أرشيف المدونة الإلكترونية

الاثنين، 9 يونيو 2014

الترجمة في الأندلس ودورها في النهضة الأوروبية الحديثة

        

كتاب: الترجمة في الأندلس ودورها في النهضة الأوروبية الحديثة
عرض وتقديم: د. رشأ الخطيب

اسم الكتاب: الترجمة في الأندلس ودورها في النهضة الأوروبية الحديثة
المؤلف: مصطفى داودي
الناشر:  دار التنوير، الجزائر - 2012
عدد الصفحات: 331


المقال منشور في مجلة ( المنتدى )، منتدى الفكر العربي/ عمّان، المجلد 29 العدد 259 كانون الثاني-نيسان 2014

ما زال للأندلس سحر خاص يجذب الباحثين في سعيٍ متواصل لاستكناه أسرار هذه التجربة الحضارية الفريدة في العالم، ومن هذه المساعي قدم د. مصطفى داودي (أستاذ التاريخ الإسلامي في جامعة زيان عاشور/ الجزائر) محاولته لدراسة الترجمة في الأندلس، وهو موضوع جدير بالبحث والتحقيق، وفيه جوانب متعددة تكشف عنها الترجمة بوصفها وسيلة من وسائل التواصل الحضاري والتثاقف بين الأمم، التي اكتسبت أهمية خاصة في الأندلس زماناً ومكاناً؛ لما لها من دور في النهضة الأوروبية الحديثة التي تقطف البشريةُ اليوم من ثمارها.
تتضمن هذه السطور عرضا وصفيا لمحتويات الكتاب وملاحظات نقدية على منهجية البحث وتنفيذه.

عرض المحتوى:
انتظم الكتاب في مقدمة وفصول أربعة، في خطة حاول فيها المؤلف استقصاء فعل الترجمة في الأندلس، وأهلها والقائمين عليها، وتمثلاتها على المستقبِلين لها من أفراد ومجتمعات، وما كان لها من دور في النهضة الأوروبية. فكان قد وقف في الفصل الأول على الحياة السياسية والفكرية في الأندلس، وفي الثاني على نشأة الترجمة بالأندلس، وفي الثالث على رحلة المعرفة الإسلامية إلى الغرب، ثم كانت المحطة الأخيرة حول الترجمة والتفاعل الحضاري بين الشرق والغرب.
ويكمن الدافع على إصدار هذا العمل في إبراز الدور الحضاري للأندلس وما قدمته للحضارة الإنسانية، خاصة في النهضة الأروربية الحديثة، وهو دافعٌ له وجاهته وأهميته، رغم محاولات طمس دور الحضارة العربية الإسلامية من قبَل بعض العلماء الأوروبيين لأسباب عنصرية أو دينية، أو لأسبابٍ تتعلق بمجرد الجهل بما قدمته الحضارة العربية الإسلامية في مسيرة الحضارة الإنسانية الشاملة.
وقد نبه المؤلف على أن دراسة التاريخ الأندلسي تمتاز عن غيرها من دراسة التاريخ الإسلامي بأنها تتطلب النظر في الرواية العربية من جهة وفي الرواية غير العربية من جهة أخرى، لأن واحدة منهما لن تقدم إلا صورة منقوصة الجانب عن التاريخ الأندلسي ولا تكتمل الصورة إلا بالرواية المقابلة الأخرى.
وقد انتهج الباحث في عمله هذا منهجاً مؤتلفاً من مناهج عدة: التاريخي والوصفي والاستقرائي والإحصائي؛ نظرا لاتساع مادة البحث زمناً وموضوعا، وكان من بينها اللجوء إلى المنهج الإحصائي موفقاً في محاولةٍ جيدة للإحاطة بالمصنفات التي جرى تأليفها أو دخولها إلى الأندلس في مختلف العصور، وكانت سببا في قيام الترجمة في تلك البلاد بعد حين، وكان لهذا المنهج ميزة يتحلى بها الكتاب وهي الإتيان بمسرد للمصنفات المتنوعة في الأندلس التي كان لها دور في الحركة الفكرية وفي حركة الترجمة التي تمت هناك وأسهمت في النهضة الأوروبية الحديثة.

الفصل الأول: نبذة عن الحياة السياسية والفكرية بالأندلس
 وقف المؤلف في الفصل الأول وقفة طويلة على الحياة السياسية والفكرية في الأندلس منذ القرن السادس حتى التاسع الهجري (ق12- ق15م) وقد استغرق منه هذا الفصل نحو سبعين صفحة ابتدأ بالقول فيها على أصل لفظ الأندلس وخاض في تفاصيل التاريخ السياسي للمسلمين هناك، وربما كان هذا تطويل في قول معاد مكرور في مظان كثيرة ومصنفات سابقة عديدة حول الأندلس.
ويرى المؤلف أن الثقافة الأندلسية الخاصة والحياة الفكرية الأندلسية لم تنشأ هناك بمجرد فتح تلك البلاد وخضوعها للمسلمين؛ إذ ظلَّت الأندلس تستقبل عناصر الإنتاج الفكري وتدوِّن التراث الشفوي حتى استقرار عهد الإمارة الأموية فيها بعد الفتح بنحو أربعين عاما، وهي المدة التي شهدت دخول التأثيرات الفكرية والثقافية إلى الأندلس، كما امتازت بالتطلع إلى الثقافة المشرقية ودخول المؤلفات والمصنفات الكبرى قادمة من المشرق، هذا إلى جانب انتقال طلبة العلم بين المشرق والأندلس وبث العلوم والمعارف في أرجائها. وفي العصور التالية للإمارة بقي المجتمع الأندلسي على صلته بالتقدم الحضاري الذي وصلت إليه البلاد، إلى أن تفرّق علماء الخلافة الأموية على بلاطات ملوك الطوائف التي أتاحت الفرصة للمعان مدنٍ جديدة بالعلوم والآداب. كما أسهم الانفتاح والحرية في أن يكون عصر ملوك الطوائف أزهى العصور فكريا. واستمر الازدهار الفكري والعلمي في العصور التالية على نحوٍ ما. وعلى الرغم من التراجع السياسي الذي بدأ يصيب الأندلس إلا أنها بقيت منارة إشعاع حضاري، جعل من الحضارة الأندلسية بمجملها ومختلف جوانبها هي الدافع الأكبر في ظهور ما يعرف بالنهضة الأوروبية من خلال الترجمة في الأندلس.

