لم تكن قصة حب الشاب الفلسطيني محمود درويش والشابة الإسرائيلية تمار بن عامي، هي قصة الحب الوحيدة التي عرضها فيلم (سجل أنا عربي) للمخرجة ابتسام مراعنة، فقد أفرد الفيلم مساحة أقل لقصة حب محمود درويش مع السورية رنا قباني ابنة شقيق الشاعر السوري الكبير نزار قباني، والتي تحولت إلى زواج قصير مضطرب انتهى بطلاق عاصف، ثم عودة قصيرة إلى الزواج، ثم فراق أخير أنهى قصة الحب التي بقي منها لدى رنا قباني تقدير كبير للشاعر الذي ترجمت بعض أشعاره إلى الإنجليزية، وذكريات مركّبة عن الإنسان استعادتها في سلسلة حلقات نشرتها صحيفة (القدس العربي) اللندنية قبل سنوات.
ربما كان من شأن عرض الفيلم لقصة الحب "العربية" تلك، أن يهئ غضب بعض محبيه الذين أزعجهم حب "شاعر الأرض المحتلة" لفتاة إسرائيلية، خاصة أن حبه لتمار لم يكن نزوة عابرة كما أوضح الفيلم، إلا أنني شعرت وأنا أشاهد تفاصيل تلك القصة كما عرضها الفيلم، أن قصة حب محمود وتمار ألقت بظلالها على قصة حب محمود ورنا، وما جعلني أتصور أن ذلك مقصود من صانعة الفيلم، أنها لم تعرض وقائع قصة حب أخرى في حياة محمود درويش انتهت أيضا بزواج قصير، كانت بطلتها المصرية حياة الهيني، مع أن تلك القصة لم تكن سرية، حيث ظهرت بطلتها من قبل لتتحدث في فيلم تسجيلي سابق عن زواجها بمحمود درويش، وكان يمكن لو لم يتيسر لمخرجة الفيلم لقاءها خصيصا، أن تستعين بما تم تسجيله معها من قبل، خاصة أن المخرجة كانت قد قالت في تصريحات سابقة لها إنها هدفت من صناعة الفيلم لأن يرى الجمهور محمود درويش في الفيلم بعيون النساء اللواتي أحبهن. لا أريد أن أجزم بتعمد ذلك الإسقاط لقصة حياة الهيني، للإبقاء على وجود تشابه بين قصتي محمود مع تمار ورنا، فقد يكون حصل ذلك مصادفة أو سهوا، لكن المؤكد أن الفيلم لم يقدم كما وعد كامل تفاصيل صورة "العاشق سيئ الحظ" محمود درويش، وهو تعبير وصف محمود به نفسه في قصيدة جميلة له في ديوان (هي أغنية هي أغنية) يقول مطلعها: "أنا العاشق سيئ الحظ.. تمرد قلبي عليّ.. أنا العاشق سيئ الحظ.. أغنية لي وأخرى عليّ".
بمجرد أن ترى في الفيلم صورة قديمة لرنا قباني، التي وقع محمود في غرام جمالها الصاعق، حين رآها وهي في الثامنة عشر من عمرها عام 1977 في أمسية شعرية له بالعاصمة الأمريكية واشنطن حيث كانت تدرس هناك، ستدرك وجود تشابه كبير بين ملامح رنا وملامح وجه حبيبته القديمة تمار، التي كانت في نفس عمر رنا حين أحبها محمود، وكانت قصة حبهما قد ولدت أيضا في أمسية شعرية، كانت تمار تجلس بين جمهور الأمسية، بعد أن أنهت فقرتها الغنائية التي لفتت نظر محمود إليها، أما رنا فقد كانت تجلس في الصف الأول وتستمع فقط إلى محمود، وأربكها أنه لم يرفع عينيه عنها طيلة الوقت، تماما كما حدث مع تمار، لكن الفارق أن محمود قام هذه المرة بعرض الزواج على رنا بعد ساعة من انتهاء الأمسية، ليتزوجا بالفعل قبل أن تمر 24 ساعة على لقائهما الأول، ولتجد نفسها في وقت قياسي معه في باريس، في انتظار فتح مطار بيروت أمام حركة الملاحة.
