أرشيف المدونة الإلكترونية

‏إظهار الرسائل ذات التسميات من أوراق منتصف العمر. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات من أوراق منتصف العمر. إظهار كافة الرسائل

السبت، 5 أغسطس 2017

أمي.. وبنتي ..وأنا ... ثلاثة أجيال مع الحكايات..

كان عدد الحضور لا يتجاوز عشرين، في جلسة حميمية في عمان، حيث بدأت الحكواتية دنيس أسعد حكاياتها..

بدأت من أصل الحكايات، التي جلبتها أمٌّ تبحث لأطفالها عنها، حتى وصلت إلى ملك البحار الذي أهداها الصَدَفة؛ التي كلما وضعتها على أذنها منحتها حكاية جديدة...
فما حكايتكم مع البحر؟! هل هو راحة للنفس ومخبأ الأسرار وخفايا الصغار؟؟
...حملت كيسا صغيرا مملوءا بصدفاتٍ جميلات حملتها معها من بحر حيفا.. مدينتها التي تراها أجمل مدن الدنيا... ولكلٍّ منا مدينته. 
مزجت حكاياتها التي تحكيها بحكاياتها هي...
حكت كيف يمكن للحماة ألا تُعجَب باختيار ابنها الشاب لعروسٍ قصيرة القامة...
حكت السذاجة التي كانت زمان... أيام تظن الفتاة أن اقترابها البريء من شاب يخفق له قلبها، قد يكون السبب في اضطرابات جسدية تقلب كيانها. 
حكت المشاعر المتقدة في قلب امرأة ستينية تنتظر حفيدها الأول.. فتملؤها فرحا غامضا يجعل روحها ملائكةً تحوم في السماء.. وجسدها جسد شابة عروس تنتظرها الحياة.. 
حكت حكاية الفتاة التي رافقته شاباً يافعاً وأحلامهما في فلسطين .. أحلامهما الساكنة في أزرق المتوسط .. حتى ما إذا حان اللقاء في كرمل حيفا .. لم يقدر إلا أن يلوِّث زرقةَ المتوسط بزرقة الياسمين.. لم يقدر إلا أن يخون حبهما وعهدهما .. ولتبقى الحكاية: دنس الياسمينة الزرقاء يقتل طهر حكاية الحب الذي كان.
رقصت ...غنَّت... صفَّقت بيديها ووزعت صدفات حيفا تذكاراً للحاضرين.. كي تكون الـ(ميجنا) و(زريف الطول) و(هدّي يا بحر..طوّلنا في غيبتنا) في الذاكرة قريبةً وبعيدة..
لقاء يجعل النفس تغوص في داخلها.. وتقول: إن ما أعجبني في اللقاء لم يكن فقط الحكايات التي تحكيها.. بل ما بات يعجبني تلك الروح التي تتقد شغفاً في نفوس كبار السن، الذين يملكون من جمال الجسد ما تبقى آثاره واضحة لا تخفى مع تقدم العمر.. نضارة في الوجه.. ورشاقة في القوام.. وعناية بأدق التفاصيل من أناقة الثياب حتى طلاء أظافر القدمين.
باتت هذه النماذج _خاصة من النساء_ تعطيني دليلاً آخر أن الحياة امرأة.. أن سرَّ الحياة امرأة .. روحها رونقها جبروتها واستمرارها... امرأة!
ففي حياة كلِّ واحدٍ منا امرأة هي سرُّ حياته أنى وقعت منها.. أماً... أختاً.. حبيبة.. زوجة.. ابنة... صديقة ...عشيقة... حتى جارة السوء!!
الحكواتية دنيس... هي واحدة من نساء الأرض إلى جانب كثيرات، تجعل كلّ واحد منا مشروع حكواتي على طريقته!
الساحة لكم... فهاتوا حكاياتكم...


الأحد، 27 مارس 2016

لماذا يجب أن تكون الجنةُ بعيدة؟!

 رحلات في الوطن وخارجه
في بلادنا طبيعةٌ خلّابة ذات جمال خاص، يخالف الجمال الموروث في الماء والخضرة والوجه الحسن، إنّ في كل قطعة على هذه الأرض جمالٌ لا تدركه إلا العيون التي ترى الجمال بقلوبها، ففي رمال الصحراء الممتدة تحت لهيب الشمس الحارقة جمال، وفي السهول الثلجية الجليدية التي تنتهي إلى ليلٍ يطول شهورا- جمال، وفي الغابات الخضراء والجبال الشمّاء والسهول والأنهار والوديان والقيعان...فيها قِطَــعٌ من جمال مختلف ألوانه!
الجمال نعمة الخالق الجميل لأهل الأرض، لكنّ الإنسان لربه كنودٌ جحود! لا يقدّر قيمة الجمال الذي بين يديه، وهذا ما يمُرُّ في خاطري كلما ذهبتُ في بلادي بعيداً عن ضجيج المدينة وزحام الحجر والبشر فيها. فلا أدري ما الذي أصابَنا؟! وما هذا القبح الذي ننغمس فيه دون أن ندرك خطورة الأمر؟! إن في كل ما حولنا مسحةَ جمالٍ تنطفئ يوماً بعد يوم، ولولا بقيةُ عنايةٍ إلهية ترحم مَن في الأرض، لانتهى الجمالُ إلى غير رجعة.
                                                                          منطقة أم قيس الأثرية /الأردن 2016
إن مسألة الجمال واللياقة والأناقة والنظافة ليست ترفاً حضارياً أو ثقافياً يختصّ بمجتمع دون آخر أو بأمة دون أخرى، إنها قيمة إنسانية لا تفنى ولا تموت!
في رحلةٍ قصيرة إلى منطقة أم قيس الأثرية شمال الأردن، أو إلى قلعة عجلون، وفي رحلاتٍ أخرى تشبهها إلى البتراء الأثرية جنوب الأردن، وإلى قلعة الكرك، وفي رحلاتٍ إلى مواقع أثرية أخرى على أرض الأردن يتكرر المشهد مرةً تلو مرة ولا يختلف! أعود إليه طفلةً كأني ما فارَقْتُه إلا الساعة! لماذا؟! ماذا كنا نفعل طيلة السنوات التي مضت والتي تقترب من مئة هي عمر الدولة الأردنية الحديثة؟ ماذا كنا نفعل حتى نكون عاجزين عن تسويةِ طريقٍ في موقع أثري يمكن أن تسير فوقه على قدميْك، دون أن تُلقي بحذائك في سلة المهملات حين تعود من رحلتك لزيارة أيّ مَعلَمٍ أثري ؟!
                                                                                                                           منطقة أم قيس /الأردن2016
ماذا كنا نفعل طوال قرنٍ حتى تكون البتراء وأنا صبيةٌ سنة 1987 هي ذاتها البتراء سنة 2016؟!  وربما هي ذاتها البتراء التي أماطَ عنها اللثامَ جون بيركهارت الرحالة السويسري مكتشف المدينة الوردية العجيبة سنة 1812؟! لماذا تكون البتراءُ بغبارها وأتربتها  وفوضى الحواس التي تقع على معالمها هي هي قبل مئة عام وبعد مئة أخرى؟! ماذا كنا نفعل كي تقطع (السيق) الممتد في الوادي على قدميْك، وحالما تنتهي منه إذا بك أشعث أغبر وكلُّ خيبات العمر تصبح ماثلةً أمام عينيك، حين تنفتح نهايته على خيبةٍ تُنسيكَ جمال المبنى الوردي المنحوت في الصخر!
ما الذي دهانا في الأردن وفي بلادنا العربية حتى تختفي ذائقتُنا الحضارية في التنزه وارتياد الحدائق والرياض التي أبدعْناها وامتلأت بأخبارها كتب الفِلاحة والتاريخ والأدب. وامتلأت بها حواضرُ بلادنا وقراها وأريافها، لماذا يستقبلك القبح في مرابع المتنزِّهين بأكوامِ النفايات المبعثرة؟! ولماذا تطلُّ الأعشاب الضارة النامية هنا وهناك من بين الحجارة والآثار،فتأكل ما بقي منها؟! ولماذا تفتقد المواقعُ الأثرية إلى حدٍّ مقبولٍ من الخدمات التي لا يستغني عنها مسافر؟! ما الذي تفعله وزارة الآثار إذا طلب طفلي استخدام الحمام بعد يوم طويل من الرحلة؟! وما الذي تفعله تلك الوزارة لو احتاج والدي مكاناً للوضوء أو الصلاة؟ هل تظن أن جبايةَ رسوم الدخول للمواقع الأثرية هي السياحة؟؟ هل تظن أن دخولَ المواطن للموقع الأثري خلسةً بلا رقيب- هل تظن أنه سياحة هو الآخر؟؟ إن عقلية (الجباية) و(الفهلوة) و(السَّلْبَطَة) والاستخفاف بالمواطن العربي سرقت الجمال من قلوبنا وشوَّهت كلَّ جميلٍ في عيوننا.
لا تذهب النفس من هذه الخواطر إلا وتحضر البلاد الأخرى لتحتل الصورة، التي نتجرع حسرتها، مرة بعد مرة، فإذا كنتَ رحالةً على سفرٍ ذات مرة، أو كنتَ رحّالةً بين الصور مرة أخرى فسافرتَ في الأرض دون أن تغادر الشاشة التي أمامك، وصرتَ تحفظ ملامح المدن كما تحفظ وجوه النساء، فإنك ستعرف أن الجمالَ بعيدٌ عنا وأن الجنةَ بعيدةٌ جدا!
لماذا عندما نجوب مدن العالم نجد للمعالم الأثرية مذاقاً آخر؟ لماذا تحنو قلوبُ غيرنا على الحجارة، ونحن نقسو حتى لتكون قلوبُنا كالحجارة بل أشد قسوة؟! كثيراً ما تساءلتُ مثلاً في زيارتي لمدينة عكا وحيفا -فكَّ الله أسرهما من أيدي يهود- أمام بديع الجمال الربّاني الذي يأسر قلوبَ العاشقين: كيف تستحيلُ هذه الهِبَـــةُ الإلهيةُ قِطَعاً من سحرٍ فتّان يأسر القلوب فلا تغادرها؟! وكثيراً ما تساءلتُ: ماذا لو كانت حيفا مثلاً ما تزال بأيدينا، هل كانت شوارعها ستكون في تلك الأناقة والنظافة والسحر الحلال؟!!

