أرشيف المدونة الإلكترونية

الخميس، 21 مايو 2015

كلمات في وفاة أستاذنا د.ناصر الدين الأسد


"إنّا لله وإنّا إليه راجعون"

... كان لقائي الأول مع أستاذنا العلّامة ناصر الدين الأسد في المحاضرة الأولى لي في دراستي الدكتوراه خريف عام 2005، تلك المحاضرة التي وصلتُها متأخرة، فلم تكن أولياتُ اللقاء لطيفة؛ لتقصيري في الانضباط على الوقت.
لكن اللقاءات الدراسية ما لبثت أن تتالت، حتى صارت في قلبي هي سويعاتُ المتعة المعرفية الخالصة، أفدْنا فيها من أستاذنا الكبير فائدة لا يقدر على نكرانها إلا جاحد.
ومن تلك المتع التي ما زالت في خيالي عن محاضرات أستاذي الفاضل -رحمه الله- تلك الأناقةُ الواضحة لهذا الأستاذ الذي لا تكاد تفارق وجهَه روحُ الشباب وشبابُ القلب، وتلك الذاكرة المتّقدة التي طالما أخجلَتْنا أمام أنفسنا، ونحن في يفاعةٍ، ولمَّا نبلغ من العمر نصفَ ما بلغ أستاذنا، فكُنّا نعجز أحياناً عن استدراك ما يتبقى من أشطار أشعار تُلقى في أثناء الدرس، أو استحضار أسماءٍ غابت في سطور تراثنا الذي آمن به ودافع عن أصالته ووجوده.
كثيرةٌ ما هي المواقفُ التي اختزنَتْها الذاكرةُ من لقاءات أستاذنا الكبير، وكثيرةٌ ما هي المواقف التي يحفظها الطلابُ عادةً عن أساتذتهم، تفوق ما قد يتعلمونه منهم من علومٍ قيَّدتْها القراطيس وحوتْها السطور.. لأنَّ العالِمَ قدوةٌ بين طلبته، ومشعل على ضوئه يهتدون. 

ورُبَّ إشارةٍ عابرة أو لفتةٍ عفوية أو حتى مجرد مظهرٍ أنيق أو كلمةٍ رفيقة- يكون لها وقعُ السحر في نفس تلميذٍ ما زال يأخذ عن أستاذه ما لم يقله في مجلس وكتاب، أو دوَّنه في سطور وصفحات.

تعلمتُ منك الكثير أستاذي في تلك الشهور الأربعة..بما لا أنسى فضله عليَّ حتى آخر عمري.

***************  

الصورة تجمعني بأستاذي الوفيّ -رحمه الله- ورفيقة عمره ودربه، على هامش تكريمه في رحاب الجامعة الأردنية صيف 2011

الثلاثاء، 28 أبريل 2015

حجابي في حياتي (3)

انقضت السنواتُ التي أنفقتُها في إدنبرة، حملتُ ما بقي لي من العمر في طريق العودة إلى البلاد، بلادنا العربية الإسلامية، التي لم يكن خَطَرَ على قلبي من قبلُ أنها قد ترى - يوماً- في الحجاب تهديداً لقيم الحرية، أو سَـمِّه ما شئت مما صرنا نختبره من حينٍ لآخر في بلادنا على امتدادها.
وكيف يخطر على القلب أن الحجابَ في بلاد الإسلام وفي بلاد المسلمين يمكن أنْ يصبح مسألةً فيها نظر؟! وأنْ يصبح مسألةً خاضعةً للنقاش ولاتخاذ موقفٍ نحوك بسببه؟! أعترفُ أنَّ هذا شيءٌ تجاوَزَ تصوري آنذاك.
ولا يقع في نفسك أيها القارئ أنني أحدِّثك عن دولةٍ تحارب الحجابَ مثلاً وتمنعه وتزدريه قانوناً وعُرفا، بل عن بلادٍ ما زال الحجابُ فيها منتشراً –بحمدالله- لأسبابٍ تتراوح بين الإكراه والرضا، بين التديُّن الحقيقي والزائف، بين التقوى والتقاليد، وبين أشياء وأشياء أكبر.
ثمة مسألةٌ أخرى قد لا يختبرها الجميعُ في أمر حجاب المرأة هي مشاركتها العامة وتقدمها العلمي والمهني. إنَّ امرأةً محجبةً -مجاراةً للعادات أو التزاماً بالدين- قنعت بالجلوس في البيت والقيام على تربية الأولاد والانسحاب من الحياة العامة، على عِظَم هذا الدور وأهميته، فإنه لن يعترض سبيلَها أصحابُ الدعوات التي ترفض الحجاب وتتصدى لانتشاره، وربما لا تثير أمثالُها انتباهَهم. أما الذي يؤلم حقاً فهو تلك الحربُ الخفية التي تواجهها خياراتُ النساء المتميزات علمياً ومهنياً بل حتى وجمالياً، اللائي يخترْنَ الحجاب بكامل إرادتهنّ، ويعبِّرْنَ عن هذا الاختيار الحرِّ علناً.. فلا يقدرُ عقلُ أولئك الذين قد لا يستوعبون أن المرأة يمكن لها أن تكون ناجحة ومتعلمة وجميلة... وفي الوقت نفسه تُقبِلُ على اختيار الحجاب بملءِ إرادة قلبِها إيماناً. وهذا يعيدُنا إلى مسألةٍ قديمةٍ جديدة: لَبوس العلم ولبوس الإيمان: لماذا يجب أن نراهما على طرفَيْ نقيض؟! على الرغم من أن الحياة نفسَها هي روحٌ وجسد، عَرَضٌ وجوهر، قلبٌ وعقل.
وتحضرني هنا الحادثةُ التي مرَّ بها الرحالةُ الأندلسي الموريسكي أفوقاي في القرن السابع عشر، لقد كان أفوقاي واسعَ الثقافة والاطلاع، متحدثاً بلغاتٍ عديدة، لبقاً دبلوماسياً، تجتمع فيه صفاتُ الـ(جنتلمان)! وإلى جانب ذلك كله كان فقيهاً عالماً حافظاً للقرآن، تــنــقَّل سفيراً للمغرب في بعض الدول الأوروبية، وفي أثناء زيارته لأحد الأديرة في فرنسا قيل له بعد نقاشات وحوارات: " تعجَّبْنا منكَ؛ تحفظُ الألسن، وتقرأ الكتب، وسِرْتَ في المدن وأقطار الدنيا، ومع هذا تكون مسلماً؟!" وكأن تعدد اللغات والمعارف، أو سِعَة الأفق والثقافة، أو السياحة في أقطار المعمورة، لا يـتـناسـب مقامُها والإسلامَ أو المسلمين؟!!
هذه الحادثة التي تنتمي إلى القرن السابع عشر، لا تختلفُ عن حادثةٍ تنتمي إلى القرن الحادي والعشرين؛ فقد كنتُ في الاستماع لبرنامج الشريعة والحياة على قناة الجزيرة منذ ما يزيد على عشر سنوات، من تقديم المرحوم ماهر عبدالله وضيافة الشيخ يوسف القرضاوي، حين ردَّ المقدم على تساؤل أحد المشاهدين: لماذا لا تكونُ في الجزيرة مذيعاتٌ محجبات؟ فتعلَّل المذيعُ الشاب بأن العملَ الإعلاميَّ يحتاج إلى دراسات جامعية وخبرات عملية، وإتقان لغات ومهارات.... وغير ذلك. وحين كان يعدِّد المؤهلات المطلوبة في المذيعات كنتُ أسائلُ نفسي: هل عدمت النساء أن تكون بينهنّ (محجبةٌ) تحمل مثل هذه المؤهلات (غير المستحيلة)؟!
وكأني بالفكرة نفسها التي صادفها أفوقاي في فرنسا منذ ثلاثمئة سنة هي هي لم تتغير: المرأةُ المحجبة المؤمنة لا يمكن أن يُتصوَّر أنها تكونُ صاحبةَ مؤهلاتٍ عصرية، وكأنَّ الحجابَ معناه أن أعيش خارج هذا الزمان!.
لكنْ وللحق.... إننا بحمدِ الله ما نزال ننعم في بلادنا بقبولٍ اجتماعي للحجاب وانتشار، لا أسأل كثيراً ما هي أسسه: هل هو تقليد اجتماعي أم عقيدة إيمانية، أو حتى لغايات إجرامية؟!
لكلِّ ما سبق، ما خطرَ على قلبي في يومٍ أن يكون الحجابُ حين تخوض المرأةُ سباقَ الترقي الوظيفي، أو التعليمي- عقبةً، هي أصعبُ أحياناً من الوصول للهدف العملي أو العلمي المبتغى.



