أرشيف المدونة الإلكترونية

الأحد، 20 سبتمبر 2015

أزهار قرطبة... ربيعٌ لا ينتهي





حين تسير في شوارعِ قرطبةَ الجميلةِ وأزقّتِها، لا يمكنُ إلا أنْ يأخذَكَ جمالُها، وتأسرَكَ نظافتُها، وتستحضرَ روحُكَ ما كنتَ تقرؤُهُ مدوَّناً في مصادرِنا الأندلسيةِ من اشتهار أهل الأندلس بالنظافة والتدبير والمروءة، "ففيهم من لايكون عندَه إلا ما يقوتُ يومَه فيطويه صائماً ويبتاع صابوناً يغسل به ثيابَه، ولا يظهر على حال تنبو العينُ عنها".

وأنتَ تجد حتى اليوم مصداقاً لهذا في الغادين والرائحين في المدينة القديمة، بثيابهم الأنيقة النظيفة، على بساطتها وعلى ذوقها الغجري، وتجد ذلكَ أكثر في الجدران البيضاء التي تسرُّ أعينَ الناظرين، وفي طلاءِ الأبواب وإطاراتِ النوافذ بما يبهج النفس من الأزرق والأخضر... وإنَّكَ لتجدُ ذلك في الأصصِ المنتشرة بذوقٍ لا تخطئُه العينُ- على الجدران ناصعة البياض، فيمنحكَ الأخضرُ والأزرقُ والأبيضُ تشكيلاً بصرياً يأخذُ جمالُه بالأرواح. ثم تعطفُ عليه الزهرَ المختلفةَ ألوانُه فتكونَ أنتَ الآنَ في قطعةٍ من السِّحر الحلال..



ومن الأشياء التي قد تستحوذ على اهتمام مَن لديهم ميلٌ إلى شؤون الفِلاحة والعناية بنباتات الأصص أو أزهار الرياض، مسألةُ سقايةِ الأزهار المعلَّقةِ على الجدران السابحةِ في الفضاء الأبيض الناصع.. فكيف يستقيمُ لهذه الأزهارِ المبهجةِ للسائرين في الأزقة والطرقات، كيف يستقيمُ لها أنْ تبقى الجدرانُ على أبيضها الناصع، وأنْ تبقى الأصصُ على ألوانها الزاهية الطبيعية أو الخضراء والزرقاء وهي تحتاج الري والارتواء؟



والجواب في هذا النصب التذكاري الذي يمثِّل لحظةً من اللحظات الحلوة التي يقضيها المرءُ في ظل العناية بالنباتات والأزهار، ألا وهي السقاية، اللحظة التي نمنحُ فيها هذه المخلوقاتِ سرَّ الحياة وروحَ الله، كي تبقى تسبِّح بحمده ونبقى نسبِّح بحمدِ واهبِ الجمالِ والحياة!


في هذه المجموعة من الصور قطعةٌ من سحر قرطبة، وقطعةٌ من سحر الفِلاحة التي أورثَها أجدادُنا في ديار الأندلس وخلَّفوها بعد الرحيل.. ولكم في جمالها متعةٌ يا أولي الألباب!




  


الصور من:

http://www.artencordoba.com/PATIOS/Patios-Cordoba-monumento-escultura.html

الأحد، 13 سبتمبر 2015

ربيع قرطبة ...بعيداً عن التاريخ قريبا من الحياة


استبدَّ بي شوقٌ متجدد لا ينقضي إلى الأندلس، وكان صديقٌ أرسل لي يسأل عنها، فعادوتُ مشاهدةَ حلقاتِ الثلاثيةِ الأندلسية التي تكونت من مسلسلات: صقر قريش (2002) و ربيع قرطبة (2003) وملوك الطوائف (2005)، من تأليف أستاذي المبدع د.وليد سيف وإخراج المخرج المتألق حاتم علي، وتمثيل نخبةٍ من الممثلين السوريين والمغاربة .. وهذه الثلاثية هي من المسلسلات التاريخية المتميزة لهذا الفريق...

شكرا في هذا المقام أزجيها للإنترنت وخاصة تطبيق الـ Youtube ؛ الذي يتيح الحصول على ما يحضُرُ في الخاطر من أعمالٍ دراميةٍ أو معلوماتٍ أو ذكرى مضَتْ من الذاكرة، وربما عفا عليها الزمن.
 فكان أن استمتعتُ على مدى ثلاثة أيام من الإجازة -بعد انتهاء الفصل الصيفي بعمله وثقله- بمتابعةِ واحدٍ من أجملِ المسلسلات التاريخية التي قدَّمتْها الشاشةُ الفضيةُ للجمهور منذ سنين.

 وقد كنتُ حين تابعتُ هذا الإنتاج منذ ما يزيد عن اثني عشر عاماً أستحضرُ الصورَ القديمةَ المطبوعة في ذاكرتي وأنا طفلة عن المسلسلات التاريخية المملة، التي كان يجب علينا متابعتُها، في ظلِّ قناةٍ تلفزيونيةٍ رسمية وحيدة، في أيام الجُــمَع أو شهر رمضان أو بعض المناسبات الدينية: حيث تمتلئ المسلسلات التاريخية بـ (الديكورات ) الخشبية الهشة؛ ما يزيد من هشاشة المشهد تمثيلاً وأداءً.. كما تزيد من هشاشتِهِ وضعفه تلك الملابسُ العجيبةُ المستخرجة من جوفِ تاريخٍ لا ندري كيف وصل إليه أو تفتَّــــقت عنه أذهانُ العاملين على تلك المسلسلات..ويزيد من ركاكة تلك المسلسلات ذلك الحوارُ الذي يمضي طوال حلقات المسلسل على ألسنة الممثلين، في رتابةٍ وعلى نغمةٍ واحدةٍ لا تعلو ولا تنخفض، وفي صَنَميةٍ مفتعلةٍ للغة العربية الفصحى، تنفِّر المستمع منها، وهي اللغةُ التي ما ضاقت يوماً عن أن تسَعَ الاختلاجاتِ والابتهاجاتِ والأحزانَ والأشجانَ ومعاني الوجدان..حتى تغير الحال ووجدناها رائعة وشائقة في برامج الأطفال مثلا حين يتكلمون في كل شؤون الحياة بانفعالٍ وتلوينٍ للكلام وتنغيم يعبِّر عن المواقف الحقيقية بطبيعيةٍ وتلقائيةٍ جذابة.
هذه بعضٌ من جوانبِ الهشاشةِ والضعف الذي كان يطبعُ الأعمالَ الدرامية التاريخية في الماضي.. لكنَّ الماضي يتغيَّر مع هذه الثلاثية الأندلسية التي قدَّمها المخرج حاتم علي وفريقه، في عملٍ يحمل بصمةً لا تُخطئها ذائقةُ المتابعِ؛ إذ يمشي التاريخُ فيها على قدميْن وتُبعَثُ الروح من جديد في أجساد من قضَوْا وراحوا.. ليقوموا من جديد بكلِّ ما في حياتهم من صخبٍ وألَق، وبهجةٍ وحزن، وسرورٍ وحبور..بكل ما في تلك الحياة من إثمٍ وطهر، من ذنب وتوبة... بكلِّ ما فيها من غضبٍ وهدوء.. بكل ما في النفس البشرية من تناقضاتٍ جَعَلَها المخرجُ تنطقُ في حركةٍ الممثلين، وثيابهم، وكلامهِم، وإيماءاتهم، ونظراتهم، وآهاتهم.. بل حتى نبضات قلوبهم..بحيث نرى أجدادَنا في الماضي أقربَ للبشر منهم إلى الأنبياء، أقربَ للأرض منهم إلى السماء.. أقربَ للقلب منهم إلى أي شيء آخر.. بحيث نرى فيهم أنفسَنا..
بحيث نوقنُ أنَّ التاريخ حقاً يعيد نفسَه، وأنَّ اللهَ الذي يُبدئ ويُعيد بقادرٍ على البدء والإعادة من جديد كلما استلزم الأمر، لكننا –للأسف- ننظر ولا نتعلم.
كانت أهم ميزات المسلسل أنه ابتعد عن (الديكورات) الخشبية المصطنعة لواقعِ الماضي، التي احتلَّت مخيالنا وذائقتنا البصرية الجمالية لمدة غير قصيرة، ورسمتْ حياةَ أجدادِنا في قالبٍ نمطي غير جميل، يتناقض مع الروايات التاريخية التي تنص على غير ذلك، لينتقل التصويرُ إلى مواقعَ حقيقيةٍ من قصورٍ وحدائقَ وبيوتٍ وشوارعَ...وغيرها، وارتدى الأجدادُ ملابسَ عاديةً قريبةً لروح العصر..
وصارت اللقطاتُ تحتفلُ بأطفالٍ في الصورة التلفزيونية، تُقنع المُشاهِدَ أنَّ التاريخَ الذي يُعرَض هو منّا، مِــــــنّا نحن الذين نحبُّ كثرةَ المواليد وتزخر بهم الحاراتُ والأزقة والبيوت والقصور... فكيف يختفون بقدرة قادر في المسلسلات التاريخية والأعمال الدرامية التي تحكينا؟؟
الشكر موصولٌ مجدداً للصديق الذي فتح قلبي على هذه الذكرى، والشكر موصولٌ لليوتيوب الذي يتيح لنا استعادةَ اللحظاتِ الجميلة؛ إذ أصبحت الأعمالُ الدراميةُ والإعلامية المرئية، جزءاً من واقعنا الذي يشكِّل –في بعض الأحيان- كثيراً من قناعاتنا، في ظلِّ ابتعادٍ حقيقي عن المطالعة التي هي طريق المعرفة الأولى.
في المقاطع السابقة على صفحتي من مسلسل (ربيع قرطبة) بعضٌ من قصة حبٍ طاهرة قد يعيشها آخرون في زمنٍ آخر، وسواء أاتفقت المصادرُ التاريخية على صحَّتِـها أو تلفيقها، فإنَّ كاتبَ النص والمخرج والممثلين قد أبدعوا جميعاً في بثِّ ماءِ الحياة في القصة من جديد، وبث ماءِ االحياةِ فينا؛ بهذا التمثيل الذي يكاد يقترب من الحقيقة ويجعلنا نلمسها بأيدينا.
في الحقيقة.. أجدُ في مثل هذه المسلسلات فائدةً كبيرة في العملية التربوية والتعليمية، أدعو إليها زملائي وطلبتي، بإضافةِ مادةٍ مشوقةٍ باللغة العربية الفصيحة الرشيقة الحقيقية، التي أبدع الممثلون في أدائها ونطقها، كي يعرف طلبتُنا أنَّ اللغةَ العربية فيها سرُّ الجمال والإبداع، وأنها يمكن أن تكون على لسانهم سلسبيلا لا تنقطع خيراتُه. وأنَّ التاريخَ المحنطَ في صفحاتِ الكتب المدرسية والجامعية، يمكن له أنْ يُبعَث حيّاً في مشاهدَ تقرِّبُ لطلبتنا التاريخَ الذي نحدِّثهم ببعض أخباره في المحاضرات والكتب.
هذا ما تفعله الأندلس فينا: ففيها الروح، وفيها الجمال، وفيها الحب،.. وفيها الموعظةُ والذكرى. 
صباحكم معطر بعطر الأندلس ونسماته البهية.

