أرشيف المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 22 مارس 2016

يوميات أندلسية لـ ماجد ذيب غنما


ألقيت في الندوة التكريمية التي أقامتْها لجنةُ القصة والرواية في رابطة الكتّاب الأردنيين في عمّان، مساء 21/3/2016
 للأديب الأستاذ والقاضي ماجد ذيب غنما

لا تحضر الأندلسُ إلا وتستحضر السحرَ والحنين، كلُّ حديثٍ تكون فيه الأندلس- عذبٌ جميل، فكيف إذا كان الحديثُ حديثَ يومياتٍ أندلسية تعبُّ من سحر المكان وعبق التاريخ؟ بعينٍ تُحسنُ التقاطَ روحِ الإنسان في المكان الذي تزور؛ لتكسوَ تلك الروحَ جسداً من كلمات.
في هذه الأمسية التكريمية لقامةٍ من قامات الأدب الأردني المعاصر، أطوف بكم في يومياتٍ أندلسية سطّرها قلم الأديب ماجد ذيب غنما.
وسيكون حديثي في قسمين:
الأول منهما عرضٌ لفعل الرحلة لمن فاتتْهُ منكم قراءتُها، والثاني عرضٌ آخر لنصِّ الرحلة في كلمات.

القسم الأول:
أما فعلُ الرحلة فكان ظهرَ يومٍ من أيام تموز العام 1977، كان فيه ماجد غنما في جوف طائرة تسابق الريح إلى الأندلس، وإذ خاب أملُه حين لم يرَ الأرض من الجو كما يشتهي، أخذ يسلي النفس بعبارات توينبي: "أمتعُ وسيلة للسفر أبطأها، وأمتعُ الدروب أوعرُها"! فكانت هذه الكلمات دليلاً له في بقية الرحلة تعين على التقاط تفاصيل الأرض والناس وروح المكان والزمان.
كانت العاصمة الإسبانية مدريد محطته الأولى رفقة الدليل الإسباني بلسانه الإنجليزي، وبعين المثقف الواعي لم تمضِ أيامُه القلائل في مدريد إلا وقطعها بما لذَّ وطاب من جولات: فتلك جولة في شوارع المدينة وميادينها، وتلك زيارة لمتحف الفن المزدحم بآلاف الزائرين، وهذه زيارةُ الكورّيدا حلبة مصارعة الثيران، وتلك زيارةٌ للمعهد الثقافي الإسباني والاطلاع على أعمال المستشرقين والعاملين فيه، وأخيرا تلك الزيارة لنصب شهداء الحرب الأهلية في دير الإسكوريال.
وتمضي بنا يوميات ماجد غنما الأندلسية ليقف في يوميةٍ خاصة على لغة الخميادو، وهي لغة أهل الأندلس بعد سقوط غرناطة وتعرضهم لملاحقات محاكم التفتيش، فتفتَّقت أذهانُهم عن طريقةٍ عبقرية يحفظون بها ما بقي من تراث يتناقلونه جيلاً فجيلا، فكتبوا الإسبانية – اللغة التي أُجبروا على التحدث بها- بالحروف العربية التي صار نطقُها ورسمُها ومحمولُها، محرَّماً على ألسنتهم وأقلامهم، فحفظوا في الخميادو -اللغةِ الفريدة- حروفَهم وبعضَ دينهم.
وإذا ما تابعنا الرحلةَ غادرْنا وإياه مدريد مترسماً خُطى طارق بن زياد، متجهاً إلى طليطلة واسطةِ عقد الأندلس ومنبع الفن، مدينةالتلال السبعة على نهر تاجُة، واقفاً قرب أسوارها على بوابتها بوابةِ الشمس، لقد كانت طليطلة أولى محطات ماجد غنما وهو يغذُّ المسيرَ إلى الجنوب حيث تأخذ الأندلس بشغاف القلب.
عندما عبرَ بوابةَ الشمس إلى طليطلة انثالت إلى ذاكرته- اللغةُ العربية؛ فالأماكن والشوارع والدروب كلُّها تذكّر بمن كان هنا! القنطرة/ الكانترا، القصر/ الكاثار، السوق/ ثوكو... والطرُز المعماريةُ العربية والآياتُ القرآنية والنقوشُ الإسلامية التي تزين الجدران لم تترك شيئاً حتى الكنائس- كي تقول : لقد كُنّا هنا!
كما تأخذك كلماتُ ماجد غنما حتى لتشعر كأنك تسير معه في شوارع المدينة القديمة، في صورةٍ تطابقُ شوارع القدس العتيقة، ترى وجه القدس في طليطلة فتنسى آلاف الأميال التي بينهما، ولا تعود تذكر إلا تلك الرجفةَ التي تسري في روحكَ وأنت تدعو  في سرّك معه كما دعا: أن يبقى الشبَهُ بين المدينتين قاصراً على المظهر لا على المصير!
كانت محطته الثالثة جارةَ الوادي الكبير، العاصمةَ الأندلسية قرطبة، التي لم تكن يوماً مدينةً عادية، ولا كانت زيارتُها بالأمر الهيّن اليسير، قرطبة ما زالت شاغلة التاريخ وصانعة الأمجاد، وإنَّ زيارتها لهي حجٌّ تاريخي وثقافي  بل هي صلاةٌ في محراب الفن والأدب.
في الطريق إلى قرطبة تمتع ناظريْك بمزارع الزيتون وكروم العنب الممتدة إلى ما لا نهاية..
 في الطريق إلى قرطبة أحلامٌ مسافرةٌ مع ذكرى العلماء والشعراء الأندلسيين ..أسماءٌ لا تنفكُّ تطرق ذاكرتك كلما انبجست شفتاكَ عن : قرطبة!
في ذلك الحج التاريخي الثقافي إلى قرطبة تدخل مسجدها الجامع، تدلف صحنه فناء البرتقال تستقبلك نافورةُ المسجد بماءٍ عذب لا تملك من نفسك إلا أن تُعَمِّد جوفك بقطراته، كي تغوص في غابة الأعمدة والأقواس المزروعة في المسجد روعةً وجمالاً.
فإذا ما استفاق صاحبُنا الرحالةُ من نشوة الجمال غادر المسجد مكرهاً  بأمر الدليل السياحي، وهو لا يدري بقيةَ السحر التي تنتظر! إنه سحرُ الدروب العتيقة لتلك الجميلة التي اسمها قرطبة!
سار ماجد غنما ورفاقه في تلك الدروب، وما زال للّحظةِ يرنُّ في أسماعنا صدى أصواتِهم يتصايحون:  إنها شوارع القدس.... لا بل أزقة دمشق!!! كلُّ واحدٍ يرى فيها مدينتَه وبلدته، لكن طيف نزار قباني يهمس في آذانهم: " في أزقة قرطبة الضيقة مددتُ يدي إلى جيبي أكثر من مرة لأخُرِجَ مفتاحَ بيتنا في دمشق".
والبيوت قد فُتِّحت أبوابُها، خلفَ كلِّ باب... بيتٌ دمشقي. وما زالت في القلب دمشقُ... الروح دمشقية.. والعشقُ دمشقي.. ودمشق لم تغادر صاحبَنا، لكنه غادرَها وفي القلب أنينٌ ووجع من فَوْتِ الحج إلى أطلال الزهراء بضواحي قرطبة.
غادر ماجد غنما سحر قرطبة إلى أجمل مدن الأندلس إشبيلية، مدينة الحدائق التي تزهو على نهر الوادي الكبير،كأنما النهرُ قد خُلق من أجلها هي.
إشبيلية التي تضم ثالث أكبر كاتدرائية في العالم، يرقد تحت قبتها ذلك الشابُ الذي غيَّر وجه التاريخ بعالمه الجديد، كولومبس الذي أبحرت سفنُه وأحلامُه من مياه الوادي الكبير.
الكاتدرائية مبينةٌ فوق المسجد الجامع الذي لم يبق منه إلا فناءُ النارنج ومنارة المنصور (الخيرالدا) تشرف على المدينة بأكملها، يجاورها القصر الملكي (الكازار) بشقَّيْه العربي والإسباني. كلُّ بهوٍ منه أو فناءٍ أو عقدٍ أو نقش يحكي الروعةَ والجمال الذي يغمر المدينة.
لم ينس صاحبُنا الرحالةُ أن يختم لياليه في مدينة المعتمد بن عباد برقصٍ وغناء إشبيلي فلامنكي حزين، يحكي الأسى الذي تخلّفه المدنُ الأندلسية في قلوب الزائرين، المأخوذة بسحر ماضيها وبهاء حاضرها، ليكون الغناءُ الشجي هذا آخرَ العهد بإشبيلية وهو يرحل عنها إلى غرناطة، في رحلة استردادٍ تاريخي تعود فيها عقارب الزمان للوراء، يودّع فيها الأندلسَ قطعةً قطعة، من حيث يظن أنما يطأ ثراها للمرة الأولى.
فكانت غرناطة تنكأ جراح القلب الساكن بين الضلوع وتشفيه! وفي الحمراء داءٌ، وفيها  الدواء.
كان الدليل السياحي يحدِّث بأخبار المصير الذي آلتْ إليه (دولة) الأندلس، وصاحبُنا تحدِّثه نفسُه بالمصير الذي آلت إليه (دول) الأندلس، وعلى أصابعه يتلمّس عدد الدول في الجامعة العربية يقارب عدد ممالك الطوائف الأندلسية، فتلهج نفسُه بالدعاء إلى الوحدة والاتحاد سبيلاً وحيداً للانتصار!
كان الجرحُ النازفُ يشفيه بلسمُ الوقوف على باب الجنة، جنةِ العريف، وإذا ما كان دخولُ الجنة أمراً غيرَ مؤكدٍ لأي إنسان ولأي قاضٍ –بحكم أن القضاةَ ثلاثةٌ اثنان منهم في النار- فقد هبَّ صاحبُنا يلبي نداء الدليل السياحي كي يرافقهم في دخول الجنة. وفي المساء كانت السهرةُ الغجرية في كهوف جبال غرناطة، ثم كانت العودةُ منها سيراً على الأقدام، يسير الجسدُ بمحاذاة نهر حدُرَّة، والعين ترقب الحمراء  تتلألأ تحت الأضواء قصراً أسطورياً فتاناً ساحراً، يسلب الألباب ويُنسي المرءَ نفسَه.
****************
ولكني أرجو أنكم لا تنسَوْن أنَّ هذا كان فعلَ الرحلة، رحلة ماجد غنما إلى إسبانيا في يومياته الأندلسية. والآن نحن حديثٍ آخر حول نصِّ الرحلة أو ثوب الكلمات الذي ألبَسَهُ قلمُ أديبنا الرحالة لرحلته تلك.