***
عدتُ إلى مقاعد الدراسة من جديد والتحقتُ ببرنامج دكتوراه اللغة العربية في الجامعة الأردنية، وأقسامُ اللغة العربية تغلب عليها صفةُ (المحافظة) طلبةً وأساتذة؛ ربما هي هيبةُ اللغة االعربية المستمدة من هيبة القرآن الكريم انتقلت كذلك إلى المقبلين على دراستها والاشتغال بها.
في أثناء الدراسة اضطررنا لحضور دروس الأدب في بيت الأستاذ نظراً لظروفه الصحية، كان أستاذُنا الفاضل حاضراً لاستقبالنا في بيته كل أسبوع، وسأترك الحديث عن مشاعر الجلوس إلى الشيوخ والعلماء في بيوتهم الخاصة ومكتباتهم الحميمة إلى وقت آخر، فهو شعور لا يدانيه شعور.
الحجابُ ليس مجرد قطعة قماش بها تغطي المرأةُ شعرَها وجسدها، بل إنَّ له من المعاني القلبية اللطيفة التي لا يسعها إلا حسُّ التي تراه كذلك، وقد كان عهدي منذ ارتديتُ الحجاب أنْ أحاول إلزامَ نفسي بحدوده رغم عيوبي الكثيرة ونواقصي الأكثر، ومن تلك الحدود عدم المصافحة، وكان أستاذُنا يستقبلنا كل أسبوع جالساً في مقعده مرحِّباً بنا حال وصولنا. فيسلِّم عليه الزملاءُ الشباب وينحنون لمصافحته .. وحين يأتي دوري أسلِّمُ عليه بالكلام مع انحناءة احترام وإكبار، ولكن لا أمدُّ له يدا، ولم يكن يعجبه ذلك مني، وقد أبدى نوعاً من الامتعاض من هذه العادة التي ما زال بعضُ الناس يتمسك بها في زمننا! وأنا شخصياً أتعرض لهذا الامتعاض من كثيرين لعدم المصافحة، وهو شيء أتقبله أحياناً بروحٍ رياضية خاصة من الكُبَراء مقاماً وعلماً ومنزلة. وأحياناً أخرى بنوعٍ من الجفوة التي يخلقها عدم قبول الآخرين لاختياري هذا؛ ففي النهاية وفق منطقهم في الحرية: هذا جسدي ولي مطلق الحرية في منع الآخرين منه حتى ولو بمصافحة! لهذا كنتُ في الغالب أعُدُّ هذا الامتعاض والتعليقات – منه ومن غيره- مجرد مداعبات يمكن احتمالها وعدم التوقف عندها.... حتى مضى الفصلُ الدراسي وحلَّت المحاضرةُ الأخيرة، وعندما انتهينا قمنا لمغادرة المكان فسلَّم الزملاءُ على أستاذنا الشيخ، وحين جاء دوري قال لي بلهجةٍ أبويةٍ معاتِبة جادة: "والله مش عارف كيف بدِّك تصيري دكتورة وأنتِ ما بتسلِّمي"!!.
 لامسَتْ عبارتُه مسمعي، ومضيتُ لأركب سيارتي عائدةً إلى منزلي مضطربةً ذاهلة!! ويا للمفارقة أنّ عبارتَه تلك ظلّت تقفز إلى ذهني في كل مناسبةٍ تجمعني وزملائي حين صرتُ (دكتورة)، وظلّت عبارتُه في عقلي تروح وتجيء، وأنا أقول: لماذا لا يقبَلُ الناسُ أنَّ امرأةً يمكن لها أن تكونَ رفيعةَ التعليم أو رفيعة الوظيفة، وفي الوقت نفسه مقتـنعةً بما تؤمن به من دينها؟ لماذا يجب أن تتناقضَ صورةُ أهلِ العلم وأهل الإيمان؟؟! لماذا يجب أن يكون أهلُ الإيمان دوماً في خندقٍ مقابل أهل العلم؟؟ ألا يلتقيان؟! ألا توجد سبيلٌ توافقية بينهما؟ ألا نتغنَّى ليلَ نهار بابن رشد الذي سرقَتْه منّا أوروبا، ونندبُ إحراقَنا كلماتِه، وعقلانيته، فلمَ لا نتغنَّى بـ ما بين الحكمة والشريعة من الاتصال؟!
ولمَ لا يقنعُ أصحابُنا من أهلِ العقل والفكر والحرية- أن التديُّنَ بمختلف مظاهره وطقوسه قد يزورُ قلوبَ العلماء ويطيبُ له المقامُ فيها؟ بل إنَّ اللهَ نفسَه يُخشى من عبادِه العلماءِ هؤلاء، الذين يَعمُرُ العلمُ قلوبَهم وأرواحَهم قبل عقولهم، ويرون في كل ذرة  في الكون صورةً من عظمة الله وبديع قدرته، وأنَّ الإيمانَ بالله ومحاولةَ اتباعِ أوامره واجتناب نواهيه من أهل العلم، يعني أنْ نعبدَ الله على يقين، لا على مجرد خوفٍ أو طمع!
لهذا لا أنسى تلك الأمسيةَ التي جمعتْني وصديقةً رفيعةَ القدْرِ علمياً وثقافياً، وتختلف عني –تماماً- عقائدياً، وقد كنتُ بانفعالٍ أحدِّثها ولا أعِظُها، كيف أنني أستشعرُ في كلِّ وضوءٍ ما علَّمنا رسولُنا -صلى الله عليه وسلم- أنَّ الخطايا تخرجُ حينَ الوضوءِ من الجسد حتى لتخرج مع آخر قطرة ماء من تحت الأظافر، وأنني أستشعرُ أنَّ الذنوبَ تتساقطُ حين الركوع وحين السجود عن عاتـقَيْ المصلِّي وعن رأسِه؛ حيث يُؤتَى بالذنوبِ إلى الرأس والكتفيْن في كلِّ صلاة، فسارعتْ صديقتي إلى تأنيبي: "لا تقولي هكذا كلام! أنتِ امرأةٌ مثقفة متعلمة"!! وهي التي حين هنَّأتْــني بحصولي على الدكتوراه، قالت –وأظنها لم تكن تمزح-: " خلص! الآن صرتِ دكتورة، إذن ...... اخلعي الحجاب!".
لماذا يستهجن كثيرون يقينَ الإيمان في قلبك، ومظاهرَهُ في جوارحك إذا كنتَ ممن قطعوا شوطاً من التحصيل العلمي؟! ألهذه الدرجة صرنا نعبدُ إلهَ العقل وإلهَ العلم، حتى كفرْنا بالروح وبالغيب؟ وهي في وجهٍ من الوجوه صورةُ العقل الذي إليه يحتكمون.
ولماذا حين تلتقي في المحافل العلمية بقاماتٍ لامعةٍ أسماؤها في عالم الأكاديميا العربية أو العالمية، كنتَ تحلم طوال عمرك بلقياهم على الأرض لا على الورق فقط- لماذا تصدمك حقيقة كم هم من الإيمان بعيدون، وكم هم من الهزء بمظاهره قريبون؟ خاصة مظهر الحجاب.
لماذا وهم الذين يدَّعون الحريةَ والليبرالية وقبولَ الآخر المختلف؟ لماذا عندما يصل الأمرُ إلى الحجاب أو مظاهرِ التديُّن إجمالاً- لا يعرفون من الليبرالية إلا قشرة فارغة! وتصدمك كذلك تصريحاتُ بعضِهم على مرأىً منكَ ومسمع، إذا حدَّثوا بأخبارِ الكاتب الفلاني قالوا بتلقائية: "أمعقولٌ أن هذا فلان الفلاني الكاتب المعروف بـكذا وكذا وتكونُ زوجتُه محجَّبة؟!".... تماماً كما لو أنهم يقولون إنها عاهرةٌ أو وضيعة الأخلاق. وكأنَّما أمسى الحجابُ تهمةً على المرأة أن تدفعَها عن نفسها، كما تدفعُ النارَ الحارقة، أو تدفعُ الأذى الصريحَ بإلقائه بعيدا، أو التخلص منه بأي ثمن!
كثيرةٌ هي المواقفُ التي تمرُّ في حياة المحجَّبات المتميزات علمياً ومهنياً واجتماعياً..، اللواتي كان الحجابُ قراراً نابعاً عن اختيارهن الحر وقناعاتهنّ الشخصية، ولم يكن لهنّ يوماً عائقاً في دروب التميز العلمي أو المهني أو الاجتماعي، وربما تملكُ كلُّ واحدةٍ منهنّ تجربتَها التي تعرضُها على الآخرين لتقولَ فيها إن الحجابَ لا يغطي عقل المرأة ولا روحَها، وإن ارتداءَه هو دليل عافية لا دليلَ مرض. ونجاحهنّ هو خير شاهد على حصافة اختيارهنّ.
 