في الرابط مشهد يومي من التاريخ

في السوق.. اصطياد قلوب الزبائن في البيع والشراء
 https://www.youtube.com/watch?v=AoMXRnCDCR8

الثلاثاء، 23 يونيو 2015

كنتُ هناك ... مجموعة قصصية بقلم مجدولاين دحيّات


..... وسنكون هناك عزيزتي!


شاءت أقداري الحلوة أن تضع في طريقي هذه المجموعةَ القصصيةَ للمؤلفة الواعدة مجدولاين، وأن أكون واحدةً من أولئك الشاهدين ميلادَ الواعدين من أبنائنا وبناتنا، بهذه الإطلالة التي لا أودُّ تسميتها إطلالة نقدية، بقدر ما أقول إنها إطلالةٌ عاطفية على عملٍ أدبي وفني، يعِدُ بكثيرٍ في مستقبل الإبداع، فما زلتُ أؤمن أنَّ في النقد جانباً ذوقياً انطباعياً لا انفكاك منه، ويحق له أن يبقى أمام النظريات النقدية الصارمة، وقوالب النقد المنهجي.
لهذا حين وقع هذا الكتابُ اللطيفُ في يدي للمرة الأولى، وقع في قلبي بلا استئذان؛ إذ يحمل في عتباته اسم كاتبته-التي لا أعرفها شخصيا- مجدولاين، وهو اسمٌ له في نفسي أشياء وأشياء..اسمٌ قرأتُه بقلبي لا بعيني (مجدولين)، في تناصٍّ صريح والقصةَ الأولى الطويلة التي عاشت معي وأنا شابة في مقتبل العمر، وسحرتْني بعضَ سحرٍ كلماتُها وحوادثُها... وأبقى في عتبة الاسم (مجدولين) الذي تحمله المؤلفة، وهو بعضٌ من قلبي، بعضٌ مني، إن بعضَه (مجد)، وهو اسم ابنتي!
***
من عاداتي التي لا أتخلى عنها حين أمسكُ كتاباً لأول مرة، أنْ أقلِّبَ في افتتاحاته الخطابية سريعا؛ من صفحة العنوان في العتبة الأولى للكتاب، إلى الإهداء... حتى كلمة الناشر –في عتبة الجلادة- آخر ما يلاقينا من الكتاب, وحين وقعتُ في الصفحة الأخيرة على سطور حياة الكاتبة الشابة، وقعتْ هي في قلبي، فهي بعمر ابنتي كذلك، لتتنزَّل في نفسي صورة أم وابنتها، معلمة وطالبتها .. لا ناقدةٍ تحمل مشرط النقد وعصا القواعد، قدر ما تحمل دعاءً وتوجيهاً وثناءً لأبنائنا المتميزين؛ الذين ما فتئوا كلَّ يوم يجددون فينا أنَّ الأملَ فيهم لا يخيب.
***
هذه التوطئة الواقعة في قلبي، التي بُحتُ لكم بأسرارها، ما كانت لتمنع مني المسؤوليةَ في قول كلمة حق بحق هذا العمل، الذي يستحق أن يقال فيه ويقال له.
حين استوقفتْني إضاءةُ مجدولين على عتبة قصصها الواقعية، ظننتُ، وبعضُ الظن إثم، أنني أمام طالبةٍ ستعيد على مسامعنا حكاياتٍ ربما مرَّت بنا، وفرَّت منا في زحمة الحياة، أو ستملأ صفحاتِ كتابها بقصص تنتهي بخاتمةٍ تذكرنا بالسؤال الذي كنا نُسأَل دوماً حين ننتهي من قراءة قصة: ما الدرسُ المستفاد، وما الذي تعلَّمته منها؟
هكذا كان ظني .. وقد خاب! لأجدُني وأنا أنتقل في قصص مجدولين من بابٍ إلى باب أنسى من كانت وقعت في قلبي قبل أن أقرأ لها، وأنسى خاطراً خطر في نفسي أنَّ هذا العمل ربما يكون أشبه بتجاربَ ، لا تتمايز بكثيرٍ عن خطرات تبوح بها أقلامُ المراهقين والمراهقات، في فسحةٍ من العمر ستمضي وستنقضي! لكني وجدت في الأمر اختلافا كبيراً، وقفتُ فيه أمام قلم كاتبة تتقن صنعتها.
وهكذا ولجتُ البواباتِ السحرية لمجدولين: عنوانَ قصة، ولوحة فنيةً –بالتأكيد كنتُ أفضِّلها مطبوعة بالألوان – ثم ها أنت في فتنة الكلمات وجاذبية السرد تنسى ما قد في نفسك من قلبُ، وتغرق في وهمٍ لذيذ، لا يقدر عليه إلا المبدعون: إنْ هذا إلا قلمٌ تمرَّس الإبداع، وعينٌ أتقنت الملاحظة، وكلماتٌ أجادت الوصف!
***
فإذا وقفتُ الآن على بعض ما يمكن أن يُقال في هذه المجموعة القصصية، فإنها مجموعةٌ تستحق أن تُقرأ، ولتسمحوا لي بتشجعيكم وأولادكم على قراءتها، هي مجموعة لطيفة من أربع عشرة قصة قصيرة، تقابلكم عناوينُها في فاتحة الكتاب، ثم اتركوا لأنفسكم بعد ذلك أن تأخذكم حيثت تشاء، وسوف تجدون أنكم في ذلك الذي يفتن ويسحر: في السرد والقَصِّ والحكي ...وقعتم!
***
لا أضيف جديداً على ما قالت المؤلفة حين وصفت قصصها بأنها واقعية، وهي كذلك بامتياز، إذ أتقنت منذ الخطوة الأولى اختيار محتوى القصص، فمَن منا يظن أن اللوحاتِ والمشاهدَ الرتيبة التي نألفها، وتتكرر يومياً لدى آلاف الناس، قد تكون لُحمةَ عملٍ مبدعٍ حين تــنسجه الكلمات؟
أزمة المياه؟ كباكيب الصوف الملوّنة؟ الحرب على جهاز التحكم بالتلفاز؟ الفطور الصباحي: فول حمص فلافل وخبز وخيار وبندورة ؟؟ لقد خلقتْ مجدولين من هذه التفاصيل وغيرها ..قصصاً تُحكى!
ولأجل هذه الواقعية أتقنت المؤلفةُ ملاحقة التفاصيل الصغيرة للمكان والزمان والشخصيات، وقبضت على المشهد بصورها وعباراتها، حتى تأتَّى لها السردُ الجذاب المقتضب، يشدُّ القارئ دونما ضجر، وفي هذا كان لها من التوفيق نصيب، في عدد من الصور الفنية التي صاغتْها بعبارات قريبة من الروح .
***
وسعياً لهذه الواقعية كان المحتوى سرّاً من أسرار حكاياتها، ففي (أرواح مشوهة) وفي (ذكريات الطفولة) التمييز في مجتمعنا بين الذكر والأنثى، انتصاراً للذكر، وهي تجربة مرَّت على بناتنا، وما زالت التجربة مستمرة! تتشابه القصص على اختلاف التفاصيل.
أنتِ بنت وهو ولد!
"لقد كبرتِ ..وأنتِ الآن من يحتاج إلى حارس!".
وفي (كراكيب) الطرافةُ والفكاهةُ ..والمفارقة! " يا للمصادفة..لقد أنهينا العملَ معاً، أنا واللصوص، .. وانتهى الأمرُ بأن أصبح منزلي فارغاً من الداخل والخارج!".
حتى عرائس البحر في (إلى القمة) لا تجعل القصص تفلت من سمت الواقعية، حلم غريب لشاب يجعل من عقود اللؤلؤ.." حباتِ العرق التي تسيل على جبينه وهو يسعى لتحقيق أهدافه في الحياة".
وكم نحتاج إلى اللؤلؤ في حياتنا ... ونحتاج إلى عقود تزيّننا!!
*****
أما الدهشة التي أجدها من أسرار إبداع مؤلفتنا الواعدة، فهي دهشة الخواتيم! لقد أدهشتني حقاً في نهايات بعض القصص بذكائها في خواتيمَ تأتي على غير انتظار، تفسر ... تضيء ما قد سلف، وتنمّ على ذكاء مبدعتها.
في (مساواة) خاتمة يتساوى فيها مصيرُ امرأة بمصير نملة! نملة
 تماهت وإياها .. حدَّ النهاية الفظيعة!
وفي (شمعة حب) انتهى الصراع على [ريموت التلفزيون] بمجرد ضغطة على قاطع الكهرباء، جعلت الأُسرةَ تغرق في ظلام، ظلام أعاد إلى قلوبها نور المحبة، ودفئاً كان مفقودا.
وفي (غرفة 24) تدهشنا بأننا حين يحضر الموت ويشخص البصر، سنبقى جميعا في تلك الحالة أيضا، سنبقى في الانتظار!
أما في (متّ..بكرامة) فالنهاية كانت موجعة.. قاسية قد لا تُحتمَل؛ حين يختار الابنُ الامتثالَ لأمر أبيه، وكم منّا يقدر عليه؟! فيضع حدّاً لحياته التي لوَّثها الإيدز إذ ".. ربما عاش لنفسه، لكنه يموت من أجل أسرته".
***
ومع الدهشة أختم كلماتي لأقول: مدهشةٌ أنتِ يا مجدولين! وأنتِ تسيرين على درب الإبداع، حيث سنكون كلُّنا هناك بانتظار قلمكِ... بانتظار كلماتك... بانتظارِ كلِّ جميلٍ منكِ مأمولُ!