القسم الثاني
أما نصُّ الرحلة فأبدأ التمهيد له بأن القيمة الثقافية والجمالية لكتب الرحلات لا تنتهي، ولا غنى لنا عنها، حتى وإن استغنى اليومَ كثيرٌ من المسافرين والرحالة بالصور عن الكلمات.
ربما ما عاد كثيرٌ منا -في زمنٍ كثرت فيه الأسفار وصارت اللحظات معظمُها محبوسةً في صور- ماعاد كثير منا يجد في نفسه ما يكتب فيه عن رحلة أو زيارة إلا القليل، ولكن تبقى لأدب الرحلة قيمةٌ إبداعية  لا تقل عن فنون أخرى، لكنْ قليلٌ ما هم الملتفتون إليه. بل إن أجمل ما يكتب المبدع ما هو قريبٌ من يومه قريبٌ من نفسه.
في يوميات ماجد غنما الأندلسية لا نعثر فيها على اليوميات التي قد نظن، بل إن عدد أيام الرحلة يكاد يخفى، فلم يجرِ كاتبنا فيها على تدوينٍ زمنيّ بتسلسلٍ محدد، بيد أنه جعل يومياتِه في عناوين للأمكنة التي زارها وللوقفات التي أوقف قُرّاءَه عليها. . إنها يوميات عابرةٌ للقلب والذاكرة بدليل أن محطاتِ رحلته ما زالت إلى اليوم هي محطاتُ أي زائر للديار الأندلسية.
إذا ما وقفنا عما تكشف عنه هذه اليوميات فإن أول ما يقع في النفس بعد اكتمال قراءتها أن رحّالتنا مثالُ الرحالةِ الواعي، ترى هذا الوعي في خطة سير رحلته المُحكمة ومحطاتها.. تراه في انتقاء الأماكن التي سار إليها.. في الانطباعات التي وقعت في نفسه.. في النظرات الثاقبة الاستشرافية التي لم تغفل عنها عينُ العدالة في ضمير القاضي ماجد غنما.. في اللفتات الذكية التي تربط الحاضر بالماضي ولا تكفُّ عن السؤال في حضرة الأندلس تلك المعجزةِ الحضارية الفريدة. وهو ما قرره في مقدمة الرحلة عندما قال:" إن التاريخ لا يعيد نفسه إلا عندما نعيد نحن أخطاءنا" . ففي كلماته القليلات تلك عِبَرٌ كثيرة وعِظات، وهي الغرض الذي ارتآه ليومياته: عودة هادئة للتاريخ يرجو أن يكون فيها عبرة وعظة.
فكان له في كل مدينة زارها موقفٌ وتأمل: حين وقف في مدريد أمام تماثيل أبطال الإسبان المنتشرة في ميادين المدينة ذكَّره هذا الوفاءُ بالمحاولات اليائسة في أقطارنا لتشويه الرموز وتحطيم منجزاتهم.
وفي وقفته في الكورّيدا حلبة مصارعة الثيران تساءل : وما هو مستقبل هذه اللعبة؟ في زمنٍ لم يعد يُرى فيها ما كان يراه أصحابُها من قبل.
وعندما وقف في متحف الفن على أعمال الفنانين الإسبان التي لامست قلبَه كأنها قصائد شعر خالدة، تساءل في نفسه: ومتى يكون في بلادنا ديوان شعر قصائده لوحات كهذه اللوحات؟!
وفي الدهشة التي اعتَرتْه أمام غرفة الكنز في كاتدرائية طليلطة العظيمة، فإنَّ في بذل تلك الكنوز خدمةً للشعب - عبادةٌ أكثر مما في كنزها في غرفة!
وفي جولات رحالتنا في أزقّة قرطبة ولقائه بتماثيل من أهلها الغابرين، وقف أمام تمثال ابن رشد حتى خُيِّل إليه أن التمثال يكاد ينطق والسؤال على فمه يقول: وكيف حالُ عرب المشرق اليوم؟ فأيَّ جواب سيكون هو الجواب وليس في أحوالهم ما يسرُّ!!
ولم تخلُ تأملات ماجد غنما في آثار الأندلس الباقية من العبرة والعظة، وحالُ العرب اليوم لا ينفكُّ ينادي ماضيهم نادباً شاهداً على عجزٍ يؤمَلُ تعافيه.
كانت هذه الوقفاتُ التأملية والدروسُ المستفادة من آثار العرب في الأندلس تتدفق بسلاسة في سطور الكاتب الممتلك قلماً رشيقاً لا تنقصه الجزالةُ والإتقان، فكان نتاجُه ذاك تجسيداً لبيانٍ أتقنه أدباؤنا في الأردن من أهل التخصصات الأخرى.
لكن جزالةَ كلماته ورشاقة أسلوبه لم تمنع الفكاهةَ اللطيفة من أن تطلَّ بين الفينة والفينة لتلطِّف أجواءَ تموز الحارة في بلاد الأندلس. فها هي تطالعك أولاً في أوصاف سنيور أنجيلو الذي يسمي الأشياءَ بغير مسمياتها: فقصرُ العدل هو قصر اللاعدل! وكلية الطب هي المكان الذي يمنح الطلبةَ شهاداتٍ لقتل الناس! واسمُه اللطيف هو الملاك، مع أن ملامحه لا تشي باسمه أبدا!
ولأن العربَ تسمي الأشياء بأضدادها فإن كاتبَنا التزم الصمتَ كي لا يفسد الود بينه وبين السنيور الملاك!! أما زيارته للكورّيدا فلم يشاهد فيها مصارعين ولا ثيران! لكنّ الثيران أبت إلا أن تثبت وجودها براحة روْثها التي ملأت الممرات!!
وكما أن جزالة أسلوب ماجد غنما ورشاقة ألفاظه لم تمنع من الفكاهة خفيفة الظل، فإن إحكامَ صنعةِ كتابه تبدو للعيان؛ إذ سار صاحبُنا في ظلٍ منهج علمي يمنعه من الهوى فيما يعرض ويسجل من انطباعات، وكأني به في يومياته تجمع بين الذاتية والموضوعية، المتعة والفائدة، التجربة الشخصية والمنفعة العامة. فلقد سار وفق منهجٍ في انتقاء ما يقدم وتمحيصه؛ كيما ترتقي اليومياتُ لتكون وثيقةً ومرجعا.
وأمثلةُ ذلك كثيرة، فمنها: لقاؤه بالدكتور بيدرو مارتينيث مونتابيث عميد كلية الآداب في جامعة مدريد، وما سجّله غنما لما دار بينهما من حوار عن تاريخ الأندلس وحاضر إسبانيا، فيتحرز المؤلف في نهاية يوميته تلك من أي مسؤولية قد تلحق صاحبه في الحوار؛ لأنه سجل كلامه من الذاكرة لا من ملاحظات مكتوبة، فما أبعد نظرةَ المؤلف في إتقانه صنعته!
ويبدو منهجه في الضبط العلمي في اليومية الخاصة بالفتح العربي في الأندلس، وهي وقفةٌ تاريخية أكثر منها رحلة في المكان، أراد لها أن تكون بقعة ضوء تعين القارئ على تمثل أجواء الرحلة، وكان من لطفها أنها جاءت في آخر الرحلة لا في أولها لتجعل الرحلةَ بعيدةً عن كتب التاريخ التي قد يضيق بها قرّاء كثيرون.
وفي هذه اليومية يناقش ماجد غنما بعين العاقل السؤال الجدلي الأول حتى هذه اللحظة في أي حديث تكون الأندلسُ حاضرةً فيه: هل الوجود العربي الإسلامي فيها كان فتحاً أم استعمارا؟
ومما يثير الإعجاب في إجابته أو في إدارة النقاش حول هذا السؤال، أن يقرر أنه من غير المنطق النظر لأحداث القرن السابع بمنظار القرن العشرين؟! وهذه الأرضية تصلح مدخلاً لنقاشٍ هادئ ينبغي أن يكون في مثل هذه المسألة.
وفي اليومية قبل الأخيرة من اليوميات (التاريخ يعيد نفسه) يلفت ماجد غنما نظرنا إلى منهجه في بناء يومياته، عبر عددٍ من الإضاءات التي كانت بحضرة العالِم الأندلسي الأستاذ الدكتور محمد عبده حتاملة، الذي أشاد بطرافة النقاط التي عرَض لها ماجد غنما وجِدَّتها. وهذا من القيمة العلمية التي تحملها اليوميات، خاصة أن المؤلف تطرَّق إلى مسائل لمــّــــا تكن تجد طريقاً لها في البحث والدرس في عالم الدراسات الأندلسية في عالمنا العربي. كمثل مسألة لغة الخميادو ودور المستشرقين في حفظ التراث الأندلسي ودراسته.
ونختتم مع ماجد غنما رحلته في آخر يومياته بأن أسباب معاناتنا اليوم هي الأسبابُ القديمة نفسُها وهي التي تؤدي بنا إلى نتائج مشابهة: اتحاد الممالك الإسبانية، واختلاف العرب وغياب وحدتهم! وبعين العقل والمنهج العلمي يصل ماجد غنما إلى أن الأندلس العربية في روحها هي الأندلس التي تدعونا اليوم إلى دعم الإخاء الدائم بين الشعب العربي والشعب الإسباني، فالأحداث الماضية صارت في ذمة التاريخ والمستقبل هو لوشائج الإخاء والصداقة.



المشاركون في الندوة التكريمية للأديب الأستاذ ماجد ذيب غنما ، من اليسار:

د.سليمان أزرعي / الضيف الأستاذ القاضي ماجد غنما/ د.أحمد ماضي/
 د.رشأ الخطيب/ د.محمود عبابنة/ أ.كايد هاشم

الأربعاء، 9 مارس 2016

8 آذار وحرب لن أخوضها

8 آذار وحرب لن أخوضها
بقلم غادة السمان

لم تولد بعد تلك المرأة التي لا تحب شراء شيء تافه بسعر مرتفع ـ أنيس منصور.
المرأة شعرها طويل وفكرها قصير ـ مثل روسي.
لا سلاح للمرأة إلا لسانها ودموعها ـ مارك توين.
كثير من الزيجات بائسة وتعيسة لأن الزوج كان يتناول العشاء مع زوجته بدلاً من سكرتيرته ـ تشرشل.
هذه الأقوال في مجلة عربية راقية واسعة الانتشار اخترتها لكم بمناسبة الاحتفال غداً 8 آذار/ مارس باليوم العالمي لإعلان «حقوق المرأة».
ستحتفل بالمناسبة منابر كثيرة. سيقال كلام لطيف عن «حقوق المرأة» والتضامن معها وصباح اليوم التالي يعود كل شيء كما كان. صراخ الخطباء والخطيبات، سيرجع إلى صمت الحناجر وستعود أوراقها إلى الجيوب حتى السنة القادمة ليتم القاؤها كما هي ـ دونما تبديل ـ لأن شيئاً لا يتبدل على الأرض المعاشة اليومية. أما ذلك الكلام المهين للمرأة المنشور في غير منبر فلن يعترض عليه أحد لكثرة ما صار مكرراً وتكتبه المنابر ولا تعترض عليه محررة واحدة أو قارئة. فإهانة المرأة مألوفة وبالتالي لا يلحظها أحد.