الثلاثاء، 21 أبريل 2015

حجابي في حياتي (2)

من الأشياء الحلوة التي ما زلتُ أحتفظُ بها لمدينة إدنبرة في نفسي- احتضانُ المدينة للغرباء، وتفكير أهلها والجامعة بأشياء كثيرة يحتاجها الطالبُ الجامعي الذي تغرَّب عن بلاده ليطلب العلمَ في بلادهم.
ونادي السيداتWomen`s Club  هو واحدٌ من تلك الأشياء، كان اكتشافاً ظريفاً دلَّتْني عليه إحدى الصديقاتِ العربيات المقيمات في المدينة، وهو نادٍ يقوم على فكرةٍ قابلةٍ للتنفيذ في أيّ زمان وبكل مكان إذا توافرت القلوبُ والإرادة، إنه ببساطة نشاطٌ اجتماعي أسبوعي تقدمه بعضُ المتطوعات لمساعدة زوجات الطلبة الأجانب الدارسين في الجامعة- على قضاءٍ وقت مفيد صباح كل ثلاثاء، ويساعدهنّ في معرفة أسرار المكان وعادات أهله والاطلاع على أنشطة وبرامج منوَّعة تنتشر في المدينة... باختصار إنه شيء جديد لم نعرف مثله في بلادنا!
سررتُ جداً لهذا الاكتشاف؛ خاصة أنّه يضم حضانة، وكان أطفالي صغاراً، مما يسمح للأم أن تقضي نحو ساعتيْن –وهي مطمئنة- في أنشطةٍ لتعلُّم اللغة والثقافة الإنجليزية، فيما يقضي أطفالُها وقتهم يلعبون ويتعلمون في غرفةٍ أخرى بعيداً عن الأمهات.
في النادي كانت هناك زوجات لطلبةٍ من أدنى الأرض إلى أقصاها، وكنتُ في الحقيقة تهيَّبْتُ أولَ الأمر من كوني عربية مسلمة؛ نظراً للصورة النمطية السائدة في العالم عن بلادنا، فما بالك بالصورة النمطية عن امرأة من تلك البلاد، وفوق ذلك محجَّبة؟! لكني استجمعتُ قواي واندفعتُ إلى النادي بانتظام استمر لأكثر من سنتيْن رائعتيْن.
كان الحجابُ اللافتةَ الأولى التي تعرِّفُني للأخريات، فالجميع هنا – وأنا منهنّ- يرتدين الملابس الأوروبية الدارجة، كالقميص والجاكيت والتنورة والبنطلون، لكن حجابي يجعلني مختلفة، فيما كان بالإمكان تمييز اختلاف الأخريات بسهولة؛ فمن كانت من اليابان والصين بالعيون مثلا، ومن كانت من أفريقيا بلون البشرة، ومن كانت من غيرها بالملابس التقليدية...وهكذا.
تلك كانت سبيلُ الوهلة الأولى للممايزة بين السيدات في النادي، وهي حقيقةٌ لا يمكن إنكارها حتى لدى أكثر الناس انفتاحاً على الآخر؛ فما زال للون وللمواصفات الجسدية الفارقة بين الأجناس البشرية- منزلة مقدمة لهذا التمايز، دون قصد أحياناً، وإنْ كانت تبقى في الخاطر، وفي الغالب لا تَعْدوها.    
كنتُ أعي الصورةَ النمطيةَ التي تحملها هؤلاء عن العرب والمسلمين عامة، وعن نسائهم خاصة، لذا حرصتُ دوماً بقصد وبغير قصد، على تقديم الصورة التي تَحكينا حقيقةً أمامهنّ: بشراً لا ملائكة ولا شياطين! لكنّ ذلك ما كان ليعفيني من مواقف طريفة ومؤلمة كان للحجاب يدٌ فيها.

( الحجابُ قهر).. هذه فكرةٌ سائدةٌ عنه حتى في بلادنا؛ هو نوع من العنف يمارَس تجاه المرأة، ويستحق بسببه أن تُلاحِق المحجبةَ نظراتُ الشفقة من هذا الظلم الواقع عليها؛ حين يرى كثير من النخبة والعامة أنّ الحجاب صورةٌ من صور القهر الاجتماعي أو الديني، لهذا كانت الدروس الأولى التي حضرتُها في النادي موتورة، حتى أخذت النسوةُ الحاضرات يعتَدْنَ وجودَ هذه المختلفةِ بينهنّ على طاولة واحدة، وأنها كغيرها -رغم حجابها- امرأةٌ من هذا الكوكب، لا قطعةً سقطت من الفضاء!
كنتُ أحرص على خلع غطاء الرأس حين يكون الحضورُ نسائياً فقط؛ وقد احتجتُ أن أمسح حيرتهنّ من هذا التصرف بشرحٍ موجز لفكرة الحجاب في الإسلام وفرضية ارتدائه أمام الأجانب من الرجال، سواء في الشارع أو في البيت، وأنّ المسلمة كغيرها من نساء الأرض تحيا.. تتجمل.. تتأنق.. تعتني بجسدها وبعقلها وبروحها، والحجابُ لا يمنع شيئا من هذا، ولكنْ ينظمه ضمن ضوابط.
كانت مسز ويندي -مدرِّسةُ اللغة الإنجليزية- سيدةً لطيفة، ذات بشرة بيضاء، وشعر فضي، وعينين زرقاويْن، وأناقةٍ كلاسيكية محببةٍ إلى قلبي، وقد أحسستُ أنني حجزتُ مكاناً لي في خاطرها، إنْ لم يكن لأجل المحبة خالصاً، فلأجل فضولٍ تملَّكَها تجاه هذه المرأة المحجبة القادمة من بلاد ألف ليلة وليلة.
 وفي أحد صباحات الثلاثاء المشمسة في تلك المدينة التي لا ترى الشمس إلا قليلا، كنّا نجلس قرب النافذة الواسعة (الجورجية) الطراز، وقد اعتدنا من معلمتنا في كلِّ جلسة أن تحضِّر لنا مجموعةً من التمرينات اللغوية تصقل مهارات التواصل العامة بالإنجليزية، ومازلتُ أذكر من ذلك  التمرين مثاليْن كان الأولُّ منهما عن قصة سندريلّلا.... عندما التفتت المسز ويندي ونحن جلوسٌ بين يديها، التفتتْ إليّ دون بقية السيدات معنا في المجموعة -وكان من بينهنّ اليابانية والتشيكية والمكسيكية والصينية..- لتسألني بملامحَ جَديَّة تبدو على وجهها: هل تعرفين سندريلّلا؟؟!! فوجَّهْتُ إليها النظرةَ الجديةَ ذاتَها وردَدْتُ على سؤالها الاستفهامي بسؤالٍ استنكاري ملءَ فمي: وهل هناك أحدٌ في الدنيا لا يعرف قصةَ سندريلّلا؟!!! وحالي يقول بعاميةٍ ساخرةٍ في سرِّي: "هيَّ بتِحكي عن جَدّ ولّا بتِحكي عن جَدّ؟!".
ثم مرَّت جملةٌ أخرى عن لاعبي يوفنتوس، فالتفتتْ إليّ المسز ويندي مرة أخرى بالجدية نفسها البادية على وجهها، لتسألني: هل تعرفين ما هو يوفنتوس؟؟ وعلى الرغم من أني لستُ متابِعةً جيدةً  لدوري كرة القدم عالمياً ولا حتى محلياً، إلا أنني ردَدْتُ على الاستفهام باستنكار وتقرير: نعم أعرفه!! إنه النادي الرياضي الإيطالي المشهور.

هذا موقف طريف ومؤلم في آنٍ معاً، ما زلتُ أعاني منه، فتلك النظرةُ التي ترمينا بها العيونُ من كل جانب، حتى من بنات جنسنا ومن بنات بلادنا! النظرة التي ترى المحجبةَ امرأةً غابَ عقلُها تحت حجابها لتغدو ساذجةً، بعيدة عن الثقافة، تؤمن بالغيب، تركن إلى الدين مسطرةً تقيس بها الأمور، لا تعرف من أمور حاضرها إلا توافه وقشورا.
كنتُ أرى الإشفاق تجاهي في عينيّ مسز ويندي أول الأمر، لكني أظن –وبعض الظن الآخر ليس إثماً- أن الصورة النمطية تغيرت في نفسها بأسرعَ مما كنتُ أشتهي، أو على الأقل صورتي أنا، وهي الصورة النمطية التي ينظر فيها كلُّ من لا يؤمن بالحجاب بأن المحجبات واقعات تحت قهر ما يجبرهن على ارتدائه، وأن ارتداءه هو مقدمة ممهِّدة كي يضاف إلى المجتمع عناصر غير فاعلة، ضحلة الثقافة، سطحية التفكير، محدودة الأفق. ومهما اجتهدت النساء المحجبات بنجاحهنّ وتميّزهنّ - ولدينا نماذج لا تُعَدّ – لتغيير هذه الصورة، يبقى لدى بعضهم ما يريدون أن يبقى ضد الحجاب.
استطعتُ بعد مواقف عدة وأحاديث جانبية متعددة في تلك الصباحات، أن أقول لمعلمتي ورفيقاتي- بمظهري وجوهري- إن المحجَّبة هي إنسانٌ كغيرها من نساء هذا الكوكب، لا يعيقها حجابُها عن الحياة، ولا يحوِّلها إلى سامريٍّ لا نقدر على الاقتراب منه.