الأربعاء، 10 يونيو 2015

الأدب الأندلسي في الدراسات الاستشراقية البريطانية


https://hmsq8.wordpress.com/2015/06/08/%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%AF%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%86%D8%AF%D9%84%D8%B3%D9%8A-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D8%B1%D8%A7%D8%B3%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D8%B4%D8%B1%D8%A7%D9%82/

الأدب الأندلسي في الدراسات الاستشراقية البريطانية

  
الأدب الأندلسي في الدراسات الاستشراقية البريطانية
رشا عبدالله الخطيب

من مجالات القراءة التي شغفت بها في السنوات الماضية ولا زلت، تاريخ الأندلس عمومًا، وما يتصل به من دراسات وأعمال قديمة وحديثة، عربية أو مترجمة، وكذلك مجال الدراسات الاستشراقية، سواء ما أنتجه المستشرقون أنفسهم، أو الكتابات العربية النقدية لإنتاج المستشرقين عمومًا، وفي هذا الكتاب، وجدت المجالَين مضمومين في موضوع واحد طريف وغير مسبوق، فكان حافزًا قويًا لدي لاقتناء الكتاب وقراءته حالاً.

وعمومًا، فالكتاب يبحث موضوع المستشرقين/المستعربين البريطانيين وعلاقتهم بدراسة الأدب الأندلسي، وفي مقدمة الكتاب تضع الباحثة رشا الخطيب عدة تحديدات لعنوان كتابها في ذهن القارئ قبل أن يشرع في قراءة الكتاب، ومن أهم هذه التحديدات:
– أن عبارة “الأدب الأندلسي” تشير إلى “الأدب بمعناه الإبداعي، أي النصوص الإبداعية من شعر ونثر وما ينضوي تحتهما من فنون أدبية متنوعة عرفتها الأندلس وأبدعها أعلامُها”.
– وأن كلمة “الاستشراق” الواردة في العنوان، ورغم عدم مناسبتها جغرافيًا حيث أن كلا الدارس والمدروس يقعان جغرافيًا في الغرب، إلا أن الباحثة تؤكد على أن الشرق هنا يؤخذ “بمفهومه العام الحضاري والثقافي، أي الشرق الذي يقصد به بلاد العرب والمسلمين”، وذلك في إطار تاريخ الأندلس، ووجود المسلمين فيها.
– أما كلمة “البريطاني”، فتوضح الكاتبة أن المقصود بها هو كل من كان يعمل في الهيئات العلمية والجامعية في بريطانيا، وليس بالضرورة فقط أولئك الذين يحملون جنسيتها.
ثم بعد هذه المقدمة، والتوضيحات الجانبية، يبدأ الكتاب الذي يقع في بابين اثنين هما:
– الاستشراق البريطاني والدراسات الأندلسية: توطئة عامة ونظرة تاريخية.
– الدراسات الأندلسية في بريطانيا: المنجزات العلمية والمنهجية.
وفي نهاية الكتاب، تضع الباحثة مسردَين أولهما يتعلق بالمستشرقين البريطانيين المهتمين بالتراث الأندلسي، والآخر مجرد قائمة بالمقابل اللاتيني لأعلام المستشرقين عمومًا.
ومنعًا للإطالة، أورد أهم ما تستخلصه الباحثة الخطيب في كتابها هذا:
– أن الدراسات البريطلنية المتعلقة بالأدب الأندلسي تعتبر قليلة إذا ما قورنت بالدراسات الفرنسية والإسبانية، إلا أنها كانت إضافة نوعية، أثبتت حضور بريطانيا في هذا المجال من الدراسات.
– عمومًا، تعتبر المدرسة الاستشراقية البريطانية جزءًا من النظرة الغربية العامة تجاه الأندلس، تتفق معها في أشياء، وقد تفترق في أخرى.
– أن المستشرقين الإنجليز الذين تناولوا الأندلس عمومًا، لم يكن التخصص الدقيق لغالبيتهم هو الدراسات الأندلسية، وإنما هم في الغالب من المستشرقين والمستعربين المهتمين عامة بالدراسات العربية والإسلامية.
– أن النشاط الاستعماري لبريطانيا، أثّرَ في توجهات المستعربين البريطانيين ومساهماتهم العلمية، مما جعل إنتاجهم أقل بكثير مما أنتجه المستعربون الفرنسيون والإسبان فيما يتعلق بالأندلس، وهذه إشارة قوية للعلاقة الوثيقة بين الاتجاه السياسي للدولة، وتأثيره على جهود الباحثين المنتمين له.


والقارئ سيجد متعة في قراءة واستكشاف تاريخ الدراسات العربية عمومًا في بريطانيا بين دفتي هذا الكتاب، فالباحثة الخطيب اهتمت في كتابها بأن تقدم إضاءات كاشفة على تاريخ الاهتمامات البريطانية بدراسة اللغة العربية، ودوافع هذه الاهتمامات، وصورها ومجالاتها، كما أنها تناولت موضوعًا مهمًا وهو جمع المخطوطات العربية في بريطانيا وفهرستها.
وعند العودة لموضوع الكتاب الرئيس، تجد الباحثة أن أهم القضايا التي شاركت المدرسة البريطانية في مناقشتها في الدراسات الأندلسية تقع في ثلاثة مجالات تكاد تكون قريبة، وهي:
– التأريخ للأدب الأندلسي.
– الأثر العربي في الآداب الأوروبية.
– الموشحات والأزجال الأندلسية.
وتُفصِّل الحديث عند مناقشتها لاتجاهات الباحثين البريطانيين ومواقفهم من هذه القضايا الثلاث، وتذكر بعض المعارك العلمية التي دارت رحاها بين الفرق العلمية الأوروبية التي تباينت رؤاها حول كل قضية.

باختصار الكتاب يعد ذات قيمة حقيقية فيما يتعلق بالاستشراق البريطاني عمومًا، ورغم قلة الإنتاج البريطاني المتعلق بالأندلس، إلا أن هذا لا ينفي الدور المبكر للمستعربين البريطانيين في تناول الأدب الأندلسي، بالتحقيق والترجمة والفهرسة وغيرها من النشاطات العلمية.

الجمعة، 22 مايو 2015

شهادة مؤثرة في فقيد الأدب العربي أستاذنا الدكتور ناصر الدين الأسد...للدكتور وليد سيف

قد أتعب الرؤساء من بعده. فكان أول عصور الجامعة عصرها الذهبي تحت رئاسته. ولم يكن بعد التمام إلا النقصان!
وليد سيف وشهادة مؤثرة في فقيد الأدب العربي أستاذنا الدكتور ناصر الدين الأسد:

