بقلم: آلاء السوسي
18 يناير,2017
من منا لم يقرأ جبران بإشراقاته الروحية المفتونة بسحر الطبيعة، والهائمة بالذات العليا الذائبة في الوجود، كلمسة نور متى مست القلب احترق فأضاء فأشرق؟
ربما جميعنا قرأنا روائعه الأدبية في مرحلةٍ ما، حيث انصهرت نفوسنا في لغته المتطهرة ذات الجمالية المترفعة عن حياة المدينة ومادتها وصخبها، ورحنا نطير بأجنحته المتكسرة، ونحط على شاطئ رمله وزبده، ونلتقي أخيرًا بنبيه العظيم المبشر بديانةٍ بلا شرائع، ولكنها ذات روحٍ متوحدة بالوجود.
إن لم تقرأ جبران، فلعلك سمعته بصوت فيروز، وهي تغني »أعطني الناي وغني.. فالغنا سر الوجود«، أو وهي تنغم نثره في كتاب »النبي« في حديثه عن المحبة: »المحبة مكتفيةٌ بذاتها«.
وإن لم تقرأ ولم تسمع، فلعلك سمعت الكثير من الشبان يهيمون في قراءة تلك الرسائل المتبادلة بين جبران خليل جبران، وبين الأديبة مي زيادة، حتى إن لم يكن لك اهتمامات أدبية، فإن قصة الحب العذرية بين شخصين لم يلتقيا أبدًا، ربما ستكون ملهمةً وجذابةً للاطلاع عليها.
هذا ما نعرفه عن جبران، فهل كان حقاً هذا النموذج الروحاني والإشراقي الذي ظهر في كتبه وقصصه؟ هل كان العاشق الولهان، والإنسان الإلهيَّ النبوي، والزاهد في مغريات الحياة العصرية؟ في هذا التقرير نحاول الإجابة من خلال بعض ما ورد في سير معاصريه عنه.
لماذا كان يكتب جبران؟
على الرغم من أن محتوى أدب جبران كان رسالةً إنسانيةً ساميةً مترفِّعةً عن أية شهوات دنيوية، غير أن ما يرويه يوسف الحويك في كتابه »ذكرياتي مع جبران« كان مختلفًا؛ إذ يورد أنه حين سأل جبران عن سر حماسته للكتابة، كانت إجابته كالتالي »أذكر أني عندما بدأت (أخرطش) كما يفعل الأولاد حتى في ذلك العهد المبكر، كنت أحلم في أن أبيع رسومي وأربح منها، وكذلك كنتُ عندما أطالع قصة طريفة يحفزني دافعٌ قوي لكتابة القصص، وأنا اليوم أؤمل بأن كتاباتي ستغل علي يومًا«.
ويبدو أن جبران قد حقق غايته تلك بالفعل، فقد حققت كتاباته انتشارًا واسعًا، بل إن كتابه »النبي« ترجم إلى أكثر من 50 لغة، وقد عاد عليه هذا الانتشار، وهذه الشهرة بثروة ماليةٍ جيدة.
واللافت أن مفهوم الفقر والغنى قد تغير بالنسبة لجبران وفقًا لهذه التغيرات في حياته، فالفقر في كتاباته الأولى كان مستمدًا من واقعه بالفعل، فيه روح الكدِّ والعناء والمعاناة، والحقد على الطبقات المتنفذة ذات الثروة.
يقول في قصة »الكوخ والقصر« على سبيل المثال »جاء الفجر فهبَّ ذلك الفقير من نومه، وأكل مع صغاره وزوجته قليلًا من الخبز والحليب ثم قبلهم، وحمل على كتفه معولًا ضخمًا، وذهب إلى الحقل ليسقيه من عرق جبينه، ويستثمر ويطعم قواه أولئك الأغنياء الأقوياء، الذين صرفوا ليلة أمس بالقصف والخلاعة. طلعت الشمس من وراء الجبل وثقلت وطأة الحر على رأس ذلك الحارث، وأولئك الأغنياء ما برحوا خاضعين لسنة الكرى الثقيل في صروحهم الشاهقة«.