ثم تعرفتُ إلى مجموعةٍ أخرى مشابهة للنادي، كان المشترك بينهما أنني كنتُ أبحث لأطفالي -في سنّ ما قبل المدرسة- عن بشرٍ يختلطون بهم في أجواء طبيعية، وهم يعيشون في غربةٍ أبعدتْهم عن الأجداد والعائلة الممتدة، التي لا غنى عنها في سبيل نشأة إنسانٍ سوي، وهكذا كان لي في صباحات الأربعاء رفقة صديقتي المصرية –جلسةً خاصة للأطفال في روضة تستقبلهم وأمهاتِهم .. يقضون فيها وقتاً في اللعب والتعلم، وتقضي الأمهات كذلك وقتاً في الاجتماع بأمهات من بلاد أخرى.
كانت الثرثرة النسائية الصباحية تلك، تجذبنا نحن الأمهات إلى مناحي شتى باختلاف الثقافات والمجتمعات التي ننتمي إليها، كانت بيننا الإنجليزية المسيحية، والهندية الهندوسية، واليابانية المجوسية، والباكستانية والعربية المسلمة وغيرها من قوميات وطوائف.. وفي الوقت نفسه تتيح لأطفالنا أن يرسخ فيهم اختلافُ البشر بألوانهم وألسنتهم وعاداتهم.
وفي هذه المجموعة اجتمعْنا مرةً لمرافقة الأطفال في زيارة إلى حديقة الحيوانات التي تشتهر بها إدنبرة، وكانت إلى جانبي المشرفة الإنجليزية فتجاذبنا أطراف الحديث عن الطبيعة الأخّاذة للمدينة في ذلك الصيف الربيعي، وقادتْنا أحاديثنا إلى فن الرسم الذي كانت لي فيه تجربة أيام الشباب الأولى، وأخذتُ أشرح لها تجربتي وميولي الفنية ومنها إعجابي الشديد بأعمال المدرسة السريالية، ورائدها سلفادور دالي و و و... وحين نطقتُ اسم دالي واسم مدرسته، التفتتْ المشرفةُ إليّ ووجمت، ثم أردفت: وهل لديكِ أنتِ فكرة عما هي السريالية؟؟ وما وراءَ خطابِها يقول: من أين لامرأةٍ من بلاد العرب والإسلام بحجابها أن تعرفَ هذه المدارسَ الفنيةَ الراقية؟؟!!
حين كنتُ أكلمها عن ميولي الفنية، لم يكن يخطر ببالي سوى محاولة ترتيب كلماتي لتخرج بحُلَّةٍ إنجليزية لائقة، تساعدني على تجاوز عقدة اللغة. لكنَّ وجومَها وسؤالها وحيرتَها أمام هذه المرأة المحجبة القادمة من الشرق، التي من المفترض أنها لا تعرف سوى أعمال البيت وإنجاب الأطفال، أعادني ثانية إلى سؤال الحجاب والآخر، وأعادني مجدَّداً إلى الواقع بأننا نحتاج وقتاً أطول ومعاناةً أشدّ كي نقول إن الحجاب لا يحجب الشمس عن العقول!
قد يرى بعضُهم هذه المسألةَ في سياق النظرة الأوروبية للآخر غير الأوروبي ومن منظور المركز والهامش، في حين إنَّ ذلك يتضاءلُ حقاً لو كنتَ أنتَ في ذلك الحجاب، وكنتَ أنت مع أولئك الآخرين.

وإذا كانَ من عذرٍ ألتمسُهُ للمواقف التي صادفَتْــني في بريطانيا بسبب حجابي، فإن هذا العذرَ لا يعودُ قادراً على إقناعي، حين صادفتْــني مواقفُ شبيهةٌ في بلادنا العربية الإسلامية، التي تعرفُ الحجابَ قبل أن يفرضَه الإسلامُ بقرونٍ متطاولة! ومواقفُ بعضِ خاصَّتِها من الحجابِ أشدُّ بأساً مما قد تلاقيه المحجبةُ في بلادِ مَن لا يعرفون للحجاب سبيلا.


الأحد، 19 أبريل 2015

حجابي في حياتي (1)


في نهاية الأسبوع الاعتيادية التي نقضيها في إربد، لعبتُ مع ابن عمي ذي الثلاث سنوات في شرفة بيتنا الواسعة، وما زالت ابتسامته مطبوعةً في ذاكرتي، بأسنانه البيضاء الصغيرة وشعره الأسود.
 وصل الخبر بعد يومين؛ سقط عليٌّ من الطابق الأول في بيت جدي، ليستقر رأسه الجميل على الرصيف، ويغيب أياماً.. ثم قيل: رحمه الله!
كان رحيله مفاجئاً وحزيناً، جعلني أقرِّر ارتداء الحجاب، وأنا التي أعشق البنطلون وأؤجل فكرة الحجاب وأقول: "سأتركه إلى أن أصيرَ في الأربعين".. وكنتُ أظن الأربعين بعيدة!! فإذا هي تأتيك في عشيةٍ أو ضحاها!
قررتُ ارتداء الحجاب في سنتي الجامعية الثانية، أخبرتُهم بقراري، ولم أسمع إلا من والدي عبارة: "المهم ألا تلبسيه اليوم وتشلحيه بكرة"! هذا فقط كان التوجيه الذي سمعتُه، والبقية تركوا الأمرَ لي. وخلال أيام كنتُ اشتريتُ ملابس مناسبة وأغطية للرأس.. وانتهى!
في الحقيقة حين أفكرُ اليومَ، وأنا على بُعد نحو ربع قرن من ذلك القرار، أجدُني أزدادُ شكراً لله على هذا الرزق، وعلى ذلك القرار؛ فبعضُ القرارات في حياتنا لا تحتمل التأجيل، وتحتاج منكَ أن تكون سريعا.. وحاسما.
لكن الأمر لم ينتهِ بارتداء الحجاب وكفى، كما يعتقد كثيرون، بل إن الحجاب ينمو يوماً فيوماً في نفس المسلمة، ولحظة ارتدائه هي البداية فقط.
 كان ارتداءُ غطاء الرأس والملابس الطويلة- يسيراً نوعاً ما على فتاةٍ مثلي، التزمتْ أداء الصلوات في أوقاتها في أثناء الدراسة الثانوية، بفضل الله وبفضل معلمة التاريخ في الأول الثانوي، جزاها الله عني خيراً في كل ركعةٍ أؤديها، والصلاة تجلو القلوب وتعينُ على الأصعب منها.
كانت تلك الخطوةَ الأولى، وكانت ميسَّرةً إلى حدٍّ كبير؛ لم تواجهها اعتراضاتٌ خارجية من العائلة، ولا انتكاساتٌ فكرية من داخل نفسي، أضف إلى ذلك أن الجوَّ العام في الحياة الجامعية – أواخر عقد الثمانينات وأوائل التسعينات في الجامعة الأردنية– كانت مشجِّعة بصعود نجم الاتجاه الإسلامي.
لم أكن أعلم وقتَها أن الحجاب سيكون اختباراً في محطاتٍ قادمة من عمري...
ولكل فتاة تعتقد أن قرار ارتداء الحجاب وحشر جمال شعرها وجسدها تحت أغطية قماشية، هو الخطوة الأكثر صعوبة والأشد وطأة على نفسها، أقول لها: بل إن ما يلي هو الأصعب والأشد، إنّ ما يلي هو الاختبار الحقيقي لمعنى الحجاب الذي ترتدينه.. ويبدو أنه كلما تقدَّم العمرُ والتجارب بالفتيات الشابات، تزداد الاختباراتُ التي يقعْنَ أمامها بسبب ارتدائهنّ الحجاب.
لم تواجهني طوال حياتي الجامعية الأولى اختباراتٌ حقيقية يفرضها الحجاب، ولم تواجهني كذلك صعوباتٌ تُذكَر حين خروجي إلى الحياة العملية، إلا من باب أن العمل في بلادنا العربية يكون عادةً مقسوماً بين المحجبات وغير المحجبات في المؤسسات المختلفة؛ فيحبِّذ بعضُها المحجبات وبعضها يفضلُهُنّ بلا حجاب، وحتى هذه القسمة تكون خاضعةً هي الأخرى لشروطٍ معينة يتواطأ عليها أصحابُ العمل بمواصفاتٍ خاصة لملابس المحجبات أو لملابس غيرهنّ.
أذكر أنني عملتُ في إحدى دور النشر في بداياتي المهنية، وكان صاحبُ الدار رجلاً ذا هيبة وقدر في نفسي، احترمتُ فيه صراحته حين أبلغني ذات يوم –وقد كنتُ مخطوبة- أنه لا يحب توظيف متزوجات، فأشار عليّ أن أتقدم لمقابلة عملٍ في إحدى المدارس الإسلامية وقد أوصى بي هناك.
ذهبتُ للمقابلة التي لم أوفَّق فيها لسببٍ فهمتُه لاحقاً من صديقتي: "تأتين إلى المقابلة بفستانٍ حريري بلونٍ ورديّ، وتريدين أن تفوزي بالوظيفة بعد كل هذا؟!"
كانت تلك التجربةُ الاختبارَ الأول الذي كان الحجابُ فاصلاً فيه، وهذه تجربةٌ قد تمرُّ بها أخريات، ولا يبقى منها إلا ذكرى، ربما تستدعيها الظروف من حين إلى حين.
ثم حانتْ تجربةٌ أخرى واختبارٌ جديد كان الحجاب فيه حاضرا؛ لكنه لم يكن في سياق الدراسة أو العمل، إنه في سياق المواجهة مع الآخر!
كنتُ انتهيتُ من دراسة الماجستير، وقطعتُ شوطاً من العمل في التدريس، حين انتقلتْ عائلتُنا الصغيرة للإقامة في بريطانيا، وهناك كان للحجاب مذاقٌ آخر لم أعهده في بلادنا العربية، وكان للحجاب تحدياتٌ أخرى ما شعرتُ بمثلها من قبل. للمرة الأولى أشعر بأن الحجاب هو هُويَّتي التي تعرِّفني إلى الآخرين، التي تجعلني متميزة، هُويَّتي التي لا أخجل منها، وهُويَّتي التي أفتخر أنني أتميز بها.
كانت إقامتُنا في مدينة إدنبرة في أقصى الشمال البريطاني، وكأيِّ غريبٍ يحاول أن يشتمَّ رائحة الوطن والأهل في ديار الغربة في كلِّ إشراقةِ شمس، هي هي الشمسُ التي أشرقت منذ قليل على بلادي تشرق الآن أمام عينيّ هنا، هو هو النسيمُ المسافرُ عبر المسافات يحمل عبقَ البلاد ورائحة أهلها يمر أمام بيتي، كنتُ أسيرُ في شوارع المدينة الجديدة بحجابي، الذي لم يكن يثير فضولاً ولا استغراباً لدى سكانها؛ لأننا كنا نسكن المنطقة المحيطة بالجامعة، وهي تضمُّ طلبةً من وراء البحار، وفيهم نسبةٌ معقولة من المسلمين وعائلاتهم يألفهم أهلُ المدينة، التي جعلت من وسط المدينة يضم كذلك مسجداً جميل المعمار يسمى المسجد المركزي لمدينة إدنبرة.
كان التجوال وسط المدينة وفي الشوارع المحيطة بالجامعة، هو الذي جعلني أشعر بميزة الحجاب الذي يغطي شعري وجسدي، كنتُ أُلقي تحيةَ الإسلام على كل محجَّبةٍ أصادفُها في طريقي، وغالباً ما كنَّ من الهنديات والباكستانيات المحجبات، يَسِرْنَ في وسط إدنبرة بأثوابهن التقليدية المزركشة الزاهية الألوان.
كان إلقاءُ السلام على أي محجبة في طريقي يملأ نفسي بتلك الروح التي ترشدُ إليها السُّنةُ النبويةُ الشريفة بإفشاء السلام على من تعرف ومن لا تعرف، بكل ما توحي به حروفُ كلمة (إفشاء) من إصرار على نشر التحية في الأرض، لتعمَّ المحبةُ القلوبَ وتطغى وتزيد، ويمنحني كذلك نوعاً من الألفة في هذه المدينة الغريبة أول استقراري بها.
كانت كلمةُ السر بيني وبينهنّ: الحجاب، وكلمة السر الأخرى: اللغة العربية في عبارة (السلام عليكم).. إنها مفاتيح يمكنك أن تحملها معك في كل مكان... كم سعدتُ بتلك اللغة الصامتة المشتركة التي تخلقُها قطعةُ قماشٍ لا تتجاوز متراً، لكنها إذا أُلقِيتْ على الرأس كانت تعبيراً لا ينتهي عن محمولاتٍ (هُويَّاتية).. حينها أدركتُ حقاً معنى "الحجاب هُوية المسلمة". لم أكن بحاجة إلى أطروحاتِ الهُوية واللغة والأمة والدين والثقافة...وغيرها التي يلوي بها أساتذةُ الجامعات ألسنتَهم! ولكنني أعترف أنني –للأسف- حين ألِفتُ المكان، ونمَتْ صداقةٌ بيني وبين الأزقة والأمكنة المجاورة- ما عدتُ قادرةً على تلك العادة، وما عاد الحجابُ يغريني بإلقاءِ التحيةِ على صاحبته، وما عادت الدهشةُ تغزو قلبي حين أصادف في إدنبرة محجبةً مثلي في السوق أو في الباص أو في...المسجد!