حدائق البهائيين المنسَّقَة الجميلة/ الكرمل- حيفا2013
على بوابة حدائق البهائيين التي تزهو بها حيفا على سفح جبل الكرمل، اقتربتُ بضع خطوات لإبراز تذكرة الدخول للموظفة، نظرَتْ في وجهي تتأمل في شفتيَّ المتحركتين، وقالت: العلكة!! ليس مسموحاً بها! كانت في كلماتها (صدمةً حضارية)، تلك الصدمة التي يحدثكَ عنها علماء الاجتماع تصيب الفرد حين ينتقل من مجتمعه الذي اعتاد إلى مجتمع آخر جديد!
(علكة) بحجم حبة الفستق يلوكها لساني تمنعني من دخول حدائق البهائيين في حيفا!! وعندما عدتُ أدراجي مساء ذلك اليوم كنتُ أستعيد كلماتِ الموظفة في سري وأقول: نعم إن مجرد قطعة علكة صغيرة تخلق الفرق! وبعضنا يسخر منك لو قلتَ له ممنوع التدخين!!
أما في قرطبة التي كانت بأيدينا زينةَ الدنيا وعاصمةَ الأرض، ففي ذات مرة كنا أمضينا والزملاءَ الصباحَ في زيارةٍ لدار البلدية ونحن بملابسنا الرسمية. وعندما انتهى اللقاء سِرنا في جولةٍ في المدينة القديمة في المواقع الأثرية التي يعرفها الناس في قرطبة. كنا نرتدي ملابسنا الرسمية وأحذيتنا غير الرياضية، قطَعْنا ساعاتٍ مشياً على الأقدام في الأزقّة الشابة التي جاوزت ألف عام من عمرها، فلم يأكل الغبارُ والأذى أحذيتَنا والثيابا!

السور الخارجي للمسجد الجامع بقرطبة والشارع الحجري النظيف اللامع/ الأندلس2014 

زقاق نظيف من أزقّة قرطبة زينة الدنيا/ الأندلس2014
وفي الليلة نفسها كنا نعاود رحلةَ المسير نفسها في ساعة متأخرة، وخريرُ مياهٍ متدفقٍ ينساب في الأذنين، وإذ برجالِ البلدية في ثيابهم الصفراء وصهاريج مياه متوسطة الحجم يجرُّونها خلفَهم يهرقون المياه على الأرض الحجرية الملساء فتغدو لامعةً براقة  من النظافة. لماذا تعلَّموا منّا كلَّ جميلٍ ونسيناه نحن؟؟!
فإن قال قائل إنّ شوارعَ قرطبة هي داخل المدينة القديمة نفسها، فلأذهب بكم إلى آثار المدينة الملكية المنكوبة (مدينة الزهراء) في ضواحي قرطبة التي لم تُبقِ منها حوادثُ الزمان إلا أطلالاً مهجورة، لكنَّ زيارتها في المكان الخالي البعيد عن قرطبة المدينة- لا يمنع أن تزورها وأنت بكامل أناقتك أيضا! فلن تحمل همَّ أذى الطريق ووعثاء السفر إليها؛ فالأرض ممهدةٌ، والدروبُ مبلَّطة، والطرقاتُ والدَرَجات والرَّوحات والجيئات، ميسَّرةٌ للماشي وللراكب.
أما في قصر الحمراء بمدينة غرناطة، فإنك تقطعُ دروباً طويلة صعوداً وهبوطاً تصعد إلى قصبة الحمراء تسير في أروقة القصروأجنحته وحدائقه وأنت بكامل أناقتكَ فلا تخرج منها إلا وقد ازددتَ جمالاً على جمال، يغمر روحَك عطرٌ أريجٌ يدوم ويبقى أثرُه في قلبك. فما بالُ الطريق إلى الحمراء عامرةً بوارف الظلال، تستقبلكَ المياه الجارية في غدران رفيعة على جوانب الطريق الصاعد إليها، وتحفُّ بك الأشجارُ الباسقةُ بحنانٍ يأسرك ضيفاً، وتنسى أنك عابر سبيل في تلك الأرض فتطيب لك الذكرى ويطيب لك المقام.
فما الذي قد نخسره ببذلِ قليلٍ من نظافةٍ وقليلٍ من أناقةٍ وقليل من ترتيب؟!
ما الذي قد نخسره لو استفَقْنا على مواقع بلادنا الأثرية وقد صارت طرقاتُها ممهَّدة موطَّأَة لكل زائر؟ وما الذي قد نخسره لو كان لأهل المسؤولية فينا -صغُرت أم كبرت-  بعضٌ من المسؤولية التي سيُسألون عنها يوماً؟! وما الذي يمكن أن يفوتنا لو كانت الأمانةُ عملاً لا قولاً يتقنه من هبَّ ودبّ؟!
ما الذي؟! وما الذي يمكن أن تكملوه أنتم في الأسطر الفارغة التالية
....
...
...
حتى  نقف على اليرموك مجدداً نكرر السؤال:


 "أجبني هل يفيقُ الشرقُ حقاً ... وينهض بعد أن أغفا وناما؟!!!"



الصور المرفقة بالمقال  بعدسة صاحبة المدوَّنة 

الأربعاء، 23 مارس 2016

مع الأستاذ القاضي ماجد غنما


..... أول مرة في حياتي أجلس إلى أستاذ من أولئك العمالقة الذين نقرأ لهم ونتمنى مجالستهم- كانت وأنا في مرحلة الماجستير، في إحدى محاضرات النقد الأدبي لأستاذي الدكتور إبراهيم السعافين؛ إذ كان ضيفُنا -في إحدى المحاضرات- العلَمَ العلّامةَ الأستاذ الدكتور إحسان عباس.
وما زلت إلى اليوم بعد مرور أكثر من عقد ونصف من الزمان على تلك الدقائق التي شرُفنا فيها بلقائه، ما زلتُ أذكر جيداً الحالة التي كنتُ عليها في حضرة هيبة العلماء بحق التي لا تدانيها هيبة، وما زلتُ أحكيها لأولادي ولطلبتي وأصفُها بأنها كانت التطبيق العملي للمثل الشعبي (بترمي الإبرة بتسمع رنّتها). ربما لم أعد أذكر كلَّ ما قال هو، لكنني أذكرُ جيداً ما شعرتُ به أنا.
لم أختبر مثل ذلك الشعور ثانية إلا العام 2011 في مؤتمر الرحلة بين فون همبولد وابن بطوطة/ جامعة ابن طفيل؛ إذ شرُفنا في واحدةٍ من جلسات المؤتمر المميزة بمشاركة الأستاذ المؤرخ المحقق عبد الهادي التازي صديق الرحالة ابن بطوطة، الذي أمتعَنا وشنَّف آذاننا بمداخلته وتحقيقاته حول مخطوطات جديدة طريفة لرحلة ابن بطوطة.
هذان الموقفان كانا حاضريْن مساء أمس في الندوة التكريمية التي أقيمت لواحدٍ من أعلام الأدب الأردني الأستاذ القاضي ماجد ذيب غنما، وقد كان لي شرف المشاركة في الكلمات المقدمة بهذه المناسبة حول كتابه يوميات أندلسية.

لا أستطيع أن أصف شعوري، هل هو شعور الاعتزاز بأديبٍ أردني من منزلة الأستاذ ماجد غنما؟ أم هو شعور الفخر بالنفس لأنني حظيتُ بشرف الوقوف إلى جانب قامةٍ كتلك، من القامات الباسقات السامقات من قامات أَعلامنا الأردنيين؟
 كان شعوراً رائعاً وأنا أقف إلى جانب واحدٍ من أركان الأدب الأردني المعاصر ،ألتمس فيه روحَ روكس العُزَيزي وعيسى الناعوري وناصر الدين الأسد وغيرهم من الروّاد، وأشتمُّ من عبقه رائحة الشباب المثابر وروح الجمال والعدل الذي لا يفني بفناء الجسد.

جمعَتْني الأندلس بالأستاذ ماجد غنما فكانت كلماتي في كتاب رحلته إلى إسبانيا التي سطّرها بعنوان يوميات أندلسية التي صدرت في 1978.

تجدون نص مداخلتي في هذه الندوة التكريمية على التدوينةالسابقة بعنوان :
يوميات أندلسية ل ماجد ذيب غنما 

الأحد، 21 فبراير 2016

أدبي ..علمي

أدبي... عِلمي.

