طريقة لتفجر مزيدا من الفرح فينا. نقرأها وندسها تحت الوسادة وننام على أريج حروفها… نقرأها ونخفيها باتقان بين ملابسنا… نخصص صندوقا جميلا فقط لرسائل من نحب ولبطاقات الأعياد التي تصلنا من طرفهم.
 للرسائل مكان مقدس دائما في خزانتنا. حتى حين نتهيأ لكتابة رسالة لحبيب، نختار أجمل الورق، قد يكون ورديا، أو عليه أزهار وقلوب، نرسم أحيانا قلوبنا بأنفسنا، وأشياء أخرى كتلك الحروف التي تتعانق في دلال، هي أول حرفي إسمينا.
عبق رسائل الماضي يحضرني اليوم حين فتحت صندوق رسائلي… ما أجمله، وكأنّه صندوق مجوهرات، كنز لا يقدّر بثمن، لا يقدر بلغة.
أجيال اليوم، لم تعرف هذه المتعة أبدا، وكل خوفي أن يأتي يوم يحدث فيه خلل ما فتتوقف هواتفهم وأجهزتهم ويصبحون بلا ذاكرة.
قيمة الرسالة الورقية لا تتوقف عند الملمس فقط، بل عند قيمة خط اليد، وحين نتذكر رسائل مهمة لمشاهير بيعت في مزادات علنية بمبالغ طائلة سندرك أن الرسالة فعلا كنز. رسائل نجمة هوليوود الراحلة إليزابيث تايلور بيعت بـ 47 ألف دولار، لـ66 رسالة غرامية كتبتها في سن السابعة عشرة لأول حب في حياتها (وليام باولي جونيور) رسائل كانت ستكون سببا في موت فتاة عربية لو أن إحداها فقط كشف أمرها. في السابعة عشرة، ألا يبدو في الأمر تقديسا لتلك العواطف الأولى نحو الجنس الآخر؟ واحتراما لتلك التجربة وتقديرا لها. ولعلّ من يعرف حياة تايلور سيدرك أن احتفاظها بتلك الرسائل، رغم عدد زيجاتها، يكشف مدى صدق ذلك الحب وما كان يعنيه لها، وإلا كان مصيرها سلة المهملات. 
في عالمنا العربي من النادر أن نجد أثرا ملموسا لقصة حب بين اثنين، ولعل ما يناسب عواطفنا فعلا هو العصر الإلكتروني العجيب. لهذا أتوقع أن رسائل الحب اليوم بين بناتنا وشبابنا، أقل شغفا، فالوصول لأي شخص نريده نجده بكبسة زر على فيسبوك، إن لم نجده على مواقع التواصل الاجتماعية الأخرى. وغير ذلك في سرعة التواصل قتلك ذلك الشغف… أما الأمان فقليل في ما يخص صناديقنا الإلكترونية، لهذا نادرا ما تحفظ رسائلنا المتبادلة في علبة الرسائل الإلكترونية بل «تُعدم» مباشرة بكبسة «دليت» بعد قراءتها، خوفا من عملية سطو من أي هاكر يفضح الأمر. 
تُعدم أيضا لأسباب أخرى، وهي أن الحبيب رقم واحد قد يكون خائنا، والثاني أيضا، وأن الرجل الحقيقي في حياتنا هو من يتقدم للزواج من المرأة، وليس الرجل الذي «يفت» كلام الحب للنساء. 