  

الأحد، 12 أبريل 2015

صورة من... صالون التجميل

في زيارةٍ عاديةٍ إلى صالون التجميل القريب استمتعتُ صحبةَ ابنتي الشابة بلحظاتٍ جميلة جداً، ما أجمل أن ترى الأم ابنتها وقد شبَّت يافعةً بعد أن كانت نطفةً وعلقةً في رحمها! ثم إذا هي قطعةُ لحم صغيرة مكوَّمة بجانبها في تلك الليلة المباركة منذ عشرين عاماً.
ليس هذا ما أثارتْه في نفسي الزيارةُ لأكتب، فقد توالتْ (الستاتُ) داخلاتٍ خارجات، وحين كنتُ آوي إلى استراحةٍ قصيرة انتظاراً للشابة، لامستْ أسماعي ( لُكْــنَةٌ ) عربيةٌ متقنة: تحيِّي العاملةَ، وتطلبُ إليها بعض ما يصلح ليلَ الشَّعرِ الأسود المنساب نهراً على ظهرها.
حين جلستْ قربي، التفتُّ إليها لأجدَ وجهاً بملامح آسيوية: بشرة سمراء رقيقة، عينان لوزيّتان من طراز (صُنع في الصين)، وأنف عريض أقرب إلى أنْ تلازمَه صفةُ (أفطس)، وشفتان خمريتان مكتنزتان، ولسان يتحرك بحروف عربية متقنٌ نطقُها على نحوٍ....لا يُصَدَّق!!
تسمَّرت عيناي على الفتاة الضئيلة، وأنا أرقبها تجلس بثقةٍ على الكرسي الدوّار، تحمل بيدها هاتفاً ذكياً، تقلِّبُ فوق شاشته اللامعة- صفحاتِ التواصل الاجتماعي الزرقاء والخضراء، وتبتسم!
كلُّ هذه التفاصيل قد تشترك فيها كثيراتٌ في مثل تلك اللحظة، لكنَّ غيرَ العادي في هذا المشهد العادي- هو المفارقة الصارخةُ التي جعلتْه يحملُ إلى قلبي دهشةَ الطفل حين الخروج إلى النور من بعد الظلام! يا إلهي كيف انقلبت الأدوار في تلك الومضة؟!
أنفقتُ نحوَ عقدٍ من حياتي في دولةٍ خليجية، لم أُفلح في تعلُّم كلمةٍ آسيوية واحدة!! في دولة لا تتجاوزُ صورةُ الآسيويين فيها عادةً –للأسف- إطارَ (العمالة الرخيصة)، فلا يُتَصوَّرُ أنْ تكون تلك إلا في إطار (الخادمات) أو (المربيات) أو في أحسن الأحوال (العاملات) في المراكز التجارية الفخمة أو.... الرخيصة!
وعادةً ما يُميِّزُ أولئك لسانٌ يرطن بإنجليزية (خربانة) أو بعربية (مُكَسَّرة)، تجعلكَ تنقمُ على اليوم الذي تعلَّمْتَ فيه لغاتٍ أجنبيةً أو لغةً أمّا!! أو تجعلك تصابُ بتلوثٍ ضوضائي قد لا تفارقك آثارُه!
اليومَ.. الصورةُ أمامي مقلوبةٌ تماماً على نحوٍ ساخر، ربما،
وعلى نحوٍ مدهش، ربما ثانية، 
وعلى نحو مريح، ربما ثالثة؛ 
هي عاملة؟ ربما؟! لكنها أنيقة...
غريبة اليد والوجه؟ ربما؟! لكنها عربيةُ اللسان.
هالتْني المفارقةُ الصارخةُ في المشهد؛ كان وقعُها يشبه تلك التي أصابتْني حين استمعتُ إلى القناة الصينية CCTV للمرة الأولى: كلمات عربية منسابة بتلقائية ترتسم على وجوهٍ غير عربية، تذكرني دوماً بما آلَ إليه الحال: حين صارت العربيةُ عاراً يتستَّر منه أبناؤها فيدفعُ الآباءُ أبناءَهم إلى اكتسابِ اللغاتِ والمعارفِ والعلوم في المدارس الأجنبية؛ فتعوَجُّ ألسنتُهم، وتتعثَّرُ كلماتُهم، وينكمشُ خيالُهم الذي لا يعود يطيقُ حتى احتمال الأحلام ... بلغتهم العربية!

....الذي يبعثُ في القلب أملاً بعد هذا كله، وفي هذا اليوم الربيعيّ الماطر: أننا جميعاً في المبتدأ وفي المنتهى بشرٌ.. يمكننا أن نتقاسم الحياة على هذا الكوكب الجميل بقلوبنا التي يمكنها أن تتسع لنا. 