هي في سنة 2016
ابنتي في سنتها الثانوية الأولى الفرع الأدبي، دخلت الفرع الأدبي عن رغبة ووعي بقدراتها وميولها.
أنا في سنة 1985
كنتُ في سنتي الثانوية الثانية الفرع الأدبي، أيضاً دخلتُ الفرع الأدبي عن رغبةٍ ووعي بميولي وتطلعاتي.
ما بين الأدبي 1985 والأدبي 2016 نحو ثلاثين عاماً ... ولا شيءَ تغير!!
عادتْ من المدرسة غاضبة، تشتعل عيناها بعد مناقشة قديمة-جديدة مع معلمتها، في مسألة سفسطائية تستهلك ولا تنفع: أفضلية (دجاجة) العلمي على (بيضة) الأدبي؟ ذكاء طلبة العلمي أم غباء طلبةالأدبي؟ سعة العقل العلمي أم ضيق العقل الأدبي؟؟
دائرة لا تنتهي من المقابلات غير المنطقية وغير المفهومة ما زالت تحكم منظومتنا التعليمية!! وما يزيد في الوجع أنني وجدتُ ابنتي تعيد على مسامعي ما سمعتُه أنا منذ عقود في الموقف ذاته!! ووجدتُني أقف ذاهلة أمام ذاكرتي والصور التي تراءت لي : تغيرت الدنيا كثيراً، ملامح المدينة نفسها تكاد لا تعرفها، ملامح الناس.. هيئاتهم.. ملابسهم.. حتى طريقة كلامهم تغيرت ...لكنّ ذلك كلَّه ما غيَّرَ شيئاً في عقولهم!
فما زلنا -إلى اليوم- نفاضل بين العلمي والأدبي، ما زالت -إلى اليوم- تلك النظرةُ القاصرة تحكمنا. غاب عن بصيرتنا أن الأمم لا تقوم بتخصص وحيد، ولا تنهض بفئةٍ معينة من العلماء، غاب عنهم أن الأرض لا يعمرها الأطباءُ والمهندسون والصيادلة وأساتذة الرياضيات وعلماء الفيزياء والكيمياء فقط، بل إن الأرض ليست الأرض إذا لم يعمرها كذلك الأدباءُ والفلاسفة، السياسيون والمعلمون، الفقهاء والشعراء، الفنانون والموسيقيون... وليس أصحابُ الشهادات وروّاد دروب المعرفة النظرية هم أصحاب الحق في عمارة الأرض، بل إنَّ الأرض حلالٌ للمزارع والراعي، وللعامل وللبنّاء، وللصانع والحِرْفيّ، ولكلِّ من اقترب من الأرض يهمس لها بيديه، بعرق جبينه، بقدميْه تغوص في الأرض، كأنما يمدُّ جذور الهوى في الأعماق. 
هؤلاء جميعا هم أصحاب الحق في عمارة الأرض، ولهم جميعاً -على التساوي- التقديرُ والاحترام ذاته.
ربما كان الذي زاد الطينَ بلّةً أن هذه النظرةَ القاصرة تصدر من المعلمة أمام طالباتها، فإلى متى ستبقى هذه النظرة الاستعلائية لدى معلمي التخصصات العلمية قائمة؟ وللأسف ينقلون بذلك عدوى الجهل من جيل إلى جيل. لا تغرَّنَّك الشهاداتِ الكبيرة ولا الألقاب الفخمة ولا غيرها من مظاهر يستتر خلَفها أمثالُ هؤلاء، وفي حقيقة الأمر الواحدُ منهم لا يتجاوز فهمُه أرنبةَ أنفه!!
كنتُ مثل ابنتي واجهتُ استهجان معلماتي -لأنني كنتُ الثانية على صفي-، خاصة استهجان مربية الصف حين اخترتُ بملء رغبتي الالتحاق بالفرع الأدبي! وقد راجعتْني المعلمةُ عدةَ مرات لتقول لي تمهلي وأعيدي النظر في الاختيار، قبل أن نرفع الأسماء والاختيارات إلى وزارة التربية والتعليم، فيتعذر حينها تغيير رغبتكِ. كان من المستهجن - ويبدو أنه ما زال مستهجناً- أن يتجه طالبٌ متفوقٌ للفرع الأدبي؛ محكوماً بتلك النظرة القاصرة التي تُعلي من شأن الأطباء والمهندسين في المجتمع -في ذلك الحين-، ويظهر أن الأمر لم يتغير كثيراً وإنْ تراجعت أسهم الأطباء والمهندسين اليوم لصالح قطاعاتٍ مهنية أخرى. إلا أن النظرةَ نفسها التي ما زالت تحكم نظرتنا للعلمي والأدبي...لم تتغير!
كنتُ واضحةً في ميولي وطموحي ورغبتي العلمية، وهذا ما انعكس بحمد الله وتوفيقه على مسيرتي العلمية كاملة. ولكن لقد كانت مكافأةُ الجيران والمعارف لي وقت نجاحي وتفوقي في الثانوية العامة، وكنتُ الأولى في مدرستي: (أن التسعين في الفرع الأدبي تعادل السبعين في الفرع العلمي)!!!! "ألا ساء ما كانوا يحكمون"! وكانت مكافأةُ المجتمع أن زملائي في كلية الآداب قد سبقوني إليها في الدفعات الأولى للمقبولين في الجامعة؛ بفعل الوساطات والمحسوبيات والاستثناءات غير العادلة!
ابنتي.. أنا فخورة بكِ وباختياركِ وبإنجازكِ وبقدراتك، فلا تدعي مثل هذه المجادلات العقيمة تقف في طريقكِ وأنتِ بهذا الوعي الذي يدرك أن دروبَ المعرفةِ كلَّها تقود إلى جوهر واحد هو عمارة الأرض وتقدم البشرية. يكفيكِ فخراً أنكِ تدركين هذا وأنتِ في مقتبل العمر، في حين عجزت معلمتكِ كما عجز كثيرون عن هذا الفهم! وكم من تلميذٍ فاق أستاذه!

الثلاثاء، 27 أكتوبر 2015

ذكريات جامعية

.. بين الفينة والأخرى يطلع علينا أصدقاء الفيسبوك ببعض ذكرياتهم الجميلة في الدراسة والعمل من صورٍ تجمعهم وزملاء وأساتذة، ومن أوراق قديمة لخطواتهم المبكرة في عالم البحث العلمي أو أعمالهم الإبداعية وغيرها، ما يعطي هذا الفضاء الأزرق كثيرا من الأمل والجمال.
اليوم أدين للدكتور أحمد كريّم بلال أنْ فتح لي نافذةَ الذكرى على هذه الصفحات، في الصور التالية، التي كانت جزءا من مسيرتي العلمية التي أعتزُّ بها في دراستي اللغة العربية..

فمنها الصفحاتُ الأولى لنسخة أطروحة الدكتوراه، وعليها ملاحظات أستاذنا في لجنة المناقشة أ.د فايز القيسي، وهي كلماتٌ فيها كثيرٌ من التشجيع والتقييم الجاد، وقد تفضَّل د.القيسي بنشر تقييمٍ وافٍ لأطروحتي حين صدرت في كتاب، وتجدون كلماته في الرابط التالي على مدونتي:


أما الورقة الثانية من أوراقي التي أعتز بها، فهي ورقة الامتحان الأول مع د.محمد أبو حمدة، الذي جعل الطالبة الجديدة في كلية الآداب تغيِّر من تفكيرها بدراسة اللغة الإنجليزية، وتقطع الدرب إلى قسم اللغة العربية لتقول: هذا الذي قد كنتُ أختارُ!، فتختار تغيير التخصص وترسم لنفسها قدَراً جديداً غير الذي كانت تحلم.



والورقة الأخيرة هي من أوراق السنة الدراسية الثانية وهي امتحان مادة الأدب الأندلسي، المادة الجميلة التي درستُها على أستاذي الكبير أ.د. صلاح جرار، فكانت تلك المحاضراتُ الرائعة للدكتور الرائع، التي جعلتْني أعشق الأدب الأندلسي والتجربة الأندلسية حتى أصبحت شغفي، فكتبتُ في الماجستير والدكتوراه في موضوع الأدب الأندلسي الجميل...وما زال في النفس هوىً إليها يميلُ.

الأربعاء، 21 أكتوبر 2015

الأم الشريرة ! بعضٌ مما عندي...

... ربما كنتُ في كثيرٍ مما قمتُ به مع أطفالي- أُمَّاً (شريرة)؛ لقد كانت لي فلسفتي الخاصة في التعامل مع أبنائي؛ حتى تعرضتُ للنقد والتجريح من أقرب الناس لي على هذه المعاملة.
.... ولكن  بعد مضيّ نحو عقدين على اتباعي ما يقترب من هذه الأساليب التربوية  -التي ستأتي في الشرائح القادمة في هذه المختارات-...أقول: الحمدلله أنني كنتُ في كثيرٍ من تعاملي مع أطفالي (أُمّاً شريرة )؛ وأشكر الله على هذا الإلهام، وأدعوه أن يحفظ لي أولادي كما يحبّ وكما أحب.
ويحفظ لكم أولادكم جميعا..