والبادئ أظلم!
ولأن المرأة المعاصرة صارت أحيانا متعلمة وعاملة وواعية لحقوقها الأنسانية، كأي مواطن آخر، خاضت المرأة الغربية حرب الرد على الأذى بمثله والبادي أظلم، وصرنا نقرأ أقوالاً مشابهة لما تقدم ولكن في الأتجاه المعاكس أي ضد الرجل.
وكما نقلت أقوالاً للذكور، أنقل الآن أقوالاً للنساء:
ثمة نوعان من الرجال، الميت والمميت ـ هيلين رولاند.
أحب أن يتصرف الرجل كرجل: برعونة وصبيانية ـ فرنسواز ساغان.
الرجال هم تلك المخلوقات ذات الرأس الواحد والأذرع الثمانية (الأخطبوط) وتضيف كليربوث:
لو عملت في «الكونغرس» لتعلمت أن الثرثرة والنميمة والوشاية اخترعها رجل.
أياً كان عمل المرأة فعليها أن تؤديه بمهارة مضاعفة كي تربح نصف ما يربحه الرجل. ولحسن الحظ. هذا ليس صعبا على المرأة ـ شارلوت ويتون.
يصرخ رجل: النساء كالسجاد يجب ضربهن باستمرار وانتظام.
ترد امرأة: النساء أذكى من الرجال. هذا مؤكد، ولذا يحتفظن بتلك الحقيقة سراً ـ أنيتا لوس.
يصرخ أحدهم: قطاع الطرق يطلبون منك حياتك أو نقودك، والمرأة تطلبهما معاً ـ صموئيل باتلر.
يرد صوت نسائي غاضب: المرأة العادية تفضل أن تكون حلوة لا ذكية لأنها تعرف أن الرجل يرى جيداً ولا يفكر جيداً!.
وتؤكد آماندا فيل: جنس ثالث في كوكبنا؟ لو وجد ذلك لما حظي الرجال بنظرة مني! وتؤكد جيرسين غرير: «تفشل النساء في فهم مدى كراهية الرجال لهن.. ويتعالى الصراخ..
بعض المجلات النسائية الأمريكية صارت منذ عقدين تعاقب اي (ذكر) يتورط في تصريح ضد المرأة عامة، وتسخر منه وتقاطعه.

وعود كاذبة ومعارك هزلية
لم ترق لي يوما تلك الحرب بين النساء القادمات من «كوكب الزهرة» و «الرجال من كوكب المريخ» كما يزعم أحد الكتب عن حرب مفترضة بين النساء والرجال. وأعتقد أن المرأة العربية عامة تقف في خندق واحد مع الرجل العربي والمعاناة واحدة والمآسي واحدة. وترف حرب الأجناس ليس متاحاً لنا. هذا على الرغم من أن المرأة العربية تتلقى كل عام بمناسبة «اليوم العالمي لأعلان حقوق المرأة» كمية هائلة من الوعود بإنصافها وبمنحها المزيد من الحقوق المشروعة، ولكن ذلك كله يذوب مع شمس الصباح التالي.. وحتى «العنف ضد النساء يستمر في تصاعد مع مناخات ظلامية لا تدعم المرأة العربية بل تحاول (حجبها)!
وهذا خطيب دافع بكل شهامة (متحمسة) عن حقوق المرأة، لكنه كان قد منع زوجته من مغادرة البيت حتى لحضور محاضرته، وهذا آخر تشاجر مع زوجته وضربها قبل الذهاب ليحاضر حول «العنف ضد المرأة»!.. بالمقابل لم تمارس المرأة العربية يوما معركة هزلية كلامية ضد الرجل العربي إلا فيما ندر.

تحرير المرأة مهمة الرجل العربي أيضاً
المرأة العربية لم تقع يوماً في فخ كراهية الرجل أو التوهم ان قتل آدم العربي ضرورة لتحيا حواء إنسانيتها.
منذ البداية كانت تحركات المرأة العربية لنيل حقوقها ناضجة ومتزنة.
لم تعلن يوما كالامريكية أنها تريد المساواة المطلقة مع الرجل لأن المرأة العربية تعرف عجز الرجل عن ذلك، فهو غير قادر على الحمل والولادة مثلها!!.. وبالمقابل تعلن ببساطة أمومتها وحرصها على العمل والبيت معا.
الأمريكية اكتشفت أنها حين حصلت على المساواة المطلقة خسرت حقوقاً هي بحاجة إليها كأم..
ثم أن المرأة العربية وعت منذ البداية بنضج استثنائي أن حليفها الوحيد الممكن هو الرجل الواعي ولذا لم تستفزه (إلا نادراً وبأصوات متطرفة) بل طلبت مساعدته ومحالفته ليقاوما معاً أي ظلم يقع عليهما كمواطنين.. وحرب الدجاجة والديك في مجتمعاتنا ترف لغوي.. والمرأة العربية تعلن بسلوكها: نريد التكامل مع الرجل لا التماثل. نريد ان تحقق المرأة العربية ذاتها كإنسانة وتؤدي واجبها كمواطنة ولكن داخل وطن لا يسلب الطرفين الحرية والكرامة وفرص العمل.
وتحرير المرأة لا يتطلب بالضرورة استفزاز «ذكور القبيلة» بل الاستقواء بعونهم. ولا اعتقد (كمعظم النساء العربيات) أن «الأنثى هي الأصل»، بل الأسرة والحرية هما الأصل، والتعاون بين الرجل والمرأة هو المطلوب.
ولن تتحرر المرأة العربية وتنال حقوقها إن لم يدعمها الرجل بصدق ودونما رياء.

أسطورة تحرير المرأة في أمريكا
هذا العنوان ليس مني بل من كتاب استاذة في جامعة أمريكية تدعى سيلفيا آن هوليت، كانت أول من تمرد على حركة «تحرر المرأة» في U.S.A وطلبها المساواة المطلقة بالرجل والحصول عليها.. ووجدت في المساواة ظلماً لها كإمرأة وأم عاملة. وقبل حوالي ربع قرن أصدرت سيلفيا آن هوليت كتابها الرائد «حياة منقوصة ـ أسطورة تحرير المرأة في أمريكا». كتاب انفجر كقنبلة تطايرت شظاياها على صفحات الصحف البريطانية والأمريكية وفيها تتمرد هوليت بحرية على تحرر المرأة في أمريكا ـ فهي كبريطانية متزوجة من أمريكي لاحظت هناك ثورة (الحريم) المتطرفة البعيدة عن الواقعية والتي حرمت المرأة العاملة من حقوق الأم وإجازات الحمل والولادة وتعويضات فترة الانكباب على الأمومة لأشهر. تعالى الصراخ في (حمام النساء) الأمريكي ضدها، ولكنها أكدت أن من حقها بناء مستقبل عملي دون تدمير مؤسسة الأسرة.
المرأة العربية وعت ذلك منذ البداية ولم يكن التطرف يوماً حليفها.. ويجب أن يقابل ذلك دعم (ذكوري) لقضايا تحررها وبالذات في هذه الأيام المكفهرة التي تتكاثف فيها سحب معتمة تحاول إعادة المرأة إلى زمن الجاهلية وتنسى أن الأسلام حرم وأد المرأة والمطلوب اليوم عدم محاولة وأد حقوق المرأة.



الأحد، 21 فبراير 2016

أدبي ..علمي

أدبي... عِلمي.

هي في سنة 2016
ابنتي في سنتها الثانوية الأولى الفرع الأدبي، دخلت الفرع الأدبي عن رغبة ووعي بقدراتها وميولها.
أنا في سنة 1985
كنتُ في سنتي الثانوية الثانية الفرع الأدبي، أيضاً دخلتُ الفرع الأدبي عن رغبةٍ ووعي بميولي وتطلعاتي.
ما بين الأدبي 1985 والأدبي 2016 نحو ثلاثين عاماً ... ولا شيءَ تغير!!
عادتْ من المدرسة غاضبة، تشتعل عيناها بعد مناقشة قديمة-جديدة مع معلمتها، في مسألة سفسطائية تستهلك ولا تنفع: أفضلية (دجاجة) العلمي على (بيضة) الأدبي؟ ذكاء طلبة العلمي أم غباء طلبةالأدبي؟ سعة العقل العلمي أم ضيق العقل الأدبي؟؟
دائرة لا تنتهي من المقابلات غير المنطقية وغير المفهومة ما زالت تحكم منظومتنا التعليمية!! وما يزيد في الوجع أنني وجدتُ ابنتي تعيد على مسامعي ما سمعتُه أنا منذ عقود في الموقف ذاته!! ووجدتُني أقف ذاهلة أمام ذاكرتي والصور التي تراءت لي : تغيرت الدنيا كثيراً، ملامح المدينة نفسها تكاد لا تعرفها، ملامح الناس.. هيئاتهم.. ملابسهم.. حتى طريقة كلامهم تغيرت ...لكنّ ذلك كلَّه ما غيَّرَ شيئاً في عقولهم!
فما زلنا -إلى اليوم- نفاضل بين العلمي والأدبي، ما زالت -إلى اليوم- تلك النظرةُ القاصرة تحكمنا. غاب عن بصيرتنا أن الأمم لا تقوم بتخصص وحيد، ولا تنهض بفئةٍ معينة من العلماء، غاب عنهم أن الأرض لا يعمرها الأطباءُ والمهندسون والصيادلة وأساتذة الرياضيات وعلماء الفيزياء والكيمياء فقط، بل إن الأرض ليست الأرض إذا لم يعمرها كذلك الأدباءُ والفلاسفة، السياسيون والمعلمون، الفقهاء والشعراء، الفنانون والموسيقيون... وليس أصحابُ الشهادات وروّاد دروب المعرفة النظرية هم أصحاب الحق في عمارة الأرض، بل إنَّ الأرض حلالٌ للمزارع والراعي، وللعامل وللبنّاء، وللصانع والحِرْفيّ، ولكلِّ من اقترب من الأرض يهمس لها بيديه، بعرق جبينه، بقدميْه تغوص في الأرض، كأنما يمدُّ جذور الهوى في الأعماق. 
هؤلاء جميعا هم أصحاب الحق في عمارة الأرض، ولهم جميعاً -على التساوي- التقديرُ والاحترام ذاته.
ربما كان الذي زاد الطينَ بلّةً أن هذه النظرةَ القاصرة تصدر من المعلمة أمام طالباتها، فإلى متى ستبقى هذه النظرة الاستعلائية لدى معلمي التخصصات العلمية قائمة؟ وللأسف ينقلون بذلك عدوى الجهل من جيل إلى جيل. لا تغرَّنَّك الشهاداتِ الكبيرة ولا الألقاب الفخمة ولا غيرها من مظاهر يستتر خلَفها أمثالُ هؤلاء، وفي حقيقة الأمر الواحدُ منهم لا يتجاوز فهمُه أرنبةَ أنفه!!
كنتُ مثل ابنتي واجهتُ استهجان معلماتي -لأنني كنتُ الثانية على صفي-، خاصة استهجان مربية الصف حين اخترتُ بملء رغبتي الالتحاق بالفرع الأدبي! وقد راجعتْني المعلمةُ عدةَ مرات لتقول لي تمهلي وأعيدي النظر في الاختيار، قبل أن نرفع الأسماء والاختيارات إلى وزارة التربية والتعليم، فيتعذر حينها تغيير رغبتكِ. كان من المستهجن - ويبدو أنه ما زال مستهجناً- أن يتجه طالبٌ متفوقٌ للفرع الأدبي؛ محكوماً بتلك النظرة القاصرة التي تُعلي من شأن الأطباء والمهندسين في المجتمع -في ذلك الحين-، ويظهر أن الأمر لم يتغير كثيراً وإنْ تراجعت أسهم الأطباء والمهندسين اليوم لصالح قطاعاتٍ مهنية أخرى. إلا أن النظرةَ نفسها التي ما زالت تحكم نظرتنا للعلمي والأدبي...لم تتغير!
كنتُ واضحةً في ميولي وطموحي ورغبتي العلمية، وهذا ما انعكس بحمد الله وتوفيقه على مسيرتي العلمية كاملة. ولكن لقد كانت مكافأةُ الجيران والمعارف لي وقت نجاحي وتفوقي في الثانوية العامة، وكنتُ الأولى في مدرستي: (أن التسعين في الفرع الأدبي تعادل السبعين في الفرع العلمي)!!!! "ألا ساء ما كانوا يحكمون"! وكانت مكافأةُ المجتمع أن زملائي في كلية الآداب قد سبقوني إليها في الدفعات الأولى للمقبولين في الجامعة؛ بفعل الوساطات والمحسوبيات والاستثناءات غير العادلة!
ابنتي.. أنا فخورة بكِ وباختياركِ وبإنجازكِ وبقدراتك، فلا تدعي مثل هذه المجادلات العقيمة تقف في طريقكِ وأنتِ بهذا الوعي الذي يدرك أن دروبَ المعرفةِ كلَّها تقود إلى جوهر واحد هو عمارة الأرض وتقدم البشرية. يكفيكِ فخراً أنكِ تدركين هذا وأنتِ في مقتبل العمر، في حين عجزت معلمتكِ كما عجز كثيرون عن هذا الفهم! وكم من تلميذٍ فاق أستاذه!