في صباي كان التصرف الصح تجاه رسالة حب من شاب أن تمزق فورا وترمى، أو تحرق، وتختفي تماما. وهو تصرف قد يستحليه الشاب أيضا، ظنا منه أن حبيبته «نقية» وليس لها باع في الحب والكلام الفارغ. هي مثل الحزورة، حكايات الحب عندنا، وكذلك كل ما كتب عن الحب بأنامل أشخاص اكتوت قلوبهم من العشق. صحيح أن «الحب وحده يبقينا على قيد الحياة» كما قال أوسكار وايلد، لكن للعرب مقولة أخرى تقول «من الحب ما قتل»، ويبدو أن الحب عندنا كله يؤدي إلى القتل، إن لم يكن جسديا كان معنويا، «كبس أنفاس يعني» إلى أن نستسلم.
بين أوراق التاريخ رسائل نيلسون أنغرن الكاتب الأمريكي ذي الجذور اليهودية، الذي تعرف بسيمون دي بوفوار سنة 47 وقلبت حياته رأسا على عقب، أغرم بها وكتب لها رسائل بالأكوام، كما أثمرت علاقتهما على مدى خمسة عشر عاما أكثر من كتاب. ورغم ما كتب عن علاقات دي بوفوار، إلا أنها حين توفيت دفنت بخاتم أنغرن في أصبعها كما وصت، وكشفت رسائلها له عن علاقة حب نادرة، رقصة فالس فيها كثير من الانسجام العاطفي والجسدي والفكري. وكأنّها فعلا علاقة الحب المثالية التي يجب أن تكون بين امرأة ورجل. وهو الدرس الذي نستشفه من قراءتنا لرسائلها ورسائله، رغم أن رسائله لم تأخذ وهج رسائلها، لكن كلاهما لم يدخل عالم اللغة العربية وهذا غريب جدا، إذا ما عرفنا أن سارتر أخذ مكانة مهمة في الثقافة العربية، بما في ذلك علاقته بسيمون دي بوفوار، التي كانت أكثر تأثيرا في قرائهما وأتباعهما بعد وفاتهما. ولعل عدم الاهتمام بهذه الرسائل يعود لسيرة دي بوفوار المعقدة والغريبة كشخص، فالعثرة الوحيدة التي تجعلنا كمجتمع عربي نخاف من أفكار الآخر هو فضولنا لمعرفة حياته، خاصة الجانب السري منها. 
لا علينا فقد بدأنا الحديث عن «عبق الرسائل الورقية» وجمالها وبلغ بنا المطاف إلى عالم المشاهير ورسائلهم، وهو عالم جميل، ومثير، ولكننا لم نمنحه الأهمية التي يجب. 
كتب كثيرة تملأ المكتبات الغربية عن رسائل بين كتاب وفنانين ومشاهير سياسة، وهي أقرب إلى تفسير شخصياتهم التي يشوهها الإعلام في الغالب، حسب أهواء من يكتب عنهم ويصفهم، بل إن البعض من هؤلاء المشاهير يواجهون جمهورهم بأقنعة جميلة، ظنا منهم بأنهم يتقنون تسويق أنفسهم بتلك الطريقة ويحافظون على شهرتهم. والحقيقة أن رسائلهم التي تنشر في الغالب بعد وفاتهم هي البصمة الوحيدة الحقيقية في مساراتهم المشوهة قصدا أو من دون قصد.
وإن كان فرناندو بيسوا يقول إن «رسائل الحب سخيفة، وإنها لا يمكن أن تكون رسائل حب إن لم تكن سخيفة»، فهذا ليس استسخافا للحب، بل لأن الحب يكشف بساطة الشخص حين يحب. ولأن ما يؤسف حقا أحيانا في رسائل الحب التي نكتبها ليس مشاعرنا الجميلة والنقية، وإنما تفاهة الشخص الذي نعتقد أنه يستحق منا ذلك النقاء وهو يستقبله بسخرية وتحقير".