عثرتُ على هذه الخلاصة التي أعجبتني وفيها - بصراحة - الكثير جداً من الدقة، عن تجربة وليس فقط عن تنظير..

https://www.facebook.com/tarbiyadakiya/photos/pcb.537993769689566/537993336356276/?type=3&theater
 ففي كتابها «Mean Mom Rules» تؤكد دينيز سكيباني أن الأم عندما تكون من وجهة نظر صغارها والآخرين- شريرة فهذا يعني أنها تربي أبناءها جيدا، وأن النظام والقواعد والشدة أحيانا أفضل من التدليل والاستجابة لكل طلبات الصغار؛ التي تفسدهم وتجعلهم غير قادرين على مواجهة الحياة بصعوباتها ومشكلاتها.

دينيز سكيباني قدمت عرضا لكتابها في مجلة «Parents & Child» مع سبع نصائح للأمهات تؤكد لهن: أن قسوة الأم تأتي من وراء قلبها لمصلحة أبنائها، وأن الأم الشريرة تملك المنطق لذلك الشر الذي توصف به.








الأحد، 11 أكتوبر 2015

قلوب

يأبى القلبُ إلا أنْ تزورَه الذكرى الموجعةُ في الحادي عشر من تشرين الأول من كل عام.
في صباح مثل هذا اليوم منذ تسعة عشر عاماً فقدت ابني الثاني سلام، هكذا بلا سابق إنذار رحلَ بصمتٍ وسلام...مثل اسـمه، مثل النور المرسوم على وجهه، مثل الصورة التي بقيت في عقلي وأمام عيني..
ذكراه لا تغيب عن بالي، في يوم مولده في9/19 أذكره .. وفي يوم وفاته أذكره.. في الثلاثة أسابيع التي هي مقدار عمره أذكره.. ويعود شريط ذكرى ذلك اليوم بتفاصيله كاملةً أمام عينيّ..

ما أوجع الذكرى ! وما أوجع فقدان الأبناء على قلوب الأمهات!

ربما، لا يتذكره أحدٌ في هذا اليوم سواي، ويأتي من يتقوَّل على المرأة: من أنتِ وماذا فعلتِ؟



قد لا يذكر بعضُ الآباء مولدَ أبنائه الأحياء، فكيف بميتٍ من نـحو عشرين سنة؟! وتبقى الأمُ تستعيدُ اللحظاتِ مع فلذة كبدها منذ اللحظة الأولى لتخلُّقه فيها حتى خروجه منها ...وإلى أن تفارق الروحُ جسدَها.
كلَّ عام وأنتَ في قلبي حيٌّ لا تموت.


الخميس، 1 أكتوبر 2015

الأستاذة ربيعة الناصر

"من لا يشكر الناس لا يشكر الله"
في حياة كلِّ واحدٍ منا يمرُّ أناسٌ كثيرون، لكنّ القلَّةَ القليلة منهم تبقى في الذاكرة وتترك في النفس أثراً لا تمَّحي آثارُه ولا تزول... تماما كالعابرين على هذه الأرض: ملايين وملايين، عاشت ثم ماتت، أما الذين نعرف أخبارهم وآثارهم على هذا الكوكب فقليلون!
ومن القلة التي تنطبع في ذاكرة المرءِ عادةً ولا ينساها بسهولة: أساتذةُ المدرسة؛ فالمعلم -على الرغم من النظرة السلبية التي تحيط به من المجتمع ومن الأفراد، وعلى الرغم من الذكريات المحبطة التي قد تنطبع في ذاكرةٍ كثيرين منّا عنهم- هو من تلك القلّة القليلة التي لا يزول أثرُها على مرِّ السنين.
كم سمعنا من آبائنا عن جيلٍ كان يحترم الأساتذة، ممَّن يغيّرون الدروب خوفَ الالتقاء بأستاذٍ عياناً خارج أسوار المدرسة. كم سمعنا عن مبدعين كان فضلُ أساتذتهم عليهم عظيما. كم سمعنا عن فاشلين كان لأساتذتهم يدٌ طولى في هذا الفشل...  كم سمعنا تلك القصص التي تحكي صورةً نعرفها جميعا، تلامسُ وتراً من ذكرى نقتاتُ عليها في خريف العمر.
عني شخصيا أحتفظ بصورٍ عدة لبعض معلماتي، كلُّ واحدةٍ منهن تتخذ مجلساً لها في ركنٍ مميز من الذاكرة ، بدءاً من معلمة الصف الأول وانتهاء بمعلِّماتي في السنة الأخيرة.
...... هذه المقدمة الطويلة أسوقها في مقام إسداءِ المعروف إلى أهله، إلى واحدةٍ من أولئك اللواتي بذَلْنَ من أنفسهنّ في مسيرتي العلمية ما حقَّــــــقتُه، وما أحقّــــقُه، وما سأحقّــــقه غدا، ممن لهنّ فيه فضلٌ لا يُنكر، وجميلٌ لا تدرُسُ آثارُه. ومن أولئك كانت ست ربيعة الناصر أم طارق.

يوم الأربعاء الماضي 30/9 -الذي صادف اليوم العالمي للترجمة- قادتْني خُطايَ إلى دار المُنى للنشر والتوزيع، لحضور ندوة في الترجمة الأدبية، سررتُ فيها بلقاءٍ رائع، التقيتُ فيه على غير ميعاد بأستاذتنا ربيعة الناصر، وهي أمينة المكتبة في مدرستي مدرسة أم عمارة في إربد، حين كنتُ على مقاعد الثانوية العامة منذ ثلاثين عاماً.
 
يا إلهي! كيف يمكن لبريقٍ في عينين تلتقيان لوهلة، أنْ يمحوَ فراقَ سنين طويلة مرَّت ويشعل النار في القلوب، فكأنكما لم تلبثا إلا عشيةً أو ضحاها؟
غمرتْني سعادةٌ لا توصف بلقاء أستاذتي من جديد، وأخالُها كذلك قد ملأت نفسَها روحُ الفرح    عندما صادفتْ واحدةً من طالباتها أمامها، ما زالت تذكرها بعد هذا العمر.
عفواً... لم أكن حقاً واحدةً من طالباتها بمعنى الكلمة، كانت أمينةَ المكتبة وأنا كنتُ في سنتي المدرسية النهائية ولم أكن أجد وقتاً للمكتبة حينها. وربما لم أتبادل أنا والأستاذة ربيعة كلاماً أو حوارا خاصاً أو موقفاً معينا لتذكرني فيه بعد هذه السنين.. لكنني أذكرها تماما!
أذكرها جيداً في الطابور الصباحي في عباراتها وحواراتها مع الطالبات، في علاقتها الحكيمة مع طالباتِ مدرسةٍ ثانوية حكومية، وما تتطلبه تلك المهمة من حكمةٍ ومهارة. وأذكر زيارةً يتيمةً لبيتها ذات يوم؛ فهي تسكن في حيٍّ قريب، وكانت أختي صديقةً لابنتها. أما الذي ما زال ينطبع في ذهني من تلك الزيارة،  فهي الكتب التي كانت تملأ بعضَ رفوفٍ في الصالة التي جلسنا فيها في بيت ربيعة الناصر؛ إذ عادةً لا يعلق بذهني من الأمكنة التي أحِلُّ فيها- إلا الكتب والنباتات والموسيقا!
.. هذا فقط هو كل ما في الأمر، هذه هي ست ربيعة الناصر في ذاكرتي المدرسية، هذه هي فقط. لكنها كانت وما زالت امرأة مميزة، والمميزون فقط هم الذين يتركون في روحك أثراً إيجابياً لا يقدر عليه غيرهم حتى وإن تركوا أثراً في نفسك.
هذه السيدة المتميزة هي أستاذتي وأستاذة كثيرين وكثيرات مسَّت روحُها شغافَ قلوبنا.. ولا بُدَّ أنها مسَّت شغافَ قلوبِكم ربما دون أن تعلموا، إذا ما علمتم أنَّها والدةُ الموسيقيّ الأردني الشاب المبدع طارق الناصر، الذي لامستْ موسيقاه السحرية أرواحَنا منذ مسلسل "نهاية رجل شجاع"، ومقطوعاته الموسيقية في "فرقة رم"، وإبداعاته الفنية التي لا تتوقف، وهي صاحبةُ "بيت الحكايات والموسيقا" للأطفال، حيث تبدأُ الحكاياتُ ولا تنتهي، حيث القراءةُ طقسٌ يوميّ زادُ الروح وخبز العقل!
هذه هي ربيعة الناصر في نفسي... انتصبت واقفةً من مجلسها الذي تتخذه في ذاكرتي، لتقول لي ولكم الإنسان المميز يترك بصمته التي لا تُنسى في أي مكانٍ حلَّ وفي أي زمانٍ كان! ويُبعَث في كلِّ خفقةٍ من قلبٍ محبٍّ يعرف الوفاء... ومن لا يشكر الناس لا يشكر الله.
استمتعوا بموسيقا نهاية رجل شجاع

الثلاثاء، 28 أبريل 2015

حجابي في حياتي (3)