الأربعاء، 17 فبراير 2016

نظرية جحا...في إدارة الصراع !

نظرية جحا (منقول)
يقال إن رجلاً ذهب الى جحا وقال له:
إنى اعيش مع زوجتى وامى وحماتى وستة أطفال فى حجرة واحدة فماذا أفعل لتتحسن حياتي ؟ .
قال له جحا :
اشترى حماراً واجعله يعيش معكم فى نفس الغرفة وتعال بعد يومين.
فجاءه الرجل بعد يومين وقال له : الحال يسوء يا جحا.
فقال له جحا:
اشترى خروفاً واجعله معكم فى الغرفة وتعال بعد يومين.
فجاءه الرجل بعد يومين وقال له: الحال يزداد سوءا يا جحا.
فقال جحا:
اشترى دجاجاً واجعله معكم فى الغرفة وتعال بعد يومين.
فجاءه الرجل بعد يومين وقال له:
لقد أوشكت على الانتحار.
فقال له جحا:
اذهب للسوق وبِع حمارك وتعال بعد يومين .
فجاءه الرجل بعد يومين وقال له : الحال تحسن قليلا.
فقال له جحا:
اذهب للسوق وبِع الخروف وتعال بعد يومين.
فجاءه الرجل بعد يومين وقال له : الحال أفضل كثيرا.
فقال له جحا:
اذهب للسوق وبِع الدجاج وتعال بعد يومين.
فجاءه الرجل بعد يومين وقال له :
لقد أصبحت فى أفضل حال.
وهكذا تدار كل الأزمات فى العالم خصوصاً العالم العربي
حيث يتم اختلاق مشكلة جديدة ثم يتم التفاوض عليها لتـُنسَى المشكلة الأساسية ..
....نظرية جحا لا تزال تطبق حتى هذه الساعة .....

الثلاثاء، 9 فبراير 2016

عوارض نضوجٍ أربعيني مبكر

بقلم آية الأتاسي
القدس العربي

حسناً… أنا امرأة تدخل الخامسة والأربعين بكامل قلقها الوجودي، وإن حق لي القول أيضاً بكامل أنوثتها، وأبعد ما تكون عن اليأس أو ما اصطلح على تسميته بـ»سن اليأس»، في توصيف جائر لمرحلة عمرية تزهر فيها الروح الأنثى وتثمر…
الجسد في اختماره
جسد المرأة مهما تداعى، ما هو إلا جذع لأنوثة غائرة الجذور، لا يزيدها العمر إلا عمقاً ورسوخاً…
غالباً ما يتكور الجسد الأربعيني وتستدير الانحناءات الأنثوية، فيما هو خداع العقل لما تراه العين من كيلوغرامات فائضة، أو ربما هو كشف لكنوز «الأنوثة المستترة» التي أنصفتها اللغة العربية بحق، عندما أطلقت على المرأة الممتلئة لقب «المرأة المكتنزة»…
وكأن الجسد الأربعيني يتمرد على مقاييس الموضة وصورة المرأة العشرينية النحيلة، معلناً أن الأنوثة الطبيعية تقاوم الريجيم والتأطير، وترسم خطوطها الأنثوية على هواها…
حسناً… هي ربما زيادة في الوزن والتخلص منها يزداد صعوبة مع العمر، ولكن لنعترف بأننا بعد الأربعين نتذوق كل تفاصيل الحياة بمتعة أكثر، وإن كان بآثار جانبية يصعب إخفاؤها. ومن متع السنين أيضاً أنها لا تراكم الأوزان فقط، بل خبرات الحياة وتجاربها التي تجعل الجسد ينضج كما الحصرم عندما يختمر ويصبح نبيذاً معتقاً…
المؤسف أن العرب وحدهم ينسبون النضج لليأس ويطلقون على مرحلة انقطاع الطمث «سن اليأس»، وفي هذا تسطيح لمرحلة شديدة الجمال والتعقيد في آن، وفيها اختصار لآمال المرأة وأحلامها بمهمة إنجاب الأطفال فقط. فواقع الحال يثبت اليوم أن المرأة في هذه المرحلة، غالباً ما تعيش فترة سلام جسدي وروحي، وتمتلك وقتاً أكثر لفهم تفاصيل روحها وللعناية بجسدها، بعد أن تكون قد تجاوزت مراحل التأسيس للحياة العاطفية والأسرية والمهنية، وبعد أن يكون الجسد قد اكتملت أنوثته وتخمرت فتنته.
والمرأة الأربعينية خصوصاً تكون في قمة الأنوثة وتوهجها، فالهرمونات الأنثوية تكون في حالة هدنة وهدوء قبل الاشتعال مجدداً في الخمسين، والجسد مازال يحتفظ بجاذبيته وسحره، والروح في سلام وتصالح بعد أن كبر الأبناء ولم يعودوا يحتاجون رعاية الأمومة المستمرة، وحتى في المجال المهني تكون المرأة قد تجاوزت المراحل التأسيسية الأولى والأصعب في العمل والوظيفة.


الأسئلة الأربعينية
المرأة في منتصف العمر، تشعر بأنها تقف على قمة جبل خلفها يمتد شبابها وأمامها المستقبل المجهول.. ولا تتوقف عن طرح الأسئلة من قبيل:
هل فلحت أرض خصبة لبذوري أم كنت أفلح الهواء من حولي؟ 
هل هي الهاوية التي تنتظرني خلف القمة أم مازال للسهل بقية؟
وما معنى الهاوية، إن هي إلا اسم نمنحه للأماكن التي طالما أرعبنا عبورها؟
وهل من جسور تحتمل ثقل أحلامنا لنعبر فوقها؟
هل آن الأوان لقطع الحبال والتحليق عالياً في منطاد الأحلام، أم علينا أن نثقله بحجج العقل والمنطق ونتركه يهبط من جديد؟
كثيرة هي الأسئلة الوجودية التي نطرحها على أنفسنا في منتصف العمر، وكثيرة هي المشاريع المؤجلة والأحلام المركونة التي تطفو فجأة فوق السطح، وكأننا في مواجهة مع الذات بلا مماطلة، وكأن الحياة تمنحنا الفرصة الأخيرة مهددة: الآن هي فرصتكنّ الأخيرة…اغتنمنها أو لتنسونها إلى الأبد!


سطوة الزمن
مازال إذن في العمر متسعٌ للفرص الأخيرة… ومازال للجسد قوته وللروح جنونها ليتشاركا في إنجاز المهمات المستعجلة… فبينما لا تعترف الروح بالعمر ولا تصاب بقصر النظر، يبدأ الجسد أولى اعترافاته بسطوة الزمن.. فالعين لم تعد تستطيع تمييز الأحرف الصغيرة، ولابد من التسليم أخيراً بارتداء النظارة الطبية، التي لا مانع أبداً في أن تكون فاقعة اللون بما يرضي ذائقة الروح الشابة… ولرقص الأقدام الحافية فوق الشطآن آثار غير تلك التي تتركها فوق الرمال، آثار تبدأ أحياناً بوخزة وتنتهي بالتواء مفصلي، فالمفاصل لم تعد تمتلك مرونة الجسد في العشرين وإن امتلكت مهارته وتجاوزتها أحياناً… أما التجاعيد فهي الإعلان الصريح بسطوة الزمن علينا، ولكننا في المرحلة الوسطية بين زمنين، وما زلنا نملك التباساً غريباً …التباساً يظهر أحياناً في الوجه الحائر بين تجاعيد الأم وحبوب الابنة، فعلى يمين ثنية الذقن قد تنبت حبة شباب، كإعلان مضاد أيضاً أن هرمون الشباب مازال يعمل ويقاوم، وإن بآثاره السلبية…
أما الخط الصغير على طرف العين اليسرى فهو يسلك الطريق الذي يقود حتماً لوجه الجدة المتغضن في الثمانين، خط يذكر أيضاً بأن الفرح حفر عميقاً هناك. وبين آثار الفرح وآثار الزمن يرسم الخط طريقه بخفر، من دون وعدٍ منا بأننا سنبقى نراقبه بحياد، أو سنحقنه بالسم العصري «البوتكس» المقاوم لآثار الزمن والفرح معاً.


الالتباس
العقد الرابع هو عقد الالتباسات العاطفية أيضاً، فبعد الأربعين محتم علينا النوم باكراً والاستيقاظ مستعجلاً، فندخل الواقعية مرغمين ولا تعود قلوبنا ترتجف للقصص العاطفية، ولكن يحدث أحياناً أن نبكي كالمراهقين عند الاستماع لأغنية رومانسية أو عند قراءة رسالة حب قديمة…
كما يحدث أن تتحول صالات السينما المعتمة من مكان سري للقاء أيام المراهقة، إلى مكان سري للبكاء بهدوء، فالبكاء في العتمة متعة نكتسبها بالعمر والخبرة أيضاَ…
وكثيراً ما نتلبس بأنفسنا مع أبنائنا في حوار يشبه حوارات آبائنا معنا، أو نكتشف متعة الصباحات الطويلة الصامتة أمام فنجان القهوة الصباحي كالصباحات الحزينة لأمهاتنا، في إثباتاتٍ مؤكدة على أننا نتقدم بالعمر من مبدأ: كلما كبرت شابهت أبويك وما ظلمت…
كما يحدث أن نرتدي آخر الصرعات حسب تصورنا، لنكتشف من خلال أبنائنا المراهقين أن موضة اليوم لا تعترف بتقليعاتنا التي مر عليها الزمن وغبر…
حسناً بعض الجنون الأربعيني ليس فناً ولا جهالة، بل هو ذرة الملح التي تحفظ القلوب من تعفن الشيخوخة. وفي النهاية عندما نبدأ بالاعتياد على تقدم العمر بنا، ما دمنا لم نبلغ بعد أرذله، تأتي جملة من قبيل: في عمرك هذا و… أو تمر عبارة في إعلان تلفزيوني من قبيل «جيل الشباب»، متبوعة بجملة إيضاحية مثل « ما دون الأربعين»… عندها نشعر حقاً بأننا لم نعد ننتمي لجيل الشباب هذا، ولن تخدعنا المرايا فهي لا تتبع نظام الفوتوشوب، سنبتسم وستظهر أولى التجاعيد التي سننسبها بمكر للتجاعيد الانفعالية لا للتجاعيد الزمنية، وسنلمس روحنا بثقة قائلين:
«عمر» …كم لنا من العمر يا إلهي، ونحن أرواح شابة لا تهرم!
هامش: هذه المقالة مهداة لجميع النساء الأربعينيات وما فوق، واللواتي علمنني أن الأنوثة لا تشيخ ابداً، من خلالهن وعنهن ولهن كتبت اعترافاتي الأربعينية هذه!