الاثنين، 9 مارس 2015

فتافيت وأخواتها.. سميرة (1/2)


منذ أسابيع وقعتُ على قناةٍ تلفزيونيةٍ جزائرية للطبخ هي قناة سميرة، ربما لا أكون من هواة الطبخ، على الرغم من أني أستمتع به في كثيرٍ من الأحيان.
 ولأننا في عصر الصورة وعصر الشاشات استهوتْني أولَّ الأمر في القناة - المطابخُ الأنيقة جداً التي لا تخطئها ذائقة، والأدواتُ المطبخية الزاهية الألوان، البالغة الفخامة، كانت تلك الأناقةُ عاملَ الجّذب الأول لمتابعة برامج سميرة طيلة الساعات التي أخلو فيها إلى كتاب، وأحتاج برفقته إلى صوتٍ يملأ صمتَ الأثير.
ثم وقعت اللحظةُ التي تركتُ فيها الكتابَ وشُغِفتُ بمتابعة البرامج صورةً وصوتاً، فما سرُّ الجاذبية في برامج سميرة بين هذا الكمِّ الهائلِ الذي يفيضُ به الفضاءُ من برامج إعداد الأطعمة والأطباق اليومية والموسمية؟!
والحقُّ يُقال: إنها أسرارٌ وليست سرّاً واحداً!! وإذا ما كان لي أن أبوح بها فالسرُّ الأول الذي يقذفُ في القلبِ راحةً تبعثُ على متابعةِ سميرة- هو أنكَ قريبٌ من برامجها؛ ذلك أنَّ السيدات، والرجال، الذين يقدمون البرامج قريبون منا، إنهم أمي وأمُّك، أختي وأختك، أبي وأبوك، نعم، هم مِنّا! فأنت لستَ أمام (شيف) يمتهنُ إعدادَ الأطباقِ الفخمةِ في أرقى المطاعم فحسب، إنهم هذا وأكثر؛ هُنَّ وهم في معظم الحلقات لا يرتدون (جاكيت) الطباخ، ولا يعتمرون قبّعته البيضاءَ العالية المميزة، ولا يرتدون القفازات المطاطية التي تَحولُ بين عواطفِ الطباخِ وأحاسيسه، وبين مكوِّناتِ الأطعمة التي يعدُّها بيديه فيكون للوجبة مذاقٌ لا يشبهُه مذاق! وغالبية السيدات الطبّاخات في برامج القناة يرتدينَ حجاباً للرأس كحجابي وحجابِكِ، لتقول إنها مني ومنكِ قريبةٌ أيتها المشاهِدة، وليست كائناً فضائياً يهبط علينا من كوكب بعيد في أقصى المجرة!
 ومن أسرار الجاذبية الأخرى في برامج قناة سميرة: التلقائية والفطرة، وقد تتساءلون كيف ذلك يكون؟! في برامج مسجَّلة ومُعَدَّة مُسبقاً؟!
فإلى جانب ما ذُكِر آنفاً من مظهرٍ أنيقٍ بسيط للطبّاخين والطبّاخات؛ بما يجعلهم قريبين إلى القلب، فإن سرَّ التلقائيةِ والفطرة هو الآخر لا يجعلهم فقط قريبين من القلب، بل يجعلهم في القلب أيضا؛ إذ قبل البدء بإعداد الأطباق والأطعمة، تــنْبَجِــسُ الشفتان في كل حين بفطرةٍ وتلقائية عن: (باسمِ الله)، عبارةٌ من كلمتين فقط تُختَصَر فيهما كلُّ آدابِ و(إتيتكيت) المائدة والمطبخ، في وقتٍ أصبح بعضُنا يخجلُ من الأكل باليد اليمنى في الحفلات و(البوفيهات) لأن ذلك يخالف (إتيتكيت) الأكل عالمياً، أو يخجلُ من التقاط الطعام المتساقط وأكْلِه بعد التسمية عليه، وأصبح يخجلُ من موروثاتٍ اجتماعية ومعتقداتٍ دينيةٍ متصلةٍ بتقاليد المائدة والطعام؛ على الرغم من أنني ما زلتُ شخصياً حين أنظِّفُ الخضراواتِ الورقيةَ - كالخسِّ والبقدونس- بالماء الجاري ومنقوع الماء المملَّح، لا أقتنع أنها أصبحت نظيفةً تماماً وجاهزة ً للأكل، إلا بعد قراءة دعاء: "بسم الله الذي لا يضرُّ مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء" عليها، وما زلتُ حين أبدأ بإعداد العجين بالذات، للمعجنات والبيتزا، لا أقوم بذلك إلا بعد أن أتوضأ!
كلمتان فقط (باسمِ الله).. ما أجملَ وقعهما على الآذان! حين تتدفَّقُ بتلقائيةٍ من مقدمِّة البرنامج وهي تطبخ، فتمنحُ الطبخَ على التلفزيون بهجةَ الأمومة؛ حيث الأمُّ وهي تطبخ، تُتَمتِم بدعائها كي يكونَ مذاقُ الطعامِ شهياً هنيّاً على عائلتها، فلا يأخذُ الطعامُ طريقَهُ إلى المعدة إلا عندما يغمرُ القلبَ بالذكرى والحب؛ بحيث يجعلُ الصغيرَ يقول: "طعامُ ماما أطيب طعام؛ لأن فيه الخلطة السرية: إنه الحب!".. وبحيث يكبر الصغار وما يزال لـ(طبيخ الماما) نكهةٌ لا تعوّضها أطباق الزوجات ولا الأخوات ولا الأخريات!!
وتكمن التلقائيةُ والفطرةُ والأمومةُ على برامج قناة سميرة، في تعامل الطبّاخات بأظافرهنّ القصيرة، العارية من طلاء الأظافر، والعاطلةِ من الحليِّ والمجوهرات- في معالجة العجين واللحوم والدجاج وغيرها باليد دون حواجز وبلا خجل، ومعالجة بقايا الأطعمة في الأواني حتى نهايتها، دون إلقاءِ المقدار الزائد من الكمية في المهملات؛ فكثيرٌ من برامج المطبخ على فضائياتنا أصبحت استعراضيةً إلى درجة منفِّرة، وبعيدةً عن روح مطابخنا القائمة على (العونة) و(البَرَكة) و(السُّبْحانية): فالكثير من أمهاتنا وجدّاتنا مثلاً لا يعرفْنَ المقاييس ولا المكاييل التي تدخل في إعداد أطباقنا العصرية، وإذا ما سألتَ واحدةً منهنّ عن مقاديرِ طبقٍ مُعيّنٍ نتلذَّذُ بمذاقِهِ من (تحت إيديها) تراها تقول: عالبركة يَمَّا ! ... فما أطيب تلك البَرَكة! وما ألذَّ طعمها! وإلى وقتٍ قريب كانت العائلةُ تجتمع على طبقٍ كبيرٍ تأكل منه جميعا؛ لأن في ذلك بركةً نفتقدها اليومَ حين تُوَزَّعُ البرَكةُ في أطباقٍ كثيرة، صغيرة وكبيرة، عميقة ومسطَّحة .. حتى ضاعت البرَكة!
هذه بعض أسرار سميرة ، قناة الطبخ الجزائرية الأنيقة الرفيقة القريبة من القلوب، أدعوكم لتجربةٍ جميلةٍ وممتعة مع سميرة، في مطبخٍ متميز وبنكهةٍ أكثر تميزاً!
ملاحظة: هذه الخاطرة ليست إعلاناً مدفوع الأجر، إنها من القلب إلى........ المعدة!


   



   

الثلاثاء، 23 ديسمبر 2014

الاحتفال بتكريم أ.د ناصر الدين الأسد في اليوم العالمي للغة العربية


سعدتُ ضحى الخميس 18/12/2014 بحضور الاحتفال الذي أقيم على مسرح كلية الاقتصاد في رحاب جامعة الزيتونة الأردنية؛ تكريماً لشيخ العربية وأحد سَدَنتها العِظام، أستاذنا العلّامة أ.د ناصر الدين الأسد، الاحتفال الذي نظّمه قسمُ اللغة العربية في كلية الآداب في الجامعة.