كان من حظ الجامعة أن يكون مؤسسها رجلاً كبيراً وعالماً موسوعي الثقافة في اللغة العربية وآدابها. وقد أوتي من سحر البيان ما إن تحدث أطرب سامعه حتى كاد أن يشغله ببلاغة اللسان عن المسألة التي جاءه فيها. ولقد رأيت من علماء العربية وأدبائها من يجيد الكتابة, فإذا تحدث شفاهاً خيب ظنك. أما ناصر الدين الأسد فلا يكافئ أسلوبه في الكتابة إلا أسلوبه في الكلام. وكانت الفصحى البليغة تجري على لسانه عفواً دون تكلف, يزيد من جمالها وتأثيرها صوت جهوري فخم. فإذا أضيف إلى هذا كله قامة منتصبة وسمت مهيب وحضور قوي آسر, فقد اكتملت له آلة التأثير.
كان قوي الشخصية من غير غلظة, وليناً هيناً شديد التأدب من غير ضعف. فأسس الجامعة بمزاج من العقل والحكمة والهيبة والتودد واحترام الآخرين ولذلك أجمع الناس؛ أساتذة وطلبةَ وإداريين على محبته وتقديره وإجلاله, لذاته قبل منصبه. فقد كبر المنصب به أكثر مما كبر هو بالمنصب. 
وفضلاً عن دوره القيادي في تأسيس الجامعة إدارة وأقساماً وكليات وبرامج دراسية, فقد كان له الفضل مع نخبة السابقين معه في صيانة التقاليد والقيم الجامعية التي صار لها طابع كوني, ومن ذلك " قدسية " الحرم الجامعي أن تستبيحه قوة من خارجه مهما يكن الظرف, واستقلال الجامعة عن الإملاءات الخارجية وحق الطلبة في الحراك السياسي والفكري والأنشطة العامة في إطار الأنظمة والقوانين دون تدخل من أحد, وحقهم في المشاركة في شؤون الجامعة التي تخصهم من خلال مجلس منتخب بأسلوب ديموقراطي حر. 
وقد ظل ناصر الدين الأسد أميناً على هذه القيم والتقاليد حتى في أكثر الظروف السياسية قلقاً واضطراباً في الأعوام الثلاثة التي أعقبت هزيمة حزيران عام 1967, وما شهدته من صعود المقاومة وحراك الفصائل المختلفة في الوسط الطلابي, وما أفضت إليه هذه التحولات من توترات أمنية انتهت بكارثة " أيلول الأسود " عام 1970. 
على الرغم من تلك الضغوط الهائلة, تمكن ناصر الدين الأسد من حماية استقلال الجامعة ومنع حرمها, واستمر في الوقت نفسه في ترشيد الحراك الطلابي المتصاعد بالحكمة والموعظة الأبوية الحسنة والتفاهم والتواصل والحجة والإقناع والمودة. فلم تحمله الظروف الضاغطة يوماً على خلع جلده الحضاري الأكاديمي, ليكشف عن وجه السلطة الفظة. فأثبت بذلك أن أخلاقه النبيلة طبع متأصل فيه لا مظهر خارجي يتجمّل به في ترف الظروف العادية الهادئة. 
وفي ظني وتقديري أنه لم يستقل من رئاسة الجامعة بعد زهاء ثمانية أعوام من ولايته الأولى لها إلا حين تبين له أن الظروف السياسية والأمنية العامة عقب أيلول من عام 1970, قد تعدت قدرته على إدارة الجامعة بطريقة متوازنة تحفظ عليها استقلالها وتقاليدها.
كان عروبياً أصيلا بدون ضجيج الشعارات الثورية الرنانة, ومسلماً وسطياً منافحاً عن تراثه الإسلامي وهويته الحضارية. وأشهد أنه قد برئ بتكوينه الفكري ومزاجه الشخصي من أية شبهة من شبهات التحيز الجهوي أو التعصب الديني والمذهبي. فكان الجميع عنده سواء, لا يتفاضلون إلا بالكفاءة وحسن الخلق. فلم يكن غريباً أن يحظى باحترام الجميع ومودتهم على اختلاف منابتهم وخلفياتهم العقدية والسياسية والاجتماعية. 
كان يحلو له أن يخرج من مكتبه في الجامعة ليتجول في طرقاتها وساحاتها بين الطلبة, فيتوقف مع هذا أو ذاك في حوار قصير وتعليق ظريف. فيستشعر الطلبة قربه منهم على ما فيه من هيبة. فيزداودن له حباً وتقديراً. وكان يعرفني بشخصي وأنا بعد في السنة الأولى. فإذا رآني توجه إلي فحيا وسأل واستفسر, وربما أطرى على نص منشور لي, وبشرني بمستقبل زاهر في مجالات الإبداع الأدبي والأكاديمي. وقد يذكر عمي محمود إبراهيم, زميله في الجامعة وفي قسم اللغة العربية وآدابها, ثم يذكر خالي الطبيب محمد صقوري الذي درس معه في الكلية العربية بالقدس, قبل أن ينتقل كلاهما للدراسة الجامعية في القاهرة, فاختار خالي الطب ونبغ فيه ثم أقام وعمل في الكويت واختار هو الآداب ونبغ فيها. وما يزال كتابه " مصادر الشعر الجاهلي " أثراً كلاسيكياً عظيماً. فلا يذكر طه حسين وكتابه " في الأدب الجاهلي " ونظريته في النحل والانتحال, إلا ويذكر معه " مصادر الشعر الجاهلي " الذي لم يؤلف خير منه في وضع المعايير العلمية الصارمة لتحقيق الشعر الجاهلي وتوثيق مصادره ونقد روايته وتمييز صحيحه من منحوله, حتى ليصح فيه القول " قطعت جهيزة قول كل خطيب". لا أجد طريقة لإنصاف ذلك الرجل الكبير أفضل من القول : قد أتعب الرؤساء من بعده. فكان أول عصور الجامعة عصرها الذهبي تحت رئاسته. ولم يكن بعد التمام إلا النقصان!
ولا حول ولا قوة إلا بالله .
وأذكر من سحر بيانه وقوة لسانه موقفاً طريفاً وقع لنا معه. كنا طائفة من الطلبة النشطاء سياسياً. وقد احتجزت الأجهزة الأمنية بعضنا. فعزمنا على التظاهر والدعوة إلى الإضراب عن الدراسة حتى يفرج عن المحبوسين. وعلم الرئيس بذلك، فدعا إلى لقاء عام معه في مدرج سمير الرفاعي. فاجتمعنا قبل اللقاء لنوحّد موقفنا ونتواصى به. فقال قائلنا: لا يفتننكم ناصر الدين الأسد بسحر بيانه وبلاغة لسانه وحلاوة كلامه عن أنفسكم وما أنتم عازمون عليه. فاصبروا على موقفكم ولا تتفرقوا أشتاتاً يخذل بعضكم بعضاً ويتناقص بعضكم بعضاً، فتفشلوا وتذهب ريحكم. ثم مضينا إلى اللقاء نتذامر. وما هي حتى دخل الأسد وصعد المسرح. واتجهت إليه الأنظار وعم الصمت في انتظار كلامه فلا تسمع إلا همسا. وكان من عادته إذا اعتلى المسرح ليخاطب الجمع، أن يبدأ فيثني مكبر الصوت ثم ينحّيه جانباً. فما حاجة الأسد ذي الصوت الجهير إلى آلة تعينه؟ ثم بدأ خطابه بالثناء على دوافعنا وغاياتنا التي هي عين دوافعه وغاياته وإن اختلفت الوسائل. وأكد لنا أنه يبيت الليل أرقاً على " أبنائه " المحتجزين كأنما كحلت عينه بعوار. ولو أن ولده " بِشراً " كان مكانهم لما حمل همه أكثر مما يحمل من هم هؤلاء، وأنه لن يطيب له عين ولن يغمض له جفن ولن يدّخر جهداً ولا دالّة له عند الدولة حتى يفرج عنهم ويعودوا إلى مقاعد الدراسة معززين مكرمين رافعي رؤوسهم لا يضرّهم ما فاتهم من الدراسة.
فهل يجد له من أبنائه الطلبة على الحق معيناً؟ وليس الإضراب عن الدراسة بمبلغهم شيئاً مما يطلبون ويطلب، وما هم بضارين من أحدٍ إلا أنفسهم وجهودهم المبذولة الموصولة، فهم بذلك كجادع أنفه بيده ليغيظ غيره .
وما زال يتحدث متنقلاً بين حجة القلب وحجة العقل، حتى استلّ سخينة الصدور وأتى بالطلبة إلى رأيه طائعين. فما أدرك القوم أنه ألقى عليهم من سحره حتى خرجوا من اللقاء، ونظر بعضهم في وجوه بعض: أهذا الذي تواصيتم به؟ 
ولكن ، لم يكن ثمّة سبيل للرجوع. فقد أعطوا وعودهم لقاء وعوده، وكان الرجل صادق الوعد! 
عن الشاهد المشهود لوليد سيف

الخميس، 21 مايو 2015

كلمات في وفاة أستاذنا د.ناصر الدين الأسد


"إنّا لله وإنّا إليه راجعون"

... كان لقائي الأول مع أستاذنا العلّامة ناصر الدين الأسد في المحاضرة الأولى لي في دراستي الدكتوراه خريف عام 2005، تلك المحاضرة التي وصلتُها متأخرة، فلم تكن أولياتُ اللقاء لطيفة؛ لتقصيري في الانضباط على الوقت.
لكن اللقاءات الدراسية ما لبثت أن تتالت، حتى صارت في قلبي هي سويعاتُ المتعة المعرفية الخالصة، أفدْنا فيها من أستاذنا الكبير فائدة لا يقدر على نكرانها إلا جاحد.
ومن تلك المتع التي ما زالت في خيالي عن محاضرات أستاذي الفاضل -رحمه الله- تلك الأناقةُ الواضحة لهذا الأستاذ الذي لا تكاد تفارق وجهَه روحُ الشباب وشبابُ القلب، وتلك الذاكرة المتّقدة التي طالما أخجلَتْنا أمام أنفسنا، ونحن في يفاعةٍ، ولمَّا نبلغ من العمر نصفَ ما بلغ أستاذنا، فكُنّا نعجز أحياناً عن استدراك ما يتبقى من أشطار أشعار تُلقى في أثناء الدرس، أو استحضار أسماءٍ غابت في سطور تراثنا الذي آمن به ودافع عن أصالته ووجوده.
كثيرةٌ ما هي المواقفُ التي اختزنَتْها الذاكرةُ من لقاءات أستاذنا الكبير، وكثيرةٌ ما هي المواقف التي يحفظها الطلابُ عادةً عن أساتذتهم، تفوق ما قد يتعلمونه منهم من علومٍ قيَّدتْها القراطيس وحوتْها السطور.. لأنَّ العالِمَ قدوةٌ بين طلبته، ومشعل على ضوئه يهتدون. 

ورُبَّ إشارةٍ عابرة أو لفتةٍ عفوية أو حتى مجرد مظهرٍ أنيق أو كلمةٍ رفيقة- يكون لها وقعُ السحر في نفس تلميذٍ ما زال يأخذ عن أستاذه ما لم يقله في مجلس وكتاب، أو دوَّنه في سطور وصفحات.

تعلمتُ منك الكثير أستاذي في تلك الشهور الأربعة..بما لا أنسى فضله عليَّ حتى آخر عمري.

***************  

الصورة تجمعني بأستاذي الوفيّ -رحمه الله- ورفيقة عمره ودربه، على هامش تكريمه في رحاب الجامعة الأردنية صيف 2011

الثلاثاء، 28 أبريل 2015

حجابي في حياتي (3)