كاتبة سورية
آية الأتاسي

السبت، 16 يناير 2016

ذاكرة أبنائكم



اعتنوا جيداً بذاكرة أبنائكم، خذوا من وقتكم الكثير-وليس القليل- لتمنحوهم ما سوف يحيا في ذاكرتهم! اعتنوا جيدا باختيار الأماكن والناس ..الروائح والأطعمة ..الألوان والأقمشة... لأن كلَّ شيء سيبقى أثرُه في ذاكرة أبنائكم حين يكبرون وحين أنتم أيضا تكبرون.
اليوم أمضيتُ والأهل والأولاد ساعاتٍ قليلة في (حَرثا)، وهي قريةٌ من قرى إربد شمال الأردن، في زيارة لبيت خالتي،


ومنذ أن تكون على عتبات القرية أو في الطريق إليها تنثال إلى الذاكرة انثيالاً كلُّ الصور المختزنة في هذا الشيء العبقري المختبئ تحت شعرك، لتقفز صورُ الطفولةِ أمام عينيك مرةً واحدة وكأنها قد حدثت الآن، وكأنكَ ما فارقتَ المكان ولا الناس .. المواقدُ ما زالت دافئة، والروائح ما تزال تعبق بثيابك، وضحكات إخوانك وأقربائك وأصدقائك تتردد هنا وهناك.
كانت زيارة بيت خالتي أم أنس في حرثا تعني لي الكثير، وهو من البيوت القلائل التي لها بصمةٌ خاصة في ذاكرتي مما يتعلق بطفولتي؛ هناك ما تزال رائحةُ الأفران -أو ما كنتُ أسمّيه أنا رائحة (الحرائق)- أولَّ ما يستقبلنا فيها، وما زلتُ أتلمّسُ البحثَ عن هذه الرائحة في كل زيارة لحرثا...واليوم كانت سماءُ القرية تعبق بهذه الرائحة، وتُحيــي صورَ الطفولةِ في لحظةٍ وتشعلها من جديد.
تستقبلكَ في مدخل البيت شرفتُه الكبيرة المستطيلة، التي احتضنت لعبةَ (صياد السمك)، اللعبة التي قضينا مع أولاد خالتي نحاول تضليل خالتي حتى لا تكتشف أننا قد نقترب من نباتاتها الداخلية المفعمة بالحياة والنضارة! أما خلف البيت فيقع السرُّ الكبيرُ الجذابُ - بالنسبة لي- السرُّ الذي ينتظرنا دوماً، إنه بيتُ الجارة العجوز الضئيلة (أم ذياب)...
كان من عادتِنا أن نذهب إلى هناك، ربما تعجزُ الجارةُ عن استقبالنا أو عن مطاردة شقاوتنا، ولكني ما زلتُ أحنُّ إلى ذلك البيت وأذكره جيدا، فإن لم يعد متيسراً أو لائقاً أن أذهب اليوم إليه - في عمري هذا- بشقاوة الطفولة التي كانت، فإنني أُهرع عادةً إلى المطبخ لأنظر من نافذته التي تطلّ على بيتها الحجري الجميل، الذي ما زال صامداً ينتظر في كل زيارة.
...في زيارة اليوم خرج الأولاد يستكشفون المكانَ المثيرَ لهم، وقد صارت زياراتُ بيوت الأقارب متباعدة، ودون أن يدري أولادي رأيتهم يسيرون على خطوات أمهم - وهي صغيرة- دون انتباه، سعدوا بتناول (أقراص العيد) بزيت الزيتون مع الشاي، سعِدوا بالأجواء الحلوة التي احتضنتْهم في (البَرَندة) وهم يتابعون معي أنني هنا كنتُ أركض، هنا قفزتُ من النافذة، وهنا كنا ننام، ومن هناك نخرج للبئر الحجري تحت شجر الزيتون والرمّان، هنا تلذذنا بطعم (الكْبابْ) الذي تنفرد به منطقة الكْفارات في شمال الأردن -
وهو شيءٌ غير الكباب المشوي وغير الكُبّة -، وإلى الآن لم أذق أطيب من الزيتون الذي تعدُّه خالتي من خير هذه الأرض المباركة.

اعتنوا بذاكرة أبنائكم جيداً، فيما تختارون من أماكن تمضون فيها معهم أوقاتكم، وفيما تختارون من أطعمةٍ أو رحلاتٍ أو ساعاتٍ تقضونها لقراءة قصة أوعمل أشغال يدوية أو لعبة شطرنج ...أو حتى برامج تلفزيونية ستكون ساعاتُها في قادم الأيام ذكرى، لكنّ لكم في هذه الذكرى كلُّ الصورة لا كواليسها الخلفية فقط! 
لأنهم سيحفظون الأماكن والروائح والناس والكلمات وبقايا العمر القادم...سيحفظونها وأنتم فيها!
استمتعوا بأبنائكم، واخلقوا ذاكرتهم وكونوا فيها.

http://www.alwan-group.com/other.php?pid=301


الاثنين، 11 يناير 2016

الصداقاتُ الصامِتة

أحياناً ...تكونُ الصداقاتُ الصامِتةُ البعيدةُ أحلى، وأجمل….وربما أصدق!
...كنت في أثناء العمل على أطروحة الدكتوراه سنة 2007 أذهب يوميا لقضاء ساعات الصباح حتى الظهيرة في مكتبة المجمع الثقافي بأبوظبي، وهي أجمل مكان في تلك المدينة الخليجية، كنت أختار مقعدا معينا على طاولة محددة كل يوم، واستمر ذلك لسنتين تقريبا.
كان رفيق أصبوحاتي على الطاولة المقابلة- شابا بعمر أخي اﻷصغر يأتي للدراسة يوميا.لم نتكلم ولم أعرف شيئا عنه حتى اللحظة، فقط كنت أحفظ شكل رأسه ونظاراته الغامقة فوق عينيه، وآنس بوجوده في ذلك المكان، وحين يغيب كنت أفتقده وأظن قاعة المطالعة ناقصة. 
استمرت صداقتُنا الصامتة نحو سنتين، حتى انتهيت من كتابة أطروحتي، وصارت زياراتي للمكتبة متقطعة. 
ثم... وبعد نحو أربع سنوات، عندما كنت أستعد للرجوع إلى عمان، ذهبت لحضور اجتماع لأحد أندية توستماسترز باللغة الإنجليزية، نادي انطﻻقة، ويا للأقدار!! كان ذلك الشاب حاضرا يومها، رآني كما رأيته، ووقفت فوق عينيه الدهشة التي كانت عندي.. سمعته يتكلم في اجتماعنا ذاك، ورغم ذلك لم أعرف عنه شيئا!! 
إنها من الصداقات الصامتة الجميلة التي ﻻ تنسى؛ 
وربما تكون خيراً من صداقات كثيرة نحسبها صداقة حقيقية، فإذا هي تفشل في أول اختبار . وربما تكون خيرا من صداقات كثيرة نحسبها صداقة حقيقية، فإذا هي تفشل في أول اختبار؛ فقد يدخل أصدقاء تظنهم حقيقيين إلى حياتك، لكنهم ﻻ يتورعون عن إيذائك وعن سرقة الفرح والسعادة والمحبة من أيامك وأحﻻمك، ليبنوا على حطامك سعادة لهم يتبجحون بوقاحة أنها كانت بانتظارهم.

http://ar.arabwomanmag.com/%D8%B5%D9%8F%D8%AF%D9%81%D8%A9%D9%8F-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%8A%D8%A7%D8%A9/

الأحد، 6 ديسمبر 2015

لغةٌ ..كانت لنا بردا على الأكبادِ

رقة ورقيّ، طلاوة وحلاوة، تقع في القلب قبل الأذن.

مَن قال إن اللغة العربية عصِيَّة على الأطباء والعلماء؟
من قال إن الأطباء يجب أن يتلعثموا بنطق اللغة العربية الفصيحة، وأن يرطنوا فقط باللغات الأعجمية؛ ليدل ذلك -عند الجَهَلَة- على أنهم أطباء علماء معاصرون؟؟
اللغة العربية سحر وأي سحر! جمال وأي جمال!
" .. وسيظل الإنسان هو الإنسان في كل زمان..
إن الشمس التي تشرق علينا هذا الصباح هي نفس الشمس التي كانت تشرق على آدم، وإن القمر الذي سيطل علينا هذا المساء هو نفس القمر الذي كان ينظر إليه نوح على سفينته... إن أجمل شيء في هذا الكون هو إعادة البسمة على الوجوه الحزينة وهي مهمة الطب الشريفة".
استمتعوا بكلمة الدكتور يحيى بن محمد الفارسي - عميد كلية الطب والعلوم الصحية بجامعة السلطان قابوس- يلقيها في حفل افتتاح المؤتمر العلمي العالمي الثامن لطلبة الطب بدول مجلس التعاون الخليجي.