الأحد، 9 أبريل 2017

نكهة الرسائل

بقلم: أ.د. صلاح جرار
جريدة الرأي

لستُ أنسى عندما كنت طالباً في الجامعة في مرحلة البكالوريوس كيف اعتمدتُ مكان دراستي عنواناً بريدياً لرسائلي التي تصل إليّ من أصدقائي وسواهم، وكنت كما كان جميع الطلبة آنذاك، أذهب كلّ يوم إلى لوحةٍ في عمادة الكليّة تعلّق فيها لائحةٌ بأسماء الطلبة الذين تصل إليهم رسائل جديدة، فنذهب إلى ديوان الكليّة ونتناول رسائلنا بشوق وشغف شديدين! وكنا نميّز الرسالة التي مصدرها خارجيّ من الرسالة التي مصدرها داخلي عن طريق لون المغلّف، فإنْ كان أبيض مخطّطاً بالأزرق فهي في الغالب من الخارج، وإن كان أبيض خالصاً فيكون في الغالب من الداخل. كان كلّ واحدٍ يخطف رسالته وينتبذ زاوية ويقلب الرسالة من الوجه ومن الخلف لمعرفة مرسلها ومصدرها ثمّ يسارع في نزع غلافها ويأخذ في قراءتها، فبعضنا يظهر على وجهه علامات الفرح والسعادة وبعضنا يكتئب ويعود حزيناً بعد أن يدسّ الرسالة في جيبه الداخليّ.
ولا أنسى عندما كنت طالباً في جامعة لندن خلال إعدادي لدرجة الدكتوراه، كيف كان للرسائل التي تصل عبر البريد إلى منزلي مع طلوع الشمس، مذاق خاصّ جدّاً، لم أعد أجد له نظيراً بعد أن رجعت من الدراسة، وافتقدته بالكامل بعد ظهور وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة، من إنترنت وفيسبوك وواتس أب وفايبر وسكايب وسواها ممّا قضى على الحاجة إلى استخدام الورق والرسائل والطوابع والخطوط اليدوية قضاءً شبه تام.
كانت الرسائل التي تصل إليّ من عمّان إلى لندن ذات قيمة خاصّة، وكان الشوق الذي يرافق وصولها أو يسبقه شوقاً له مذاقه الخاصّ ونكهته الخاصّة، كان ساعي البريد يدسّ الرسالة أو الرسائل التي بحوزته من شقّ صغير في الباب يؤدّي إلى سلّة معلّقة في الوجه الداخلي للباب، لم نكن نسمع صوته وهو يدسّ الرسائل عبر الشقّ لكن كنّا نسمعه عندما ترتد سدّادة الشقّ المعدنية إلى مكانها، فنصحو على صوتها ونسرع نحو الباب بلهفة شديدة، كنّا نفرح كثيراً عندما نجد رسالة في مغلف أبيض ذي خطوط زرقاء فنعرف أنها من عمّان، وكانت تصيبنا الخيبة إن كانت الرسائل مجرد دعايات أو فواتير ومطالبات ماليّة!!
لم تكن الرسائل التي كنّا نتلقّاها، في أيّ مكان ومن أيّ مصدر، مجرّد ورق وحبر، بل كان لها أهميتها الخاصّة، كان للون الرسالة لغته، ولملمسها معناه، وللخطّ الذي كتبت به نكهته لأنّ الخطّ في الرسالة جزء من هويّة كاتبها، وكان للطابع الذي ألصق على وجه غلافها دلالته، وكلّ شيء في تلك الرسائل كان جميلاً، ولذلك كنّا نحتفظ بها ونحرص على عدم فقدانها، حتّى إنّني ما زلت أحتفظ برسائل منذ أكثر من أربعين عاماً، ولم يكن مضمون الرسالة وحده هو الباعث على الاحتفاظ بها، بل أن تأتيك رسالة فهذا سبب كافٍ للفرح بها والاحتفاظ بها.

وما زلت إلى اليوم ينتابني شعورٌ بالفرح لأي رسالة تأتيني مكتوبة بخطّ اليد وبمغلّفٍ عليه طابعٌ بريديّ وأختامٌ بريديّة وتحمل تاريخ الإرسال وتاريخ الوصول واسم المكتب البريدي الذي أرسلت منه والمكتب البريدي الذي وصلت إليه واسم المرسل وعنوانه بخطّ يده واسم المرسل إليه. وما زلت أثق بمثل هذه الرسائل حتّى لو خلت من أيّ خبر مهمّ أكثر من عشر رسائل تصل إليّ عبر البريد الإلكتروني والواتس أب والمسنجر وسواها حتّى لو كانت تحمل لي بشائر الغنى والسعادة وأنواعاً من الأخبار السارّة.
وبعد ثورة تكنولوجيا الاتصال والمعلومات التي تجتاح العالم طوْعاً أو كرْهاً، أصبح بإمكان أي شخص على وجه الأرض أن يبلغ رسالته إلى أيّ مكان على وجه الأرض في ثوانٍ قليلة وبكبسة واحدة على أحد الأزرار في جهاز حاسوبه الخاص. وبين يدي هذه الثورة هل نستطيع القول إنّ عهد الرسائل الورقية المكتوبة بخطّ اليد قد ولّى إلى غير رجعة؟! وهل أصبحت الرسائل والخطوط التي تكتب بها- أو هل ستصبح قريباً- تراثاً نادر الوجود وذكرى من ذكريات الشعوب؟!
إنني أدعو كلّ من لديه رسائل بخطّ اليد قديمة أو حديثة أن يحتفظ بها، فربما تصبح هذه الرسائل ذات يوم شاهداً على زمن جميل كان ممزوجاً بالشوق والمحبة واللهفة.