الفصل الثاني: نشأة الترجمة بالأندلس
كان من عوامل ظهور الترجمة استقرار الوضع السياسي في أوروبا ابتداء من القرن الحادي عشر الميلادي، ويقظته وتحرره من سلطان الكنيسة الذي ران عليه لقرون، ثم كان الاتصال الثقافي  بين أوروبا والمسلمين، الذي أدى إلى ظهور حركة الاستشراق (الاستعراب)..ونتيجة لهذا كله نشطت الترجمة على نحو خاص نظراً لبعض المتغيرات التي طرأت على الوضع السياسي والاجتماعي هناك.
وقد نهض بعبء الترجمة طوائف عدة في المجتمع الأندلسي امتهنت الترجمة وتكسَّبت بها، منذ القرن الحادي عشر، وكانت الترجمة في ذلك الوقت غير دقيقة تماما بحيث تجري عبر وسيط غالبا ما كان يهودياً يترجم من العربية إلى القشتالية الدارجة، ومنها يقوم شخصٌ ثالث بالترجمة إلى اللاتينية.
ويقرر المؤلف في مستهل هذا الفصل أن الحضارات البشرية تشترك جميعا بأنها تقوم على قدرٍ من النقل وقدر من الإبداع، بينما تريد الحضارة الأوروبية أن تجعل من نفسها حضارة إبداع وابتكار وأن تجعل من الحضارة الإسلامية حضارة نقل وتقليد لا أكثر، وهذا مما لا يصح؛ فالترجمة والنقل هما وسيلة تبادل ثقافي بين الحضارات، لذا استعرض المؤلف الترجمة عند بعض الشعوب كالإغريق والسريان والمسلمين، وبيَّن أن المسلمين حتى منتصف القرن الثالث الهجري التاسع الميلادي قد وقفوا في النقل والترجمة على تراث اليونان والفرس والهند، وبعد عصر النقل هذا ابتدأ عصر الابتكار والإضافة... وقد أدت الترجمة إلى نتئج مهمة انتهت بظهور حضارة متميزة .
أما العوامل التي ساعدت على ظهور الترجمة بالأندلس فكانت: استقرار الوضع السياسي في أوروبا ابتداء من القرن الحادي عشر حيث تراجع الضغط الإسلامي في صقلية والأندلس، وازدادت الحملات الصليبية على الشرق والسيطرة على بيت المقدس، والغنى الذي أصابته أوروبا وبداية تحكمها بالتجارة وارتفاع مستوى المعيشة هناك. ومن روح الاستقرار هذه بدأ الأوروبيون الاهتمام بعالم ما وراء أوروبا خاصة العالم الإسلامي. كما رافق ذلك كله يقظة الفكر الأوروبي والتحرر من الكنيسة إلى جانب الاستقرار السياسي والاجتماعي في عصر الحروب الصليبية، وأخذت أوروبا تنهج نهجاً جديداً نحو العلم والتحرر الفكري.
ومن العوامل المساعدة على ظهور الترجمة بالأندلس كذلك: الاتصال الثقافي بين المسلمين والأوروبيين، ومن مظاهره وفود بعض الأوروبيين إلى مراكز العلم الإسلامية، الذين أصابتهم الدهشة مما كان يدور في حلقات العلم الإسلامية، فأخذوا العلم على أيدي العلماء المسلمين في الأندلس، التي كانت منبعاً حضارياً للعلوم والمعرفة. خاصة بعد سقوط طليطلة 477ه/1085م، وقيام مدرسة الترجمة فيها برعاية ألفونسو العاشر الحكيم، كما جرت عدة اتصالات أخرى بين الجانبين عن طريق البعثات العلمية.
وحين وجد الأوروبيون عندما بدؤوا نهضتهم تراثا هائلا لا ينضب لدى المسلمين  بدأ الاهتمام بتعلم اللغة العربية وزيادة الوفود إلى المدن الأندلسية، وظهرت حركة الاستعراب (الاستشراق)، وهو الاهتمام بدراسة الحياة الحضارية للأمة الشرقية وكان لهذه الحركة أثر عظيم في أوروبا والعالم العربي، وكانت جزءا من الصراع الحضاري بينهما، وهي تمثل الخلفية الفكرية لهذا الصراع؛ فقد كان اتصال الأوروبيين بالعرب قد أكد التفوق الحضاري الإسلامي، فعدّوا تعلُّم العربية والدين الإسلامي هو الطريق لهدم الإسلام؛ لأن تحطيمه بقوة السلاح ربما يكون أمرا مستحيلا، ولهذا عكفوا على العمل على ترجمة المؤلفات الإسلامية والقرآن الكريم.
والخلاصة أنه طرأ تغيرٌ كبير على المجتمع الغربي في أواخر العصر الوسيط، من انهيار الإقطاع وقيام المدن، وظهور شخصية الفرد، وقيام الممالك المستقلة الحديثة، ونموّ القوميات، وظهور اللغات الرومانثية المنبثقة عن لاتينية العصور الوسطى، ونشوء الجامعات...أي أنه بإيجاز: انهيار عصر بنظمه وتقاليده وأفكاره ومُثُله وفلسفته، وبداية عصر جديد له أوضاعه التي كانت أسسها ومنابعها الأولى العمل على مواكبة التطور الذي وصلت إليه الحضارة الإسلامية، وذلك لا يتأتى إلا بالعمل على نقل معالم هذه الحضارة إلى اللسان الأوروبي وهو ما يمكن تسميته بعصر الترجمة في أوروبا الذي كان داعماً للنهضة الأوروبية الحديثة.
أما عن ظهور الترجمة بالأندلس فقد كانت الحضارة الإسلامية قد نقلت من حضارات سابقة دون أن تنسب لنفسها ما أخذته من غيرها، وحفظت عبر الترجمة علوم الأوائل والتراث اليوناني انطلاقا من ميزة الحضارة الإسلامية القائمة على القيم النبيلة لهذا الدين. في حين كان الأوروبيون أحياناً ينحلون لأنفسهم الكتب الإسلامية التي ينقلونها، ولم يتحقق التواصل الإيجابي بين الحضارات إلا عن طريق حركة الترجمة، باعتبارها خير وسيط لربط الثقافات بعضها ببعض، وخير معبر عرَّف أوروبا بالعلوم العربية واليونانية.
وكانت حركة الترجمة ذات طابع علمي؛ إذ كان مسارها شبيها بما كان لدى المسلمين أول عهدهم بالترجمة من حيث الاهتمام بالعلوم..وكانت حركة الترجمة هذه محدودة حتى انتعشت بقوة في القرن الثاني عشر الميلادي واستمرت لما بعد القرن الخامس عشر.
ولم تنته وهذه الترجمات إلى الغرب دفعة واحدة وإنما على دفعات، وقد اضطلع بها المستعربون في الأديرة في أنحاء شبه الجزيرة الإيبيرية، وتميزت في أوائلها بسيرها العفوي غير المنتظم، وأغلبها كان تعاملات في شؤون يومية مع القضاة، وتجدر الإشارة إلى أن معظم الأندلسيين كانوا يتكلمون الرومانثية بحكم التعامل اليومي.
ولاننسى أهمية الدور غير المباشر لعلماء المسلمين في إسبانيا في التثقيف العام - من خلال أساليبهم التعليمية_ على الجامعات المسيحية الأوروبية، ونتيجة ذلك انتقلت الترجمات العلمية للتراث اليوناني إلى أوروبا.
أما عن طوائف الترجمة في الأندلس: فقد كان المستعربون من أبناء الطائفة المسيحية وسطاء بين المسلمين والأوروبيين، ولا تسعفنا المصادر حولهم بكثير معلومات، فلا نعرف الكثير عنهم، وقد أشير لهم بلفظ عجم الأندلس أو الروم أو النصارى أو النصارى المعاهدون أو عجم الذمة، أما لفظ مستعرب فظهر متأخرا، لكنه كان جاريا على ألسنة الناس قبل ذلك في كتابات نصارى الأندلس سواء باللاتينية أو الإسبانية، وظهر المصطلح في القرن الثالث عشر الميلادي في وثائق النصارى الأندلسيين في البلاد التي استولى عليها النصارى وكانوا يكتبون وثائقهم بالعربية. واللفظ الذي كان مستعملا عند عرب الأندلس هو العجم أو نصارى الذمة، ومما ساعد في ظهور هذه الفئة تسامح المسلمين معهم في حرية العقيدة، وقد أسهمت حياتهم الجديدة في أن يتأثروا كثيرا بالحضارة العربية الإسلامية فأقبلوا على تلقي العلوم واللغة العربية وتتلمذوا على العلماء المسلمين، وأصبحوا بذلك رسلا للحضارة العربية نتيجة إتقانهم اللغتين العربية واللاتينية معا، فاستطاعوا إيصال العلوم الإسلامية إلى الإسبان والأوروبيين.
والحقيقة أن تعلُّق المستعربين باللغة العربية كان كبيرا؛ إذ إن كتبهم وأناجيلهم إلى القرن الرابع عشر كانت مكتوبة بالعربية، وكان أسقف إشبيلية قد وضع في القرن الثاني الهجري ترجمة عربية للتوراة في متناول المستعربين. وشارك المستعربون في نقل العلوم في طليطلة ولكن إنتاجهم الأدبي كان ضئيلا سواء باللاتينية أو العربية، ولهذا فاللقاء الحقيقي بين الحضارة الإسلامية والمجتمعات الأوروبية كان على يد المستعربين عبر مدارس الترجمة أو من خلال هجرتهم من البيئة الإسلامية إلى الغرب اللاتيني؛ إذ كانوا مسلمين حضاريا ومسيحيين فكريا وروحيا.
أما اليهود فقد عاشوا في الأندلس في ظل التسامح الإسلامي واندمجوا بسرعة في المجتمع الإسلامي واستعربت ألسنتهم، وتولوا مناصب كبرى هناك، واشتهر كثير منهم بالعلم والأدب، وقد كانت الأندلس جنة اليهود خلال العصور الوسطى وما كان لهم أن يحققوا ذاتهم ببعث لغتهم العبرية وأدبهم العبري إلا في الأندلس، بل إن بعض علماء اللغة المسلمين أعانوا اليهود على تقعيد نحْوِ اللغة العبرية.
تعد القرون من العاشر حتى الثاني عشر العصر الذهبي لليهود في الأندلس، وشكَّلت الحقبة المرابطية منها نقطة مهمة في تطور تاريخ الفكر اليهودي؛ إذ لمعت أسماء العديد من المفكرين في شتى مناحي المعرفة كالفلسفة والطب والشعر... واشتهر من بينهم ابن جبرول وابن ميمون الذي حاول التوفيق بين أرسطو والعهد القديم بتأثير الفارابي وابن سينا، واشتهر منهم في الشعر العربي موسى بن عزرا من أهل غرناطة، واهتم اليهود بحي بن يقظان فترجمها إلى العبرية موسى النربوني، كما تُرجمت مقامات الحريري إليها أيضا.
كان اليهود من عوامل نشر الثقافة الإسلامية في الغرب: نشروها بأنفسهم باتصالهم بالمسيحيين أو من خلال تزويد الغرب بالكتب والمصادر الإسلامية وإسهامهم في حركة الترجمة في القرون الوسطى، وكانوا وسطاء لنقل الثقافة الإسلامية إلى أوروبا فكثير منهم يكتب بالعربية، وحين هاجروا من الأندلس حملوا معهم الكتب العربية وترجموها للعبرية، وكان دورهم قد برز أيضا حين لجأوا إلى جنوب فرنسا وأقاموا في بروفانس وأسسوا المكاتب والمدارس في مونبلييه، وأخذوا يدرِّسون فيها الطب والرياضة والنبات على طريقة العلماء العرب، كما درّسوا فلسفة ابن رشد التي تتلمذ عليها بعض اليهود.
ومن الطوائف الأخرى التي عُنيت بالترجمة في الأندلس الطلبة المتجولون ومدارس الترجمة، كمثل مدرسة طليطلة التي تأسس فيها مركز للترجمة منذ القرن السادس الهجري/ الثاني عشر الميلادي، وتُرجمت فيها العلوم الإسلامية والإغريقية برعاية ألفونسو العاشر الحكيم ملك قشتالة نصير العلم، الذي حاكى الخليفة الأموي في قرطبة الحَكَم المستنصر في رعايته العلم والعلماء. وكمثل مدارس أخرى في المدن الأندلسية منها: مدرسة سرقسطة، ومدرسة تُطيلة وهي من ثغور الأندلس وكان يقطنها جالية يهودية مهمة، ومدرسة إشبيلية وقرطبة وبلد الوليد.
أما طرق الترجمة فلم تبدأ الترجمة الحقيقية إلا في القرن السادس الهجري/ الثاني عشر الميلادي، حين اتجهت الأنظار إلى الأصول اليوناينة، وأنشئت بعض المعاهد لتعليم اللغات العربية والعبرية، وتوافر في طليلطلة مجموعات متخصصة في الترجمة، وكان النقل يجري من العربية أولاً إلى القشتالية ثم منها إلى اللاتينية، ولم يكن المترجمون بمستوى واحد لذا تفاوتت ترجماتهم تبعاً لتمكنهم من اللغات التي ينقلون منها أو إليها، وتنوعت الترجمة مابين الترجمة بالمعنى والترجمة الحرفية التي تلتزم ترتيب الجملة العربية، مما أدى إلى دخول ألفاظ عربية في اللغة العلمية والفلسفية.
وتجدر الإشارة إلى أن الأوروبيين عنوا كالعرب بنقل الكتب العلمية، ولم تقف الترجمات عند المصنفات العربية الإسلامية بل تعدَّتها إلى المصنفات اليونانية التي كانت منقولة إلى العربية، مثل كتب جالينوس وأرسطو وإقليدس.
وبلغ الاهتمام بترجمات مدرسة طليطلة ذروته في عهد ألفونسو العاشر الذي توسعت في عهده ترجمة الكتب العربية لتشمل مجالات مختلفة غير العلوم مثل الألغاز والموسيقى والأغاني والقصص.
والخلاصة التي يراها المؤلف في هذا الفصل بعد استعراض نشأة الترجمة بالأندلس أن الأصالة قدر مشترك بين جميع الحضارات، وأن كل حضارة نقلت وأبدعت وكان لها سمة تميزها بين الأمم، وأن الإنسانية وحدة متفاعلة وثقافتها واحدة يضيف اللاحق فيها إلى السابق، وتعد الحضارة الإسلامية أكبر موروث أخذه الأوروبيون بإقبالهم على ترجمة المؤلفات الإسلامية في شتى العلوم، وكان لذلك أبلغ الأثر في نضوج الفكر الأوروبي وانبثاق النهضة الأوروبية الحديثة.