انقضت السنواتُ التي أنفقتُها في إدنبرة، حملتُ ما بقي لي من العمر في طريق العودة إلى البلاد، بلادنا العربية الإسلامية، التي لم يكن خَطَرَ على قلبي من قبلُ أنها قد ترى - يوماً- في الحجاب تهديداً لقيم الحرية، أو سَـمِّه ما شئت مما صرنا نختبره من حينٍ لآخر في بلادنا على امتدادها.
وكيف يخطر على القلب أن الحجابَ في بلاد الإسلام وفي بلاد المسلمين يمكن أنْ يصبح مسألةً فيها نظر؟! وأنْ يصبح مسألةً خاضعةً للنقاش ولاتخاذ موقفٍ نحوك بسببه؟! أعترفُ أنَّ هذا شيءٌ تجاوَزَ تصوري آنذاك.
ولا يقع في نفسك أيها القارئ أنني أحدِّثك عن دولةٍ تحارب الحجابَ مثلاً وتمنعه وتزدريه قانوناً وعُرفا، بل عن بلادٍ ما زال الحجابُ فيها منتشراً –بحمدالله- لأسبابٍ تتراوح بين الإكراه والرضا، بين التديُّن الحقيقي والزائف، بين التقوى والتقاليد، وبين أشياء وأشياء أكبر.
ثمة مسألةٌ أخرى قد لا يختبرها الجميعُ في أمر حجاب المرأة هي مشاركتها العامة وتقدمها العلمي والمهني. إنَّ امرأةً محجبةً -مجاراةً للعادات أو التزاماً بالدين- قنعت بالجلوس في البيت والقيام على تربية الأولاد والانسحاب من الحياة العامة، على عِظَم هذا الدور وأهميته، فإنه لن يعترض سبيلَها أصحابُ الدعوات التي ترفض الحجاب وتتصدى لانتشاره، وربما لا تثير أمثالُها انتباهَهم. أما الذي يؤلم حقاً فهو تلك الحربُ الخفية التي تواجهها خياراتُ النساء المتميزات علمياً ومهنياً بل حتى وجمالياً، اللائي يخترْنَ الحجاب بكامل إرادتهنّ، ويعبِّرْنَ عن هذا الاختيار الحرِّ علناً.. فلا يقدرُ عقلُ أولئك الذين قد لا يستوعبون أن المرأة يمكن لها أن تكون ناجحة ومتعلمة وجميلة... وفي الوقت نفسه تُقبِلُ على اختيار الحجاب بملءِ إرادة قلبِها إيماناً. وهذا يعيدُنا إلى مسألةٍ قديمةٍ جديدة: لَبوس العلم ولبوس الإيمان: لماذا يجب أن نراهما على طرفَيْ نقيض؟! على الرغم من أن الحياة نفسَها هي روحٌ وجسد، عَرَضٌ وجوهر، قلبٌ وعقل.
وتحضرني هنا الحادثةُ التي مرَّ بها الرحالةُ الأندلسي الموريسكي أفوقاي في القرن السابع عشر، لقد كان أفوقاي واسعَ الثقافة والاطلاع، متحدثاً بلغاتٍ عديدة، لبقاً دبلوماسياً، تجتمع فيه صفاتُ الـ(جنتلمان)! وإلى جانب ذلك كله كان فقيهاً عالماً حافظاً للقرآن، تــنــقَّل سفيراً للمغرب في بعض الدول الأوروبية، وفي أثناء زيارته لأحد الأديرة في فرنسا قيل له بعد نقاشات وحوارات: " تعجَّبْنا منكَ؛ تحفظُ الألسن، وتقرأ الكتب، وسِرْتَ في المدن وأقطار الدنيا، ومع هذا تكون مسلماً؟!" وكأن تعدد اللغات والمعارف، أو سِعَة الأفق والثقافة، أو السياحة في أقطار المعمورة، لا يـتـناسـب مقامُها والإسلامَ أو المسلمين؟!!
هذه الحادثة التي تنتمي إلى القرن السابع عشر، لا تختلفُ عن حادثةٍ تنتمي إلى القرن الحادي والعشرين؛ فقد كنتُ في الاستماع لبرنامج الشريعة والحياة على قناة الجزيرة منذ ما يزيد على عشر سنوات، من تقديم المرحوم ماهر عبدالله وضيافة الشيخ يوسف القرضاوي، حين ردَّ المقدم على تساؤل أحد المشاهدين: لماذا لا تكونُ في الجزيرة مذيعاتٌ محجبات؟ فتعلَّل المذيعُ الشاب بأن العملَ الإعلاميَّ يحتاج إلى دراسات جامعية وخبرات عملية، وإتقان لغات ومهارات.... وغير ذلك. وحين كان يعدِّد المؤهلات المطلوبة في المذيعات كنتُ أسائلُ نفسي: هل عدمت النساء أن تكون بينهنّ (محجبةٌ) تحمل مثل هذه المؤهلات (غير المستحيلة)؟!
وكأني بالفكرة نفسها التي صادفها أفوقاي في فرنسا منذ ثلاثمئة سنة هي هي لم تتغير: المرأةُ المحجبة المؤمنة لا يمكن أن يُتصوَّر أنها تكونُ صاحبةَ مؤهلاتٍ عصرية، وكأنَّ الحجابَ معناه أن أعيش خارج هذا الزمان!.
لكنْ وللحق.... إننا بحمدِ الله ما نزال ننعم في بلادنا بقبولٍ اجتماعي للحجاب وانتشار، لا أسأل كثيراً ما هي أسسه: هل هو تقليد اجتماعي أم عقيدة إيمانية، أو حتى لغايات إجرامية؟!
لكلِّ ما سبق، ما خطرَ على قلبي في يومٍ أن يكون الحجابُ حين تخوض المرأةُ سباقَ الترقي الوظيفي، أو التعليمي- عقبةً، هي أصعبُ أحياناً من الوصول للهدف العملي أو العلمي المبتغى.