أقامت رنا مع محمود في شقته الصغيرة بباريس، وفوجئت هناك بعالم صاخب لم تكن تتوقعه، حيث يشاركها في زوجها كل ليلة، عشرات من أصدقائه الذين يأتون ليأكلوا ويشربوا ويسهروا دون إشعار مسبق، ولذلك لم تتحمل عناء هذا الزواج طويلا، لتنفصل عن محمود وتعود لإكمال دراستها في واشنطن، لكنه لم يقو على فراقها، وأخبرها أنه مستعد لأن يعودا سويا وأن يعيشا خارج بيروت، في مكان يحتفظان فيه بخصوصية زواجهما، وبالفعل عادا وأقاما في باريس لفترة، كانت فيه الزوجة والصديقة والحبيبة والمرشدة والمترجمة أيضا، لأن محمود لم يكن يتكلم الفرنسية، لكن الزيجة لم تستمر طويلا، وحدث بعدها انفصال نهائي، وإن كان محمود درويش قد بقي مقيما في باريس لفترة طويلة، قبل أن يكون له بيت آخر اختار أن يكون في العاصمة الأردنية عمّان، ربما ليكون أقرب إلى رام الله التي ووري جسده في ترابها.
تحكي رنا ذكرياتها تلك مع محمود، وهي تجلس في شقتها الجميلة بباريس بعد مرور أكثر من 35 عاما على بدء قصة حبها بمحمود، فتشعر وأنت تقرأ أن حبها له تماما مثل وجهها الجميل، لم تؤثر فيه كثيرا ملامح الزمن، لكن الأيام جعلتها وجعلت حبها أنضج وأهدأ، ويبدو حديثها عن قصتها العاصفة مع محمود، ممتلئا بقدر كبير من التصالح مع النفس، واستيعاب أن ما جرى من منعطفات حادة في علاقتهما، كان أمرا حتميا لعلاقة ولدت بشكل متسرع، ومضت نحوها مندفعة دون أن تهتم بتحذيرات الكثيرين من خطورة التسرع أو من وجود فارق سن كبير بينهما، لكنها برغم فشل العلاقة، تتحدث عن محمود طيلة الوقت بتقدير يخلو من المرارة أو الضغينة، ولذلك تبدو الحكايات التي تحكيها عن تفاصيل زواجهما مثيرة للضحك ودالة على الوجه الإنساني لمحمود درويش الذي كان يبدو لنا من خلال حواراته التلفزيونية وأمسياته هادئا متعقلا، لذلك ستضحك من قلبك وأنت ترى رنا تحكي كيف غضب منها ذات يوم، حين طلبت منه أن يقوم بغسل الأطباق المتراكمة من جراء امتلاء الشقة كل ليلة بأصدقائه القادمين للعشاء بلا دعوة ولا تحضير، ودخلت لتنام غاضبة، فاستمعت إلى أصوات تهز الشقة، فظنت أنها أصوات غارة اسرائيلية تداهم بيروت، لتجري مسرعة بحثا عنه، فتجد أن الصوت قادم من المطبخ، حيث كان محمود يقف ممسكا بالأطباق المتسخة، ويقوم برميها على الأرض لتنكسر تباعا، تحكي رنا هذا الموقف وغيره، وهي تضحك بهدوء لا يخلو من شجن تشعره وهي تتحدث عن محمود، مما جعلني أسأل كيف كان سيكون موقفها لو سألتها مخرجة الفيلم عما إذا كانت تعرف بقصة الحب الأولى التي جمعت محمود بالإسرائيلية تمار، وهل حكى لها عن تلك القصة أم لا، لكن يبدو أن المخرجة أدركت عواقب سؤال مثل هذا، وخشيت حتى من أن تسند مسئولية السؤال الطبيعي لمن يتحمل عواقبه.