وكانت أثلجت صدري تلك اللحظاتُ؛ إذ مازال في الدنيا خير؛ وفاءً وتقديراً لمن أنفقوا حياتهم في سبيل العربية وفي سبُل أخرى من أجل حياةٍ أفضل للعلم وأهلِه في الأردن. وقد أبلى الزملاءُ القائمون على الحفل بلاءً رائعاً بتعاونٍ من طلبتنا المتميزين، مما جعلنا نستمتع بساعتين كان مرورُهما برداً وسلاماً على الأكباد!
*****
اعتدنا في محافل تكريم العلماء أن تُلقَى في حضرة الشيخ المكرَّم كلماتٌ تحاول على الملأ أن تفيَهُ حقَّه عرفاناً لما أمضى فيه عمرَه في سبيلِ مسألةٍ نذر نفسَه وحياتَه و كُــلَّه- من أجلها, وهي كلماتٌ لو يعلم قائلوها موقَعها في قلوب أولئك المكرَّمين؛ إذ نعلمُ تماماً أنهم لا يسعون إلى هاتيك الكلمات سعياً مقصوداً؛ فالذي ينذر نفسه صادقاً مخلصاً لمسألة، لا ينتظر من الناس جزاءً ولا شكورا. لكنّ الرائع في الكلمات التي أُلقيت في حضرة شيخ العربية كانت من الروعة، بحيث أظنها لامست شغاف قلوب الحاضرين، وتركت شيئاً في نفوسهم لا ينقضي.
ومن هذا الذي كان في نفسي وأظنه لا ينقضي منها، أنَّ الكلمات التي أُلقيت في تكريم شيخنا الكبير قد تفاوتت بتفاوت مقاديرِ أصحابِها من الحياة: فالعفويةُ ما فارقتْ كلماتِ الأساتذة الكبار، والهيبة والجلالة أبتْ ألّا تغادر كلماتِ التلاميذ، وعلى ذلك وقعت كلماتُ الأساتذةِ موقعاً في القلب لا يُنسَى؛ إذ جاءت عفويةً صادقةً فيها من المحبة والألفة التي تتولد بين التلميذ وشيخه على مرِّ الزمن مما لا يعرفه إلا مَنْ يعانيه ويتذوقه، وفيها من التقدير الذي يكبر ويكبر في قلوب التلاميذ سنةً وراء أخرى تجاه أساتذتهم.
*****
وكان مما جرى على ألسنتهم ذكرياتٌ ما فارقت أخيلة أولئك الأساتذة في لقاءاتهم الأولى مع شيخنا جميعا الأستاذ ناصر الدين الأسد، فكانت الذكرى الأولى للقاء أ.د محمد الوحش في امتحانه الأول الذي أجراه بين يديّ أستاذه، وكان قد تعلّم منه درساً ما نسيه على امتداد العمر، درساً جعله لا يُهمل ما يستهينُ به الناس إلا مَن رحم ربي: جعله لا يستهينُ بهذا الشيء الذي هو: همزة القطع ونقطتا التاء المربوطة !! نعم همزة القطع ونقطتا التاء المربوطة، وإنهما لأمرٌ – لو يعلم الناسُ- جليل في لغتنا العربية.
ومما كان من ذكريات أ.د. سمير قطامي إفشاءُ سرِّ الشيكولاته السويسرية الفاخرة، التي اعتاد أستاذُنا الكبير تقديمها لضيوفه العابرين عليه في مكتبه، وهذا شيء لا يعرف مذاقه إلا الطلبة حين يلتصقون بأساتذتهم في مراحل الدراسات العليا حين يحظَون منهم بصحبةٍ مختلفةٍ عما عهدوه سابقا على مقاعد الدرس في المرحلة الجامعية الأولى؛ إذ إن الجلوس في حضرة الأستاذ في مكتبه في تلك المساحة القليلة وذلك الدفء الأبوي يجعل التلميذ يحلِّق في أجواء جديدة، حتى ليغدو كوبُ الشاي هناك وبين يديه ألذَّ من الشَّهد المُصَفّى، فكيف لو كانت شيكولاته سويسرية فاخرة ؟ وهل هناك شيكولاته سويسرية غير فاخرة ؟!!  
********
كما أمتعتْــنا عريفةُ الاحتفال د. صبحة علقم بانتقائها الأنيق الرقيق لأبياتٍ من الأشعار التي غزلها أستاذُنا لرفيقةِ دربه ( أم بشر)، حين أهداها في ذكرى زواجهما الستين (همس وبَوْح) من شعر ناصر الدين، بغلافٍ لازَوَرْديٍّ.. بلونِ البحر.. وبلونِ الصفاء.. وبلونِ الوفاء.. الوفاء لرفيقة الدرب الطويل.. الوفاء لرفيقة الليالي الحالكات ورفيقةِ النهاراتِ المشرقات.. حتى استوى لنا أستاذُنا د. ناصر الدين على ما تشتهي النفوس وتتوق القلوب:
( كلُّ ما قلتُ وما لم أقلِ              هو من وحْيِ سَناكِ الأجملِ
أنتِ فجَّرتِ ينابيعَ الهوى             وأسَـــلْتِ الشعرَ في قلبي الخلي
أملي ستونَ أخرى بعدَها             حقَّقَ اللهُ عـلـــــــــينا... أمـــلي
سيظلُّ الحبُّ والشعرُ معاً            ملءَ قلبي.. لانتهاء الأجلِ )
******
وإنَّ المرءَ ليرى نفسَه في حضرة شيخنا فراشةً تتقافزُ لتقبسَ من وهجِ علمه، وتقبضَ على جمرات معرفته..... وبينما أنا أشفق على أستاذي أن أرى جسده الرقيق قد حنى ظهره وتغضَّنت بشرته، أعودُ بخيالي أنا الأخرى للذكرى الأولى للقاء شيخنا الكبير ذكرى لا تنمحي من خيالي.. حتى أنني هرعتُ إلى تلاميذي في المحاضرةِ التالية أقصُّ عليهم من أنبائه وأحدِّثهم من أخباره، مما ما زلتُ أفاخرُ به وأفتخر: أنْ كنتُ واحدةً من التلاميذ الذين مرّوا عليه وتتلمذوا بين يديه.
تعود بي الذاكرةُ القهقرى، لتسعة أعوامٍ خلت، وأراني في اليوم الأول من العام الدراسي الذي التحقتُ فيه بدراسة الدكتوراه، وكانت المحاضرة الأولى التي أذهب إليها هي مادة الأدب الجاهلي، التي يُلقي دروسَها على مسامع الطلبة الأستاذ الدكتور ناصر الدين، ولما كنتُ منقطعةً منذ مدة عن السير في شارع الجامعة الأردنية، وبيتي قريبٌ منها، فقد ذهبتُ قبل موعد المحاضرة بنصف ساعة فقط، لأعْلَق في زحمةٍ مروريةٍ اضطرتني - وأنا التي أحب قيادة السيارة بسرعة- إلى السير بسرعة 20كم، فوصلتُ مكتب الأستاذ -حيث تنعقد المحاضرة- متأخرةً نحو عشر دقائق، كلَّفتْني غاليا: نوعاً من التأنيب والتذكير بأهمية الانضباط والالتزام بالوقت، فكان لقائي الأول بعلّامتنا لقاءً مُخجِلاً لي بيني وبين نفسي لا يزول منها حتى اليوم، هذا مع أنني تمكَّنتُ بحمد الله بعدها بمدة وجيزةٍ من أحظى بتقديره وثنائه على طالبةٍ متميزة من بين طلبته، حتى كان أنْ ظفرتُ منه بهديةٍ لم يظفر بها غيري من طلبته، كانت الهديةُ نسخةً من كتاب د.عبدالرحمن بدوي : دراسات المستشرقين حول صحة الشعر الجاهلي .. ولم أكن أدري حينها أن (المستشرقين) سيكونون قَدَري ورفاق رحلتي القادمة في أطروحة الدكتوراه !!  
وما زلتُ إلى اليوم أكررُ كلماتِ أستاذي ناصر الدين لطلبتي وأبنائي، حين كان يعلّقُ على لغتنا العربية الركيكة ويطلب منا الحديث بالفصيحة، فيداعبنا جادّاً: أفصِحي يا بنت!! وأفصِح يا ولد!!! وما زلتُ إلى اليوم معجبةً بذاكرتِه الشابة التي كانت تجعل مني في حضرته أشعرُ بأنني عجوز، وأخجلُ من ذاكرةٍ ضعيفة نوعاً ما حين تقابلُ ذاكرةَ أستاذِنا الكبير بتوقُّدها وَ حِدَّتها.
******
كانت لحظاتُ تكريمِ أستاذنا لحظاتٍ لا تصف روعتَها الكلماتُ، أحدثت في النفس ما كان وما سيبقى..
فهنيئا لنا وللعربية ولأهل العلم .. هاماتٍ تبقى لنا مناراتٍ ..
****




 

الثلاثاء، 2 ديسمبر 2014

ندوة ( لسان الدين بن الخطيب التراث الأندلسي المشترك وحوار الثقافات)

http://www.atf.org.jo/atf_news.php?id=280




وفد منتدى الفكر العربي من الأردن المشارك في الندوة الدولية في مدينة قرطبة بعنوان:
(لسان الدين بن الخطيب: التراث الأندلسي المشترك وحوار الثقافات).

الندوة الدولية: 

"لسان الدين ابن الخطيب والتراث الأندلسي المشترك:

حوار الثقافات"

الزيارات العلمية للمعالم التاريخية في الأندلس
(قرطبة/ إسبانيا؛ 18-22/11/2014)