***
عدتُ إلى مقاعد الدراسة من جديد والتحقتُ ببرنامج دكتوراه اللغة العربية في الجامعة الأردنية، وأقسامُ اللغة العربية تغلب عليها صفةُ (المحافظة) طلبةً وأساتذة؛ ربما هي هيبةُ اللغة االعربية المستمدة من هيبة القرآن الكريم انتقلت كذلك إلى المقبلين على دراستها والاشتغال بها.
في أثناء الدراسة اضطررنا لحضور دروس الأدب في بيت الأستاذ نظراً لظروفه الصحية، كان أستاذُنا الفاضل حاضراً لاستقبالنا في بيته كل أسبوع، وسأترك الحديث عن مشاعر الجلوس إلى الشيوخ والعلماء في بيوتهم الخاصة ومكتباتهم الحميمة إلى وقت آخر، فهو شعور لا يدانيه شعور.
الحجابُ ليس مجرد قطعة قماش بها تغطي المرأةُ شعرَها وجسدها، بل إنَّ له من المعاني القلبية اللطيفة التي لا يسعها إلا حسُّ التي تراه كذلك، وقد كان عهدي منذ ارتديتُ الحجاب أنْ أحاول إلزامَ نفسي بحدوده رغم عيوبي الكثيرة ونواقصي الأكثر، ومن تلك الحدود عدم المصافحة، وكان أستاذُنا يستقبلنا كل أسبوع جالساً في مقعده مرحِّباً بنا حال وصولنا. فيسلِّم عليه الزملاءُ الشباب وينحنون لمصافحته .. وحين يأتي دوري أسلِّمُ عليه بالكلام مع انحناءة احترام وإكبار، ولكن لا أمدُّ له يدا، ولم يكن يعجبه ذلك مني، وقد أبدى نوعاً من الامتعاض من هذه العادة التي ما زال بعضُ الناس يتمسك بها في زمننا! وأنا شخصياً أتعرض لهذا الامتعاض من كثيرين لعدم المصافحة، وهو شيء أتقبله أحياناً بروحٍ رياضية خاصة من الكُبَراء مقاماً وعلماً ومنزلة. وأحياناً أخرى بنوعٍ من الجفوة التي يخلقها عدم قبول الآخرين لاختياري هذا؛ ففي النهاية وفق منطقهم في الحرية: هذا جسدي ولي مطلق الحرية في منع الآخرين منه حتى ولو بمصافحة! لهذا كنتُ في الغالب أعُدُّ هذا الامتعاض والتعليقات – منه ومن غيره- مجرد مداعبات يمكن احتمالها وعدم التوقف عندها.... حتى مضى الفصلُ الدراسي وحلَّت المحاضرةُ الأخيرة، وعندما انتهينا قمنا لمغادرة المكان فسلَّم الزملاءُ على أستاذنا الشيخ، وحين جاء دوري قال لي بلهجةٍ أبويةٍ معاتِبة جادة: "والله مش عارف كيف بدِّك تصيري دكتورة وأنتِ ما بتسلِّمي"!!.
 لامسَتْ عبارتُه مسمعي، ومضيتُ لأركب سيارتي عائدةً إلى منزلي مضطربةً ذاهلة!! ويا للمفارقة أنّ عبارتَه تلك ظلّت تقفز إلى ذهني في كل مناسبةٍ تجمعني وزملائي حين صرتُ (دكتورة)، وظلّت عبارتُه في عقلي تروح وتجيء، وأنا أقول: لماذا لا يقبَلُ الناسُ أنَّ امرأةً يمكن لها أن تكونَ رفيعةَ التعليم أو رفيعة الوظيفة، وفي الوقت نفسه مقتـنعةً بما تؤمن به من دينها؟ لماذا يجب أن تتناقضَ صورةُ أهلِ العلم وأهل الإيمان؟؟! لماذا يجب أن يكون أهلُ الإيمان دوماً في خندقٍ مقابل أهل العلم؟؟ ألا يلتقيان؟! ألا توجد سبيلٌ توافقية بينهما؟ ألا نتغنَّى ليلَ نهار بابن رشد الذي سرقَتْه منّا أوروبا، ونندبُ إحراقَنا كلماتِه، وعقلانيته، فلمَ لا نتغنَّى بـ ما بين الحكمة والشريعة من الاتصال؟!
ولمَ لا يقنعُ أصحابُنا من أهلِ العقل والفكر والحرية- أن التديُّنَ بمختلف مظاهره وطقوسه قد يزورُ قلوبَ العلماء ويطيبُ له المقامُ فيها؟ بل إنَّ اللهَ نفسَه يُخشى من عبادِه العلماءِ هؤلاء، الذين يَعمُرُ العلمُ قلوبَهم وأرواحَهم قبل عقولهم، ويرون في كل ذرة  في الكون صورةً من عظمة الله وبديع قدرته، وأنَّ الإيمانَ بالله ومحاولةَ اتباعِ أوامره واجتناب نواهيه من أهل العلم، يعني أنْ نعبدَ الله على يقين، لا على مجرد خوفٍ أو طمع!
لهذا لا أنسى تلك الأمسيةَ التي جمعتْني وصديقةً رفيعةَ القدْرِ علمياً وثقافياً، وتختلف عني –تماماً- عقائدياً، وقد كنتُ بانفعالٍ أحدِّثها ولا أعِظُها، كيف أنني أستشعرُ في كلِّ وضوءٍ ما علَّمنا رسولُنا -صلى الله عليه وسلم- أنَّ الخطايا تخرجُ حينَ الوضوءِ من الجسد حتى لتخرج مع آخر قطرة ماء من تحت الأظافر، وأنني أستشعرُ أنَّ الذنوبَ تتساقطُ حين الركوع وحين السجود عن عاتـقَيْ المصلِّي وعن رأسِه؛ حيث يُؤتَى بالذنوبِ إلى الرأس والكتفيْن في كلِّ صلاة، فسارعتْ صديقتي إلى تأنيبي: "لا تقولي هكذا كلام! أنتِ امرأةٌ مثقفة متعلمة"!! وهي التي حين هنَّأتْــني بحصولي على الدكتوراه، قالت –وأظنها لم تكن تمزح-: " خلص! الآن صرتِ دكتورة، إذن ...... اخلعي الحجاب!".
لماذا يستهجن كثيرون يقينَ الإيمان في قلبك، ومظاهرَهُ في جوارحك إذا كنتَ ممن قطعوا شوطاً من التحصيل العلمي؟! ألهذه الدرجة صرنا نعبدُ إلهَ العقل وإلهَ العلم، حتى كفرْنا بالروح وبالغيب؟ وهي في وجهٍ من الوجوه صورةُ العقل الذي إليه يحتكمون.
ولماذا حين تلتقي في المحافل العلمية بقاماتٍ لامعةٍ أسماؤها في عالم الأكاديميا العربية أو العالمية، كنتَ تحلم طوال عمرك بلقياهم على الأرض لا على الورق فقط- لماذا تصدمك حقيقة كم هم من الإيمان بعيدون، وكم هم من الهزء بمظاهره قريبون؟ خاصة مظهر الحجاب.
لماذا وهم الذين يدَّعون الحريةَ والليبرالية وقبولَ الآخر المختلف؟ لماذا عندما يصل الأمرُ إلى الحجاب أو مظاهرِ التديُّن إجمالاً- لا يعرفون من الليبرالية إلا قشرة فارغة! وتصدمك كذلك تصريحاتُ بعضِهم على مرأىً منكَ ومسمع، إذا حدَّثوا بأخبارِ الكاتب الفلاني قالوا بتلقائية: "أمعقولٌ أن هذا فلان الفلاني الكاتب المعروف بـكذا وكذا وتكونُ زوجتُه محجَّبة؟!".... تماماً كما لو أنهم يقولون إنها عاهرةٌ أو وضيعة الأخلاق. وكأنَّما أمسى الحجابُ تهمةً على المرأة أن تدفعَها عن نفسها، كما تدفعُ النارَ الحارقة، أو تدفعُ الأذى الصريحَ بإلقائه بعيدا، أو التخلص منه بأي ثمن!
كثيرةٌ هي المواقفُ التي تمرُّ في حياة المحجَّبات المتميزات علمياً ومهنياً واجتماعياً..، اللواتي كان الحجابُ قراراً نابعاً عن اختيارهن الحر وقناعاتهنّ الشخصية، ولم يكن لهنّ يوماً عائقاً في دروب التميز العلمي أو المهني أو الاجتماعي، وربما تملكُ كلُّ واحدةٍ منهنّ تجربتَها التي تعرضُها على الآخرين لتقولَ فيها إن الحجابَ لا يغطي عقل المرأة ولا روحَها، وإن ارتداءَه هو دليل عافية لا دليلَ مرض. ونجاحهنّ هو خير شاهد على حصافة اختيارهنّ.
 



الثلاثاء، 21 أبريل 2015

حجابي في حياتي (2)

من الأشياء الحلوة التي ما زلتُ أحتفظُ بها لمدينة إدنبرة في نفسي- احتضانُ المدينة للغرباء، وتفكير أهلها والجامعة بأشياء كثيرة يحتاجها الطالبُ الجامعي الذي تغرَّب عن بلاده ليطلب العلمَ في بلادهم.
ونادي السيداتWomen`s Club  هو واحدٌ من تلك الأشياء، كان اكتشافاً ظريفاً دلَّتْني عليه إحدى الصديقاتِ العربيات المقيمات في المدينة، وهو نادٍ يقوم على فكرةٍ قابلةٍ للتنفيذ في أيّ زمان وبكل مكان إذا توافرت القلوبُ والإرادة، إنه ببساطة نشاطٌ اجتماعي أسبوعي تقدمه بعضُ المتطوعات لمساعدة زوجات الطلبة الأجانب الدارسين في الجامعة- على قضاءٍ وقت مفيد صباح كل ثلاثاء، ويساعدهنّ في معرفة أسرار المكان وعادات أهله والاطلاع على أنشطة وبرامج منوَّعة تنتشر في المدينة... باختصار إنه شيء جديد لم نعرف مثله في بلادنا!
سررتُ جداً لهذا الاكتشاف؛ خاصة أنّه يضم حضانة، وكان أطفالي صغاراً، مما يسمح للأم أن تقضي نحو ساعتيْن –وهي مطمئنة- في أنشطةٍ لتعلُّم اللغة والثقافة الإنجليزية، فيما يقضي أطفالُها وقتهم يلعبون ويتعلمون في غرفةٍ أخرى بعيداً عن الأمهات.
في النادي كانت هناك زوجات لطلبةٍ من أدنى الأرض إلى أقصاها، وكنتُ في الحقيقة تهيَّبْتُ أولَ الأمر من كوني عربية مسلمة؛ نظراً للصورة النمطية السائدة في العالم عن بلادنا، فما بالك بالصورة النمطية عن امرأة من تلك البلاد، وفوق ذلك محجَّبة؟! لكني استجمعتُ قواي واندفعتُ إلى النادي بانتظام استمر لأكثر من سنتيْن رائعتيْن.
كان الحجابُ اللافتةَ الأولى التي تعرِّفُني للأخريات، فالجميع هنا – وأنا منهنّ- يرتدين الملابس الأوروبية الدارجة، كالقميص والجاكيت والتنورة والبنطلون، لكن حجابي يجعلني مختلفة، فيما كان بالإمكان تمييز اختلاف الأخريات بسهولة؛ فمن كانت من اليابان والصين بالعيون مثلا، ومن كانت من أفريقيا بلون البشرة، ومن كانت من غيرها بالملابس التقليدية...وهكذا.
تلك كانت سبيلُ الوهلة الأولى للممايزة بين السيدات في النادي، وهي حقيقةٌ لا يمكن إنكارها حتى لدى أكثر الناس انفتاحاً على الآخر؛ فما زال للون وللمواصفات الجسدية الفارقة بين الأجناس البشرية- منزلة مقدمة لهذا التمايز، دون قصد أحياناً، وإنْ كانت تبقى في الخاطر، وفي الغالب لا تَعْدوها.    
كنتُ أعي الصورةَ النمطيةَ التي تحملها هؤلاء عن العرب والمسلمين عامة، وعن نسائهم خاصة، لذا حرصتُ دوماً بقصد وبغير قصد، على تقديم الصورة التي تَحكينا حقيقةً أمامهنّ: بشراً لا ملائكة ولا شياطين! لكنّ ذلك ما كان ليعفيني من مواقف طريفة ومؤلمة كان للحجاب يدٌ فيها.