الأربعاء، 5 أبريل 2017

الكتابة في منتصف العمر

بقلم غازي الذيبة
جريدة الغد/   الأحد 5 نيسان 2015

"أريد يدا ثالثة"، قال صديقي الشاعر الستيني ذات مساء، وهو ينظر من شرفة منزله المطلة على مكعبات الإسمنت في مدينة عمان "لأكتب كل شيء".
**
أن تكتب، وأنت أساسا منشغل بهذا الهم، يعني أنك تخلِّق عالمك، تصوغ مدنك، أناسك، حيواتك. حتى لو كتبت عن الكائنات الفضائية، فأنت تكتب ذاتك، تكتب المهمة التي هبطت عليك في لحظة انعتاق تبحث فيك، فيما حولك، في دقتك العالية لاكتشافها في التقاط المعنى وإرساله مرة ثانية محملا بك، بدلالاتك، بحركة روحك، بتوهجك فيه.
في منتصف العمر، يصبح الأمر ملحا جدا. تصبح الكتابة طريقة حياة كاملة، لا تستطيع الفكاك منها، حتى وأنت تفكر ببيت رخيٍّ في جزيرة نائية، لتجلس على شاطئ البحر فيما سنارتك ملقاة في الماء، تنتظر أن  يعلق بها شيء، وقد لا يعلق، لكنك تظل محدقا في اللحظة تلك، محتدما في المنحة الخارقة التي جذبتك إلى هذا الصفاء كي تتأمل وأنت تصطاد الفكرة/ السمك. 
خلال الانتظار ذاك، ستتفقد الحياة.. الأحلام، ستمر عليك الحيوات وميضا، بينما تتأمل موج البحر وفيروز الشاطئ، وستتخلص من زوان كثير في صفائك ذاك، وكما لو أنك في نطاق هيوليٍّ، إن خرجت منه، عدت إلى مرمى العادي، وصرت مسكونا به.
في منتصف العمر، الكتابة فضاء تواق لأن تشعل فيه وقدة أفكارك، تكون في لحظات نضج وصلتها بعد مرارات كثيرة من البحث والتقصي والحوارات والقراءة والتأمل، وربما الصراخ.

إذن، ستبقى يدك على أزرار الكيبورد، لترقن، وستبقى نظارتك قربك لتقرأ، وسيبقى ذهنك متوقدا لترى. كل حواسك ستكون مستعدة لأن تكثّف اللحظة التي تمر في رأسك، لتعيدها فعلا مكتوبا، حتى لو أخذت إجازة من الكتابة.
حين تصل إلى منتصف العمر، ستجد نفسك محاصرا بأسئلتك المرهقة عن الوجود والعدم. وستتساءل باستمرار عن جدوى التوقف عن الكتابة والاستمرار بها، لكن الغلبة ستكون لأن تستمر، بل إن هذا التساؤل سيكون كفة الميزان المائلة جهة الروح والقلب والعقل معا، منذ اللحظة التي يخطر لك سؤال: إلى متى أكتب؟.