السبت، 28 نوفمبر 2015

المتنبي ولغة العصر


اليومَ استمتعتُ جدا ربما للمرة الأولى بتدريس المتنبي، لقد كنتُ من قبل أتخذ منه موقفاً شخصياً - قد أكون مخطئة فيه- إذ أنفرُ من المدّاحين، و أراه متسلقاً يبذل ماء وجهه كي يحظى برنينٍ يملأ جيبه وسمعه، ويسعى في الأرض كي ينال منها قطعة يرى نفسه ملكاً عليها.
لكنني منذ أيام وأنا أحضّر لدرس قصيدة "واحرَّ قلباه ممَّنْ قلبُه شَبِمُ.." اطَّلعتُ لدى العم يوتيوب على عمل فني كبير لمنصور الرحباني من المسرح الغنائي بعنوان: المتنبي، انتقلتُ للرابط واستمتعتُ بمشاهدة العمل الرفيع الراقي.
وعاودني السؤال الذي لا أََمَلُّ من طرحه على نفسي، منذ نحو ربع قرن هي عمري مع اللغة العربية عِلماً وتعليماً: لماذا لا تكون الأعمالُ الفنيةُ الرفيعة المستوى، الدرامية أو الموسيقية أو التشكيلية وغيرها_ ضمن مناهج تدريس اللغة العربية لطلبتنا؟ 
وأظن السؤالَ مشروعاً؛ ونحن في عصرٍ لا يبالي كثيراً بالحروف المسطورة على الورق، قدرَ مبالاتِهِ بالصور التي يلاحقها على الشاشات الإلكترونية أمامه. 
نشكو دوماً من جفاف محتوى اللغة العربية وضعفه، ونشكو من الوسائل البدائية غير الجذابة في عرض اللغة على أبنائنا وطلبتنا، ونشكو من ضعفهم وسوء اتجاهاتهم نحو لغتنا الأم، وفي نهاية الأمر لا نجتهد إلا في حدودٍ ضيقةٍ لتشويقهم إليها. 
ما زلتُ أتساءل كيف يمكن لنا أنْ نفيدَ من رصيدٍ لا يُستهان به من الأعمال الدرامية والفنية المتنوعة، التي استوحت الأدبَ والتاريخ والتراث وما مضى وكان، تصبُّه في قالبٍ معاصر تجعله قريباً من قلوبنا، وتجعل من ذائقتنا الفنية والأدبية رفيعةً راقية كما نحبُّ ونرجو من عملية تربية النشءِ وتعليمه، التي ننفق في سبيلها سنواتٍ من أعمارنا وأعمارهم لا يكون لنا -أحياناً- في ختامها إلا كما السلافة في الكأس!

أترككم لتستمتعوا بمشاهدة بعض مقاطع المسرحية الرحبانية: أبو الطيب المتنبي

السبت، 14 نوفمبر 2015

موت العائلة

موت العائلة 
بقلم إبراهيم جابر إبراهيم 
http://alghad.com/articles/903378-%D9%85%D9%88%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D8%A6%D9%84%D8%A9


لم يعد أحد يتبادل الحديث مع أحد، أو يودعه عند الباب فيكمل نصف ساعة أخرى من الحديث، لأن كليهما يريد أن يركض كالملدوغ إلى هاتفه المحمول !
فهو لا يستطيع أن يتأخر؛ ثمة أشخاص كثيرون داخل هذا “الكمبيوتر الصغير” ينتظرونه، أو ينتظرهم !
منذ سنوات كان التلفزيون في المجتمع العربي هو “ربّ البيت”، وهو الذي يربي الأولاد، ويسلّي الزوجة ويسهر معها في غياب “رب العائلة “ !
الآن، صار “الكمبيوتر” هو “رب البيت” الجديد. ويسلي الزوجة، والأولاد، وهو “رب عائلة” متعاون أكثر؛ يحملونه معهم أينما ذهبوا.
في العالم الجديد، المكتظ بوسائل الاتصال الحديثة، صارت للشخص عائلة أخرى مجازية، أو متخيلة، (يحوّلها أحياناً الى حقيقية ويتواصل معها) .. لكنها غير عائلته البيولوجية التي تجلسُ في البيت!
استبدل الناس اشقاءهم بقطع الكترونية صغيرة، أو بهاتف ملوَّن، .. وهنا تصير بعض العبارات حمقاء حين تحدث في هذا السياق؛ أقصد سياق العلاقات الإلكترونية، فيقول أحدهم لآخر (أنا أخبرك بكل هذا لأنك مثل أخي..) مع أنه في الحقيقة مقطوع العلاقة مع أخيه، ولم يخبره شيئاً من (كل هذا)!أو أن يقول أحدهم لامرأة (أنا محتاج لك لتسمعيني مثل أختي)، مع أن له خمس شقيقات في البيت لا يسمعن منه سوى (هاتي الشاي) .. أو (سخّني الشاي ) !
العائلة الحقيقية القديمة بدأت تنقرضُ من بيوتنا على نحوٍ خطيرٍ ومريبٍ وصامت، حتى إن “اللاب توب” صار بمثابة الأخ الأكبر في البيت، لكنه أخٌ بلا قلب وبلا مودّة ولا ترفّ عينه إن تعثرت خطى الشقيق الصغير.وهكذا تراجعت العلاقة الإنسانية في البيت، وبين أفراده، إلى أسوأ حالاتها، وحتى في الحالات النادرة التي تلتقي فيها العائلة في جلسةٍ واحدة، يظلّ ذلك الذي لم يستطع التملص من الجلسة ممسكاً بهاتفه المحمول يعبث به حتى وهو يأكل أو يهزّ رأسه مستمعاً، يهرب من خلاله من “البيت” الذي صار فكرة منفرة، الى العائلة الجديدة المقترحة!
لماذا نفعل ذلك؟! الإجابة سهلة جداً ويسيرة.
وهي أن العائلة الجديدة تقدم كل قيمها النظرية بشكل غير ملزم، ولا تتعامل مع “الفرد” بمنطق الوصاية والأبوّة، وتترك له مساحة من المرونة دون أن تتلصص عليه، او تشهر في وجهه سيف العيب وسيف الحرام وسيف اللازم وغير اللازم.
ربما يلزمنا ان نعيد النظر بأدوات “العائلة”، وأنسنتها، أو على الأقل إعادتها الى عصرها الذهبي؛ حين كانت “الأخت” صديقة حميمة وقريبة تعين شقيقها بحمل سرّه، وكان كتف الأم ملتقى الشقيقين، وكان ثمة فرصة حقيقية لتبادل الكلام، والمناكفات، والضحك، والساندويشات، والهموم، والمكائد، والنميمة، والنقود .. كان ثمة ما يمهد لصناعة تشابه، لاحقاً ، بين الأخوة!
الآن ثمة تشابه أكبر بين الفرد وشقيقه الإلكتروني. وليس هذا سيئاً بالمطلق، ولكنه سيئ بقدر ما يبتعد الفرد عن عائلته ليغوص في بطن الكمبيوتر.
وسيئ حين يصحو الفتى ليتفقد شقيقه بجواره فيفتقده، أو يروح الطفل مذعوراً الى أمّه:”ماما .. الكمبيوتر أكل إخوتي!!”

الأحد، 8 نوفمبر 2015

درس إنجليزي وشارع الأعمدة... من وحي عمان الغارقة

في ربيع العام 2000 كنتُ أستعد لأداء امتحان اللغة الإنجليزية IELTS بعد وصولنا لمدينة إدنبرة، ولهذا الاَمتحان قصةٌ لا بدَّ منها في سياق حديثي هذا؛ ملخصها أننا واجهنا ضيقاً مالياً شديداً استدعى مني محاولة الحصول على منحة دراسية، تكون رافداً للدخل يمكّننا من الوفاء بمتطلبات المعيشة في تلك البلاد (الكافرة) التي كانت صدمتُنا الثقافية الأولى فيها أمانةَ إخوتنا (المؤمنين) القائمين على ابتعاث الطلبة العرب واستقدامهم للدراسة في تلك البلاد المكلفة.
وكان سبيلي إلى تحصيل قبولٍ في إحدى الجامعات البريطانية يتطلب شهادة تثبت كفاءتي في اللغة الإنجليزية، ولأن العين بصيرة واليد كانت قصيرة، فلم أتمكن من الالتحاق بأي دورة تمكنني من دراسة اللغة، فاستعنتُ بزميلةٍ قادمة من بلادي أعارتْني كتاباً للتحضير للامتحان، عنوانه جواز السفر إلى أيلْتس، فاتخذتُ مني أستاذاً وطالبةً في الوقت نفسه، فكانت تجربتي الأولى في أن أكون معلمةَ نفسي؛ توفيراً لمئات بل ربما آلاف الدنانير التي كنتُ سأنفقها في الدورات التحضيرية التي يتطلبها إتقانُ اللغة الإنجليزية، وهكذا تفرغتُ شهراً للدراسة استعداداً للامتحان.
كان الكتابُ يضمُّ تسعَ وحداتٍ متدرجة من السهولة إلى الصعوبة، يتدرب الطالب من خلالها على استراتيجيات الامتحان وفروعه المتنوعة من استماعٍ وقراءةٍ وكتابةٍ وضبطٍ للوقت والتعامل مع الأسئلة وكيفية الإجابة... وما زلتُ أذكر إلى اليوم من ذلك الكتاب قطعةً من الـComprehension  في إحدى الوحدات موضوعها عن الطرق الرومانية القديمة، فقد أثارت القطعةُ في نفسي تساؤلاً كبيراً: ما الذي يجعل امتحاناً للغة يهتم بتدريب الطلبة على قراءةِ موضوعٍ كهذا: عن رصف الطرق وكيفية بناء الشوارع في الحضارات القديمة؟؟ خاصة أننا ننتمي –نحن في الشرق- في حياتنا المعاصرة إلى ثقافةٍ تنظر إلى الماضي بعين الاحتقار والتقليل، وتنظر إلى منجزات الأجداد على أرضنا وإلى بقايا الوافدين القدماء على بلادنا على أنها آثارٌ نشاهدها في المتاحف أو نشعل النيران في أفيائها لشواء قليل من اللحم في لمَّةٍ عائلية نسميها رحلة نهاية الأسبوع!
لا أدري لمَ ماتزال ذاكرتي تحتفظ بالمعلومات التي مررتُ عليها في أثناء دراستي تلك القطعة النثرية التي لا تتجاوز صفحتين، ولمَ ما تزال هذه الذاكرة تنطبع فيها الصورُ التوضيحية التي كانت ترافق النصَّ المكتوب، وتظهر فيها الطبقاتُ التي تتكون منها الطريق الرومانية تحت طبقة الحجارة الكبيرة الملساء، التي عادةً ما نسير عليها في شارع الأعمدة في مدينة جرش مثلا، دون أن نلتفت لما يمكنُ أن يكون وراءها أو تحتها على وجه الدقة.
لماذا تأتي هذه الذكريات الآن؟ لأن عمان التي ترقد بأَنَفة على سبعة جبال، والغارقة في أمطار يوم الخميس الماضي- لم تسعفها روحُها الجميلةُ في أن تحلَّ في قلوب أبنائها المهندسين وغيرهم، كي ينقذوها من مشاهدَ تخجل أن تُظهرَها للداني قبل القاصي.  
عمان الغارقة في مياه أمطارٍ امتدت لأقل من ساعة فغرقت منها الشوارعُ والأزقّة والحارات، أودت بكثيرٍ من حميميةٍ البيوت والأدراج التي تمتاز بها المدينةُ القديمة، بل حتى المعالم الأثرية الرئيسية كانت هي الأخرى في مرمى الغرق: فقد غرق المدرج الروماني الذي يكادُ يُتِمُّ الألفية الثانية من عمره، وقد كانت له تصريفاته الصحية الخاصة التي أنشأها الرومان أنفسهم، وهم المشهورون بالعمارة والبنيان. أما أبناء عمان اليوم فقد ضاقت صدورُهم عن فهم المدينة، فأغرقوها بكثير من القبح والتعثر الذي أصاب عمرانها.

