بقلم: بلال فضل
العربي الجديد
"بين ريتّا وعيوني بندقية.. والذي يعرف ريتّا ينحني.. ويصلي لإله في العيون العسلية.. وأنا قبّلت ريتّا.. عندما كانت صغيره.. وأنا أذكر كيف التصقت بي، وغطّت ساعدي أحلى ضفيره.. وأنا أذكر ريتّا.. مثلما يذكر عصفور غديره... اسمُ ريتّا كان عيدا في فمي.. جسم ريتّا كان عُرساً في دمي.. وأنا ضعت بريتّا سنتين.. وهي نامت فوق زندي سنتين.. وتعاهدنا على أجمل كأسٍ.. واحترقنا في نبيذ الشفتين.. وولِدنا مرتين.. آه، ريتّا.. أي شيئ ردّ عن عينيكِ عينيّ..سوى اغفاءتين.. وغيومٍ عسلية.. قبل هذ البندقية".
لأنك ربما تحفظ هذه الأبيات منذ قرأتها في ديوان قديم اقتنيته لمحمود درويش، أو منذ سمعتها بصوت مارسيل خليفة الجميل وهو يمعن في "أيقنة" ريتا وتكريس أسطورتها، ولأنك ربما قرأت من قبل أن ريتّا التي أحبها درويش في شبابه كانت إسرائيلية، وأنه لم ينسها أبداً، حتى بعد أن تقطعت بهما السبل، لذلك ربما تحب رؤية فيلم (سجِّل أنا عربي)، الذي سترى فيه ريتا "عندما كانت صغيرة"، وسترى فيه ريتّا بعد أن جار عليها الزمان الذي هو "عدو لدود للورود" كما قال نجيب محفوظ، وسيحكي لك الفيلم أيضاً كيف بدأت قصة حبها مع محمود درويش داخل فلسطين المحتلة وكيف انتهت بعد أعوام طويلة في باريس، نهاية قاسية تكمل درامية تلك العلاقة الشائكة.
لم يعد بعد هذا الفيلم الوثائقي مجال للتساؤل حول هوية ريتا التي تم نسبتها عبر السنين إلى عدة شخصيات، كان من بينهن باحثة أدبية اسرائيلية توفيت منذ سنوات، فقد حسم الفيلم أن ريتا هي تامار بن عامي الراقصة والمغنية الإسرائيلية التي التقت بها مخرجة الفيلم حيث تقيم في برلين، وكانت تبلغ الثامنة والستين من عمرها وقت تصوير الفيلم، لتحصل منها على رسائل محمود درويش إليها وبعضا من صورهما التي توثق علاقتهما العاطفية، التي بدأت حين كان في الثانية والعشرين من عمره وكانت هي في السابعة عشر، لترد رسائله على ما قاله البعض عن كون علاقتهما معا مجرد نزوة غرامية عابرة، خاضها مع العديد من الفتيات الإسرائيليات، متصورين أنهم يدافعون بذلك عن وطنية محمود درويش، خاصة أن محمود يبدو في رسائله مغرما حتى الثمالة بحب تامار أو "تاماراي"، التي ينهي رسائله معها دائما بكلمة "شالوخ محمود" أو "محمودك"، ليعرض الفيلم من خلال تطور الرسائل، كيف بدأت قصة الحب عاصفة مشبوبة، بعد أن رآها في يوم من أيام عام 1965 تغني في كورال الشباب التابع للحزب الشيوعي الإسرائيلي (راكاح) الذي كانت أنشطته متنفسا في ذلك الوقت للعمل السياسي المعارض للصهيونية، لينشأ بينهما حب من أول نظرة، يرينا الفيلم كيف تكرر بعد ذلك بسنوات مع حبيبة أخرى عربية هي رنا قباني ابنة أخ الشاعر السوري الكبير نزار قباني، وإن كان حب محمود برنا انتهى بزواج لم يكن سعيدا على الإطلاق كما تمنى طرفاه.
ولعل مأساة هؤلاء الفلسطينيين تتجسد بعض أبعادها في شخصية مخرجة الفيلم ابتسام مراعنة، التي أثارت الجدل من قبل بزواجها من اسرائيلي، وبعملها الدائم في كل أفلامها مع شركات انتاج اسرائيلية، كان من بينها في هذا الفيلم قناة Yes الإسرائيلية وصندوق التمويل الإسرائيلي الجديد للسينما والتلفزيون، ولأنني كنت قد قرأت عن هذا قبل مشاهدة الفيلم، لم يفارقني وأنا أشاهده، الإحساس بأن محمود درويش لم يكن مقصودا لذاته، وإنما تم استحضاره من أجل قضية أوسع تتجاوز شخصه وعلاقاته العاطفية بل وحتى شعره، لكي تعالج المخرجة من خلالها قضيتها الشخصية المرتبطة بقضية أعم هي مرارة الظلم الذي يتعرض له فلسطينيو 48 الذين اضطروا لحمل الجنسية الإسرائيلية من أجل البقاء في أرضهم، أعني الظلم الذي يتعرضون له من العرب حكومات وشعوبا، وهو ما يزيد مرارة الظلم والتمييز الذي يتعرضون له من سلطات الإحتلال الإسرائيلي.