نصف العمر، ليس مجرد وقت، يحدث لكل منا، لا، إنه مبتدأ لخوض نصف العمر الثاني، مستهل رفيع المستوى لاكتشاف اللهفة والتوق والحب مكتملين. طاقة مشعة على خوض الاكتمال في النصف الثاني منه، تضيء حدقات الروح، وتفسر مكامن الوجدان بعمق، وشفافية وحنكة المُدَرَب على اكتشاف الدروب في مفازات الوجود الوعرة. النصف الأول مجرد تجربة، تظل مشحونة بما سيتحقق، لا بما تحقق، والنصف الثاني ليس مجردا من شيء، إنه التجربة المشغولة بيد صانع ساعات سويسري ماهر.

السبت، 25 مارس 2017

لذة لم يذقها رجل!

بقلم غادة السمان
القدس العربي

قبل أربعة أيام مر عيد الأم العربية ومعه أشعر دائماً بالرغبة في كلمات دافئة، قلبية، بعيدة عن اللغة التقليدية التي يتم تكرارها كل عام.
أتذكر صوت الدكتور فايز سويدان حين قال لي: مبروك أنتِ حامل. لا كحول. لا سجائر. لا أدوية دون استشارتي.. وهكذا كان. وخضعت للمرة الأولى في حياتي (لديكتاتورية) ما.


أهلاً بالمحتل.. ووداعاً للأدب والتمرد

صار ذلك المخلوق الغامض يكبر في بطني ونشأت بيننا علاقة حميمة كعلاقة السجناء في زنزانتين متلاصقتين.. يتواصلان بالقرع على جدران السجن كما في رواية «الكونت دي مونت كريستو».. ولكن تصادف ان تلك الجدران كانت بطني الذي انتفخ وصرت أمشي مثل طائر البطريق «البنغوان». تلك العلاقة الحميمة عطلت فعالياتي الفكرية كلها. صرت عاجزة عن الكتابة، وعن العمل، وذلك المخلوق الذي ينمو في جسدي احتلني وشل طاقاتي كلها وسخرني لحمايته! انه المخلوق الوحيد الذي نفرح باحتلاله لنا ونرفع أعلامه ونخفض أعلامنا دون الشعور بالهزيمة بل بالبهجة.
وأخيراً قررت طفلتي/طفلي مغادرة سجنه/سجنها وتصادف ذلك ليلة زيارة الشاعر أدونيس لنا بموعد سابق. جاء برفقة سمير الصايغ الرسام والشاعر.

أدونيس يقرأ شعره وكلي آهات!

اقتادهما زوجي إلى غرفة نومنا قائلاً إنني متوعكة إذ كنت عاجزة عن النهوض، وكان أدونيس قد عاد للتو من نيويورك التي ألهمته قصيدة ولطالما تذوقت شعره وقرأ علينا ليلتها قصيدته الجديدة غير المنشورة بعد يومئذ، بعنوان «قبر من أجل نيويورك».
هو يقرأ وأنا لا أفهم شيئاً غير الإنصات لرفسات طفلي وموجات ألم تجتاحني وكلي آهات. فجأة، توقفت حواسي كلها عن التلقي. وانشغلت بذلك (الجار) الحبيب في بطني الذي لم يكتف تلك الليلة بالركض جيئةً وذهاباً داخل قشرتي البشرية بل سبب لي ألماً مفاجئاً مبرحاً في بطني. أدونيس لاحظ انني في كوكب آخر لا تطاله الأبجدية مهما كانت مبدعة، وأنجز قراءة «قبر من اجل نيويورك» ومضى وسمير الصايغ، ومضينا زوجي وأنا إلى المستشفى..