الفصل الثالث: رحلة المعرفة الإسلامية إلى الغرب
أخذت رحلة المعرفة الإسلامية سبيلها إلى الغرب بالترجمة من طرق عدة كان منها: ترجمة العلوم الدينية والاجتماعية، وترجمة العلوم الرياضية والطبيعية، وترجمة العلوم العقلية. وجدير بالذكر أن هذه الرحلة تشابهت مع رحلة المعارف اليونانية والهندية والفارسية في طريقها إلى اللسان العربي من قبل، وذلك من حيث اهتمامها بالدرجة الأولى بالعلوم العقلية والفلسفية؛ خاصة لأن الأوروبيين وجدوها فرصة لاسترداد تراثهم اليوناني الضائع، عبر الترجمات العربية للإرث اليوناني.
وهذا لا ينفي ملاحظة أن حركة الترجمة كانت في أساسها موجهة نحو التعليم الطبي واستمرت قوية بهذا الاتجاه حتى القرن السادس عشر، وخلال تلك القرون كانت اللغة اللاتينية واللغات الأوروبية قد استوعبت أهم كتب الطب العربية التي اعتُمدت مناهج للتدريس في الجامعات الأوروبية الناشئة آنذاك، وظلت ذلك حتى زمن قريب.
فقد كان استقرار المسلمين في الأندلس قد جعل المستعربين يتأثرون بهم ومن أهم مظاهر ذلك استعراب لسانهم، فأناجيلهم كانت بالعربية وكذلك حواشي الكتب والتراتيل الكنسية وغيرها، وقد ترجم اليهود التوراة إلى العربية وكان ذلك من مظاهر استمرار عملية الترجمة وعدم توقّفها في القرون الوسطى، ثم سعَوْا ترجمة القرآن الكريم منذ القرن العاشر بمحاولات بطرس المبجل في مدرسة طليطلة، ومن الأعمال التي تُرجمت كذلك للملك ألفونسو العاشر في طليطلة: وصفٌ مفصل لعروج النبي صلى الله عليه وسلم للسماء، كما نشط اليهود في ترجمة العلوم الدينية لإبراز دينهم اليهودي.
أما في ترجمة العلوم الأدبية فقد دخلت أنماط من الأدب العربي إلى أوروبا كانت مظهرا من مظاهر الحركة الثقافية هناك؛ حيث ضاق الأوروبيون ذرعاً بالقيود التي تفرضها عليهم الكنيسة، ونشدوا في الأصقاع الإسلامية ما يغنيهم عن فقر أدبهم وزيفه.. وأعقب ذلك تسلُّل للأدب العربي إلى مختلف الآداب الأوروبية، مما مهد للنهضة الفكرية الأوروبية وبزوغ فجر الأدب الأوروبي، الذي نجد فيه من سمات الأدب العربي الكثير، وما كان ذلك ليكون لولا عملية الترجمة عن العربية.
ولم تقتصر عملية الترجمة فقط على نقل الأعمال والكتب التي ألَّفها العرب بل كذلك الكتب التي ألفها اليهود، وكانت اتجاهات الترجمة تنحو نحو الشعر والقصة أكثر من غيرها، وبعضها انتقل إلى أوروبا بالتناقل الشفوي للقصص العربي ذات المغزى الأخلاقي وبعض قصص ألف ليلة وليلة، وظهرت بعض التأثيرات العربية في الروايات المشهورة مثل دون كيشوت والكوميديا الإلهية..
في حين يتمثل أثر الشعر في أشعار التروبادور في منطقة البروفانس، وتأثير الموشح والزجل الأندلسي. ومن أهم الملامح الواضحة ملحمة السيد التي احتوت على صور وأخلاق عربية ومؤثرات إسلامية كثيرة.
وإلى جانب هذا اهتموا بالترجمة في موضوعات التاريخ، وترجمة الموسيقى خاصة رسائل الكندي والفارابي وابن باجة وابن سينا، كما اتجهت بعض الترجمات نحو ترجمة علوم الرياضة والطبيعة والحياة والرياضيات، حيث اشتهر بالأندلس عدد من العلماء وكانت مجمل أعمالهم قد جرى ترجمتها في الأندلس إلى اللغات الأوروبية إلى جانب الحساب والجبر والهندسة التي لم يكن الأوروبيون يعرفون عنها شيئا في القرون الوسطى، حتى تُرجمت كتب إقليدس وغيرها من تراث اليونان الهندسي إلى اللاتينية عن طريق العرب. يضاف إلى هذا كله الترجمات التي نقلها الأوروبيون في مجال ترجمة علم الحيوان والنبات وعلم الهيئة الفلك خاصة في مدرسة طليطلة، والكيمياء والفيزياء.
أما ترجمة العلوم الطبية وعلوم الصيدلة فقد تُرجمت مؤلفات طبية عديدة لعدد من الأطباء المسلمين، تدل على مدى ما وصله الطب لدى المسلمين في الأندلس بالذات، وأعظم أعمال الترجمة في الطب كانت تلك التي قام بها جيرار الكرموني في طليطلة، وتركزت على نقل مؤلفات كبار الأطباء إلى اللاتينية كالقانون لابن سينا، الذي طبع منه نحو عشر طبعات حتى نهاية القرن الخامس عشر، وظهرت منه طبعة كذلك بالعبرية فيما بعد.
ثم ظهرت شروح وتعليقات لا تعد على كتاب القانون باللاتينية والعبرية، حتى لكأنه (إنجيل الطب) في القرون الوسطى. وتُرجمت أرجوزة ابن سينا في الطب إلى اللاتينية، وتُرجم كتاب التصريف لمن عجز عن التأليف للزهراوي الأندلسي- إلى اللاتينية والبروفنسية والعبرية، وقد جعلت جامعة أكسفورد من هذا الكتاب مرجعا أساسيا لدراسة الجراحة حتى القرن الثامن عشر.
استمر الاتجاه نحو ترجمة التعليم الطبي قوياً حتى القرن الخامس عشر، وبهذا استوعبت اللاتينية -لغة العلم في ذلك الوقت- أهم كتب الطب العربية، وعلى ضوئها أنشئت مدارس الطب في مونبلييه وأكسفورد وكمبردج. ثم يعرض المؤلف بعد ذلك ثبتاً لبعض الفلاسفة مع موجز لكل منهم. لا داعي له.

الفصل الرابع : الترجمة والتفاعل الحضاري بين الشرق والغرب
إن هذه الرحلة الطويلة للمعرفة الإسلامية وانتقالها إلى أوروبا عبر القرون تفضي بنا إلى الفصل الرابع الذي يكشف فيه الباحث - من خلال المقابلات التي عقدها بين واقع أوروبا قبل القرن الثاني عشر وواقعها بعد ذلك- بجلاء عن دور المعرفة الإسلامية في النهضة الأوروبية الحديثة بمجالاتها المتعددة من الأدب والفلسفة إلى الجغرافيا والطب والفلك مرورا بالعلوم والرياضيات، حتى الموسيقا.
فقد كانت أوروبا تعيش في تخلُّف وتراجع، في الوقت الذي كان العالم الإسلامي في نهضة وحضارة، وفي مجال الثقافة كان الجهل هو الطابع المميز لأوروبا؛ لأن وسائل نقل العلم كانت مجهولة، وأسعار الكتب مرتفعة جدا، والأمية متفشية بين الناس، وكانت اللاتينية لغة الكنيسة - المؤسسة الثقافية الوحيدة وهمزة الوصل بين التراث القديم والثقافة المعاصرة-، وقد سادت الطبقية المجتمع الأوروبي في حين كان المجتمع الإسلامي ينعم بالمساواة.
ومنذ تتويج شارلمان امبراطوراً لفرنسا في القرن التاسع الميلادي بدأت بوادر النهوض تدبُّ في أوروبا ثم خفتت ثانية حتى القرن الثاني عشر، وكان من أبرز ملامح النهضة التطلع نحو الحضارات الجديدة: الإسلامية منها خاصة، التي بدأت تتسرب إلى أوروبا عبر ثلاثة معابر: الأندلس وصقلية والحروب الصليبية.
ومن هنا يبين المؤلف دور المعارف الإسلامية في قيام النهضة الأوروبية، وهي معارف متنوعة منها: الأدب حيث كان الاحتكاك المباشر -منذ القرن الثاني عشر حتى الخامس عشر- بين المسلمين والأوروبيين قد أدى إلى نشوء الأدب الأوروبي، وكان دخول أنماط الأدب العربي للأدب الأوروبي مظهرا من مظاهر الحركة الثقافية بعامة هناك.
ففي الشعر شاع الشعر الغنائي الذي ينظمه الجوالون التروبادور، واشتهرت بعض الملاحم الشعرية مثل ملحمة رولان عن مغامرات شارلمان والفرنجة ضد العرب في القرن العاشر الميلادي، وأشعار أخرى شبيهة بأشعار الموشحات والسِّيَر العربية، وكانت معظم تلك الأشعار تميز النهضة الأدبية في أوروبا وتشترك مع الآداب العربية في موضوعاتها حول الحب والأساليب والصياغة الشعرية. كما تأثرت القصة الأوروبية عند نشأتها بما لدى العرب من فنون قصصية أيضا كألف ليلة وليلة، وساعد هذا التأثير في توجُّه الأوروبيين نحو النزعة الرومانتيكية، وهناك بعض الكتب التي اشتهرت في الأندلس التي كان لها أثرها على الكتاب الأوروبيين بحيث ظهر تأثيرها في روايات البيكارسك، وفي أدب الأسفار كرحلات جلفر، وروبنسون كروزو..وغيرها من مظاهر تشير إلى أن الأدب العربي بمختلف فنونه كان المحرك لنشأة الآداب الأوروبية.
****
    
        ونخلص مع الباحث بعد رحلته الطويلة في الكتاب بما ضم من إحصاء للأعمال التي جرت ترجمتها أو بعض المصنفات التي جرى ترحيلها، وبما كشف من عمل دؤوب وجهد محمود، نخلص إلى أن الأصالة قدر مشترك بين الحضارات جميعا ولم توجد بعد حضارة تفردت بالإبداع أو تفردت بالنقل، فالإنسانية وحدة متفاعلة يضيف اللاحق فيها إلى ما تركه السابق، لذا فالحضارة الإسلامية في الأندلس كانت أهم موروث أخذه الأوروبيون عندما أقبلوا عليها بالترجمة والنقل، وصارت فيما بعد دافعا لهم ليعكفوا على دراسة لغات الشرق وتاريخه وآدابه ودينه في الحركة الواسعة التي عرفت بـ الاستشراق. ولم يتوقف دور الترجمة على مجرد النقل من لسان إلى آخر، بل إنها تَبِعَتْها حركةُ النهضة التي نعيش جميعا في ظلها اليوم من أدنى الأرض إلى أقصاها.
*****************************
    