( الحجابُ قهر).. هذه فكرةٌ سائدةٌ عنه حتى في بلادنا؛ هو نوع من العنف يمارَس تجاه المرأة، ويستحق بسببه أن تُلاحِق المحجبةَ نظراتُ الشفقة من هذا الظلم الواقع عليها؛ حين يرى كثير من النخبة والعامة أنّ الحجاب صورةٌ من صور القهر الاجتماعي أو الديني، لهذا كانت الدروس الأولى التي حضرتُها في النادي موتورة، حتى أخذت النسوةُ الحاضرات يعتَدْنَ وجودَ هذه المختلفةِ بينهنّ على طاولة واحدة، وأنها كغيرها -رغم حجابها- امرأةٌ من هذا الكوكب، لا قطعةً سقطت من الفضاء!
كنتُ أحرص على خلع غطاء الرأس حين يكون الحضورُ نسائياً فقط؛ وقد احتجتُ أن أمسح حيرتهنّ من هذا التصرف بشرحٍ موجز لفكرة الحجاب في الإسلام وفرضية ارتدائه أمام الأجانب من الرجال، سواء في الشارع أو في البيت، وأنّ المسلمة كغيرها من نساء الأرض تحيا.. تتجمل.. تتأنق.. تعتني بجسدها وبعقلها وبروحها، والحجابُ لا يمنع شيئا من هذا، ولكنْ ينظمه ضمن ضوابط.
كانت مسز ويندي -مدرِّسةُ اللغة الإنجليزية- سيدةً لطيفة، ذات بشرة بيضاء، وشعر فضي، وعينين زرقاويْن، وأناقةٍ كلاسيكية محببةٍ إلى قلبي، وقد أحسستُ أنني حجزتُ مكاناً لي في خاطرها، إنْ لم يكن لأجل المحبة خالصاً، فلأجل فضولٍ تملَّكَها تجاه هذه المرأة المحجبة القادمة من بلاد ألف ليلة وليلة.
 وفي أحد صباحات الثلاثاء المشمسة في تلك المدينة التي لا ترى الشمس إلا قليلا، كنّا نجلس قرب النافذة الواسعة (الجورجية) الطراز، وقد اعتدنا من معلمتنا في كلِّ جلسة أن تحضِّر لنا مجموعةً من التمرينات اللغوية تصقل مهارات التواصل العامة بالإنجليزية، ومازلتُ أذكر من ذلك  التمرين مثاليْن كان الأولُّ منهما عن قصة سندريلّلا.... عندما التفتت المسز ويندي ونحن جلوسٌ بين يديها، التفتتْ إليّ دون بقية السيدات معنا في المجموعة -وكان من بينهنّ اليابانية والتشيكية والمكسيكية والصينية..- لتسألني بملامحَ جَديَّة تبدو على وجهها: هل تعرفين سندريلّلا؟؟!! فوجَّهْتُ إليها النظرةَ الجديةَ ذاتَها وردَدْتُ على سؤالها الاستفهامي بسؤالٍ استنكاري ملءَ فمي: وهل هناك أحدٌ في الدنيا لا يعرف قصةَ سندريلّلا؟!!! وحالي يقول بعاميةٍ ساخرةٍ في سرِّي: "هيَّ بتِحكي عن جَدّ ولّا بتِحكي عن جَدّ؟!".
ثم مرَّت جملةٌ أخرى عن لاعبي يوفنتوس، فالتفتتْ إليّ المسز ويندي مرة أخرى بالجدية نفسها البادية على وجهها، لتسألني: هل تعرفين ما هو يوفنتوس؟؟ وعلى الرغم من أني لستُ متابِعةً جيدةً  لدوري كرة القدم عالمياً ولا حتى محلياً، إلا أنني ردَدْتُ على الاستفهام باستنكار وتقرير: نعم أعرفه!! إنه النادي الرياضي الإيطالي المشهور.

هذا موقف طريف ومؤلم في آنٍ معاً، ما زلتُ أعاني منه، فتلك النظرةُ التي ترمينا بها العيونُ من كل جانب، حتى من بنات جنسنا ومن بنات بلادنا! النظرة التي ترى المحجبةَ امرأةً غابَ عقلُها تحت حجابها لتغدو ساذجةً، بعيدة عن الثقافة، تؤمن بالغيب، تركن إلى الدين مسطرةً تقيس بها الأمور، لا تعرف من أمور حاضرها إلا توافه وقشورا.
كنتُ أرى الإشفاق تجاهي في عينيّ مسز ويندي أول الأمر، لكني أظن –وبعض الظن الآخر ليس إثماً- أن الصورة النمطية تغيرت في نفسها بأسرعَ مما كنتُ أشتهي، أو على الأقل صورتي أنا، وهي الصورة النمطية التي ينظر فيها كلُّ من لا يؤمن بالحجاب بأن المحجبات واقعات تحت قهر ما يجبرهن على ارتدائه، وأن ارتداءه هو مقدمة ممهِّدة كي يضاف إلى المجتمع عناصر غير فاعلة، ضحلة الثقافة، سطحية التفكير، محدودة الأفق. ومهما اجتهدت النساء المحجبات بنجاحهنّ وتميّزهنّ - ولدينا نماذج لا تُعَدّ – لتغيير هذه الصورة، يبقى لدى بعضهم ما يريدون أن يبقى ضد الحجاب.
استطعتُ بعد مواقف عدة وأحاديث جانبية متعددة في تلك الصباحات، أن أقول لمعلمتي ورفيقاتي- بمظهري وجوهري- إن المحجَّبة هي إنسانٌ كغيرها من نساء هذا الكوكب، لا يعيقها حجابُها عن الحياة، ولا يحوِّلها إلى سامريٍّ لا نقدر على الاقتراب منه.

ثم تعرفتُ إلى مجموعةٍ أخرى مشابهة للنادي، كان المشترك بينهما أنني كنتُ أبحث لأطفالي -في سنّ ما قبل المدرسة- عن بشرٍ يختلطون بهم في أجواء طبيعية، وهم يعيشون في غربةٍ أبعدتْهم عن الأجداد والعائلة الممتدة، التي لا غنى عنها في سبيل نشأة إنسانٍ سوي، وهكذا كان لي في صباحات الأربعاء رفقة صديقتي المصرية –جلسةً خاصة للأطفال في روضة تستقبلهم وأمهاتِهم .. يقضون فيها وقتاً في اللعب والتعلم، وتقضي الأمهات كذلك وقتاً في الاجتماع بأمهات من بلاد أخرى.
كانت الثرثرة النسائية الصباحية تلك، تجذبنا نحن الأمهات إلى مناحي شتى باختلاف الثقافات والمجتمعات التي ننتمي إليها، كانت بيننا الإنجليزية المسيحية، والهندية الهندوسية، واليابانية المجوسية، والباكستانية والعربية المسلمة وغيرها من قوميات وطوائف.. وفي الوقت نفسه تتيح لأطفالنا أن يرسخ فيهم اختلافُ البشر بألوانهم وألسنتهم وعاداتهم.
وفي هذه المجموعة اجتمعْنا مرةً لمرافقة الأطفال في زيارة إلى حديقة الحيوانات التي تشتهر بها إدنبرة، وكانت إلى جانبي المشرفة الإنجليزية فتجاذبنا أطراف الحديث عن الطبيعة الأخّاذة للمدينة في ذلك الصيف الربيعي، وقادتْنا أحاديثنا إلى فن الرسم الذي كانت لي فيه تجربة أيام الشباب الأولى، وأخذتُ أشرح لها تجربتي وميولي الفنية ومنها إعجابي الشديد بأعمال المدرسة السريالية، ورائدها سلفادور دالي و و و... وحين نطقتُ اسم دالي واسم مدرسته، التفتتْ المشرفةُ إليّ ووجمت، ثم أردفت: وهل لديكِ أنتِ فكرة عما هي السريالية؟؟ وما وراءَ خطابِها يقول: من أين لامرأةٍ من بلاد العرب والإسلام بحجابها أن تعرفَ هذه المدارسَ الفنيةَ الراقية؟؟!!
حين كنتُ أكلمها عن ميولي الفنية، لم يكن يخطر ببالي سوى محاولة ترتيب كلماتي لتخرج بحُلَّةٍ إنجليزية لائقة، تساعدني على تجاوز عقدة اللغة. لكنَّ وجومَها وسؤالها وحيرتَها أمام هذه المرأة المحجبة القادمة من الشرق، التي من المفترض أنها لا تعرف سوى أعمال البيت وإنجاب الأطفال، أعادني ثانية إلى سؤال الحجاب والآخر، وأعادني مجدَّداً إلى الواقع بأننا نحتاج وقتاً أطول ومعاناةً أشدّ كي نقول إن الحجاب لا يحجب الشمس عن العقول!
قد يرى بعضُهم هذه المسألةَ في سياق النظرة الأوروبية للآخر غير الأوروبي ومن منظور المركز والهامش، في حين إنَّ ذلك يتضاءلُ حقاً لو كنتَ أنتَ في ذلك الحجاب، وكنتَ أنت مع أولئك الآخرين.

وإذا كانَ من عذرٍ ألتمسُهُ للمواقف التي صادفَتْــني في بريطانيا بسبب حجابي، فإن هذا العذرَ لا يعودُ قادراً على إقناعي، حين صادفتْــني مواقفُ شبيهةٌ في بلادنا العربية الإسلامية، التي تعرفُ الحجابَ قبل أن يفرضَه الإسلامُ بقرونٍ متطاولة! ومواقفُ بعضِ خاصَّتِها من الحجابِ أشدُّ بأساً مما قد تلاقيه المحجبةُ في بلادِ مَن لا يعرفون للحجاب سبيلا.