يمكن أن ترى ذلك في أكثر من موضع في الفيلم، من بينها ما قاله الشاعر الكبير سميح القاسم صديق درويش اللدود ورفيق دربه الطويل، عن أنه لم يكن معجبا بخروج محمود درويش وتركه لأرضه وشعبه، وأنه لم يقتنع بما قاله له أصدقاء مشتركون وقتذاك بأن خروج درويش مهم لكي يوسع مداركه الشعرية. بدا ذلك أيضا في الموضع الذي اختارته المخرجة من حوار شهير لدرويش مع التلفزيون الإسرائيلي بعد عودته إلى رام الله عقب اتفاقية أوسلو، حيث سأله المذيع: هل تعتبر نفسك اسرائيليا أيضا لأنك لا زلت تحتفظ بالجنسية الإسرائيلية، ولم يرد عليه درويش بقوة كما يمكن أن تتوقع ـ أو تتمنى ـ بل رد بهدوء شديد بأنه لا يريد أن يقول كلاما يوتر الأجواء، وأنه لو عادت به الأيام لاختار أن يبقى ولا يسافر إلى الخارج، وأنه لا يريد أن يخلط بين الهوية والجنسية، وهو بالضبط نفس الرد الذي يدافع به فلسطينيو 48 على من يتهمهم بأنهم فرطوا في الهوية من أجل الجنسية، أما الموضع الثالث فقد كان في اختيار مقطع من نشرة للتلفزيون الإسرائيلي يؤكد فيه المذيع أن اسرائيل لم تقم بنفي درويش بل قام هو بنفي نفسه اختياريا، ولا تنس بعد كل هذا أن استعراض تفاصيل قصة الحب بين درويش وريتا الإسرائيلية، برغم كونه مهما لمحبي محمود درويش وممتعا فنيا حتى لمن لا يعرفونه بقوة، يحيل في الوقت نفسه على تجربة المخرجة الشخصية.
يقدم الفيلم صدمات عدة لمحبي شعر محمود درويش خصوصا أولئك الذين عشقوا طبعة "شاعر المقاومة" التي كان درويش ينفر منها في عقوده الأخيرة، والذين ارتبطوا بقصائده المبكرة مثل "سجِّل أنا عربي" التي اتخذتها المخرجة عنوانا للفيلم، أو قصائده النارية التي ألهبت المشاعر مثل "أيها المارون بين الكلمات العابرة" و "مديح الظل العالي"، وكلها قصائد أنهى درويش حياته، وهو يتخذ بشكل واضح مسافات متفاوتة بينه وبينها، ويفضل عليها شعره الأكثر جمالية حتى وإن كان الأقل جماهيرية.
أول هذه الصدمات يبدأ مع أول لحظة يطل فيها محمود درويش على الفيلم بصوته، حين تسمعه يتحدث بالعبرية ليس في مفتتح الفيلم، بل في مواضع متفرقة من الفيلم، بل إنك لا تسمع صوته بالعربية إلا وهو يقرأ شعره، وهو أمر لم يشتهر بين جمهور درويش، وأستطيع أن أدعي ذلك لأني من مهاويس درويش ولم أترك له فيديو على شبكة الإنترنت إلا وشاهدته، أو هكذا كنت أظن، بل ويكشف الفيلم أيضاً أن محمود لم يكن فقط يجيد التحدث بالعبرية بطلاقة، بل إنه كان يجيد الكتابة بها أيضا، حيث يعرض نصوص رسائل درويش إلى حبيبته الإسرائيلية والتي كان يكتبها بالعبرية، حيث تظهر على الشاشة كأنها تكتب من جديد، مصحوبة بأداء صوتي يقلد صوت درويش بالعبرية.