انقضت السنواتُ التي أنفقتُها في إدنبرة، حملتُ ما بقي لي من العمر في طريق العودة إلى البلاد، بلادنا العربية الإسلامية، التي لم يكن خَطَرَ على قلبي من قبلُ أنها قد ترى - يوماً- في الحجاب تهديداً لقيم الحرية، أو سَـمِّه ما شئت مما صرنا نختبره من حينٍ لآخر في بلادنا على امتدادها.
وكيف يخطر على القلب أن الحجابَ في بلاد الإسلام وفي بلاد المسلمين يمكن أنْ يصبح مسألةً فيها نظر؟! وأنْ يصبح مسألةً خاضعةً للنقاش ولاتخاذ موقفٍ نحوك بسببه؟! أعترفُ أنَّ هذا شيءٌ تجاوَزَ تصوري آنذاك.
ولا يقع في نفسك أيها القارئ أنني أحدِّثك عن دولةٍ تحارب الحجابَ مثلاً وتمنعه وتزدريه قانوناً وعُرفا، بل عن بلادٍ ما زال الحجابُ فيها منتشراً –بحمدالله- لأسبابٍ تتراوح بين الإكراه والرضا، بين التديُّن الحقيقي والزائف، بين التقوى والتقاليد، وبين أشياء وأشياء أكبر.
ثمة مسألةٌ أخرى قد لا يختبرها الجميعُ في أمر حجاب المرأة هي مشاركتها العامة وتقدمها العلمي والمهني. إنَّ امرأةً محجبةً -مجاراةً للعادات أو التزاماً بالدين- قنعت بالجلوس في البيت والقيام على تربية الأولاد والانسحاب من الحياة العامة، على عِظَم هذا الدور وأهميته، فإنه لن يعترض سبيلَها أصحابُ الدعوات التي ترفض الحجاب وتتصدى لانتشاره، وربما لا تثير أمثالُها انتباهَهم. أما الذي يؤلم حقاً فهو تلك الحربُ الخفية التي تواجهها خياراتُ النساء المتميزات علمياً ومهنياً بل حتى وجمالياً، اللائي يخترْنَ الحجاب بكامل إرادتهنّ، ويعبِّرْنَ عن هذا الاختيار الحرِّ علناً.. فلا يقدرُ عقلُ أولئك الذين قد لا يستوعبون أن المرأة يمكن لها أن تكون ناجحة ومتعلمة وجميلة... وفي الوقت نفسه تُقبِلُ على اختيار الحجاب بملءِ إرادة قلبِها إيماناً. وهذا يعيدُنا إلى مسألةٍ قديمةٍ جديدة: لَبوس العلم ولبوس الإيمان: لماذا يجب أن نراهما على طرفَيْ نقيض؟! على الرغم من أن الحياة نفسَها هي روحٌ وجسد، عَرَضٌ وجوهر، قلبٌ وعقل.
وتحضرني هنا الحادثةُ التي مرَّ بها الرحالةُ الأندلسي الموريسكي أفوقاي في القرن السابع عشر، لقد كان أفوقاي واسعَ الثقافة والاطلاع، متحدثاً بلغاتٍ عديدة، لبقاً دبلوماسياً، تجتمع فيه صفاتُ الـ(جنتلمان)! وإلى جانب ذلك كله كان فقيهاً عالماً حافظاً للقرآن، تــنــقَّل سفيراً للمغرب في بعض الدول الأوروبية، وفي أثناء زيارته لأحد الأديرة في فرنسا قيل له بعد نقاشات وحوارات: " تعجَّبْنا منكَ؛ تحفظُ الألسن، وتقرأ الكتب، وسِرْتَ في المدن وأقطار الدنيا، ومع هذا تكون مسلماً؟!" وكأن تعدد اللغات والمعارف، أو سِعَة الأفق والثقافة، أو السياحة في أقطار المعمورة، لا يـتـناسـب مقامُها والإسلامَ أو المسلمين؟!!
هذه الحادثة التي تنتمي إلى القرن السابع عشر، لا تختلفُ عن حادثةٍ تنتمي إلى القرن الحادي والعشرين؛ فقد كنتُ في الاستماع لبرنامج الشريعة والحياة على قناة الجزيرة منذ ما يزيد على عشر سنوات، من تقديم المرحوم ماهر عبدالله وضيافة الشيخ يوسف القرضاوي، حين ردَّ المقدم على تساؤل أحد المشاهدين: لماذا لا تكونُ في الجزيرة مذيعاتٌ محجبات؟ فتعلَّل المذيعُ الشاب بأن العملَ الإعلاميَّ يحتاج إلى دراسات جامعية وخبرات عملية، وإتقان لغات ومهارات.... وغير ذلك. وحين كان يعدِّد المؤهلات المطلوبة في المذيعات كنتُ أسائلُ نفسي: هل عدمت النساء أن تكون بينهنّ (محجبةٌ) تحمل مثل هذه المؤهلات (غير المستحيلة)؟!
وكأني بالفكرة نفسها التي صادفها أفوقاي في فرنسا منذ ثلاثمئة سنة هي هي لم تتغير: المرأةُ المحجبة المؤمنة لا يمكن أن يُتصوَّر أنها تكونُ صاحبةَ مؤهلاتٍ عصرية، وكأنَّ الحجابَ معناه أن أعيش خارج هذا الزمان!.
لكنْ وللحق.... إننا بحمدِ الله ما نزال ننعم في بلادنا بقبولٍ اجتماعي للحجاب وانتشار، لا أسأل كثيراً ما هي أسسه: هل هو تقليد اجتماعي أم عقيدة إيمانية، أو حتى لغايات إجرامية؟!
لكلِّ ما سبق، ما خطرَ على قلبي في يومٍ أن يكون الحجابُ حين تخوض المرأةُ سباقَ الترقي الوظيفي، أو التعليمي- عقبةً، هي أصعبُ أحياناً من الوصول للهدف العملي أو العلمي المبتغى.



***
عدتُ إلى مقاعد الدراسة من جديد والتحقتُ ببرنامج دكتوراه اللغة العربية في الجامعة الأردنية، وأقسامُ اللغة العربية تغلب عليها صفةُ (المحافظة) طلبةً وأساتذة؛ ربما هي هيبةُ اللغة االعربية المستمدة من هيبة القرآن الكريم انتقلت كذلك إلى المقبلين على دراستها والاشتغال بها.
في أثناء الدراسة اضطررنا لحضور دروس الأدب في بيت الأستاذ نظراً لظروفه الصحية، كان أستاذُنا الفاضل حاضراً لاستقبالنا في بيته كل أسبوع، وسأترك الحديث عن مشاعر الجلوس إلى الشيوخ والعلماء في بيوتهم الخاصة ومكتباتهم الحميمة إلى وقت آخر، فهو شعور لا يدانيه شعور.
الحجابُ ليس مجرد قطعة قماش بها تغطي المرأةُ شعرَها وجسدها، بل إنَّ له من المعاني القلبية اللطيفة التي لا يسعها إلا حسُّ التي تراه كذلك، وقد كان عهدي منذ ارتديتُ الحجاب أنْ أحاول إلزامَ نفسي بحدوده رغم عيوبي الكثيرة ونواقصي الأكثر، ومن تلك الحدود عدم المصافحة، وكان أستاذُنا يستقبلنا كل أسبوع جالساً في مقعده مرحِّباً بنا حال وصولنا. فيسلِّم عليه الزملاءُ الشباب وينحنون لمصافحته .. وحين يأتي دوري أسلِّمُ عليه بالكلام مع انحناءة احترام وإكبار، ولكن لا أمدُّ له يدا، ولم يكن يعجبه ذلك مني، وقد أبدى نوعاً من الامتعاض من هذه العادة التي ما زال بعضُ الناس يتمسك بها في زمننا! وأنا شخصياً أتعرض لهذا الامتعاض من كثيرين لعدم المصافحة، وهو شيء أتقبله أحياناً بروحٍ رياضية خاصة من الكُبَراء مقاماً وعلماً ومنزلة. وأحياناً أخرى بنوعٍ من الجفوة التي يخلقها عدم قبول الآخرين لاختياري هذا؛ ففي النهاية وفق منطقهم في الحرية: هذا جسدي ولي مطلق الحرية في منع الآخرين منه حتى ولو بمصافحة! لهذا كنتُ في الغالب أعُدُّ هذا الامتعاض والتعليقات – منه ومن غيره- مجرد مداعبات يمكن احتمالها وعدم التوقف عندها.... حتى مضى الفصلُ الدراسي وحلَّت المحاضرةُ الأخيرة، وعندما انتهينا قمنا لمغادرة المكان فسلَّم الزملاءُ على أستاذنا الشيخ، وحين جاء دوري قال لي بلهجةٍ أبويةٍ معاتِبة جادة: "والله مش عارف كيف بدِّك تصيري دكتورة وأنتِ ما بتسلِّمي"!!.
 لامسَتْ عبارتُه مسمعي، ومضيتُ لأركب سيارتي عائدةً إلى منزلي مضطربةً ذاهلة!! ويا للمفارقة أنّ عبارتَه تلك ظلّت تقفز إلى ذهني في كل مناسبةٍ تجمعني وزملائي حين صرتُ (دكتورة)، وظلّت عبارتُه في عقلي تروح وتجيء، وأنا أقول: لماذا لا يقبَلُ الناسُ أنَّ امرأةً يمكن لها أن تكونَ رفيعةَ التعليم أو رفيعة الوظيفة، وفي الوقت نفسه مقتـنعةً بما تؤمن به من دينها؟ لماذا يجب أن تتناقضَ صورةُ أهلِ العلم وأهل الإيمان؟؟! لماذا يجب أن يكون أهلُ الإيمان دوماً في خندقٍ مقابل أهل العلم؟؟ ألا يلتقيان؟! ألا توجد سبيلٌ توافقية بينهما؟ ألا نتغنَّى ليلَ نهار بابن رشد الذي سرقَتْه منّا أوروبا، ونندبُ إحراقَنا كلماتِه، وعقلانيته، فلمَ لا نتغنَّى بـ ما بين الحكمة والشريعة من الاتصال؟!
ولمَ لا يقنعُ أصحابُنا من أهلِ العقل والفكر والحرية- أن التديُّنَ بمختلف مظاهره وطقوسه قد يزورُ قلوبَ العلماء ويطيبُ له المقامُ فيها؟ بل إنَّ اللهَ نفسَه يُخشى من عبادِه العلماءِ هؤلاء، الذين يَعمُرُ العلمُ قلوبَهم وأرواحَهم قبل عقولهم، ويرون في كل ذرة  في الكون صورةً من عظمة الله وبديع قدرته، وأنَّ الإيمانَ بالله ومحاولةَ اتباعِ أوامره واجتناب نواهيه من أهل العلم، يعني أنْ نعبدَ الله على يقين، لا على مجرد خوفٍ أو طمع!
لهذا لا أنسى تلك الأمسيةَ التي جمعتْني وصديقةً رفيعةَ القدْرِ علمياً وثقافياً، وتختلف عني –تماماً- عقائدياً، وقد كنتُ بانفعالٍ أحدِّثها ولا أعِظُها، كيف أنني أستشعرُ في كلِّ وضوءٍ ما علَّمنا رسولُنا -صلى الله عليه وسلم- أنَّ الخطايا تخرجُ حينَ الوضوءِ من الجسد حتى لتخرج مع آخر قطرة ماء من تحت الأظافر، وأنني أستشعرُ أنَّ الذنوبَ تتساقطُ حين الركوع وحين السجود عن عاتـقَيْ المصلِّي وعن رأسِه؛ حيث يُؤتَى بالذنوبِ إلى الرأس والكتفيْن في كلِّ صلاة، فسارعتْ صديقتي إلى تأنيبي: "لا تقولي هكذا كلام! أنتِ امرأةٌ مثقفة متعلمة"!! وهي التي حين هنَّأتْــني بحصولي على الدكتوراه، قالت –وأظنها لم تكن تمزح-: " خلص! الآن صرتِ دكتورة، إذن ...... اخلعي الحجاب!".
لماذا يستهجن كثيرون يقينَ الإيمان في قلبك، ومظاهرَهُ في جوارحك إذا كنتَ ممن قطعوا شوطاً من التحصيل العلمي؟! ألهذه الدرجة صرنا نعبدُ إلهَ العقل وإلهَ العلم، حتى كفرْنا بالروح وبالغيب؟ وهي في وجهٍ من الوجوه صورةُ العقل الذي إليه يحتكمون.
ولماذا حين تلتقي في المحافل العلمية بقاماتٍ لامعةٍ أسماؤها في عالم الأكاديميا العربية أو العالمية، كنتَ تحلم طوال عمرك بلقياهم على الأرض لا على الورق فقط- لماذا تصدمك حقيقة كم هم من الإيمان بعيدون، وكم هم من الهزء بمظاهره قريبون؟ خاصة مظهر الحجاب.
لماذا وهم الذين يدَّعون الحريةَ والليبرالية وقبولَ الآخر المختلف؟ لماذا عندما يصل الأمرُ إلى الحجاب أو مظاهرِ التديُّن إجمالاً- لا يعرفون من الليبرالية إلا قشرة فارغة! وتصدمك كذلك تصريحاتُ بعضِهم على مرأىً منكَ ومسمع، إذا حدَّثوا بأخبارِ الكاتب الفلاني قالوا بتلقائية: "أمعقولٌ أن هذا فلان الفلاني الكاتب المعروف بـكذا وكذا وتكونُ زوجتُه محجَّبة؟!".... تماماً كما لو أنهم يقولون إنها عاهرةٌ أو وضيعة الأخلاق. وكأنَّما أمسى الحجابُ تهمةً على المرأة أن تدفعَها عن نفسها، كما تدفعُ النارَ الحارقة، أو تدفعُ الأذى الصريحَ بإلقائه بعيدا، أو التخلص منه بأي ثمن!
كثيرةٌ هي المواقفُ التي تمرُّ في حياة المحجَّبات المتميزات علمياً ومهنياً واجتماعياً..، اللواتي كان الحجابُ قراراً نابعاً عن اختيارهن الحر وقناعاتهنّ الشخصية، ولم يكن لهنّ يوماً عائقاً في دروب التميز العلمي أو المهني أو الاجتماعي، وربما تملكُ كلُّ واحدةٍ منهنّ تجربتَها التي تعرضُها على الآخرين لتقولَ فيها إن الحجابَ لا يغطي عقل المرأة ولا روحَها، وإن ارتداءَه هو دليل عافية لا دليلَ مرض. ونجاحهنّ هو خير شاهد على حصافة اختيارهنّ.
 