النشوة المطلقة التي لن يعرفها رجل

بعد ساعات من الأوجاع قال الطبيب فجراً، «مبروك … إنه صبي «. صبي أو بنت لا فرق.
الطبيب ناولني طفلي وشاهدته للمرة الأولى.. وكانت لحظة نشوة جارفة استثنائية.. ها انا التقي اخيراً بذلك المخلوق الذي احتلني شهوراً وعطلني عن الكتابة وحرية الحركة، ها هو كحلم ضوئي شفاف بأصابع دقيقة كعيدان الكبريت. وحين وضعت اصبعي داخل يده انطبقت أصابعه على يدي وعلى روحي وككل ام عرفت انها لن تنفك يوماً عن قلبي.. واظن ان كل أم عاشت تلك اللحظة الاستثنائية: لقاء طفلتها/طفلها للمرة الأولى. إنها لحظة النشوة واللذة التي لم يذقها رجل بشحنتها الخاصة. ثم يأتي والد الطفل، الذي لا غنى عنه في حياة المولود، ولكن تلك الشهور التسعة من العلاقة الحميمة المميزة التي لا تشبهها صلة تظل استثنائية ـ سواء كبر وصار مجرماً أو قاتلاً او إنساناً سوياً او مليونيراً او متسولاً. إنه الحب اللا مشروط. الحب الوحيد الذي يتقبل الآخر كما هو بكل نقائصه.

رسائل حب كتبتها دامعة!

لم أصدق يوماً الإعلام الذي يلتقط صوراً لأم قُتل ابنها ومن المفترض انها تزغرد تحت أضواء (الكاميرات) لإعلام (موجّه) ستغوص سكين الافتقاد في قلب الأم. وأمنية كل ام ان ترحل عن كوكبنا قبل ابنتها/ابنها اياً كان كيفما كان. ولن انسى يوماً العاملة المنزلية «خدوج» التي لحقت بي ليلة العشاء لدى بعض الأصدقاء في بيروت وقالت دامعة: ارجوك.. اكتبي رسالة لإبني ليشفق عليّ ويتصل بي. إنها (خادمة) في أواخر الخمسينات من العمر، دامعة، نحيلة، يبدو ان ابنها الوحيد لا يبالي بشقائها ولا يتصل بها حتى هاتفياً. واظن انني كتبت اجمل رسائل الحب بخط يدي إلى ابن «خدوج»، وكانت تملي عليّ وكنت اكتب على طريقتي وادمع تأثراً..

أبناء المهاجرين إلى الغرب

في كل «احتفالية» يتم إخفاء السلبيات.. ولن استسلم لتلك اللعبة بل أرغب في الكلام باختزال عن خيبة الأمهات (والآباء ايضاً) ببعض الأبناء. وبالذات أولاد المهاجرين إلى حضارة غربية.. ولي صديق كبر أولاده في لندن وتطبعوا بالعادات الغربية وهو يريد منهم ان يكونوا عرباً وهذا مستحيل.. وعلى كل من يفكر في الهجرة ان يتذكر ان أولاده لن يكونوا نسخة عنه وعن قيم عالمه بل عن قيم عالم حملهم اطفالاً اليه أو ولدوا فيه وكبروا وتطبعوا بعاداته القائمة..

أمهات فلسطين ـ سوريا ـ العراق ـ اليمن ـ إلى آخره!..

اتعاطف بعمق في عيد الأم مع أمهات بلا أعياد. تلك الأم الفلسطينية مثلاً التي يذلها الإسرائيلي المجرم ويهدم بيتها ويقتاد أولادها إلى السجن والتعذيب لرفضهم الاحتلال ويكاد زوجها ينفجر لأنهم يمنعونه من الصلاة في المسجد الأقصى ومن الأذان ايضاً!
الأم السورية تبكي اطفالها الذين تقذف البحار بجثثهم على شواطئ الهرب المستحيل.. وربما بجثتها أيضاً في ملحمة حزينة من التيه عن البوصلة الفلسطينية/القضية الأولى..
الأم العراقية تندب على أبواب المزارات.
الأم اليمنية نسيت حكايا «اليمن السعيد» في دوامة عنف تخطف ذكور الاسرة وتهين النساء..
وباختصار: لا عيد حقاً للأم العربية هذا العام، ويومها هو غالباً مناسبة حزن عميق وحنين إلى لحظة النشوة تلك التي لم يذقها رجل حين ولد طفلها والتي ستظل تشعر بها سواء ولدته في خيمة تشرد او في مركب هارب او على شواطئ بحار مكهربة..
فالطفل الوليد لا يطلب (تأشيرة) للقدوم إلى كوكبنا!!