قرطبة- في إطار التعاون العلمي القائم بين مؤسسة لسان الدين بن الخطيب للبحث والتعاون الثقافي بفاس في المغرب، ومؤسسة براديكما الإسبانية بقرطبة، ومنتدى الفكر العربي، شارك المنتدى بوفد ترأسه الأمين العام د. الصادق الفقيه في الندوة الدولية التي عقدت أعمالها في مدينتي لوشة وقرطبة بالأندلس/ إسبانيا، تحت عنوان "لسان الدين ابن الخطيب والتراث الأندلسي المشترك: حوار الثقافات"، خلال الفترة 18-22/11/2014 ، والتي شارك فيها أيضاً باحثون من المغرب وعدد من الباحثين والمستشرقين الإسبان، واشتملت على زيارات علمية لأشهر المعالم التاريخية الأندلسية في كل من: لوشة، وقرطبة، وغرناطة، والزهراء، وإشبيلية، وساهم في تنظيمها ودعم الأنشطة المرافقة لها جامعة الحسن الثاني في الدار البيضاء، وجامعة كومبليتنسة بمدريد، وبلدية قرطبة، وبلدية لوشة، ومجموعة بحث مدن أندلسية تحت الإسلام بغرناطة، والجماعة الحضرية بفاس.  
وفي كلمته التقديمية لأعمال هذا اللقاء العلمي الكبير، قدم د. الصادق الفقيه الشكر للمؤسسات الإسبانية والمغربية التي ساهمت في إقامة اللقاء، ونقل إليهم تحيات صاحب السمو الملكي الأمير الحسن بن طلال رئيس المنتدى وراعيه، مشيراً إلى أن هذه الرحلة على خطى ابن الخطيب وأعلام الفكر الأندلسي هي استعادة لتاريخ حافل بالأعمال الحضارية الجليلة بين المغرب والأندلس والمشرق، والمسافات التي تُقطَع ما هي إلا مسافات وصل للماضي بالحاضر نحو المستقبل، فالاتصال في هذا الوقت بالذات مطلوب كما كان في الماضي، بل مطلوب بأكثر موثوقية لأن فكر ابن الخطيب وأمثاله من أهل العلم في الأندلس يمثلون قيمة التعدد والمصالحة مع فكرة التعددية، وقد كانوا في إنتاجهم الفلسفي يتخذون الفلسفة موضوعاً وسبيلاً إلى الموضوعية، وبالتالي فإن رسالتهم تستخلص أهم ما نبحث عنه في عصرنا هذا من قيم التعدد والتواصل والحوار والتلاقي، التي ضلَّ عنها الناس، بما في ذلك البحث عن حقيقة الذات الإنسانية المعززة بقيم الحوار الثقافي ومساهمته الأكيدة في البناء الحضاري.
وكان أ. كايد هاشم، مساعد الأمين العام لمنتدى الفكر العربي قد ألقى كلمة بالإنابة في افتتاح الندوة في دار بلدية قرطبة، وبحضور كل من: عمدة مدينة قرطبة، ونائب عمدة مدينة فاس، ونائب والي جهة فاس بولمان، ورئيس مؤسسة ابن الخطيب د. محمد مزين، ومديرة مؤسسة براديكما الإسبانية دة. ماريا خيسوس فيكيرا، جاء فيها أنه "إذا كنا بوصفنا نُخباً مثقفة، ومؤسسات معنية بارتقاء الثقافة، وعقولاً أمينة على رسالة الفكر، فلن يغيب عن بالنا أن في مثل هذه اللقاءات تأكيد يستند إلى واقع تاريخي ندركه في التجربة الأندلسية أكثر من غيرنا، بحكم المشترك الحضاري في المحتوى والمضمون، وهو أن الحوار يظل، مهما كانت الظروف المحيطة به، الوسيلة الأسمى للعلاقات الصحيّة المتسمة بالتوازن والندية، ومبتدأ الطريق نحو إقرار المشترك الصالح بين البشر على اختلاف عقائدهم وأديانهم ومذاهبهم. وأضاف: ومع اعتزازنا بكل مشرقٍ في الماضي، واعترافنا بأن كل ماضٍ لا يخلو من الصراعات والنزاعات، إلا أننا عندما نتأمل مًنْ كان الأصلح للبقاء ليجمعنا للحديث فيه وعنه: النزاعات المادية أم الفكر؟ الحروب أم صروح الحضارة الباقية؟ المصالح الآنية المتضاربة أم الأخلاقيات والقيم المتأصلة في الإنسانية؟ واختتم كلمته بالقول إن الرهان على ثقافة المستقبل يرتبط بالقدرة على توطيد ركائز المشترك الثقافي الذي يتفاعل مع مشكلات الحاضر وتدارسها واستنباط الحلول لها، والمساهمة معاً في بلورة قيم الاحترام المتبادل بين الثقافات والشعوب.    
ضم وفد منتدى الفكر العربي أ.د. صلاح جرار، أستاذ الأدب الأندلسي في الجامعة الأردنية وعضو المنتدى، الذي ترأس إحدى جلسات المؤتمر، وقدم بحثاً رئيسياً حول الحركة العلمية في قرطبة في عصر الخلافة الأموية وعلاقتها بحوار الثقافات"، أبرز فيه عناية خلفاء بني أمية في الأندلس وملوك القسطنطينة وألمانيا وقشتالة كلّ بما لدى الطرف الآخر من كتب ومخطوطات وتبادلها وترجمتها، وكذلك اهتمام الأندلسيين وجيرانهم الأوروبيين بكتب الطب والهندسة والفلسفة بشكلٍ خاص، وانتشار كتب اليونان بين الأندلسيين والدول المجاورة للأندلس، وظهور الكتب باللغتين العربية واللاتينية، مما ساهم في التأسيس لقاعدة معرفية مشتركة أكدت أن العلم كان أساس التفاعل الثقافي وحوار الحضارات.
من جانبها قدمت دة. رشأ الخطيب، أستاذة الأدب العربي في جامعة الزيتونة والجامعة العربية المفتوحة والباحثة المتخصصة في الدراسات الأندلسية،  بحثاً تناول "جهود المستشرقين البريطانيين في التعريف بلسان الدين ابن الخطيب وأعماله"، مبينةً فيه مظاهر اهتمام هؤلاء المستشرقين بفكر ابن الخطيب مؤرخاً وفقيهاً وفيلسوفاً وسياسياً وأديباً وشاعراً، ولا سيما في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين ، باعتباره من أهم الشخصيات الفكرية في عصره التي كان لها أثر واضح في الحوار الثقافي بين الأندلس وأوروبا.
وشاركت د’ جودي البطاينة، أستاذة الأدب والنقد في جامعة جرش وعضو المنتدى، ببحث عنوانه "رؤية جديدة للخرجة في الموشحات الأندلسية: لسان الدين ابن الخطيب أنموذجاً"، رصدت فيه ملامح هذا الجانب الإبداعي في آثار ابن الخطيب الشاعر، وأوجه التشابه الفني واللغوي بين الموشح الأندلسي في الغناء عند الأندلسيين والغناء الشعبي في بلاد الشام، من خلال بعض نماذج التراث الأردني، وصلة ذلك بالشعر الغنائي العربي عموماً.

توقيع اتفاقية تعاون بين منتدى الفكر العربي ومؤسسة براديكما الإسبانية
من جهة أخرى، وقِّعت في قرطبة اتفاقية تعاون علمي بين منتدى الفكر العربي ممثلاً بأمينه العام د.الصادق الفقيه، ومؤسسة براديكما الإسبانية بقرطبة، التي مثتلها المستشرقة دة. ماريا خيسوس فيكيرا، المشرفة على المؤسسة وأستاذة الدراسات العربية والإسلامية في جامعة كومبليتنسة في مدريد، التي أعربت عن اعتزاز هذه المؤسسة الإسبانية المعنية بالحضارة والتاريخ الأندلسي بالاتفاقية التي تربطها بواحد من أهم المؤسسات العلمية والفكرية في العالم العربي، والتطلع إلى توسيع آفاق الحوار  والتعاون بين مراكز الدراسات العربية والإسبانية.
ونصَّت الاتفاقية على توثيق أواصر التعاون بين الجانبين في مجال البحوث وتنظيم أنشطة علمية مشتركة، وتبادل الزيارات بين الباحثين والأكاديميين ضمن هذا الإطار وبشكلٍ سنوي لإلقاء المحاضرات ضمن برنامج يتم الاتفاق عليه، وكذلك تبادل المنشورات والدراسات التي يصدرها الطرفان.


http://www.petra.gov.jo/Public_News/Nws_NewsDetails.aspx?Site_Id=2&lang=1&NewsID=174526&CatID=20&Type=Home&GType=1

الأحد، 26 أكتوبر 2014

نفثات قلب

حين تولَدُ نجمةٌ تحتَ الشمس...ثم يمحوها ظلام الغدر
حين يولَدُ وطنٌ في العينين .. ثم يموتُ فيهما
حين تركضُ الأحلامُ على أزرقِ المتوسط.... ثم يكون لقاءُ الروحِ قاتلَها
وحين تكونُ رقةُ الياسمين وتأتلقُ.... ثم يستحيلُ أزرقُ الياسمين سواداً يُعشي العيون
وحين تزهو عشتارُ ربَّةُ الجَمال.... ثم تفوحُ منها رائحةُ العفنِ تزكمُ الفضاء
وحين يحلِّقُ الفينيقُ كلَّ مرةٍ من جديد... ثم يموت على شاطئ آخر
حين ذاك كلِّه..
ندركُ أنَّ النورَ ليس له من اسمه نصيب !
حينَها ندركُ أنَّ النورَ إنّما هو ضلالٌ !
وأنَّ الوطنَ حقيبة !
وأنَّ الحبَّ يموتُ ويفنى !
وأنَّ النجمةَ يسرقُها كنعانُ، ويطفئُ نورَها في مستنقع!
وأنَّ الفينيقَ يُغتالُ تحتَ رمادِه... فلا يقوم !
وأنَّ الياسمينَ تُنْتَهَكُ طهارتُه كلَّ لحظةِ خيانة !
وأنَّ النورَ الذي نظنُّه يملأُ حياتَنا .. هو سرابٌ.. في كذبٍ .. في أوهام !
فسبحانَ مَن خلَق الحُبَّ ! وأعطى الوفاء !
وخلّق النورَ .. وجعل الطُّهْر !
وخلقَ القلوبَ .. وجعلَ اللهَ فيها !
فيا مقلِّب القلوبَ ثبِّت قلبي