برغم جمال وعذوبة ما حكته رنا قباني في الفيلم وما كتبته أيضا عن محمود درويش في ذكرياتها، إلا أنني شعرت من خلال حديثها، أنها ربما كانت متحرجة من أن تقول الكثير عنه كزوج وإنسان، وأكد لي ذلك تعليق كتبته ذات مرة على ردود أفعال قرائها المشجعة للحلقة السادسة من ذكرياتها، حيث قالت إن ردود الأفعال المرحبة بما كتبته ـ والتي رأت أنها تثبت تطور وعي القارئ العربي ـ شجعتها وقلّلت خوفها من أن يغضب جمهور محمود درويش إذا حكت أكثر عن حياتهما، ثم قامت بعد ذلك بتذكر واقعة ملفتة جدا ومتعلقة بموضوع فيلم (سجل أنا عربي)، وهي أنها كانت مدعوة للعشاء مع زوجها محمود درويش وقريبتها الشامية الكاتبة الشهيرة غادة السمان وزوجها الناشر بشير الداعوق، وتحدثت غادة في العشاء عن استعدادها لنشر رسائل الحب التي كان يبعث بها إليها الكاتب الفلسطيني الكبير غسان كنفاني، فأعجبت رنا الدارسة في الغرب والمقيمة أغلب عمرها فيه، ليس فقط بشجاعة وتحرر غادة السمان، وإنما بتحضر زوجها الذي لم يشعر أن في الأمر إهانة له، لكنها شعرت أن محمود درويش تغير مزاجه قليلا.
عندما عاد محمود ورنا إلى البيت فوجئت بأنه غاضب جدا، و كما تقول فإن محمود درويش "استهجن سماح الزوج لزوجته أن تفضح ماضيها الغرامي مع من سبقه، رغم أن من سبقه كان رجلا سيرته تهم الناس و القضية الفلسطينية خاصة أن الكاتب والشاعر و الفنان هو مجرد ما يُنتج — أي عمله فقط — و ليس حياته الخاصة، التي لا تدل على ما هو أبداً، فأغضبت محمود اكثر حينما ردّيت أن هذه النظرية السوفيتية المذهب التي كانت قد أقنعته بهذه السذاجة وقتها، تحرم القارىء من التفاصيل الأساسية لفهم الكاتبة أو الفنانة، أو الشاعر أو الموسيقار، وأعطيته ادلة كثيرة من حياة الشاعرة الأميركية أملي ديكنسون، والشاعر اليوناني الاسكندراني كافافي، والشاعر ت.س. إليوت، والكاتب الياباني تانيزاكي، التي لا بد وأن تزيد العمق في قراءة أعمالهم. سمع ما قلت، وأظن انه احتار بأمره، فذهب الى النوم وهو ما زال يقلب الفكرة بعقله الجدلي اللامع. بعد أسبوع، أخذ من بين كتبي كتابا يروي حياة مارسيل بروست، و طلب مني أن أختار منه عدة صفحات أعجبتني، و ان أترجمها له".
بالطبع، لا ندري كيف كان سيشعر محمود درويش لو كان حيا، وقرأ ما تكتبه رنا عنه، أو لو كان قد شاهد النساء اللواتي أحبهن، تمار ورنا وحياة، وهن يتحدثن عنه، هل كان سيغضب لأنه لا يزال يرى أنه ليس في حياته شيئا يهم أحدا سوى شعره ومواقفه وأفكاره، أم أنه كان سيتقبل وجهة النظر التي ترى أن معرفة قارئه بحياته تجعله يغوص أكثر في تذوق أدبه وفهم مواقفه، فلكل من الموقفين وجاهته ومنطقه. لا أستطيع مثلا كقارئ معجب بمحمود درويش وقارئ لكل ما كتبه شعرا ونثرا، أن أقول إن هذا الفيلم جعلني أرى محمود درويش بشكل مختلف يجعلني أحبه أكثر، أو أحب كتابته أقل، لأن كل ما أريد معرفته عن محمود درويش عرفته بالفعل من خلال شعره الجميل ونثره الرائع، ولا أعتقد أن حبي مثلا لقصيدة (بين ريتا وعيوني بندقية) كان سيقل لو كنت قد عرفت أن ريتا درزية أو شيعية أو صينية، لأنني كنت أرتل نفس القصيدة بخشوع بالغ، في حضرة حبيبتي الأولى التي كانت تسكن قرب مقابر الإمام التونسي، وكنت وقتها أتخيل أن البندقية التي تقف بيني وبينها هي بندقية المجتمع الذي يمنع شابا فقيرا مثلي من الزواج بها، وبنفس الطريقة كنت أقرأ وأردد (أيها المارون بين الكلمات العابرة) وأنا أتخيل أنني أوجهها لحسني مبارك وأسرته وألاضيشه، دون أن أفكر لمن كتبها محمود، وهل كان حقا يقصد بها كل الإسرائيليين حتى أصدقاءه المحبين للسلام من وجهة نظره، أم أنه كان يقصد فقط جنود الإحتلال الذين يكسرون أذرع الأطفال، وحتى المواقف السياسية التي أعلنها محمود درويش في الفيلم وفي غيره وبدت صادمة للبعض، لا أظن أنني سأتذكرها أبدا وأنا أقرأ مثلا (جدارية) محمود درويش التي قال فيها كل شيئ يمكن قوله ليس عن فلسطين فحسب، بل وعن كل شيئ في هذا الكون.