       ومع ما للكتاب من قيمة توثيقية ومعرفية، إلا أن ملاحظات أخرى لا يمكن إغفالها في هذا المقام، ذلك أن الكتاب يمثل أنموذجاً من نماذج النشر في العالم العربي، وهي نماذج تتكرر حتى ليخالها المرء ربما لا تنتهي، وما أقصد إليه هنا مسائل فنية تتعلق بنشر الكتاب مطبوعاً على ورق وتقديمه للقرّاء.
فإنه مما أثار كاتبة هذه السطور لكتابة ما يأتـي،  التوجيه الرباني إلى إتقان العمل؛ ذلك أن  الله يحبُّ إذا عمل أحدنا عملا أن يتقنه، ويبدو أن مسألة إتقان العمل ما زالت غائبةً بوعي أو دون وعي عن عالم النشر العربي، الذي يخلو في بعض الأحيان من أعمال التدقيق والتحرير لما يصدر من بحوث ودراسات تضمها دفات الكتب قبل طباعتها ونزولها إلى الأسواق، وهذا ينتقص من الفائدة المرجوّة من نشر الكتب والمعرفة العلمية.
فقلةٌ من دور النشر العربية تجعل من هذه المهمة في مقدمة أولوياتها، كي تخرج في كتبها ومنشوراتها إلى النور بثوب قشيب، لا يغمط الكاتب منزلته ولا يغمط القارئ المتلقي الفائدةَ المرجوَّة، لهذا تخرج الكتب أحياناً ملآى بالأخطاء التي كان يمكن تداركها..وعلى ذلك يتطلَّب هذا العرض منا الوقوف عند بعض الملاحظات التي لا يمكن إغفالها نوردها على سبيل التذكرة؛ لأن مثل هذا الجهد المبذول في الكتاب يستحق أن يسعى صاحبُه والقائمون على إخراجه للنور – وكل صاحب قلم- أن يكون قريبا إلى الكمال.
ومن النظرة الأولى فالكتاب من ناحية إخراجه الفني على مستوى عالٍ: غلاف أنيق مصقول، صفحات وطباعة فخمة، مريحة للنظر وللقراءة، خفيف الوزن، جميل التنسيق.
إن موضوعا كمثل موضوع هذا الكتاب الترجمة في الأندلس هو موضوع مهم يكشف أسرار هذا الجسر الحضاري الذي نقل أوروبا من عالم القرون الوسطى إلى عالم العصور الحديثة بقوة وثقة. ويتصل هذا الموضوع بأسباب كثيرة وبمواضيع أخرى كالاستشراق والآداب المقارنة والتبادل الثقافي وما أشبه، مما يتطلب اللجوء إلى سرد أسماء الأعلام في هذه المجالات الفكرية وأسماء المصنفات والكتب والمؤلفات،  ويتطلب الدقة على نحوٍ كبيرٍ في ضبط رسم الأعلام بالعربية وبالأحرف اللاتينية، إلى جانب عدم إغفال تواريخ الوفاة على أقل تقدير؛ فالكتاب في جوهره اتخذ الطابع التأريخي، وما التاريخ إلا زمان ومكان، فإن أُغفل واحدٌ منهما خرج البحث التاريخي عن مراده.
ومن الملاحظات الأخرى في الكتاب الاعتماد على مصادر ثانوية في بعض الأحيان في نقل حقائق، وتكرار الاعتماد على مصدر محدد في نقاط معينة بحيث يجعل الصفحات تبدو وكأنها ملخص لأفكار ذلك المصدر (مثل الحديث عن ترجمة العلوم الدينية الذي يجعل القارئ يشعر أنه كله عن اليهود بسبب مصادر الباحث).
وقد اعتمد المؤلف أيضا في موضوع الحياة الفكرية في الأندلس على رسالة دكتوراه غير منشورة لمحمد الأمين بلغيث (الحياة الفكرية في عصر المرابطين) وهذا غير كافٍ للحديث عن هذا الموضوع؛ خاصة أن الرسالة لا تتطرق للحياة الفكرية في جميع عصور الأندلسية.
هذا إلى جانب الخلط بين مستويات المصادر ما بين أولية وثانوية، الذي أدى إلى خلط أفكار كثيرة في الفروع والأصول، وخلط المصادر المتقدمة بالمصادر المتأخرة وأحيانا الاعتماد على مراجع عامة غير متخصصة؛ فمثلا المعلومة التي تقول إن أبناء أوروبا كانوا يتعلمون من العرب الأندلسيين أشار المؤلف فيها إلى مراجع عدة منها مراجع عامة غير متخصصة، وهكذا. أما المصادر الأجنبية في حواشي البحث فليس لها أرقام في متن الكتاب تحيل على الحواشي.
وهناك بعض المعلومات التي ليس لها داعٍ في بعض الأحيان، ففي مقدمة الكتاب عرضَ المؤلفُ لأهم مصادره في البحث ومراجعه، وصار هذا الجزء من المقدمة كأنه عرضٌ تعريفي موجز بالمصادر الأندلسية ، ولكنه على أهميته مما لا داعي له؛ فقد كان من الأفضل للمؤلف أن يقف عند النقاط المميزة لكل مصنَّف منها بما له صلة بموضوع كتابه الترجمة في الأندلس، وبمدى ما يمكن أن يضيفه كل منها لموضوع الكتاب.
فمعظم المصادر التي عرَّف بها هي معروفة لدى الباحثين في التراث الأندلسي ، ونُشر عنها الكثير، إذ إن الدراسات الأندلسية لم تعد مع القرن الحادي والعشرين موضوعاً جديداً، كما كان منذ قرن مثلا، حين كان التعريف بمثل تلك المصادر وأصحابها ضرورة لا بد منها في الكتب التي عالجت تراث المسلمين في الأندلس.
كما أن المؤلف في حديثه عن ترجمة أعمال الفلاسفة المسلمين مثلا قد عرض سيراً موجزة لتراجم بعض مشاهير الفلاسفة المسلمين، وكان يكفي مثلا لو أنه أحال إلى مظانّ ترجماتهم.
أما ما بقي في النفس مما يقع في باب الخطأ أكثر منه في باب الملاحظة، فكانت الأخطاء الطباعية التي امتلأ بها الكتاب؛ وهي مكررة على نحوٍ ملحوظ وفي صفحات كثيرة مما يجعل ذكرها جميعا – أمراً متعذراً، لذا سأتوقف عندها دون ذكر الصفحات..
أولا: الأخطاء الإملائية والنحوية التي يمتلئ بها الكتاب، بما لا يمكن التجاوز عنه دون الإشارة إليه، وهي تبدأ من أخطاء إملائية بسيطة، كألف التفريق بعد كل واو تنتهي بها كلمة اعتقادا أنها واو الجماعة (وا) ، بحيث كانت حتى أسماء بعض الأعلام التي تنتهي بواو، يضاف بعدها ألف تفريق، كمثل أسماء مدن وأشخاص وأنهار: كنهر ايبيروا، يبدوا، أرسطوا، ....وغيرها كثير.
هذا إلى جانب أخطاء إملائية أخرى منتشرة على صفحات الكتاب كمثل: النهظة ، ابتداءاً ، هاؤلاء، مواضع همزات الوصل والقطع، القرءان مرة يكتبها بهذا الشكل ومرة القرآن..
ثانياً: الأخطاء في أسماء الأعلام والالتباس فيها، وعدم التعريف بالأعلام أو الإحالة إلى مصادر تعرّف بهم في حواشي الصفحات.
وأخطاء أخرى من مثل التصحيف الذي حصل في اسم ابن أبي أصيبعة صاحب (طبقات الأطباء) حيث ورد اسمه مرسوما على النحو الآتي: ابن أبي الطبيعة. وهذا التصحيف مكرر في الحواشي كثيرا عند الإشارة إلى كتابه طبقات الأطباء.
الخطأ في اسم كتاب ترجمات الأشواق بدلاً من ترجمان الأشواق
كما أن المؤلف أحيانا ربما لا يميز حين يتحدث عن شخصٍ في أكثر من موضع أنه يتحدث عن الشخص نفسه، نفسه نظرا لاختلاف رسم أو نطق حروف اسمه. في حين كانت بعض أسماء الأعلام الأجنبية التي ذُكرت في متن الكتاب تبدأ بحروف لاتينية صغيرة، وليس بالحروف الكبيرة.
****




الجمعة، 23 مايو 2014

شكرا توستماسترز.. أخضر ..أصفر ..أحمر



في العديد من المؤتمرات العربية التي يتاح لي حضورها، تواجه المتحدثين عادة مشكلة تتسلَّط عليهم ألا وهو سيف الوقت؛ إذ من المعتاد في المؤتمرات التي تضم عددا كبيرا من الباحثين، ويعرضون بحوثهم في أيام قلائل،... أن يكون الوقت المتاح لأحدهم على منصة التقديم لا يتجاوز ربع ساعة، يكون مطلوبا فيها أن يقدم خلاصة أفكاره وعصارة بحثه في هذه الدقائق المعدودات..وغالبا ما يقوم (صراع لطيف) بين المتحدثين ورئيس الجلسة حول الوقت المتاح لهم..
وربما يُمضي الباحث جلَّ الوقت المتاح له في مقدمات وبديهيات، فتستغرق دقائق كثيرات، ثم يفاجَأ بأن الوقت كاد ينتهي، فيعجِّل بالمرور على أفكار بحثه الأساسية.. دون تعمق كاف؛ مما يهضم منزلته حقها ولا يعطي الانطباع الصحيح عما يود تقديمه. والسبب في ذلك برأيي يعود إلى إدارة الوقت التي لم ينجح بها بعض الباحثين..

ولهذا في كل مرة أحضر مواقف كهذه أقول في سري: شكرا .. شكرا توستماسترز..
وزملائي في توستماسترز هم وحدهم الذين يفهمون السر..
ولكي تعرفوا ماذا أعني أيها الأصدقاء أدعوكم للبحث عن توستماسترز وماذا تقدم هذه التجربة للذين ينضوون تحت لوائها..

يمكنكم قراءة بعض ما كتبتُ عن هذه التجربة في مدونتي تحت عنوان مشاريع الخُطَب المُعَدَّة في توستماسترز وتحت عنوان محاضر اجتماعات التوستماسترز..

ولديكم في العم الكريم (جوووووووووووجل) متسع لمزيد..



وصفة طبية باللغة العربية



خواطر من وحي قراءتي عن الترجمة في الأندلس....

عندما تُمسك بيدك وصفةً طبيةً وأنت ذاهبٌ إلى الصيدلية لتشتري الدواء، فإنه لا يمكنك أن تتخيل أنْ تكونَ الوصفةُ الطبية مكتوبةً بالعربية؛ فالذي يدرس الطب بالضرورة يعرف الإنجليزية!! لأنها عادة ما تكون لغة دراسة الطب حتى في جامعاتنا الوطنية!!
ولقد كان ...الطبُّ في يوم من الأيام والرياضيات والفلك، علومٌ لا تُدَرَّس في أوربا نفسها إلا باللغة العربية، وكانت جامعة أكسفورد تفرض على طلبة تخصص الطب بالذات حضورَ دروس اللغة العربية؛ كي يقرؤوا المصادر العلمية بلغتها الأصلية...حتى أن اهتمام عدد من رواد الاستشراق الأوروبي باللغة العربية، كان ببساطة لأنها لغة العلم في ذلك الزمان.

بعدستي ..
صورة لدكان العطارة في غرناطة، تبيع الأعشاب دواءً ... ونكهةً للحياة!


تشويه اللغة..تشويه الفكر



حين نسمي الأشياء بغير مسمياتها تصغر العظائم ... وتعظم الصغائر

يلفت النظر كثيرا في أيامنا ظاهرة تسمية الأسماء بغير مسمياتها، فهل من أثر تحدثه اللغة فيمن تقال لهم؟؟
مثلا تسمى الخمر بـ (مشروبات روحية)..وقد صدق النبي صلى الله عليه وسلم حين حدَّث ببعض علامات الساعة الصغرى حين ق...ال: (يشرب ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها ..) وقد سماها الله خمراً في قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ )
و(الزنا) يسمى (علاقات حميمة) .. ألم يسمعوا قوله تعالى: (وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً)؟
و(الشذوذ الجنسي والفاحشة) أصبحت (مثلية جنسية)... وتجاهلنا أن الله سمّاها من فوق سبع سماوات (الفاحشة) ووصف بها عمل قوم لوط قائلا:( وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَة مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَد مِنْ الْعَالَمِين)..
و(المجاهرة بالمعاصي) صارت تسمى (انفتاح)؟ ألم يسمعوا قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين)؟
والكذب يسمى (دبلوماسية)؟ وتناسى الناس أن: (آية المنافق ثلاث:إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا أؤتمن خان)..
و(النعرات الجاهلية والتفاخر بالعِرق دون الدين) تسمى (قومية)؟ وتعامَيْنا عن قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ).

حين نسمي الأشياء بغير مسمياتها تصغر العظائم ... وتعظم الصغائر!

اللغة العربية ..بين البسمة والدمعة

هذه خاطرة لأحد طلبتي في الجامعة في السنة الأولى..تشي عن بعض هموم مَن يتأمل في حالنا وحال لغتنا العربية..
كانت الخاطرة من وحي امتحان محوسب للغة العربية..لم يكلف فيه المتخصصون في تقنيات المعلومات أنفسهم التغلب على المشكلات التقنية التي تواجه تعريب الامتحانات المبرمجة أو تعريب غيرها من التطبيقات الإلكترونية...

(بين البسمة والدمعة ***
بقلم عبدالله مرار

قدمت اليوم اختبارا في مادة اللغة العربية،
وهذا ...الاختبار عبارة عن مجموعة من الأسئلة
تنقسم إلى نوعين الأول اختيار من متعدد
والثاني الإجابة إما بالخطأ أو الصواب،
وبينما أنا أفكر بالأسئلة وإجاباتها، أتفاجأ
بوجود خيارت الإجابة لسؤال معين مكتوبة
باللغة الإنجليزية، واحترت وقتها أأضحك أم
أبكي من المكتوب أمامي؟، أضحك لأنه فعلا من
المضحك وجود كلمات باللغة الإنجليزية في امتحان للغة العربية،
ولأن شر البلية ما يضحك،
أم أبكي على مدى التناقض لدينا نحن بني
العرب، وعلى وجود شرخ عملاق يبصره الأعمى في
الكيان العربي، والذي تجسد مصغرا في هذا
الموقف، تناقض كتناقض الليل والنهار، الماء
والنار، الهدوء والإعصار، اليابسة والبحار،
وأتساءل هنا أهذا خطأ طبيعي عابر؟ أم هو
نتيجة منطقية لغزو ثقافي ومعرفي هو كالمرض
ينخر في عظام مجتمعاتنا العربية ؟
... قررت في النهاية اللجوء إلى حل وسط وهو أن أتبسم
وقلبي يدمع) 
Like ·  · 

الأندلس في الرياضة ...ما أحلاها


مع نشرات الرياضة التي أعتاد عليها في كل حين بسبب متابعة ابني عمر لأخبارها على القنوات الفضائية، كثيرا ما يطرق مسمعي الأسماء الأندلسية العذبة، بما يجعل الأندلس حاضرة معنا كل يوم دون أن ندري..
وما أثار في نفسي الابتسام والرضا أن كثيرا من الناس الذي يسخرون ممن يذكر الأندلس اليوم أو يتذكر ويحلم بها من جديد؛ على اعتبار أنها ماضٍ وانتهى وأنها ليست... لنا.... وما شابه هذا الكلام؛ فإنني أشعر بالرضا والسعادة وأجدني ممتنة بالذات لقنوات الجزيرة الرياضية - على التزامها اللغة العربية في برامجها - حين تتحدث عن دوري كرة القدم الإسباني ... فأحلِّق معها بسماع نغمات أسماء الديار الأندلسية، التي ضاعت منا على حين ضعف منا كما ضاعت فلسطين وبلاد أخرى..ويسمعها الآخرون وتعلق في عقولهم دون وعي.
أتوقف لأصغي لتلك النغمات وتنتعش الحروف وأنا أستمع إلى المذيع يقول:
" فريق برشلونة (لا بارثيلونة) .. وفريق قرطبة (لا كوردوبا )... وفريق غرناطة (لا غرانادا).."
وفريق بلد الوليد يلعب مع فريق مالقة.. وفريق بلنسية يلعب مع فريق ألمرية...
وهذه أخبار الدور الأندلسي..أي دوري فرق مقاطعة الأندلس جنوب إسبانيا (لا أندلوثيا كما تلفظ بالإسبانية)...
يا الله ! ما أجملها من نغمات تقول إن دروب الأندلس حاضرة ولو أنكرها المنكرون..
صباحكم اليوم بعطر الأندلس وشذاها .... 