الثلاثاء، 21 أبريل 2015

حجابي في حياتي (2)

من الأشياء الحلوة التي ما زلتُ أحتفظُ بها لمدينة إدنبرة في نفسي- احتضانُ المدينة للغرباء، وتفكير أهلها والجامعة بأشياء كثيرة يحتاجها الطالبُ الجامعي الذي تغرَّب عن بلاده ليطلب العلمَ في بلادهم.
ونادي السيداتWomen`s Club  هو واحدٌ من تلك الأشياء، كان اكتشافاً ظريفاً دلَّتْني عليه إحدى الصديقاتِ العربيات المقيمات في المدينة، وهو نادٍ يقوم على فكرةٍ قابلةٍ للتنفيذ في أيّ زمان وبكل مكان إذا توافرت القلوبُ والإرادة، إنه ببساطة نشاطٌ اجتماعي أسبوعي تقدمه بعضُ المتطوعات لمساعدة زوجات الطلبة الأجانب الدارسين في الجامعة- على قضاءٍ وقت مفيد صباح كل ثلاثاء، ويساعدهنّ في معرفة أسرار المكان وعادات أهله والاطلاع على أنشطة وبرامج منوَّعة تنتشر في المدينة... باختصار إنه شيء جديد لم نعرف مثله في بلادنا!
سررتُ جداً لهذا الاكتشاف؛ خاصة أنّه يضم حضانة، وكان أطفالي صغاراً، مما يسمح للأم أن تقضي نحو ساعتيْن –وهي مطمئنة- في أنشطةٍ لتعلُّم اللغة والثقافة الإنجليزية، فيما يقضي أطفالُها وقتهم يلعبون ويتعلمون في غرفةٍ أخرى بعيداً عن الأمهات.
في النادي كانت هناك زوجات لطلبةٍ من أدنى الأرض إلى أقصاها، وكنتُ في الحقيقة تهيَّبْتُ أولَ الأمر من كوني عربية مسلمة؛ نظراً للصورة النمطية السائدة في العالم عن بلادنا، فما بالك بالصورة النمطية عن امرأة من تلك البلاد، وفوق ذلك محجَّبة؟! لكني استجمعتُ قواي واندفعتُ إلى النادي بانتظام استمر لأكثر من سنتيْن رائعتيْن.
كان الحجابُ اللافتةَ الأولى التي تعرِّفُني للأخريات، فالجميع هنا – وأنا منهنّ- يرتدين الملابس الأوروبية الدارجة، كالقميص والجاكيت والتنورة والبنطلون، لكن حجابي يجعلني مختلفة، فيما كان بالإمكان تمييز اختلاف الأخريات بسهولة؛ فمن كانت من اليابان والصين بالعيون مثلا، ومن كانت من أفريقيا بلون البشرة، ومن كانت من غيرها بالملابس التقليدية...وهكذا.
تلك كانت سبيلُ الوهلة الأولى للممايزة بين السيدات في النادي، وهي حقيقةٌ لا يمكن إنكارها حتى لدى أكثر الناس انفتاحاً على الآخر؛ فما زال للون وللمواصفات الجسدية الفارقة بين الأجناس البشرية- منزلة مقدمة لهذا التمايز، دون قصد أحياناً، وإنْ كانت تبقى في الخاطر، وفي الغالب لا تَعْدوها.    
كنتُ أعي الصورةَ النمطيةَ التي تحملها هؤلاء عن العرب والمسلمين عامة، وعن نسائهم خاصة، لذا حرصتُ دوماً بقصد وبغير قصد، على تقديم الصورة التي تَحكينا حقيقةً أمامهنّ: بشراً لا ملائكة ولا شياطين! لكنّ ذلك ما كان ليعفيني من مواقف طريفة ومؤلمة كان للحجاب يدٌ فيها.

( الحجابُ قهر).. هذه فكرةٌ سائدةٌ عنه حتى في بلادنا؛ هو نوع من العنف يمارَس تجاه المرأة، ويستحق بسببه أن تُلاحِق المحجبةَ نظراتُ الشفقة من هذا الظلم الواقع عليها؛ حين يرى كثير من النخبة والعامة أنّ الحجاب صورةٌ من صور القهر الاجتماعي أو الديني، لهذا كانت الدروس الأولى التي حضرتُها في النادي موتورة، حتى أخذت النسوةُ الحاضرات يعتَدْنَ وجودَ هذه المختلفةِ بينهنّ على طاولة واحدة، وأنها كغيرها -رغم حجابها- امرأةٌ من هذا الكوكب، لا قطعةً سقطت من الفضاء!
كنتُ أحرص على خلع غطاء الرأس حين يكون الحضورُ نسائياً فقط؛ وقد احتجتُ أن أمسح حيرتهنّ من هذا التصرف بشرحٍ موجز لفكرة الحجاب في الإسلام وفرضية ارتدائه أمام الأجانب من الرجال، سواء في الشارع أو في البيت، وأنّ المسلمة كغيرها من نساء الأرض تحيا.. تتجمل.. تتأنق.. تعتني بجسدها وبعقلها وبروحها، والحجابُ لا يمنع شيئا من هذا، ولكنْ ينظمه ضمن ضوابط.
كانت مسز ويندي -مدرِّسةُ اللغة الإنجليزية- سيدةً لطيفة، ذات بشرة بيضاء، وشعر فضي، وعينين زرقاويْن، وأناقةٍ كلاسيكية محببةٍ إلى قلبي، وقد أحسستُ أنني حجزتُ مكاناً لي في خاطرها، إنْ لم يكن لأجل المحبة خالصاً، فلأجل فضولٍ تملَّكَها تجاه هذه المرأة المحجبة القادمة من بلاد ألف ليلة وليلة.
 وفي أحد صباحات الثلاثاء المشمسة في تلك المدينة التي لا ترى الشمس إلا قليلا، كنّا نجلس قرب النافذة الواسعة (الجورجية) الطراز، وقد اعتدنا من معلمتنا في كلِّ جلسة أن تحضِّر لنا مجموعةً من التمرينات اللغوية تصقل مهارات التواصل العامة بالإنجليزية، ومازلتُ أذكر من ذلك  التمرين مثاليْن كان الأولُّ منهما عن قصة سندريلّلا.... عندما التفتت المسز ويندي ونحن جلوسٌ بين يديها، التفتتْ إليّ دون بقية السيدات معنا في المجموعة -وكان من بينهنّ اليابانية والتشيكية والمكسيكية والصينية..- لتسألني بملامحَ جَديَّة تبدو على وجهها: هل تعرفين سندريلّلا؟؟!! فوجَّهْتُ إليها النظرةَ الجديةَ ذاتَها وردَدْتُ على سؤالها الاستفهامي بسؤالٍ استنكاري ملءَ فمي: وهل هناك أحدٌ في الدنيا لا يعرف قصةَ سندريلّلا؟!!! وحالي يقول بعاميةٍ ساخرةٍ في سرِّي: "هيَّ بتِحكي عن جَدّ ولّا بتِحكي عن جَدّ؟!".
ثم مرَّت جملةٌ أخرى عن لاعبي يوفنتوس، فالتفتتْ إليّ المسز ويندي مرة أخرى بالجدية نفسها البادية على وجهها، لتسألني: هل تعرفين ما هو يوفنتوس؟؟ وعلى الرغم من أني لستُ متابِعةً جيدةً  لدوري كرة القدم عالمياً ولا حتى محلياً، إلا أنني ردَدْتُ على الاستفهام باستنكار وتقرير: نعم أعرفه!! إنه النادي الرياضي الإيطالي المشهور.