الأحد، 19 أبريل 2015

حجابي في حياتي (1)


في نهاية الأسبوع الاعتيادية التي نقضيها في إربد، لعبتُ مع ابن عمي ذي الثلاث سنوات في شرفة بيتنا الواسعة، وما زالت ابتسامته مطبوعةً في ذاكرتي، بأسنانه البيضاء الصغيرة وشعره الأسود.
 وصل الخبر بعد يومين؛ سقط عليٌّ من الطابق الأول في بيت جدي، ليستقر رأسه الجميل على الرصيف، ويغيب أياماً.. ثم قيل: رحمه الله!
كان رحيله مفاجئاً وحزيناً، جعلني أقرِّر ارتداء الحجاب، وأنا التي أعشق البنطلون وأؤجل فكرة الحجاب وأقول: "سأتركه إلى أن أصيرَ في الأربعين".. وكنتُ أظن الأربعين بعيدة!! فإذا هي تأتيك في عشيةٍ أو ضحاها!
قررتُ ارتداء الحجاب في سنتي الجامعية الثانية، أخبرتُهم بقراري، ولم أسمع إلا من والدي عبارة: "المهم ألا تلبسيه اليوم وتشلحيه بكرة"! هذا فقط كان التوجيه الذي سمعتُه، والبقية تركوا الأمرَ لي. وخلال أيام كنتُ اشتريتُ ملابس مناسبة وأغطية للرأس.. وانتهى!
في الحقيقة حين أفكرُ اليومَ، وأنا على بُعد نحو ربع قرن من ذلك القرار، أجدُني أزدادُ شكراً لله على هذا الرزق، وعلى ذلك القرار؛ فبعضُ القرارات في حياتنا لا تحتمل التأجيل، وتحتاج منكَ أن تكون سريعا.. وحاسما.
لكن الأمر لم ينتهِ بارتداء الحجاب وكفى، كما يعتقد كثيرون، بل إن الحجاب ينمو يوماً فيوماً في نفس المسلمة، ولحظة ارتدائه هي البداية فقط.
 كان ارتداءُ غطاء الرأس والملابس الطويلة- يسيراً نوعاً ما على فتاةٍ مثلي، التزمتْ أداء الصلوات في أوقاتها في أثناء الدراسة الثانوية، بفضل الله وبفضل معلمة التاريخ في الأول الثانوي، جزاها الله عني خيراً في كل ركعةٍ أؤديها، والصلاة تجلو القلوب وتعينُ على الأصعب منها.
كانت تلك الخطوةَ الأولى، وكانت ميسَّرةً إلى حدٍّ كبير؛ لم تواجهها اعتراضاتٌ خارجية من العائلة، ولا انتكاساتٌ فكرية من داخل نفسي، أضف إلى ذلك أن الجوَّ العام في الحياة الجامعية – أواخر عقد الثمانينات وأوائل التسعينات في الجامعة الأردنية– كانت مشجِّعة بصعود نجم الاتجاه الإسلامي.
لم أكن أعلم وقتَها أن الحجاب سيكون اختباراً في محطاتٍ قادمة من عمري...
ولكل فتاة تعتقد أن قرار ارتداء الحجاب وحشر جمال شعرها وجسدها تحت أغطية قماشية، هو الخطوة الأكثر صعوبة والأشد وطأة على نفسها، أقول لها: بل إن ما يلي هو الأصعب والأشد، إنّ ما يلي هو الاختبار الحقيقي لمعنى الحجاب الذي ترتدينه.. ويبدو أنه كلما تقدَّم العمرُ والتجارب بالفتيات الشابات، تزداد الاختباراتُ التي يقعْنَ أمامها بسبب ارتدائهنّ الحجاب.
لم تواجهني طوال حياتي الجامعية الأولى اختباراتٌ حقيقية يفرضها الحجاب، ولم تواجهني كذلك صعوباتٌ تُذكَر حين خروجي إلى الحياة العملية، إلا من باب أن العمل في بلادنا العربية يكون عادةً مقسوماً بين المحجبات وغير المحجبات في المؤسسات المختلفة؛ فيحبِّذ بعضُها المحجبات وبعضها يفضلُهُنّ بلا حجاب، وحتى هذه القسمة تكون خاضعةً هي الأخرى لشروطٍ معينة يتواطأ عليها أصحابُ العمل بمواصفاتٍ خاصة لملابس المحجبات أو لملابس غيرهنّ.
أذكر أنني عملتُ في إحدى دور النشر في بداياتي المهنية، وكان صاحبُ الدار رجلاً ذا هيبة وقدر في نفسي، احترمتُ فيه صراحته حين أبلغني ذات يوم –وقد كنتُ مخطوبة- أنه لا يحب توظيف متزوجات، فأشار عليّ أن أتقدم لمقابلة عملٍ في إحدى المدارس الإسلامية وقد أوصى بي هناك.
ذهبتُ للمقابلة التي لم أوفَّق فيها لسببٍ فهمتُه لاحقاً من صديقتي: "تأتين إلى المقابلة بفستانٍ حريري بلونٍ ورديّ، وتريدين أن تفوزي بالوظيفة بعد كل هذا؟!"
كانت تلك التجربةُ الاختبارَ الأول الذي كان الحجابُ فاصلاً فيه، وهذه تجربةٌ قد تمرُّ بها أخريات، ولا يبقى منها إلا ذكرى، ربما تستدعيها الظروف من حين إلى حين.
ثم حانتْ تجربةٌ أخرى واختبارٌ جديد كان الحجاب فيه حاضرا؛ لكنه لم يكن في سياق الدراسة أو العمل، إنه في سياق المواجهة مع الآخر!
كنتُ انتهيتُ من دراسة الماجستير، وقطعتُ شوطاً من العمل في التدريس، حين انتقلتْ عائلتُنا الصغيرة للإقامة في بريطانيا، وهناك كان للحجاب مذاقٌ آخر لم أعهده في بلادنا العربية، وكان للحجاب تحدياتٌ أخرى ما شعرتُ بمثلها من قبل. للمرة الأولى أشعر بأن الحجاب هو هُويَّتي التي تعرِّفني إلى الآخرين، التي تجعلني متميزة، هُويَّتي التي لا أخجل منها، وهُويَّتي التي أفتخر أنني أتميز بها.
كانت إقامتُنا في مدينة إدنبرة في أقصى الشمال البريطاني، وكأيِّ غريبٍ يحاول أن يشتمَّ رائحة الوطن والأهل في ديار الغربة في كلِّ إشراقةِ شمس، هي هي الشمسُ التي أشرقت منذ قليل على بلادي تشرق الآن أمام عينيّ هنا، هو هو النسيمُ المسافرُ عبر المسافات يحمل عبقَ البلاد ورائحة أهلها يمر أمام بيتي، كنتُ أسيرُ في شوارع المدينة الجديدة بحجابي، الذي لم يكن يثير فضولاً ولا استغراباً لدى سكانها؛ لأننا كنا نسكن المنطقة المحيطة بالجامعة، وهي تضمُّ طلبةً من وراء البحار، وفيهم نسبةٌ معقولة من المسلمين وعائلاتهم يألفهم أهلُ المدينة، التي جعلت من وسط المدينة يضم كذلك مسجداً جميل المعمار يسمى المسجد المركزي لمدينة إدنبرة.
كان التجوال وسط المدينة وفي الشوارع المحيطة بالجامعة، هو الذي جعلني أشعر بميزة الحجاب الذي يغطي شعري وجسدي، كنتُ أُلقي تحيةَ الإسلام على كل محجَّبةٍ أصادفُها في طريقي، وغالباً ما كنَّ من الهنديات والباكستانيات المحجبات، يَسِرْنَ في وسط إدنبرة بأثوابهن التقليدية المزركشة الزاهية الألوان.
كان إلقاءُ السلام على أي محجبة في طريقي يملأ نفسي بتلك الروح التي ترشدُ إليها السُّنةُ النبويةُ الشريفة بإفشاء السلام على من تعرف ومن لا تعرف، بكل ما توحي به حروفُ كلمة (إفشاء) من إصرار على نشر التحية في الأرض، لتعمَّ المحبةُ القلوبَ وتطغى وتزيد، ويمنحني كذلك نوعاً من الألفة في هذه المدينة الغريبة أول استقراري بها.
كانت كلمةُ السر بيني وبينهنّ: الحجاب، وكلمة السر الأخرى: اللغة العربية في عبارة (السلام عليكم).. إنها مفاتيح يمكنك أن تحملها معك في كل مكان... كم سعدتُ بتلك اللغة الصامتة المشتركة التي تخلقُها قطعةُ قماشٍ لا تتجاوز متراً، لكنها إذا أُلقِيتْ على الرأس كانت تعبيراً لا ينتهي عن محمولاتٍ (هُويَّاتية).. حينها أدركتُ حقاً معنى "الحجاب هُوية المسلمة". لم أكن بحاجة إلى أطروحاتِ الهُوية واللغة والأمة والدين والثقافة...وغيرها التي يلوي بها أساتذةُ الجامعات ألسنتَهم! ولكنني أعترف أنني –للأسف- حين ألِفتُ المكان، ونمَتْ صداقةٌ بيني وبين الأزقة والأمكنة المجاورة- ما عدتُ قادرةً على تلك العادة، وما عاد الحجابُ يغريني بإلقاءِ التحيةِ على صاحبته، وما عادت الدهشةُ تغزو قلبي حين أصادف في إدنبرة محجبةً مثلي في السوق أو في الباص أو في...المسجد!