الثلاثاء، 20 مايو 2014

سيجارة..وتفاصيل رماد

..
..كالمعتاد من طلبتي حين يحين موعد المحاضرة.. يتفرق شملهم في الممر حين يشاهدونني قادمة.. لكن مساء أمس كان مختلفا إذ لمحتُ طالبا من أحبِّ الطلبة إلى قلبي ﻷنه يذكرني بابنتي فهو في مثل عمرها..
لمحتُه ولمّا ينتهِ من التهام سيجارته بعد..فأسرع حين رآني وألقى بها أرضاً وأدار ظهره لي مستقبلاً باب القاعة.. فناديتُه أن التقط ما رميتَ على اﻷرض..
فالتقط عقب سيجارته المشتعلة.. وهو يردد عبارة غير ﻻئقة قائلا: ليش ؟!! ما أنا بدفعلهم فلوس؟!!!

هكذا ببساطة يفسر الطالب الجامعي علاقته بالجامعة: هو يدفع ... إذن عليهم أن ينظفوا قاذوراته!!  ودخل مسرورا سعيدا بإجابته تلك...ﻻ أدري لم أصابت هذه العبارة مني مقتلاً.. فمثل هذه التفاصيل ربما تجعل اﻷمل بالمستقبل الذي نحلم يموت فينا...
وجعلتني أمام تساؤﻻت ربما يراها بعضنا ترفا .. 
فلماذا نرتدي الأقنعة؟ ولماذا نتأفف من واقعنا وبلادنا المتخلفة حضاريا..ونحن سببُ هذا.. نحن سببُه بلا مبالاتنا واستهتارنا بالتفاصيل الصغيرة، التفاصيل التي من الممكن أن تبلغ بمجموعها ما يمكن أن يجعلنا في مصاف الدول التي نتطلع إليها على أنها عظيمة.. 
فإذا كانت أوقاتنا ومواعيدنا بلا ضبط ولا قيمة لتأخُّرنا عليها..فليس لنا في التحضر نصيب..
وإذا كنا نحرص على اصطناع أناقة التصرف ومعسول الكلام أمام أعين الناس..في حين أننا في دواخلنا نظهر على حقيقتنا العارية في مثل هذه المواقف....فليس لنا منه كذلك نصيب..
إذا كنا باختصار نخون أمانة نظافة الطريق وصيانة الأماكن العامة من الأذى والإهمال..فلا تحضُّرَ لأمةٍ لا تعرف الأمانةُ قلوبَها في كل شيء في حياتها..
وصَدق الحبيب المصطفى: (لا يُؤمنُ أحدُكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه) .. فإذا كنت تحب لمنزلك وبيتك نظافة وجمالا..فمدرستك وجامعتك والشارعُ في بلادك يحبون ذلك منكَ أيضا.

الأربعاء، 30 أبريل 2014

رحلة أفوقاي الأندلسي: منزلة أبي القاسم الحجري في تاريخ الاستشراق


ورقة مقدمة لـمؤتمر: 
أدب الرحلات ودوره في التواصل الحضاري،
جامعة مؤتة، الأردن، في 28-30/4/2014 

تمتد ظاهرة الاستشراق لقرونٍ عدةٍ خلت، كان من أبرز ملامحها دراسة الحضارات واللغات الشرقية، ولئن كان من الشائع أن هذه الظاهرة قد نشأت ونمَتْ بجهود أبناء أوربا من المهتمين بدراسة اللغة العربية، إلا أن هؤلاء – وخاصة رواد الاستشراق الحديث منهم- لم يكونوا بمعزل عن الاختلاط بأهل اللغة التي يدرسونها، وقد أفادوا من اتصالهم بأهل العربية فوائد جمة، عادت على أعمالهم بعوائد طيبة.
تمثل ( رحلة أفوقاي الأندلسي: مختصر الشهاب إلى لقاء الأحباب ) واحدة من الرحلات التي سجلت بنصّها وبفعلها جانباً من التواصل الحضاري بين الشرق والغرب في مطلع القرن السابع عشر، وهو القرن الذي شهد ما يمكن تسميته العصر الذهبي للدراسات العربية في أوروبا، وقد نالت هذه الرحلة مؤخرا اهتمام الباحثين لغِناها والجوانب المتنوعة التي تشتملها.
وتسعى الورقة إلى استجلاء الدور الذي قام به مؤلف الرحلة أحمد بن القاسم الحجري -المعروف بـ أفوقاي- في تاريخ الاستشراق وذلك من خلال رحلته إلى بعض البلدان الأوربية: فرنسا وهولندا، إذ التقى في أثنائها عدداً من رواد الاستشراق على هامش الغرض الأساسي من رحلته الذي كان يتصل بأمور تهم الموريسكيين الأندلسيين المهجّرين من الأندلس إلى شمال أفريقيا.
 فقد كان لقاؤه -وهو ابن الثقافة العربية الإسلامية الموريسكية- بتلك الشخصيات المعروفة في تاريخ الاستشراق عاملاً في إغناء معرفتهم باللغة العربية، كما كانت له بعض إسهامات في دراسات المستشرقين، لم تنل ما تستحق من تسليط الضوء عليها، بحيث ظلت تلك الصلات مجهولة نوعاً ما حتى أعيد توجيه الأنظار إليها من جديد.

وتأتي هذه الدراسة في إطار الحديث عن إسهامات عربية وإسلامية في تاريخ الدراسات الاستشراقية، التي شهدت رواجاً وفي القرن السابع عشر لظروف عديدة يأتي تفصيلها في موضعه، وإنصافا لبعض الرواد المجهولين ممن كانت لهم يد الفضل في تاريخ الاستشراق.

الأربعاء، 12 فبراير 2014

لقاء في منتدى الفكر العربي يناقش كتاباً للباحثة الأردنية د. رشأ الخطيب الأدب الأندلسي في الدراسات الاستشراقيّة البريطانيّة

  1. http://www.almadenahnews.com/article/274882-%D9%84%D9%82%D8%A7%D8%A1-%D9%81%D9%8A-%D9%85%D9%86%D8%AA%D8%AF%D9%89-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%83%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A-%D9%8A%D9%86%D8%A7%D9%82%D8%B4-%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8%D8%A7-%D9%84%D9%84%D8%A8%D8%A7%D8%AD%D8%AB%D8%A9-%D8%B1%D8%B4%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D8%AE%D8%B7%D9%8A%D8%A8
    عمّان- عقد منتدى الفكر العربي في قاعة الحسن بن طلال ضمن سلسلة لقاءات "نادي الكتاب" لقاءً علمياً ترأسه د. صلاح جرار و...زير الثقافة السابق، نائب رئيس جامعة العلوم الإسلامية العالمية وعضو المنتدى، لمناقشة كتاب "الأدب الأندلسي في الدراسات الاستشراقية البريطانية" للباحثة الأردنية د. رشأ الخطيب، أستاذة الأدب العربي والمحاضِرة في جامعة الزيتونة والجامعة العربية المفتوحة، والصادر حديثاً عن هيئة أبو ظبي للثقافة والسياحة. وشارك في اللقاء د. فايز عبد النبي القيسي، أستاذ الأدب الأندلسي والمغربي في جامعة مؤتة، وكايد هاشم مساعد أمين عام المنتدى.
    وأكد د. صلاح جرار في كلمته، التي شكر فيها المنتدى على عقد هذا اللقاء، ما يبينه اللقاء من أهمية في توجيه طلاب الدراسات العُليا والباحثين في الدراسات الأدبية والتاريخ الثقافي، ومنها الدراسات الأندلسية، إلى التخلّي عن النمطية في اختيار موضوعات بحوثهم، والتعامل معها بنظرات جديدة وغير تقليدية، تؤدي إلى المزيد من الكشف العلمي المنهجي عن عناصر الثراء الفكري والحضاري في التراث الأندلسي والكنوز الإبداعية في الحضارة العربية والإسلامية، وصونها، واستلهام معطياتها.
    وأوضح ضرورة الحفاظ على النظرة العلمية الموضوعية المجردة من الأحكام المسبقة في الدراسات التي تتناول جهود الآخرين فيما يتعلق بتراث العرب والمسلمين الأدبي والفكري وحضارتهم؛ مشيراً في هذا الصدد إلى ما قدمه الأساتذة الرواد العرب في العصر الحديث في حقل الدراسات الأندلسية، من بلدان عربية مختلفة، ومنهم في الأردن د. إحسان عباس، و د. عبد الكريم خليفة، وكذلك عدد كبير من المستشرقين والمستعربين، ولا سيما من الإسبان.
    وأثنى د. جرار على الجهد المتميز الذي قدمته د. رشأ الخطيب في كتابها، والمنهجية التي اتبعتها في معالجة موضوع البحث الذي اختارته، واستثمار إجادتها للغة الإنجليزية خصوصاً في الاطلاع على مصادر ومراجع بهذه اللغة تتصل بالموضوع مباشرةً، وعدّ كتابها إضافة ذات قيمة في ميدان الدراسات المتعلقة بالأدب الأندلسي واستقباله في الغرب الأوروبي.
    وتحدثت د. رشأ الخطيب عن تجربتها في إعداد هذه الدراسة والصعوبات التي واجهتها، مستعرضة مضامين فصول كتابها، وقالت إن من أهم ما توصلت إليه من نتائج هو أن المدرسة الاستشراقية البريطانية هي جزء من النظرة الغربية العامة تجاه الأندلس، إلا أن ما يميز عمل المستشرقين والباحثين في بريطانيا في مجال الدراسات الأندلسية عامة هو أن عملهم جاء لإثبات حضور بريطانيا في هذا المجال من الدراسات، الذي كان حكراً على مدارس أخرى فيما مضى، وبيان أن اهتمامات بريطانيا بمناطق شرقية محددة بناءً على متطلبات نفوذها الاستعماري السابق لا يمنع من ارتياد آفاق جديدة من البحوث الشرقية.
    وأكدت أن الصورة مع مطلع القرن الحادي والعشرين أصبحت مختلفة تماماً، إذ لا يستطيع دارس الأدب الأندلسي اليوم أن يتجاوز أعمالاً مهمة في هذا المجال أنجزها باحثون في بريطانيا. وأن لبريطانيا إضافات واضحة في هذا المجال، ولا سيما في موضوع الأدب الشعبي الأندلسي، وقد اتخذت سمتاً مغايراً إلى حدٍّ ما عما شاع من قبل في دراسة الأدب الأندلسي لدى المدارس الأخرى الغربية، من خلال دراسة النصوص الأدبية الأندلسية نفسها وبناء الاستنتاجات عليها، دون الاكتفاء بما تقدمه النظريات والمناهج الأدبية التي تعنى بالبحث في أجواء النصوص.
    من جهته، قدَّم د. فايز القيسي مراجعة نقديّة للكتاب أشار فيها إلى أن المؤلِّفة نجحت في سعيها إلى رصد ما أنجزه المستشرقون والباحثون في بريطانيا في مجال الأدب الأندلسي، وتمكنت من استقراء تلك الجهود ووصفها وتقييمها، وبيان منزلتها من الجهود الأوروبية في دراسة أدب الأندلس، في إطار الاستشراق الذي يمثل جهداً علمياً غربياً لدراسة حضارة الشرق وتراثه والاهتمام به، بعيداً عن ربطه بواقع المستشرقين وغايتهم ودوافعهم السياسية والدينية المختلفة.
    وأضاف أن أهمية هذه الدراسة تبدو في أنها تناولت موضوعاً لم ينل حظه من الدراسة والبحث، فجاءت عملاً علمياً يسد الحاجة في المكتبة العربية إلى دراسة علمية جادة متخصصة، وهو أمر يشكل ضرورة ملحة لدى الباحثين من العرب والمستشرقين، في مختلف الجامعات ومراكز البحث العلمي عامة، ومراكز البحوث والدراسات الأندلسية خاصة.
    وعدَّ د. القيسي هذا الكتاب أول دراسة عربية في ميدان دراسة الأدب الأندلسي عند المستشرقين البريطانيين، وثالث دراسة عالمية تتناول هذا الموضوع بعد دراستين لباحثين بريطانيين هما ليونارد باتريك هارفي، وريتشارد هتشكوك. وقال: إن الباحثة لم تخضع في دراستها لأحكام مسبقة، أو لآراء نمطية حول الاستشراق، وكتابها يسعى إلى كشف الحقيقة العلمية وإنصاف الآخرين وتقدير جهودهم، وينبه إلى نماذج مهمة من دراسات المستشرقين في دراسة الأدب الأندلسي، مما يسهم في إضاءة كثير من جوانب تراثنا في الأندلس التي ما تزال بحاجة إلى البحث والدراسة.
    كما ناقش استخدام الباحثة لعدد من المصطلحات، موضحاً أن اصطلاح المستشرقين الجُدد الذي ظهر في العقد الأخير من القرن العشرين، خاصة خلال أزمة العراق وغزو بغداد، يطلق على عدد من المستشرقين من غُلاة الصهاينة والمحافظين الجدد الذين لا يخفون عداءهم للعرب والإسلام، فيما مصطلح "المستعربين الأكثر مناسبةً للدلالة على الباحثين الغربيين في ميدان دراسة التراث الأندلسي. وأن الاستعراب فرع من الاستشراق يعني تخصص بعض الباحثين غير العرب، غربيين أو آسيويين، في دراسة القضايا العربية دون سواها.
    وكان كايد هاشم قد ألقى كلمة في مستهل اللقاء، باسم الأمانة العامة لمنتدى الفكر العربي ، أشار فيها إلى تشجيع المنتدى، الذي يرأسه سمو الأمير الحسن بن طلال، ومساندته وإسهامه في التعريف بالجهود الفكرية المتميزة، وبخاصة تلك التي يقوم بها الجيل الجديد من الأكاديميين والباحثين العرب، والتي يقدمون فيها إضافة معرفية وقيمة علمية وبحثية، ضمن رؤية المنتدى النهضوية للإسهام في تعزيز الوعي بالمرتكزات الحضارية العربية والإسلامية، وكذلك تعزيز الإغناء الثقافي، وأُسس المشتركات الإنسانية، فضلاً عن تشجيع إنتاج الفكر القائم على البحث والتفكير العلمي.
    وقال: إن التجربة الحضارية الأندلسية الفريدة في التاريخ الإنساني، بفكرها وأدبها وفنونها وآثارها وبكل مكوناتها وامتداداتها الوجدانية والمادية، ما تزال موضوعاً مثيراً للفكر والبحث والدرس في العالم العربي والإسلامي بمشرقه ومغربه، كما في الغرب، ولا سيما لدى الإسبان الذين نشترك وإياهم في هذا التراث، وكذلك في باقي الدول الأوروبية وأمريكا على تفاوت درجات الاهتمام بتراث الأندلس في هذه الدول، مشيراً إلى أن الخصوصيّة الأندلسية ارتفعت فوق الطوابع المرحلية والآنية لعلاقات الشرق بالغرب، بما تمثله من روافع وجسور الاتصال الحضاري بينهما، كما سَمَت هذه الخصوصية على الصراعات لتظل شاهداً على العمق المعرفي الذي حفرته حضارة العرب والإسلام قيماً ومبادىء ومرتكزات في ارتقاء المسيرة الإنسانية والعقل الإنساني. وأوضح أن منتدى الفكر العربي معني بمسار الدراسات الأندلسية في سياق رصد وإبراز أثر الفكر العربي والإسلامي في الفكر العالمي.
    حضر اللقاء جمهور من الأكاديميين والباحثين والمثقفين والمعنيين وعدد من أعضاء المنتدى، ودار نقاش موسع حول قضايا مختلفة تطرق إليها المتحدثون وتناولها الكتاب.