حين وقع بصري على مشهد البحيرة الذي خلَّفَتْه مياهُ الأمطار حول المدرج الروماني وسط المدينة، كان درسُ رصف الطرق الرومانية في ذلك الكتاب منذ خمسة عشر عاماً هو ما وَرَدَ على ذهني مباشرة، وصار جوابُ التساؤل الكبير: نعم، لقد فهمتُ الآن لمَ قد يُحشَر موضوعٌ كهذا في دراستنا للغة!
المعرفةُ لا حدَّ لها، وغرورُ الإنسانِ المعاصر وغباؤه يجعله أحياناً لا يرى في الأعمال البسيطة والإنجازات القديمة، في معالجة مسائل كثيرة- لا يرى فيها قيمةً، وينفر من اقتفاء أثرها في معالجة مشكلات حياتنا المعاصرة. وهو يتعامى عن الحقيقة الأزلية: أن الإنسان يبقى هو الإنسان منذ عصر آدم إلى أن تقوم القيامة، لا يغيّر من هذه الحقيقة مظاهرُ التقدم التقني التي قد يعيشها بعضُ البشر في لحظةٍ تاريخيةٍ معينة، إذ يتبقى من الإنسان ما لا يمكن لأي منجَزٍ تقني جديد أن يمحو أثره.
عادت ذاكرتي إلى الرسم المنطبع فيها لصورةِ الطريق الروماني المرصوف،

وكثير من طرقات المدن الأوروبية الحديثة يتم رصفها بالطريقة القديمة نفسها، ما يعطي المدن جمالاً آسراً وحناناً على من يطأ تلك الأرض. كهذا المشهد من الشارع الذي كنتُ أسكن في إدنبرة.
وما أذكره من ذلك الدرس الحضاري الموجز هو: كيف أن أمراً بسيطاً لا يحتاج إلى حواسيب ولا ألواح إلكترونية ولا عطاءات هندسية، ولا استعدادات شتائية وهمية، أنَّ أمراً بسيطاً جداً كان يجنِّبهم الفيضان؛ عندما جعلوا الطريقَ محدودبة قليلاً في الوسط، كي يسهل جريانُ المياه إلى أطرافها التي تضم قناةً رفيعة تنتظر تلك المياه، ثم تنقلها إلى المصارف الصحية الجاهزة لاستقبالها بين مسافة وأخرى على جانبَيْ الطريق. وكيف أن طبقة الحجارة الملساء التي رُصِفَت بها تلك الطرقُ، كانت من أسباب تماسكها ودوامها حتى وقتنا الحاضر.
ولنتأمل بعض الصور التي تحفظ لنا هيئة الطرق القديمة في بلادنا ، التي نجد أنفسنا منها أكبر.



فكيف لمدينةٍ كمدينتنا عمان أن تغرق وهي تضم آثارَ عبقريةٍ هندسيةٍ قلَّ نظيرُها في العالم القديم والحديث؟ هل عجزنا عن أنْ نتعلم ونحاكي أثراً عظيماً من آثارِ عبقريةٍ هندسية عمرُها يمتد قروناً طويلة وما تزال ماثلةً إلى اليوم، لكننا تغافلْنا عن روحِ المكان الذي نسكن، تغافلْنا عن ملامحه الطبيعية حتى كادت تغيب. فكيف لنا أنْ نستعيدَ صورةَ الجبال التي تمتدُّ عليها عمان؟ وكيف لنا أن نستعيدَ المساحات الخضراء التي عادة ما ترقد على ضفاف مجاري المياه، وتمنح المدن قلباً رؤوماً خفّاقاً يحنو على أبنائها؟ أنّى لنا ذلك يُحيي رميمَ المدينة؟!
لقد نسينا في غمرةِ طمعٍ ببريقِ مالٍ يزول- أنَّ للمدن أرواحاً لا بدَّ تسكنها فلا تقتلوا تلك الروحَ، وعورةً لا بد تسترها، واليوم انكشفتْ أمامنا عورةُ عمان الغارقة أرجاؤها بأوحالنا، المقتولة روحُها بجشعنا. فمن لنا بمن يتعلم بلا خجلٍ مما مضى، ويفتح نافذةً لقلبٍ يضيء عمان من جديد؟


الأحد، 1 نوفمبر 2015

48 ساعة من دون شاحن!

48 ساعة من دون شاحن!

 بقلم فريهان الحسن


طوال 48 ساعة، كانت تحاول إخفاء ما بداخلها من مشاعر توتر وقهر وغضب..!
القصة بدأت حين وصلت البيت، فاكتشفت أنها نسيت شاحن هاتفها المحمول عند صديقتها التي تقطن في مكان بعيد، فيما كانت بطارية الهاتف تتناقص بسرعة، فلم يبق من طاقتها سوى 5 %. وقد حاولت عبثاً إيجاد شاحن قديم في زوايا المنزل. 
هي في بيتها، لكن تملكتها حالة من الغربة، وسيطرت الأفكار السلبية على عقلها! تساءلت: كيف سأتمكن من إكمال هذا الليل الطويل من دون هاتفي؟! وهل باستطاعتي الانتظار حتى صباح اليوم التالي؟!
فالهاتف المغلق كان كافياً لإشعارها بالعزلة التامة؛ إذ هي غائبة عن محيطها الإلكتروني، لا أحد معها سوى ذاتها.. وهذا لا يكفي! ولتستقل مركبتها، متجهة بأقصى سرعة إلى منزل صديقة أخرى تسكن في منطقة قريبة منها، مستعيرة منها شاحنا يعيد النبض في بطاريتها وحيوية حياتها هي شخصيا، فتنام بسلام!
في الصباح، اطمأنت بدرجة ما إذ وجدت هاتفها وقد شحن بما لا يتجاوز الربع، لأن الشاحن المستعار لم يكن يعمل جيدا. وقد حاولت أن لا تستنفد البطارية حتى تصمد لبقية اليوم، علها تتمكن من شحنها بشكل أفضل حين تعود إلى البيت.
لكن الفاجعة كانت ليلا حين تعطل أيضاً الشاحن المستعار، ليعود إليها القلق، وتدخل في الدوامة الأولى! ماذا ستفعل الآن بعد أن استنفدت البطارية تماما وتوقف الهاتف؟! كيف ستغيب عن عالم التواصل الاجتماعي (فيسبوك، انستغرام، تويتر، سناب تشات)؟ كم رسالة وصلتها على تطبيق واتس اب؟! يا ترى من اتصل بها ووجده مغلقا؟ كم رسالة إلكترونية وصلتها؟!
أفكار تذهب هنا وهناك، ويزيدها صعوبة أنه لم يعد بمقدورها وقد تأخر الوقت ليلا شراء شاحن جديد! وهي ستضطر أن يمر الليل الطويل، والممل، بعيدا عن عالم افتراضي لكنه يأخذ جلّ وقتها الحقيقي.
يومها خلدت إلى النوم مبكرا على غير العادة؛ فلا شيء يستحق أن تسهر الليل من أجله، إذ لمن تبعث رسائل وممن تستلمها؟ أين ستقرأ وتتابع وتبتسم وتحزن، وتختبر كل المشاعر معا؟.. الليلة لن يرافقها هاتفها إلى سريرها كما في كل ليلة سابقة.
استسلمت للنوم سريعا، أيضا، على غير العادة، واستيقظت باكرا، رغم أن موعدها مع صديقتها في الساعة العاشرة صباحا. لقد نهضت وكلها نشاط، واستعدت سريعاً للخروج، بحيث وصلت قبل الموعد بنصف ساعة.. فهي تريد أن تستغل الوقت في منزل الصديقة كي تشحن هاتفها، وتلحق ما ضاع عليها في ليلة وضحاها!
استغربت رفيقتها من نشاط غير معتاد، ولم تصر أن يخرجا على الموعد، فهي ملتصقة بالمكان الذي يشحن به هاتفها وتريد أن تكسب مزيدا من الوقت! لكنها اكتشفت، بأنها بالغت في توترها؛ فلم يضع عليها الكثير. الأخبار كانت عادية، والرسائل قليلة وغير مهمة.. إلا أنها مع كل ذلك شعرت أنها تستعيد أمانها كلما زادت نسبة الشحن في البطارية.
خرجتا وصديقتها، وأخذت معها شاحن الأخيرة. وكانا كلما وصلا مكانا ما، شحنته هناك قليلا، إلى أن ذهبت وأحضرت شاحنها العزيز من بيت صديقتها الأولى.
كانت تلك حالتها في 48 ساعة!... هاجس شحن الهاتف، يسيطر عليها كليا. فقد أحست خلال تلك الفترة أنها تفتقد شيئا عزيز جدا عليها، بحيث لم تستطع الاندماج في محيطها من دونه.
هي، ونحن، تعلقنا بهذا الجهاز الأصم الصغير الذي يلغي عالمنا الحقيقي، ويجعلنا أسرى لعالم افتراضي ينسينا إنسانيتنا، حياتنا، أصدقاءنا وعائلتنا، ويقذف بنا إلى عالم العزلة. هي تعترف أنها أدمنت هذا الجهاز “الذكي” الصغير الذي يجذبها لحديث صامت معه فقط.. غير أنها اعترفت أيضا، أنها معه أصبحت أكثر سلبية وسذاجة!
ربما لم تتوقف عند سؤال هو الأهم.. من يملك الاخر نحن ام هواتفنا؟!

الثلاثاء، 27 أكتوبر 2015

ذكريات جامعية

.. بين الفينة والأخرى يطلع علينا أصدقاء الفيسبوك ببعض ذكرياتهم الجميلة في الدراسة والعمل من صورٍ تجمعهم وزملاء وأساتذة، ومن أوراق قديمة لخطواتهم المبكرة في عالم البحث العلمي أو أعمالهم الإبداعية وغيرها، ما يعطي هذا الفضاء الأزرق كثيرا من الأمل والجمال.
اليوم أدين للدكتور أحمد كريّم بلال أنْ فتح لي نافذةَ الذكرى على هذه الصفحات، في الصور التالية، التي كانت جزءا من مسيرتي العلمية التي أعتزُّ بها في دراستي اللغة العربية..

فمنها الصفحاتُ الأولى لنسخة أطروحة الدكتوراه، وعليها ملاحظات أستاذنا في لجنة المناقشة أ.د فايز القيسي، وهي كلماتٌ فيها كثيرٌ من التشجيع والتقييم الجاد، وقد تفضَّل د.القيسي بنشر تقييمٍ وافٍ لأطروحتي حين صدرت في كتاب، وتجدون كلماته في الرابط التالي على مدونتي:


أما الورقة الثانية من أوراقي التي أعتز بها، فهي ورقة الامتحان الأول مع د.محمد أبو حمدة، الذي جعل الطالبة الجديدة في كلية الآداب تغيِّر من تفكيرها بدراسة اللغة الإنجليزية، وتقطع الدرب إلى قسم اللغة العربية لتقول: هذا الذي قد كنتُ أختارُ!، فتختار تغيير التخصص وترسم لنفسها قدَراً جديداً غير الذي كانت تحلم.



والورقة الأخيرة هي من أوراق السنة الدراسية الثانية وهي امتحان مادة الأدب الأندلسي، المادة الجميلة التي درستُها على أستاذي الكبير أ.د. صلاح جرار، فكانت تلك المحاضراتُ الرائعة للدكتور الرائع، التي جعلتْني أعشق الأدب الأندلسي والتجربة الأندلسية حتى أصبحت شغفي، فكتبتُ في الماجستير والدكتوراه في موضوع الأدب الأندلسي الجميل...وما زال في النفس هوىً إليها يميلُ.