ما أضافه لي فيلم (سجل أنا عربي) أنني استمعت به، وأنني اكتشفت أنني لا زلت أحتفظ بهشاشتي تجاه صوت محمود درويش، بدليل أنني بكيت في ظلام قاعة العرض وأنا أستمع إليه يردد قصيدة "سجل أنا عربي" التي لم أعد أحبها منذ 15 عاما على الأقل، وما أنا ممتن لمخرجة الفيلم بسببه، وبرغم كل شيء، هو أنني قضيت وقتا جميلا بصحبة محمود درويش ومحبوبتيه، ومن حديثهما الحميم الدافئ عنه، أدركت كم هو جميل أن يحب الرجل امرأة حبا جميلا، يجعلها تذكره بحب حين تأتي سيرته، فضلا عن أن مشاهدة ذوق محمود درويش في الجمال، جعلني أتذكر أيام كنت معجبا مهووسا به، لدرجة أن إعجابي به جعلني أتخلى عن مبدأ أصيل كنت أعتنقه منذ اقتربت بدءا من عام 1991 من أوساط الفنانين والأدباء والكتاب، وهو ألا أطارد أبدا كاتبا أو فنانا مشهورا لكي أسلم عليه أو أحصل على توقيعه أو أطلب التقاط صورة معه، مهما كانت محبتي له، وهو ما التزمت به مع فنانين وكتاب كثيرين أحبهم، كان يمكن أن يكون لدي معهم ومنهم صور أو توقيعات أتفشخر بها على أقراني، وقد كانت محافل القاهرة في التسعينات من القرن الماضي لا زالت تموج بكبار الأسماء المصرية والعربية اللامعة في كل المجالات.
كنت أقول لنفسي دائما طالما لم تأت فرصة التقاط الصورة أو الحصول على التوقيع من الكاتب أو الفنان ونحن أصدقاء بالفعل أو نعرف بعضنا فعلا فلا قيمة لذلك، ومع ذلك فقد فشلت في الإلتزام بهذا المبدأ مع محمود درويش، حين حضرت له عام 1994 أمسية شعرية في قاعة إيوارت بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، وبعد انتهائها ظللت أحوم حوله لأكثر من ساعة وأراقبه وهو يتبادل التحية مع معجباته، وربما غرني إقباله عليهن بالقبلات واللمسات والهمسات والضحك المسرسع، فأخرجت من حقيبتي المهترئة نسخة من ديوانه الأحدث وقتها (أحد عشر كوكبا) ـ طبعة دار توبقال المغربية ـ وكنت قد دفعت فيها ثمنا باهظا اقتطعته من قوتي المحدود كطالب جامعي، لأنتهز فرصة نزوله على السلالم وقد خف الزحام من حوله، لأقطع طريقه وأقف أمامه متسمرا ومادا يدي اليمنى بالديوان، واليسرى بقلم، وأنا "فاشخٌ ضَبّي" عن ابتسامة عريضة بلهاء، لأفاجأ به ينهرني، ويطلب مني أن أخلي السلم لكي يتمكن من النزول، لأعود إلى البيت ليلتها وفي قلبي جرح سطحي أحدثه شاعري الأوحد وقتها، فلم يعد كذلك بعد أن زاحمه مع مرور السنين شعراء آخرون في المكانة والمحبة والتقدير، وها أنا الآن بعد أن شاهدت هذا الفيلم أتذكر كم كانت جميلة وجوه المعجبات اللواتي كان محمود درويش لطيفا معهن، وكم كان مناقضاً لهن مظهري وأنا أعترض طريقه، فأتفهم موقفه وأسامحه على "شخطته "بعد أن كنت قد أزمعت أن أختصمه فيها يوم الحساب.