الاثنين، 10 فبراير 2014

الأدب الأندلسي في الدراسات الاستشراقية البريطانية


نص الكلمة التي ألقيتُها في لقاء مناقشة كتاب الأدب الأندلسي في الدراسات الاستشراقية البريطانية

التي عُقدت في منتدى الفكر العربي في عمان مساء الإثنين 10/2/2014 بإدارة أد. صلاح جرار، تعقيب أ. د فايز القيسي وبمشاركة نائب أمين عام المنتدى الأستاذ كايد هاشم

بسم الله الرحمن الرحيم وبه أستعين
حكايتي مع هذا الكتاب

..كمثل طلبة الدكتوراه نبحث عن موضوعٍ معين للأطروحة حين يحين أوانُها .. وما زالت ترنُّ في أذني كلمات أستاذنا العلامة ناصر الدين الأسد -حفظه الله- (اكتبوا في مواضيع تصبحون أنتم مرجعاً لها) .. لكنْ من أين يأتي طالب دكتوراه - على ما أوتي من علم وأسباب - بموضوعٍ كمثل هذا ؟ وهل يقدر عليه كثيرون ؟
هذه الليلة وفي مقام إسداء الشكر إلى أهله أبدأ أولاً بشكر أستاذي الكبير أ.دصلاح جرار الذي اقترح عليّ الاستشراق البريطاني عنوانا للبحث عن صلته بالتراث الأندلسي... وهكذا كانت البداية.


لقد كان الموضوع مثيراً لكثير من التساؤلات؛ حين استوقفني أنــه " ليس لاسم بريطانيا – للوهلة الأولى - صدىً في مقامٍ تُذكر فيه الأندلس والتراث الأندلسي إلا فيما ندر" وكان ذلك دافعاً لمزيدٍ من البحث والتنقيب في تراث المستشرقين، وباباً لأبوابٍ كثيرة ولجتُ منها ، لأخرج في بداية المطاف بخطة عمل مقترحة لفصول الكتاب الذي بين أيديكم.
وكان من طرائف دراستي بمجملها أنها كانت على مرحلتين : مرحلةٌ في الجامعة الأردنية في السنة الأولى والثانية ، ومرحلة  ثانية لدى كتابة الأطروحة التي كانت - بحكم إقامتي - في الإمارات العربية المتحدة، وهنا في هذا المقام أزجي الشكر لأهله من الجنود المجهولين في المكتبات : مكتبة الجامعة الأردنية في عمّان، ومكتبة دار الكتب الوطنية في أبوظبي، وكانت لي خير معين، وهي إحدى مؤسسات الجهة الناشرة لهذا الكتاب: هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة..
فكان مشوار المكتبة اليومي فرصة للقاء الكتب المطبوعة منذ قرون في أوربا بأغلفتها الجلدية وزخرفها المميز ... وفرصة للتنقيب في صفحات الكتب الكثيرة القابعة على الرفوف، بانتظار من يحنو عليها، يحملها بين يديه، ويقلّب صفحاتها، وينظر في سطورها.
وقد اضطرتني قلة المادة التي تربط الأندلس ببريطانيا إلى أن ألتمس أدنى الإشارات وأصغرها إلى الأدب الأندلسي في السجلات البريطانية حتى وصلتُ إلى البدايات ، وكانت مع نشر حي بن يقظان لابن طفيل الأندلسي وترجمتها إلى اللاتينية على يد المستشرق إدوارد بوكوك الابن سنة 1671.
ثم انفتحت الأبوابُ على فضاءاتٍ أخرى وأعمالٍ تالية للمستشرقين البريطانيين حول تراث الأدب الأندلسي نشراً وتحقيقاً وترجمة، إلى أن وصلتُ مطلعَ القرن الحادي والعشرين بالوقوع على أعمال جيدة كمّاً ونوعاً للمستشرقين البريطانيين .
********

أما الكتاب فيجمع بين دفَّتَــيْه العناوين التالية موزَّعة في بابيْن، يندرج تحت كلٍّ منهما عددٌ من الفصول عن منجزات المستشرقين والباحثين في بريطانيا في دراسة الأدب الأندلسي، وذلك على النحو التالي:


يمثل الباب الأول توطئة عامة ونظرة تاريخية حول صلة الاستشراق البريطاني بالدراسات الأندلسية، قدمتُ فيه مدخلاً عاماً عن دراسة اللغة العربية في أوروبا منذ العصور الوسطى ، ثم صلة الاستشراق البريطاني بالتراث العربي الإسلامي من حيث الاهتمام بالدراسات العربية والإسلامية في إنجلترا منذ القرن السابع عشر، مروراً بالحديث عن أنشطة أخرى في بريطانيا دعمتْ العنايةَ بالدراسات العربية هناك على نحوٍ خاص، وهي جمع المخطوطات والمكتبات الجامعية. ثم خَتَمتُ الفصل بملحوظاتٍ عامة على صلة الاستشراق البريطاني بالتراث العربي.
أما الفصل الثاني من الباب الأول فكان في بيان مظاهر عناية المستشرقين البريطانيين بالتراث الأندلسي، وقد تتبَّعَ مسيرة الدراسات الأندلسية في بريطانيا ضمن سياق الاهتمام بالدراسات العربية والإسلامية، إذ لم تكن العناية بالدراسات الأندلسية ذات اهتمام خاص هناك؛ وذلك لعوامل عدة منها أن الدراسات الأندلسية نفسها لم تكن معروفة من المستشرقين في القارة الأوروبية إلا في القرن التاسع عشر؛ نتيجة لنمو النشاط الاستشراقي الملحوظ في البحوث والدراسات الأندلسية في إسبانيا وفي غيرها من الدول الأوروبية، وهو النشاط الذي كان له الفضل في الكشف عن الكتب والمصادر العربية في الأندلس، وإلقاء الضوء على النصوص الأندلسية وأهميتها وأثرها في التاريخ الأدبي الأوروبي، لكن الاهتمام بالدراسات الأندلسية في بريطانيا لم يواكب هذا النشاط الأوروبي منذ بداياته إلا على نطاق ضيق.
أما الباب الثاني فهو في المنجزات العملية والمنهجية للدراسات الأندلسية في بريطانيا وقد ضم أربعة فصول عالجت تفاصيل الأعمال التي قدمها المستشرقون البريطانيون في دراسة الأدب الأندلسي، ففي الفصل الأول محاولة لاستقراء أعمال المستشرقين البريطانيين في دراسة الأدب الأندلسي وتصنيفها، وبيان مقدار الجهد الذي بذله هؤلاء في دراسة الأدب الأندلسي، أما الفصل الثاني ففيه وقوف على مواضيع الأدب الأندلسي وقضاياه التي خصَّها المستشرقون البريطانيون بالدرس والبحث ونالت منهم العناية.
ثم الوقوف في الفصل الثالث على منهج البحث في الأدب الأندلسي لدى المستشرقين البريطانيين من حيث أصول التحقيق والترجمة، ومرجعيتهم في دراسة التراث الأندلسي، ومصطلح الأندلس الذي استعملوه في دراساتهم. وكان الفصل الأخير من هذا الباب بحثاً في اتجاهات المدرسة البريطانية في دراسة الأدب الأندلسي، وضمَّ مباحث ثلاثة، هي: أولاً ملامح منهجية عامة وَسَمَتْ أعمالَ المستشرقين والباحثين البريطانيين في دراستهم للأدب الأندلسي وهي: حضور اليهود في دراسة التراث الأندلسي، وقيود الآراء والأحكام الاستشراقية السابقة، ودراسة الأدب الأندلسي بصفتها وجهاً من وجوه الدراسات المقارنة.
وثانياً: ملحوظات حول اهتمام المستشرقين البريطانيين بالتراث الأندلسي، في حين كان المبحث الأخير في المشكلات التي تحيط بميدان الدراسات الأندلسية في بريطانيا.
********
صعوباتٌ لا بد من الاعتراف بها
يجدر في هذا المقام الاعتراف بفضل (الإنترنت) على البحث العلمي في حياتنا المعاصرة، الذي يتيح تذليل بعض الصعوبات في الحصول على المصادر قديمها أو حديثها؛ بما توفره هذا الأداة عن طريق الشبكة العالمية العامة أو من خلال مواقع المؤسسات العلمية - ومنها موقع الجامعة الأردنية ومؤسسات جامعية وعلمية أخرى - من إمكاناتٍ تجعل الباحثَ يزورُ مكتباتِ الأرضَ وهو في مكانه، ويتصفح المصادر المخطوطة والمطبوعة من غير أن يلمسها بيديه.
ولكن ذلك لا يذلل كل العقبات، فمن الصعوبات الأخرى التي أجدني مضطرة إلى الاعتراف بها: أن دراسة المصادر بلغاتها الأصلية هي عملية قد توصف بأنها من " السهل الممتنع" مهما بلغت درجة تمكّن الباحث من اللغة الأجنبية أو مستوى إجادته لها؛ وإذ أشيرُ إلى ذلك فإنه لا يمنع من القول إنّ قراءة النصوص بغير اللغة الأم هو في حدّ ذاته أحد التحديات التي تواجه الباحثين في موضوعٍ من مثل موضوع هذا الكتاب؛ فالرجوع إلى المصادر الأجنبية سواء من ناحية المصادر الأولية للمادة أو من ناحية مراجعها المساندة للبحث- هو عمل ذو وجهين:
فمن جهة يقدم هذا العمل فرصة فريدة بالرجوع إلى روح النصوص الأصلية المراد دراستها - بمفرداتها ودقائقها وتفاصيلها التي تنطبع في نفس القارئ - وبإغناء البحث بمصادر ربما تكون ذات آراء جديدة ورؤى مختلفة.
ومن جهة ثانية يبقى الرجوعُ إلى المصادر بغير اللغة الأم للباحث العربي محفوفاً بالمخاطر، إذ ربما يقع الباحثُ العربي فيما وقع فيه المستشرقون أنفسهم من قبل؛ حين أساؤوا فهم العربيةِ في نصوصها المدوَّنة أو في سياقها الاجتماعي وأدى ذلك بهم إلى ما نعرفه جميعاً من أحكام أطلقوها تجاه العرب والمسلمين على غير هدى.
خلاصة:
إن المدرسة الاستشراقية البريطانية هي جزء من النظرة الغربية العامة تجاه الأندلس، تتفق معها في أشياء وقد تفترق في أخرى، إلا أن الملاحظة الواضحة التي تميز عمل المستشرقين والباحثين في بريطانيا في مجال الدراسات الأندلسية عامة هي أن عملهم ذاك في جانبٍ منه كان محاولةً لإثبات حضور بريطانيا في هذا المجال من الدراسات، الذي كان حكراً على مدارس أخرى فيما مضى، وبيان أن اهتمامات بريطانيا بمناطق شرقية محددة - الهند والمشرق العربي- بناءً على متطلبات نفوذها الاستعماري السابق لا يمنع من ارتياد آفاق جديدة من البحوث الشرقية.
وليس خافياً أن الدراسات الأدبية الأندلسية قد بلغت أوْجَهَا عند المدرسة الإسبانية والمدرسة الفرنسية في المرحلة الاستعمارية المباشرة([1])  ثم تراجعت المدرسةُ الفرنسية بتوجيه الاهتمام منذ ستينات القرن العشرين نحو قضايا الإسلام السياسي وما شابهها. أما المدرسة الإسبانية فما زالت تتصدر هذا الميدان من الدراسات حتى اليوم.
إلا أن ذلك لا يمنع من القول إن المنجزات التي حققها الباحثون الذين ينتمون إلى الهيئات العلمية البريطانية في مجال الدراسات الأندلسية منجزات جيدة، وتلبي حاجات عدة من أهمها توفير مادة علمية في البحث الأندلسي باللغة الإنجليزية.
ويبدو ذلك مهماً في ضوء المقدمة المكثفة والمفيدة التي مهَّد بها نيكل A. R. Nykl  لكتابه:
 Hispano-Arabic Poetry and It`s Relations With The Old  Provencal Troubadours
الصادر سنة 1946 حين استعرض في تلك المقدمة مساهمات الأوروبيين في دراسة الشعر الأندلسي منذ بداية القرن التاسع عشر، فلم يأتِ فيها على ذكر أعمال في هذا المجال من بريطانيا، إلا من كتابيْن من الكتب العامة صدرا في بريطانيا: واحد لمؤلفهThomas Bourke  سنة 1811 والآخر لـ George Power([2])  في 1815 ، وهما على كل حال ليس بتلك الأهمية في الموضوع، فلم أعثر بـهما في المصادر التي تؤرخ لدراسة الأدب الأندلسي لدى الأوروبيين.
وكان كلام نيكل في كتابه ذاك تقريباً منتصف القرن العشرين، أما عند النظر في الدراسات الأندلسية مع مطلع القرن الحادي والعشرين فإن الصورة قد أصبحت مختلفة تماماً؛ إذ لا يستطيع دارس الأدب الأندلسي اليوم في أوروبا أن يتجاوز أعمالاً مهمة في هذا المجال أنجزها باحثون في بريطانيا، كان من أهمها أعمال صمويل شترن وألن جونز في أكسفورد، التي أغنت موضوع الأدب الشعبي الأندلسي - أي الموشحات والأزجال - بنصوص جديدة، وأصبحت موضوعاً يستحوذ على النصيب الأكبر من الدراسات والبحوث في الأدب الأندلسي اليوم بين الباحثين الغربيين.
لقد استطاعت بريطانيا أن تمدَّ يداً لميدان الدراسات الأندلسية وتضيف فيه إضافات واضحة وإنْ كان عهدُها به جديداً ؛ لدخولها هذا المجال متأخراً عن غيرها من المدارس الاستشراقية الأوروبية. كما أن من ميزات هذه الإضافات أنها قد اتخذت لها سمتاً مغايراً إلى حدٍ ما عما شاع من قبل من نظرات في دراسة الأدب الأندلسي لدى المدارس الأخرى، باتجاهها إلى دراسة النصوص الأدبية الأندلسية نفسها وبناء الاستنتاجات عليها دون الاكتفاء بما تقدمه النظريات والمناهج الأدبية التي تعتني بالبحث في أجواء النصوص.





([1]) المقري، بدر (2004)، أدب الغرب الإسلامي في دراسات المستعربين الفرنسيين: دراسة توثيقية تحليلية، رسالة دكتوراه (غير منشورة) جامعة محمد الأول، وجدة، المغرب. ج1: ص106

([2]) Nykl, A.R. (1946), Hispano-Arabic Poetry and It`s Relations With The Old Provencal Troubadours. Baltimore: J.H. Furst Company, (Reprint 1970), p. xi, and p.xv, no. 7.

الأحد، 6 يناير 2013

صباح سقوط غرناطة...

 


تكشف التفاعلات حول الذكرى 521 لسقوط الأندلس وآراء الناس حولها عن أننا أمة مهزومة بامتياز، تستكثر على بعض أبنائها أن يقفوا أمام تاريخهم لأيام، هذا التاريخ الذي يمحى من ذاكرتنا شيئا فشيئا دون أن ندري .. بحجة أننا أمة تحب دوما التغني بالأمجاد الماضية ولا تقدم شيئا في حاضرها للبشرية.
إننا أمة مهزومة حقا منذ عشرات السنين وربما منذ قرون، ولأننا أبناء العصر الحديث الذين لم نفتح أعيننا إلا على النكبات والنكسات والهزائم، فإننا كذلك لعجزنا المتمكن فينا- عاجزون أيضا حتى عن مجرد التخيل أو التصور، إننا عاجزون عن أن نتصور أن أمتنا كانت يوما ما هي الدولة العظمى في العالم، وكانت القطب الأوحد، وكانت رمز التقدم. إننا عاجزون عن ذلك، لأننا أمة مهزومة حضاريا متخلفة ماديا ومعنويا عن الركب الحضاري للأمم الحية، لكن ومع ذلك كله فما زال فينا بقية من رمق، ما زال فينا جمرة تتقد تحت الرماد، جمرة متوهجة، وربما تنفث فينا الحياة من جديد مرة أخرى. إننا لهواننا على أنفسنا لا نقدر أن نتصور أننا كنا لعدة قرون شمس الحضارة الذهبية الساطعة في العالم، لماذا نستكثر على أنفسنا الفرح والانتشاء بحضارة كانت، وهذا حق للأمم، ليس نكوصا، إنه التماسُ ما يدفعنا إلى مزيد من العطاء والغيرة لنعيد مجدا غابرا مضى.
..وقد كشفت المواقف والنقاشات التي دارت حول القضية الأندلسية على صفحات التواصل الاجتماعي، أننا بحاجة أكثر إلى النبش في تاريخنا، فنحن نكاد نصبح أمة بلا تاريخ بلا ذاكرة، فذاكرة أبنائنا تكاد تخلو إلا من كل تافه فارغ، ذاكرة أبنائنا تكاد تنقطع بحاضر الأمة عن ماضيها، وإذا ما استمر التردي الثقافي واللغوي الذي نعاني، سنصحو فجأة ذات يوم - أظنه ليس ببعيد- على أمة منقطعة عن الماضي لن تقوى على الصمود في وجه المستقبل.
وقبل أن نبدأ ينبغي التنبه إلى أن أهل الأندلس ليسوا جميعا من خارج تلك الأرض، ومن السذاجة بمكان أن نظن أن المسلمين الفاتحين ارتحلوا إليها بعائلاتهم وقبائلهم وأهليهم…بل إن سكان الأندلس كانوا على مر الوجود العربي الإسلامي فيها، ببساطة (أندلسيين)، نعم فقط هم (أندلسيون) تعرَّبوا باتخاذ اللغة العربية لغة ثقافة ولغة حديث يومي، وأسلموا باتخاذ الدين الإسلامي عقيدة ومذهبا.. أو سالموا المسلمين وبقوا على دينهم.. فكان ذلك الخليط الرائع الذي يسمى الشعب الأندلسي مزيجا حضاريا يشبه - على نحوٍ ما- الشعب الأمريكي حاليا من مختلف الأعراق في ظل دولة واحدة..
فالذين يستهجنون الوقوف على ذكرى سقوط الأندلس، لا يعلمون أن سقوط الأندلس قد غيَّر معالم البشرية على وجه الأرض، كثير من الأشياء كان يمكن أن تكون مختلفة لو بقيت الأندلس إسلامية. بل أكاد أقول إن سقوط الأندلس في القرن الخامس عشر كان أشد وطأة على الأمة الإسلامية من سقوط فلسطين في القرن العشرين، فإن فلسطين لو لم تكن محتلة الآن كانت ستكون كغيرها من دولنا العربية الأخرى في جسدنا الممزق!
أما سقوط الأندلس فقد غيَّر تاريخ البشرية، لماذا ؟! لأنه في سنة 1492 التي سلَّم في بدايتها أبو عبدالله الصغير آخر ملوك غرناطة- مفاتيح المدينة إلى الملكيْن الكاثوليكيين إيزابيل وفرناندو - ملكيْ قشتالة وأراغون - إذ لم يكن وقتها هناك شيء اسمه إسبانيا - هذه السنة هي السنة نفسها التي شهدت وصول كريستوفر كولمبس شواطئ أمريكا بمساعدة الخرائط العربية وبمساعدة علم الملاحة العربي وبمساعدة الملاحين والبحارة العرب، وما أحدثه وصوله إليها من تغير هائل في موازين القوى الدولية، وتلاشي حضارات وانبثاق أخرى.
وقبل السقوط بنحو خمسين سنة -1447- تم إنجاز الاختراع الذي غيَّر تاريخ البشرية قاطبة إنه اختراع الطباعة الحديثة، الذي جرى على يدي يوهان غوتنبرغ في ألمانيا .
إذن فقد خلَّف سقوطُ الأندلس ظواهر كبرى كان لها نتائج كارثية خاصة على العالم الإسلامي ما نزال ندفع إلى اليوم ثمنها: من الكشوف الجغرافية وما نتج عنها من توسع استعماري أوروبي في شتى بقاع الأرض، مع تغير المفاهيم وظهور المركزية الأوروبية واستعلاء العرق الأبيض واحتقار الثقافات والشعوب الأخرى. ومن تراجع السيطرة الإسلامية على طرق التجارة العالمية، مما أدى إلى تراجع حاد في الشؤون الأخرى.. ومن ظهور الطباعة وما ترتب عليه من النهضة العلمية والثقافية والتنويرية التي غيرت وجه أوروبا والعالم وقلبت المفاهيم في الأسرة والمجتمع والدولة والرعية…. وفي كل شيء .
…ولمن لا يعرف ما معنى سقوط الأندلس، يكفي التذكير بمصانع الورق التي كانت تنتشر في المدن الأندلسية، ومنها انتقلت معرفة الورق إلى أوروبا التي كانت ما تزال تكتب على الرق من جلود الحيوانات….. مصانع الورق تلك التي كانت تلبي حاجة السوق الثقافية والفكرية التي كانت تزخر بها الأندلس في ظل الحكم الإسلامي، والتي يكفي عليها دليلاً مكتبة الخليفة الحَكَم المستنصر التي كانت تضم مئات الألوف من الكتب والمجلدات قبل ألف عام، في حين أن أوروبا لم تكن تعرف ما معنى كلمة (مكتبة)، وفي حين كانت مكتبة أكسفورد - التي تأسست بعد مكتبة قرطبة بنحو خمسمئة سنة- قد نُهبت وجرى فيها بيع قطع الأثاث ومحتوياتها، وبيعت أوراق الكتب فيها قراطيس كما نستعملها نحن اليوم، لنلفَّ بها قليلا من الفشار أو بعض الترمس!
وفي حين كان مثقفو أوروبا من الرهبان يلجؤون إلى طمس الكتب القديمة المخطوطة بغسل الأحبار ليعاودوا كتابة الصلوات والأدعية على أوراقها من جديد، فأفنوا كثيرا من العلوم دون أن يعلموا ذلك، بما يعكس المستوى العلمي الحقيقي لـ(أهل العلوم) و(المثقفين) الأوروبيين في ذلك الزمان، الذي ما كنتَ لتجد فيه أندلسياً أو أندلسية لا يعرف القراءة ولا الكتابة!
إننا مع الأسف رغم ما وصل إليه كثير من شبابنا في العلوم الحديثة لا نقدر أن ندرك كم نحن مدينون إلى حضارتنا العربية الإسلامية- وجزء مهم منها في الأندلس- تلك الحضارة وما وصلت إليها التي اتكأت عليها أوروبا ولم تجد غيرها أمامها لتنهض وتمحو ظلمات العصور الوسطى التي كانت غارقة فيها، في الوقت الذي كانت أمتنا فيه تنعم فيه بنور العلم والحضارة والتسامح الديني والرقي الأخلاقي …وغيرها من ميزات الأمم المتحضرة، بما يحفزنا على أن نقبس منه من جديد لنعيد أمجادا لنا كانت.