الجمعة، 23 أكتوبر 2015

فيلم The Martian




في صفحاتٍ قليلةٍ من مادة مهارات العربية التي أدرِّسها – نبذةٌ عن الأدب والتكنولوجيا ووقفةٌ عند أدب الخيال العلمي، وفي كل فصلٍ حين أمرُّ تلك الدقائقَ القليلات على هذه الصفحات، أقفُ حائرةً أمام نفسي، ولكنْ ثابتةً أمام طلبتي، حين أجدُني أدافع عن محتوىً دراسيٍّ من (الخيال العلمي) في أدبنا العربي؛ إذ لا أقدر أنْ أُبْعِدَ عن خاطري أنَّ الأدبَ في عصرنا اليوم في بعض أجناسه -إنْ لم نقل في معظمها- لا يعودُ يعني الكثيرَ إذا لم يلتقِ بفنون الإبهار البصري الذي يحاصرنا في كل مكان بالصور المتحركة والثابتة، بأبعادها القديمة المعروفة أو بأبعادها الثلاثية الجديدة.

يحضرني هذا الخاطر وأنا أكتب الآن هذه السطور عن فيلم:
 (المريخي) The Martian
 وهو فيلم أمريكي مثير من أفلام ما يمكن تسميته الخيال العلمي، من إخراج ريدلي سكوتّْ وبطولة ماتّْ ديمون. وقد جرى تصوير مشاهده الخارجية في منطقة وادي رم في جنوب الأردن، التي تحاكي بيئةَ المريخ الوردية القاحلة الشاسعة، والتي جعلَها الفيلمُ بالتقنيات المبهرة وزوايا التصوير الفاتنة، قطعةً ساحرةً من أرضٍ لا نكاد نعرفها وهي أقربُ إلينا مما نتخيل، وجعلَنا نرى جمالَ بلادنا بمنظارٍ وبعيون جديدة.
يقوم الفيلم على حكايةٍ معروفة لا جديد فيها، إنها حكاية روبنسون كروزو، ولكنه هذه المرة في الفضاء! إذ يتعرض أحدُ رواد الفضاء في البعثة الاستكشافية للمريخ مع زملائه لعاصفةٍ شديدة، فتغادر البعثةُ على عجل معتقدين بوفاة زميلهم، فينقطعُ السبيلُ به وحده على ذلك الكوكب، وعندما يدرك هذه الحقيقة يكتشف أن عليه مواجهة مصيره من أجل البقاء، والعمل على أن يصلَ لأهلِ الأرض خبرٌ من أهل المريخ يقول إن هناك نفساً بشريةً ما تزال تنبض بالحياة على سطح الكوكب الأحمر.
وكما هي صورة البطل الخارق في الأفلام الأمريكية، يعمل فريقُ (ناسا) بأكمله على محاولة استرداد رائد الفضاء، مارك وتني، حيّاً من ذلك الكوكب البعيد، وهي محاولة تتكلل بالنجاح في نهاية الفيلم السعيدة.
وبين اللحظة التي يقرر فيها بطلُ الفيلم أنْ يخوضَ صراعَ البقاء، وبين اللحظة التي يعود فيها إلى أحضان الأرض، بينهما كثيرٌ من اللقطات والتفاصيل التي تُبهر المشاهد، وتثير في نفسه عدداً من الملاحظات الجديرة بالتأمل.
تستوقفني عادةً في الأعمال العلمية التي تلامسُ الفضاءَ والأفلاك العالية- فكرةُ الله، أو فكرة عظمة الخالق وتفاهة المخلوق: ففي اللقطات التي تُسحَر فيها العينُ في الفيلم بروعة الفضاء السرمدي الممتد حول روّاد الفضاء، والظلام المزيَّن بنجومٍ لا تُعدّ، والكواكب والنجوم والأفلاك والمدارات... والكون الذي يموج بكل ما فيه بلا توقف وأنتَ تنظر إليه ذاهلا- تجدُ الفطرةَ السليمةَ لا تملكُ أمام هذا كلِّه إلا أن تقول: سبحان الله ما أعظمكَ! وتجعلك ببساطة تفتشُ عن خالق هذا كله. 
لهذا فإنني ما زلتُ أذكر كيف فوجئتُ حين حضرتُ محاضرةً مباشرة مع الفيزيائي الشهير ستيفن هوكينج، في جامعة نيويورك أبوظبي، بمناسبة ترجمة كتابه (التاريخ الأكثر إيجازاً للزمن) إلى اللغة العربية، فوجئتُ كيف لعالِمٍ فيزيائي من وزن هوكينج أن يجاهر بإلحاده على الرغم من علمه الغزير الذي أغنى به الفيزياء وأبهر العالم، وعلى الرغم من أنه لا بدَّ اقتربَ من الله الذي يخافه من عباده: العلماءُ.
لا أدري لمَ يثيرُ الشفقةَ في نفسي- أولئك الذين لا تقوى قلوبُهم ولا ألسنتُهم على استحضار تنزيهِ الله في مثل تلك المواقف بأي لغةٍ كانت وبأي إحساس وهي كثيرة في الأديان والثقافات، وأَحمَدُ اللهَ كثيراً على نعمته لأننا ما زلنا نستطيع أن نقول: سبحان الله! وما شاء الله! بتلقائيةٍ وعفوية يُحرَم منها المترفِّعون عن الإيمان به. لهذا لم يعجبني في الفيلم استخدامُ البطل إبان الكارثة التي حلَّت به، لكثيرٍ من الشتائم والألفاظ السوقية مثل الـ F. word. و الـ Sh. word ، التي تثير في النفس نفوراً من أولئك الذين يُفحشون في القول في مجالسهم، وهو من المقبوحات.
لقد كان من المثير لاستغرابي أن الفيلم في دقائقه التي تقرب من مئةٍ وأربعين دقيقة- لم يُذكَر اسمُ الله فيها إلا في حوارٍ قصير لأقل من دقيقة! لم يُذكر اللهُ الذي يلجأ إليه الإنسانُ عادةً في لحظات الضعف البشرية، عندما لا يجد ملجأً يأوي إليه. لم يُذكَر اللهُ الذي تجدُ نفسَكَ قريباً منه كلما ارتفعتَ أمتاراً معدودةً فوق الأرض في طائرة، فكيف إذا خرجتَ منها إلى الفضاءِ الكونيّ الواسع؟ وكيف إذن لا تستطيعُ أن تتلمَّس وجودَ اللهِ فيما حولك وأنت وحيدٌ متفرد على كوكبٍ يسامِتُ السماءَ ويسامتُ الله، وأنتَ تستذكرُ جوابَ الجاريةِ في الصحراء...أين الله؟ فقالت: إنه في السماء. فكيف لا يقترب من الله ذلك الفضائي، وهو وحيدٌ في فضاءٍ ممتد على كوكب جدب، لا رجاءَ فيه ولا مستقبل... إلا أن يشاء الله.
ومن الأشياء الباعثة على التأمل في الفيلم بعضُ الأفكار التي قد تبدو فلسفية؛ لذا فإن شيئاً هنا يُقال: فعندما أيقن رائدُ الفضاء أنَّ زملاءَه غادروا الكوكب الأحمر وأنه بقي وحيدا، لم يجزع كما يتوقع بل كان متماسكاً، وهي ربما من نقاط ضعف الفيلم حين أعمَتْ القائمين عليه صورةُ البطل الذي ينبغي أن يكون خارقاً، والذي لا تظهرُ طبيعتُه البشرية والضعفُ الذي قد يصيب نفسه في هكذا موقف رغماً عنه، كما خلا الفيلمُ تماماً من إشارات عاطفية للبطل، إلا ما كان منه عندما ذكَر والديْه حين ظنَّ بنفسه اقترابها من الموت، لكنَّ المخرج الذي جعل العالم كلَّه يشهدُ لحظةَ إنقاذ البطل وإعادته إلى المركبة الفضائية التي ستقلُّه إلى الأرض، لم يجعل لوالديه مكاناً بين الملايين من الناس الذين شهدوا عملية الإنقاذ، في مشهدٍ لا يخلو من استعراض القوة الخارقة في بلاد العم سام!
لقد كان البطلُ واقعياً جداً عندما قرَّر أنْ يبقى على قيد الحياة قدر احتماله، وقدر ما تسمح به الإمكاناتُ الخارجية التي تتيحها محطةٌ فضائية مهجورة على الكوكب، لكنَّ شيئاً واحدا كان هو سرَّه في البقاء والصمود ألا وهو الأمل، الأمل هو سرُّ البقاء، الأمل هو ما يبقيك حياً رغم تقلب الأحوال. ربما لم يقل الفيلمُ ذلك، لكنك ترى الأملَ في كل خطوةٍ يخطوها رائدُ الفضاءِ تجاه الهدف الذي وضعه نصب عينيه، وهو أن ينقذ نفسه من الكارثة التي حلَّت به.
وفي طريقه المزروع بالأمل بدأت رحلةُ حياته الجديدة التي تشبه رحلة البشرية منذ طفولتها في صراعها من أجل البقاء. فاهتدى أولاً إلى تأمينِ مصدرٍ غذائي يقيم أوَدَه، المدةَ المتوقعة التي قد تفصله عن رفاق رحلته في الفضاء حتى العودة إلى الأرض، وهي أولويةٌ لا بدَّ منها تعيدنا إلى هرم الاحتياجات الأساسية للإنسان. وهكذا تبدو فكرةُ استنبات البطاطا في الدفيئة التي هيَّأها للزراعة- خطوةً وفكرةً واقعيةً لا من باب الخيال العلمي، وخطوةً أولى في رفض الإنسان للاستسلام للواقع الذي يحيط به ولا يقدم شيئا. وكان استمطارُ الماء سببِ الحياة، وتوظيفُ معارفه العلمية ومهاراته العديد، والموجوداتُ الباقية في المحطة الفضائية، كانت كلُّها مسَّخَرّةً من أجل تحقيق الأمل: سرِّ البقاء. وحين نجحت تجربةُ الزراعة كان شيئاً رائعاً أن ترى الأوراقَ عياناً تشقُّ (أرضَ) مريخٍ بعيدٍ وتنبت، فيخلق اللونُ الأخضر في المشهد حياةً، نحن فقط على كوكب الأرض مَنْ يعرف جمالَها وفتنتها!
وآخر ما في الفيلم من انطباعاتٍ استقرت في نفسي كانت فكرةَ الخلود التي تؤرق البشر، وهي فكرة فطرية وجدت مع الوجود البشري؛ إذ يحاول رائدُ الفضاء المفقود على المريخ (مارك)، أن يترك أثراً أياً كان مقدارُه في المكان والزمان الذي يحلُّ فيه، وتجلَّى ذلك في بدئه تسجيلَ بعضِ المذكّرات اليومية بالصوت والصورة أو بالقلم، في كل لحظةٍ يراها تستحق التسجيل والتوثيق، بل حتى في اللحظات الأخيرة التي سيغادر فيها أرضَ كوكبِ المريخ تراه يسجل كلماته الأخيرة، ويوقع اسمه على ورقة صغيرة يتركها خلفه هناك على الكوكب الأحمر، لعلَّ زائراً قادما يمرُّ على دياره تلك فيقف على أطلالها.