وإذا كنت لن تستغرب إجادة درويش للعبرية بوصفه عاش طفولته وشبابه داخل حدود اسرائيل، فإن الصدمة التي تتوخاها المخرجة، تأتي في اختيارها ما قاله درويش بالعبرية، خصوصا في المقطع الأول الذي عرضه الفيلم حيث يتبرم فيه محمود درويش من ارتباط كل ما يكتبه بفلسطين ووصفه بأنه شاعر فلسطين وشاعر الأرض، ساخرا من فكرة أن يعتبر كل شيئ يكتبه له علاقة بفلسطين، لدرجة أنه لو كتب قصيدة عن نزول المطر كما رآه في باريس، سيعتبره الجميع يتحدث عن المطر في فلسطين، مواصلا في مقطع آخر تبرمه من تحويل قصيدته (أحن إلى خبز أمي) من قصيدة كتبها شاب مسجون يحن إلى خبز أمه وقهوتها، لتكون قصيدة عن الأم الفلسطينية والخبز الفلسطيني والقهوة الفلسطينية، ومع أن هذا التبرم ـ المشوب بالتهكم أحياناً ـ ليس جديدا على من تابع درويش في مرحلته التي أعقبت ديوان (أحد عشر كوكبا)، لكن وجوده في السياق الذي قدمه الفيلم يمكن أن يفسر حماس جهات الإنتاج الإسرائيلية لتمويل الفيلم، التي يسعدها بالطبع أن تتعامل مع محمود درويش بوصفه صوتا فردا يخص نفسه، وليس بوصفه صوتا يعبر عن شعب وعن قضية كما يحب الفلسطينيون أن يروه، والإرباك الحقيقي للكثيرين يأتي هنا في أن هذا هو ما كان يسعى إليه محمود درويش جاهدا، حتى وإن كان شعره قد تجاوزه، وهو ما لا يمكن أن يتنصل درويش من مسئوليته، فقد يكون من حقك أن تعلن ضيقك من الطريقة التي يراك بها الجمهور، وتنسى أن الجمهور توصل إليها عبر ما قدمته من إبداع، من حقك أن تفارقه وتتطور بل وتتغير، لكن لن يكون بإمكانك أن تجبر جمهورك على أن يتطور أو يتغير معك.
شاهدت الفيلم قبل أربع سنوات في مهرجان نيويوركي صغير ومهم فيما يقدمه من فرصة لأفلام لا تجد طريقها بسهولة إلى دور العرض، يحمل المهرجان اسم (مهرجان الفيلم الإسرائيلي الآخر)، ويعلن شعاره بوضوح إنه مكرس للأفلام التي تعرض أوضاع الأقليات داخل اسرائيل، ومن بينها "الأقلية العربية"، بالمناسبة كلمة "الآخر" هنا تشير إلى أن المهرجان يقدم أداءً مغايراً لمهرجان أكبر وأقدم هو مهرجان الفيلم الاسرائيلي الذي يعقد في نيويورك في مطلع نوفمبر من كل عام، ويشهد حضورا إعلاميا مكثفا ودعما كبيرا من عدد من المنظمات والتجمعات الصهيونية، على عكس المهرجان "الآخر" الذي تقام عروضه في مركز "جي سي سي" في مانهاتن، الذي يقدم أنشطة ثقافية يصفها منظموها بأنها تتبنى خطابا مؤيداً للسلام ومناهضاً لليمين الإسرائيلي المتطرف.
حضرت عرض الفيلم وناقشته مع الجمهور القليل الموسيقية ميرا عواد ـ من فلسطينيي 48 أيضا ـ والتي قامت بعمل موسيقى الفيلم وغنت فيه قصيدتي (أحن إلى خبز أمي) و(بين ريتا وعيوني)، بعد أن أعادت تلحينهما بشكل مختلف عما سبق أن قام به الفنان اللبناني الكبير مارسيل خليفة، وبرغم قلة عدد الحضور، إلا أنني لاحظت أن الفيلم كان مؤثرا جدا بالنسبة للأمريكيين الذين شاهدوه وأغلبهم من كبار السن، وهو ما عبر عنه أحد المشاركين في الندوة حين قال أنه اندهش لأن هناك فلسطينيين يكتبون شعرا بهذا الجمال، وأن أول ما سيفعله في الغد هو البحث عن دواوين مترجمة لمحمود درويش، في حين قالت سيدة أخرى إنها تعتذر عن سؤالها الذي يبدو ساذجا لكنها تسأل لماذا لا يتم عرض فيلم كهذا لصُنّاع القرار في واشنطن، ليدركوا أن الحب يمكن أن يتحقق بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وبرغم أن ردود أفعال كهذه تعكس عدم إدراك لطبيعة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، إلا أنها فسّرت الحفاوة التي لقيها الفيلم في مهرجانات عالمية، لم تتعامل مع الجزء "الحرّاق" الذي يمكن أن يهم المشاهد العربي المهتم بمعرفة شكل ريتا ومدى جمالها، أو متابعة غراميات شاعره المفضل، بل تعاملت مع الفيلم بوصفه يقدم أملا لإمكانية أن يكون هناك سلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، كما كان يوما حب بين شاعرهم الكبير وفتاة اسرائيلية، حتى لو كان الفيلم نفسه يقدم نهاية كئيبة لتلك العلاقة.