هذا موقف طريف ومؤلم في آنٍ معاً، ما زلتُ أعاني منه، فتلك النظرةُ التي ترمينا بها العيونُ من كل جانب، حتى من بنات جنسنا ومن بنات بلادنا! النظرة التي ترى المحجبةَ امرأةً غابَ عقلُها تحت حجابها لتغدو ساذجةً، بعيدة عن الثقافة، تؤمن بالغيب، تركن إلى الدين مسطرةً تقيس بها الأمور، لا تعرف من أمور حاضرها إلا توافه وقشورا.
كنتُ أرى الإشفاق تجاهي في عينيّ مسز ويندي أول الأمر، لكني أظن –وبعض الظن الآخر ليس إثماً- أن الصورة النمطية تغيرت في نفسها بأسرعَ مما كنتُ أشتهي، أو على الأقل صورتي أنا، وهي الصورة النمطية التي ينظر فيها كلُّ من لا يؤمن بالحجاب بأن المحجبات واقعات تحت قهر ما يجبرهن على ارتدائه، وأن ارتداءه هو مقدمة ممهِّدة كي يضاف إلى المجتمع عناصر غير فاعلة، ضحلة الثقافة، سطحية التفكير، محدودة الأفق. ومهما اجتهدت النساء المحجبات بنجاحهنّ وتميّزهنّ - ولدينا نماذج لا تُعَدّ – لتغيير هذه الصورة، يبقى لدى بعضهم ما يريدون أن يبقى ضد الحجاب.
استطعتُ بعد مواقف عدة وأحاديث جانبية متعددة في تلك الصباحات، أن أقول لمعلمتي ورفيقاتي- بمظهري وجوهري- إن المحجَّبة هي إنسانٌ كغيرها من نساء هذا الكوكب، لا يعيقها حجابُها عن الحياة، ولا يحوِّلها إلى سامريٍّ لا نقدر على الاقتراب منه.

ثم تعرفتُ إلى مجموعةٍ أخرى مشابهة للنادي، كان المشترك بينهما أنني كنتُ أبحث لأطفالي -في سنّ ما قبل المدرسة- عن بشرٍ يختلطون بهم في أجواء طبيعية، وهم يعيشون في غربةٍ أبعدتْهم عن الأجداد والعائلة الممتدة، التي لا غنى عنها في سبيل نشأة إنسانٍ سوي، وهكذا كان لي في صباحات الأربعاء رفقة صديقتي المصرية –جلسةً خاصة للأطفال في روضة تستقبلهم وأمهاتِهم .. يقضون فيها وقتاً في اللعب والتعلم، وتقضي الأمهات كذلك وقتاً في الاجتماع بأمهات من بلاد أخرى.
كانت الثرثرة النسائية الصباحية تلك، تجذبنا نحن الأمهات إلى مناحي شتى باختلاف الثقافات والمجتمعات التي ننتمي إليها، كانت بيننا الإنجليزية المسيحية، والهندية الهندوسية، واليابانية المجوسية، والباكستانية والعربية المسلمة وغيرها من قوميات وطوائف.. وفي الوقت نفسه تتيح لأطفالنا أن يرسخ فيهم اختلافُ البشر بألوانهم وألسنتهم وعاداتهم.
وفي هذه المجموعة اجتمعْنا مرةً لمرافقة الأطفال في زيارة إلى حديقة الحيوانات التي تشتهر بها إدنبرة، وكانت إلى جانبي المشرفة الإنجليزية فتجاذبنا أطراف الحديث عن الطبيعة الأخّاذة للمدينة في ذلك الصيف الربيعي، وقادتْنا أحاديثنا إلى فن الرسم الذي كانت لي فيه تجربة أيام الشباب الأولى، وأخذتُ أشرح لها تجربتي وميولي الفنية ومنها إعجابي الشديد بأعمال المدرسة السريالية، ورائدها سلفادور دالي و و و... وحين نطقتُ اسم دالي واسم مدرسته، التفتتْ المشرفةُ إليّ ووجمت، ثم أردفت: وهل لديكِ أنتِ فكرة عما هي السريالية؟؟ وما وراءَ خطابِها يقول: من أين لامرأةٍ من بلاد العرب والإسلام بحجابها أن تعرفَ هذه المدارسَ الفنيةَ الراقية؟؟!!
حين كنتُ أكلمها عن ميولي الفنية، لم يكن يخطر ببالي سوى محاولة ترتيب كلماتي لتخرج بحُلَّةٍ إنجليزية لائقة، تساعدني على تجاوز عقدة اللغة. لكنَّ وجومَها وسؤالها وحيرتَها أمام هذه المرأة المحجبة القادمة من الشرق، التي من المفترض أنها لا تعرف سوى أعمال البيت وإنجاب الأطفال، أعادني ثانية إلى سؤال الحجاب والآخر، وأعادني مجدَّداً إلى الواقع بأننا نحتاج وقتاً أطول ومعاناةً أشدّ كي نقول إن الحجاب لا يحجب الشمس عن العقول!
قد يرى بعضُهم هذه المسألةَ في سياق النظرة الأوروبية للآخر غير الأوروبي ومن منظور المركز والهامش، في حين إنَّ ذلك يتضاءلُ حقاً لو كنتَ أنتَ في ذلك الحجاب، وكنتَ أنت مع أولئك الآخرين.

وإذا كانَ من عذرٍ ألتمسُهُ للمواقف التي صادفَتْــني في بريطانيا بسبب حجابي، فإن هذا العذرَ لا يعودُ قادراً على إقناعي، حين صادفتْــني مواقفُ شبيهةٌ في بلادنا العربية الإسلامية، التي تعرفُ الحجابَ قبل أن يفرضَه الإسلامُ بقرونٍ متطاولة! ومواقفُ بعضِ خاصَّتِها من الحجابِ أشدُّ بأساً مما قد تلاقيه المحجبةُ في بلادِ مَن لا يعرفون للحجاب سبيلا.


الأحد، 19 أبريل 2015

حجابي في حياتي (1)