كم من أطبائنا ومهندسينا وعلمائنا اليوم يعلمون عن إنجازات أسلافهم العلماء في الأندلس - وفي غيرها بطبيعة الحال-؟ وكم منهم يعرف مقدار ما تدين به الحضارة الأوروبية الحديثة لحضارة أجدادهم العرب المسلمين؟ كم طبيبا منهم أو جراحا أو صيدلانيا يعرف أو قرأ سطرا في الموسوعة الطبية التي ألَّفها الطبيب الأندلسي الفذّ أبو القاسم الزهراوي (التصريف لمن عجز عن التأليف) هذا الكتاب الذي بقي مرجعا وحيدا لدى الجامعات الأوروبية في كليات الطب لعدة قرون، كم واحدا منهم ألقى نظرة على الفصل الثلاثين فيه، وهو مقالة في الجراحة، وفيها صفحات عديدة تضم صورا لأدوات الجراحة التي استعملها الزهراوي من نحو ألف سنة، وتشبه إلى حد كبير ما يستعملونه الآن بين أيديهم وما يستعمله الأطباء في مستشفيات أوروبا وأمريكا، وفي المقالة كذلك وصف لعمليات جراحية دقيقة نصعب أن نتخيل كيف كانت تجري منذ ألف سنة ؟ هل نقدر أن نتصور ذلك ونصدق أنه كان موجودا ونحن مهزومون حضاريا؟؟؟ أم لأننا استفقنا على تخلفنا الحضاري فأصبحنا عاجزين كذلك حتى عن استحضار ما كنا فيه!!
هل نقدر أن نتخيل شوراع قرطبة، أكبر مدينة في العالم من حيث عدد سكانها في ذلك الزمان، الشوارع المضاءة بالمصابيح ليلاً يقوم على حراستها والسهر عليها شرطة المدينة، تنتشر فيها الأسواق والمساجد والرياض والدور والقصور والدروب المرصوفة النظيفة، في حين كانت شوارع باريس ولندن تغرق في الوحل والظلام وبَوْل الناس يلقونه من نوافذ بيوتهم على قارعة الطريق، لا يأبهون بالماء إن غاب عن أجسادهم سنوات، بل يفاخرون بعدم الاستحمام، في الوقت الذي كانت فيه قرطبة ومدن الأندلس - كباقي المدن الإسلامية- تغصّ بالحمامات العامة تأكيدا لقيمة النظافة .. هذه الحمامات التي طالها الأذى كما طال أهل الأندلس عند سقوطها؛ فقد سارع الإسبان بعد سقوط الأندلس إلى حرق الكتب وهدم الحمامات، في خطوة لا أدري ما الوصف المناسب لها: همجية، جهل، قذارة، حقد أعمى؟…..
هل نملك أن نتخيل حجم الاستعراضات العسكرية والتشريفات الأميرية والملكية التي كان يستعرض بها خلفاء الأندلس وملوكها وأمرائها قوتهم أمام أعدائهم، حتى أنها لأعجزت الأندلسيين أنفسهم قبل أن تُعجز سفراء أعدائهم حين كانوا يأتون لتقديم فروض الطاعة لحكام الأندلس.
هل نقدر أن نتخيل العقلية الفذة التي تفتقت عنها العبقرية الهندسية التي حملت المياه العذبة في غرناطة إلى قصر الحمراء وإلى بيوت الناس الرابضة على جبالها؟ أو نتخيل العبقرية التي أبدعت في أنظمة الري ونقل الماء إلى البساتين والحقول داخل المدينة وخارجها؟ ونحن الآن في مدينة عمان لا نقدر على أن نجرّ مياه "الديسي" إلا بـ"عطاءات مليونية" و"شركات فرنسية"؟!
ما هو السر العظيم والعقلية التي تقف وراء من استطاع أن يجعل تماثيل الأسود في قصر الحمراء تنفث من أفواهها الماء حسب ساعات معينة من النهار؟ ما هي الميكانيكية التي تعمل بها؟ وكيف أنتجها أهل تلك البلاد؟
… ربما نجد هذه الأمور عادية جدا في أيامنا الحالية، نظرا لما شهدته البشرية من تقدم هائل على مختلف الأصعدة، لكنها مع ذلك معجزة حضارية لمّا يفك العلماء كثيرا من أسرارها بعد.
لهذا فإن الإسبان حين أسقطوا الأندلس كانوا يدركون قيمة الإنجازات الحضارية للأندلسيين المسلمين؛ فحين كان يتم جمع الكتب العربية لتضرم فيها نيران الحقد عام 1499 في ساحة باب الرملة في غرناطة بعد طرد المسلمين، استُثنيت من هذا المصير المفجع الكتب العربية في العلوم الطبية والهندسية والفلسفية وغيرها من العلوم الطبيعية والرياضية والتطبيقية، لتأكل النيران فقط المصاحف وكتب الفقه الإسلامي والأدب العربي واللغة العربية وكل ما يمس هوية العربي ويحفظ كيانه االثقافي.. في حين حُملت بقية المجلدات إلى مراكز الترجمة والجامعات ليكون بالإمكان الإفادة منها على أفضل وجه؟ وهكذا كان..
وهكذا سُرقت حضارتنا ، ثم رُدَّت بضاعتنا إلينا بعد قرون في ثوب جديد لذا لم نعرفه، والتبست على كثيرين منا، والآن فهمنا - بعد فوات الأوان- كيف كان بعض فقهاء الأندلس يحرّمون بيع الكتب العربية إلى النصارى الإسبان، بحجة أنهم يترجمون ما فيها وينسبونه إلى أنفسهم. فكم واحداً منا يعرف أصل الكاميرا ؟ ويعرف أصل الأرقام العشرية ؟ وأصل روبنسون كروزو ؟ والكوميديا الإلهية؟ فحتى الأدب الأوروبي في نشأته لا يخلو من تأثير عربي إسلامي بوجه من الوجوه.. بل حتى اللغة الإسبانية نفسها تعود في ثلثيْن من ألفاظها إلى أصول عربية!!! فما هذا النقاء الحضاري وهل هو موجود حقا؟؟ وما حرف الثاء والخاء المتكرر فيها بكثرة -على غير المعهود في اللغات الأوروبية- إلا مثل على ما نقول.
إننا أمة مهزومة … لا نقدر أن نتخيل الآية معكوسة، حين كان الطلبة الأوروبيون يتزاحمون على أبواب الجامعات العربية في قرطبة لتحصيل العلوم التي عجزت بلادهم أن تقدمها لهم، لا نقدر أن نتخيل كيف كان شبابهم يتباهون بمعرفتهم اللغة العربية وإتقانهم لها، إلى درجة نظم الشعر والرسائل واتخاذ العربية لغة الحديث اليومي ولغة الثقافة لبعضهم.. حتى ضجَّ القس (ألبارو القرطبي) من أبناء جلدته لغرامهم الزائد عن الحد بتقليد الأساليب العربية في النثر والنظم.
ولا نقدر أن نتخيل كيف أن ملك صقلية روجر الثاني كان يتباهى بلبس عباءة مطرزة بكتابات عربية وبحروف عربية.. وبعضنا يخجل الآن من توقيعه البائس إذا كان بحروف عربية.
..وبعد، لا نقول إن التجربة الأندلسية كانت نقية من العيوب وخالية من الأخطاء، فهي كمثل تجاربنا في بلادٍ أخرى فتحها المسلمون- شابها الكثير من النقائص والعديد من العيوب.. لكن ذلك لا يمنع أن نفخر بها تجربةً فريدةً لا مثيل لها في الحضارات الإنسانية، ولا ترقى إليها نماذج شبيهة ربما تأخذ بعقلنا في عصرنا الحديث لأننا فقط "مغلوبون…ومولعون بتقليد الغالب"…رحمك الله يا ابن خلدون، هل قرأتم بعض سطوره، أعرف أن كثيرين منكم سمع به..ولكن هل قرأتم بضعة سطور من كلماته؟ إن فهمتموها.. فأنا على يقين أننا أمة ما تزال على قيد الحياة!