في نهاية الأسبوع الاعتيادية التي نقضيها في إربد، لعبتُ مع ابن عمي ذي الثلاث سنوات في شرفة بيتنا الواسعة، وما زالت ابتسامته مطبوعةً في ذاكرتي، بأسنانه البيضاء الصغيرة وشعره الأسود.
 وصل الخبر بعد يومين؛ سقط عليٌّ من الطابق الأول في بيت جدي، ليستقر رأسه الجميل على الرصيف، ويغيب أياماً.. ثم قيل: رحمه الله!
كان رحيله مفاجئاً وحزيناً، جعلني أقرِّر ارتداء الحجاب، وأنا التي أعشق البنطلون وأؤجل فكرة الحجاب وأقول: "سأتركه إلى أن أصيرَ في الأربعين".. وكنتُ أظن الأربعين بعيدة!! فإذا هي تأتيك في عشيةٍ أو ضحاها!
قررتُ ارتداء الحجاب في سنتي الجامعية الثانية، أخبرتُهم بقراري، ولم أسمع إلا من والدي عبارة: "المهم ألا تلبسيه اليوم وتشلحيه بكرة"! هذا فقط كان التوجيه الذي سمعتُه، والبقية تركوا الأمرَ لي. وخلال أيام كنتُ اشتريتُ ملابس مناسبة وأغطية للرأس.. وانتهى!
في الحقيقة حين أفكرُ اليومَ، وأنا على بُعد نحو ربع قرن من ذلك القرار، أجدُني أزدادُ شكراً لله على هذا الرزق، وعلى ذلك القرار؛ فبعضُ القرارات في حياتنا لا تحتمل التأجيل، وتحتاج منكَ أن تكون سريعا.. وحاسما.
لكن الأمر لم ينتهِ بارتداء الحجاب وكفى، كما يعتقد كثيرون، بل إن الحجاب ينمو يوماً فيوماً في نفس المسلمة، ولحظة ارتدائه هي البداية فقط.
 كان ارتداءُ غطاء الرأس والملابس الطويلة- يسيراً نوعاً ما على فتاةٍ مثلي، التزمتْ أداء الصلوات في أوقاتها في أثناء الدراسة الثانوية، بفضل الله وبفضل معلمة التاريخ في الأول الثانوي، جزاها الله عني خيراً في كل ركعةٍ أؤديها، والصلاة تجلو القلوب وتعينُ على الأصعب منها.
كانت تلك الخطوةَ الأولى، وكانت ميسَّرةً إلى حدٍّ كبير؛ لم تواجهها اعتراضاتٌ خارجية من العائلة، ولا انتكاساتٌ فكرية من داخل نفسي، أضف إلى ذلك أن الجوَّ العام في الحياة الجامعية – أواخر عقد الثمانينات وأوائل التسعينات في الجامعة الأردنية– كانت مشجِّعة بصعود نجم الاتجاه الإسلامي.
لم أكن أعلم وقتَها أن الحجاب سيكون اختباراً في محطاتٍ قادمة من عمري...
ولكل فتاة تعتقد أن قرار ارتداء الحجاب وحشر جمال شعرها وجسدها تحت أغطية قماشية، هو الخطوة الأكثر صعوبة والأشد وطأة على نفسها، أقول لها: بل إن ما يلي هو الأصعب والأشد، إنّ ما يلي هو الاختبار الحقيقي لمعنى الحجاب الذي ترتدينه.. ويبدو أنه كلما تقدَّم العمرُ والتجارب بالفتيات الشابات، تزداد الاختباراتُ التي يقعْنَ أمامها بسبب ارتدائهنّ الحجاب.
لم تواجهني طوال حياتي الجامعية الأولى اختباراتٌ حقيقية يفرضها الحجاب، ولم تواجهني كذلك صعوباتٌ تُذكَر حين خروجي إلى الحياة العملية، إلا من باب أن العمل في بلادنا العربية يكون عادةً مقسوماً بين المحجبات وغير المحجبات في المؤسسات المختلفة؛ فيحبِّذ بعضُها المحجبات وبعضها يفضلُهُنّ بلا حجاب، وحتى هذه القسمة تكون خاضعةً هي الأخرى لشروطٍ معينة يتواطأ عليها أصحابُ العمل بمواصفاتٍ خاصة لملابس المحجبات أو لملابس غيرهنّ.
أذكر أنني عملتُ في إحدى دور النشر في بداياتي المهنية، وكان صاحبُ الدار رجلاً ذا هيبة وقدر في نفسي، احترمتُ فيه صراحته حين أبلغني ذات يوم –وقد كنتُ مخطوبة- أنه لا يحب توظيف متزوجات، فأشار عليّ أن أتقدم لمقابلة عملٍ في إحدى المدارس الإسلامية وقد أوصى بي هناك.
ذهبتُ للمقابلة التي لم أوفَّق فيها لسببٍ فهمتُه لاحقاً من صديقتي: "تأتين إلى المقابلة بفستانٍ حريري بلونٍ ورديّ، وتريدين أن تفوزي بالوظيفة بعد كل هذا؟!"
كانت تلك التجربةُ الاختبارَ الأول الذي كان الحجابُ فاصلاً فيه، وهذه تجربةٌ قد تمرُّ بها أخريات، ولا يبقى منها إلا ذكرى، ربما تستدعيها الظروف من حين إلى حين.
ثم حانتْ تجربةٌ أخرى واختبارٌ جديد كان الحجاب فيه حاضرا؛ لكنه لم يكن في سياق الدراسة أو العمل، إنه في سياق المواجهة مع الآخر!
كنتُ انتهيتُ من دراسة الماجستير، وقطعتُ شوطاً من العمل في التدريس، حين انتقلتْ عائلتُنا الصغيرة للإقامة في بريطانيا، وهناك كان للحجاب مذاقٌ آخر لم أعهده في بلادنا العربية، وكان للحجاب تحدياتٌ أخرى ما شعرتُ بمثلها من قبل. للمرة الأولى أشعر بأن الحجاب هو هُويَّتي التي تعرِّفني إلى الآخرين، التي تجعلني متميزة، هُويَّتي التي لا أخجل منها، وهُويَّتي التي أفتخر أنني أتميز بها.
كانت إقامتُنا في مدينة إدنبرة في أقصى الشمال البريطاني، وكأيِّ غريبٍ يحاول أن يشتمَّ رائحة الوطن والأهل في ديار الغربة في كلِّ إشراقةِ شمس، هي هي الشمسُ التي أشرقت منذ قليل على بلادي تشرق الآن أمام عينيّ هنا، هو هو النسيمُ المسافرُ عبر المسافات يحمل عبقَ البلاد ورائحة أهلها يمر أمام بيتي، كنتُ أسيرُ في شوارع المدينة الجديدة بحجابي، الذي لم يكن يثير فضولاً ولا استغراباً لدى سكانها؛ لأننا كنا نسكن المنطقة المحيطة بالجامعة، وهي تضمُّ طلبةً من وراء البحار، وفيهم نسبةٌ معقولة من المسلمين وعائلاتهم يألفهم أهلُ المدينة، التي جعلت من وسط المدينة يضم كذلك مسجداً جميل المعمار يسمى المسجد المركزي لمدينة إدنبرة.
كان التجوال وسط المدينة وفي الشوارع المحيطة بالجامعة، هو الذي جعلني أشعر بميزة الحجاب الذي يغطي شعري وجسدي، كنتُ أُلقي تحيةَ الإسلام على كل محجَّبةٍ أصادفُها في طريقي، وغالباً ما كنَّ من الهنديات والباكستانيات المحجبات، يَسِرْنَ في وسط إدنبرة بأثوابهن التقليدية المزركشة الزاهية الألوان.
كان إلقاءُ السلام على أي محجبة في طريقي يملأ نفسي بتلك الروح التي ترشدُ إليها السُّنةُ النبويةُ الشريفة بإفشاء السلام على من تعرف ومن لا تعرف، بكل ما توحي به حروفُ كلمة (إفشاء) من إصرار على نشر التحية في الأرض، لتعمَّ المحبةُ القلوبَ وتطغى وتزيد، ويمنحني كذلك نوعاً من الألفة في هذه المدينة الغريبة أول استقراري بها.
كانت كلمةُ السر بيني وبينهنّ: الحجاب، وكلمة السر الأخرى: اللغة العربية في عبارة (السلام عليكم).. إنها مفاتيح يمكنك أن تحملها معك في كل مكان... كم سعدتُ بتلك اللغة الصامتة المشتركة التي تخلقُها قطعةُ قماشٍ لا تتجاوز متراً، لكنها إذا أُلقِيتْ على الرأس كانت تعبيراً لا ينتهي عن محمولاتٍ (هُويَّاتية).. حينها أدركتُ حقاً معنى "الحجاب هُوية المسلمة". لم أكن بحاجة إلى أطروحاتِ الهُوية واللغة والأمة والدين والثقافة...وغيرها التي يلوي بها أساتذةُ الجامعات ألسنتَهم! ولكنني أعترف أنني –للأسف- حين ألِفتُ المكان، ونمَتْ صداقةٌ بيني وبين الأزقة والأمكنة المجاورة- ما عدتُ قادرةً على تلك العادة، وما عاد الحجابُ يغريني بإلقاءِ التحيةِ على صاحبته، وما عادت الدهشةُ تغزو قلبي حين أصادف في إدنبرة محجبةً مثلي في السوق أو في الباص أو في...المسجد!






  

الأحد، 12 أبريل 2015

صورة من... صالون التجميل

في زيارةٍ عاديةٍ إلى صالون التجميل القريب استمتعتُ صحبةَ ابنتي الشابة بلحظاتٍ جميلة جداً، ما أجمل أن ترى الأم ابنتها وقد شبَّت يافعةً بعد أن كانت نطفةً وعلقةً في رحمها! ثم إذا هي قطعةُ لحم صغيرة مكوَّمة بجانبها في تلك الليلة المباركة منذ عشرين عاماً.
ليس هذا ما أثارتْه في نفسي الزيارةُ لأكتب، فقد توالتْ (الستاتُ) داخلاتٍ خارجات، وحين كنتُ آوي إلى استراحةٍ قصيرة انتظاراً للشابة، لامستْ أسماعي ( لُكْــنَةٌ ) عربيةٌ متقنة: تحيِّي العاملةَ، وتطلبُ إليها بعض ما يصلح ليلَ الشَّعرِ الأسود المنساب نهراً على ظهرها.
حين جلستْ قربي، التفتُّ إليها لأجدَ وجهاً بملامح آسيوية: بشرة سمراء رقيقة، عينان لوزيّتان من طراز (صُنع في الصين)، وأنف عريض أقرب إلى أنْ تلازمَه صفةُ (أفطس)، وشفتان خمريتان مكتنزتان، ولسان يتحرك بحروف عربية متقنٌ نطقُها على نحوٍ....لا يُصَدَّق!!
تسمَّرت عيناي على الفتاة الضئيلة، وأنا أرقبها تجلس بثقةٍ على الكرسي الدوّار، تحمل بيدها هاتفاً ذكياً، تقلِّبُ فوق شاشته اللامعة- صفحاتِ التواصل الاجتماعي الزرقاء والخضراء، وتبتسم!
كلُّ هذه التفاصيل قد تشترك فيها كثيراتٌ في مثل تلك اللحظة، لكنَّ غيرَ العادي في هذا المشهد العادي- هو المفارقة الصارخةُ التي جعلتْه يحملُ إلى قلبي دهشةَ الطفل حين الخروج إلى النور من بعد الظلام! يا إلهي كيف انقلبت الأدوار في تلك الومضة؟!
أنفقتُ نحوَ عقدٍ من حياتي في دولةٍ خليجية، لم أُفلح في تعلُّم كلمةٍ آسيوية واحدة!! في دولة لا تتجاوزُ صورةُ الآسيويين فيها عادةً –للأسف- إطارَ (العمالة الرخيصة)، فلا يُتَصوَّرُ أنْ تكون تلك إلا في إطار (الخادمات) أو (المربيات) أو في أحسن الأحوال (العاملات) في المراكز التجارية الفخمة أو.... الرخيصة!
وعادةً ما يُميِّزُ أولئك لسانٌ يرطن بإنجليزية (خربانة) أو بعربية (مُكَسَّرة)، تجعلكَ تنقمُ على اليوم الذي تعلَّمْتَ فيه لغاتٍ أجنبيةً أو لغةً أمّا!! أو تجعلك تصابُ بتلوثٍ ضوضائي قد لا تفارقك آثارُه!
اليومَ.. الصورةُ أمامي مقلوبةٌ تماماً على نحوٍ ساخر، ربما،
وعلى نحوٍ مدهش، ربما ثانية، 
وعلى نحو مريح، ربما ثالثة؛ 
هي عاملة؟ ربما؟! لكنها أنيقة...
غريبة اليد والوجه؟ ربما؟! لكنها عربيةُ اللسان.
هالتْني المفارقةُ الصارخةُ في المشهد؛ كان وقعُها يشبه تلك التي أصابتْني حين استمعتُ إلى القناة الصينية CCTV للمرة الأولى: كلمات عربية منسابة بتلقائية ترتسم على وجوهٍ غير عربية، تذكرني دوماً بما آلَ إليه الحال: حين صارت العربيةُ عاراً يتستَّر منه أبناؤها فيدفعُ الآباءُ أبناءَهم إلى اكتسابِ اللغاتِ والمعارفِ والعلوم في المدارس الأجنبية؛ فتعوَجُّ ألسنتُهم، وتتعثَّرُ كلماتُهم، وينكمشُ خيالُهم الذي لا يعود يطيقُ حتى احتمال الأحلام ... بلغتهم العربية!

....الذي يبعثُ في القلب أملاً بعد هذا كله، وفي هذا اليوم الربيعيّ الماطر: أننا جميعاً في المبتدأ وفي المنتهى بشرٌ.. يمكننا أن نتقاسم الحياة على هذا الكوكب الجميل بقلوبنا التي يمكنها أن تتسع لنا.