بينما في كتاباته الأخيرة بدأ يتوجه نحو معنىً روحاني تفرضه حياته الجديدة التي وصلت حدًا من الرفاه المادي والغنى الفعلي، يقول في كتاب »النبي« مثلًا »أليست مادةً فانيةً تخزنها في خزائنك، وتحافظ عليها جهدك خوفًا من أن تحتاج إليها غدًا؟ والغد، ماذا يستطيع الغد أن يقدم للكلب البالغ فطنة الذي يطمر العظام في الرمال غير المطروقة، وهو يتبع الحجاج إلى المدينة المقدسة؟ أوليس الخوف هو الحاجة بعينها؟ أوليس الظمأ الشديد للماء عندما تكون بئر الظامئ ملآنة هو العطش الذي لا تروى غلته؟«
هل ينتبه القارئ إذن إلى أن مثل هذه الكتابات الزاهدة إنما جاءت في عهد الرفاهية والغنى؟
هل رسم جبران صورته أم رسمها الآخرون؟
من الطبيعي أن يحاول كلُّ أديبٍ رسم صورة ذاتية لنفسه، يظهر من خلالها في أعماله، فما هي الصورة التي أرادها جبران لنفسه؟
«بربارة يونغ»، إحدى النساء المؤثرات في حياة جبران، وقد كتبت سيرةً ذاتيةً عنه بعنوان »هذا الرجل من لبنان«. «خليل حاوي» الذي قارن بين ثلاث سير ذاتية عن جبران، رأى أنَّ يونغ لم تصور إنسانًا خلال هذه السيرة بل »إلهًا«، حتى إنها ادعت أنها كانت ترى «هالة نورانية» ساطعة تشرق حول رأسه، فكيف اقتنعت بربارة يونغ بهذه الصورة إذن؟
يصف حاوي الكتاب بأنه »سلسلة خوارق لا تصدق«، تتحدث فيه يونغ عن طفل عاش حياةً مرفهةً لعائلة عريقة تهتم بالثقافة والفن والموسيقى، والحقيقة أن جبران ولد في عائلة مارونية، وقد كان أبوه خليل، هو الزوج الثالث لأمه بعد وفاة زوجها الأول، وبُطْلان زواجها الثاني. كانت أسرته فقيرة بسبب كسل والده وانصرافه إلى الخمر والقمار، لذلك لم يستطع الذهاب للمدرسة. فمن أين جاءت يونغ بهذه الأسرة الثرية التي تملك مربيةً خاصة تدلل الطفل المرفه جبران؟
يرى حاوي أن جبران نفسه هو من كان قد أوحى لها بكل هذه الادعاءات حول طفولته السعيدة.
لا يتوقف أمر الادعاءات عند رسم طفولةٍ خياليةٍ مغايرةٍ لطفولته الفعلية، بل إن بعض الروايات تثبت أنه كان يمارس هذه الصورة بالفعل، فيخبرنا خليل حاوي أنه كان يظهر «على هيئة ناسك نحيل يتشح بالسواد، يحمل في يده مسبحة طويلة، ويحرق البخور أمام آلهته«.
والأغرب من ذلك، ما يرويه حاوي من أمور ادعاها جبران بحسبه لنفسه، وثبت بطلانها، مثل زعمه عضويته في جمعية الفنون الجميلة الفرنسية، والحصول على عضوية شرف في جمعية الفنانين الإنجليز، ولقاءه بالفنان العالمي (رودان)، والحقيقة التي يرويها ميخائيل نعيمة أنه التقاه بالفعل، لكنها كانت زيارةً بصحبة آخرين، تحدث فيها رودان عن الشاعر وليام بلايك، فخرج جبران مفتونًا به.
هل كانت قصة حب جبران ومي زيادة مثاليةً حقًا؟
إن مجموع الرسائل المتبادلة بين مي وجبران، وقصة حبهما التي لم تحقق لقاءً واقعيًا واحدًا، تُظهر كلًا من جبران ومي في مظهر أسطوريٍّ ملهم يوازي قصص الحب العذرية الأسطورية التي لطالما تغنَّى بها العشاق، لكن هل كان جبران عاشقًا مخلصًا لمي؟
في مقدمة كتاب »الشعلة الزرقاء، رسائل جبران خليل جبران إلى مي زيادة«، تظهر تلك الطبيعة المتوترة لهذه العلاقة الغريبة، فبين آمال مي ومراد جبران، كانت هناك مساحةٌ جعلت هذه العلاقة تتصل وتنقطع مراتٍ عدة، فما الذي كانت تحلم به مي؟
تقول مقدمة الكتاب موضحةً أسباب هذا التوتر، »تُرى هل كانت مي تنتظر قدوم جبران إليها، أو دعوته للقائها في أوروبا؟ ما من شكٍّ في أنها كانت راغبةً في لقائه، منتظرةً قدومه بشوقٍ كبير، فطالما دغدغ أحلامها. نقول هذا استنتاجًا؛ لأن معرفتنا بطبيعة المرأة التي تحب، ولا سيما الشرقية المحافظة، تمنعها من المبادرة، وتجعلها تنتظرها من الرجل، أما دليلنا الثاني فهو عزوف مي عن الزواج… لقد عبَّر جبران عن رغبته في السفر إلى القاهرة عدة مرات في رسائله إليها، ولكنه لم يبرح مكانه«.
في موضعٍ آخر، تُوصف مي بأنها »ضحية جبران«؛ فقد »عاش جبران في الغرب كما يروي ميخائيل نعيمة حياةً منطلقة دون أية قيود، فعرف العديد من النساء، وطمح إلى أن يعيش حياةً خيالية مع امرأة شرقية، تغذِّي إبداعه بنبضٍ خاص. كانت هذه الازدواجية تريحه، وربما مصدرَ إلهامٍ له، في حين كانت العلاقة بالنسبة إلى مي حياتها بأكملها، بالرغم من أنها خيالٌ أقرب إلى الحلم… لقد كانت مي ضحيةَ علاقة رسمها الرجل كما يريد له طموحه الإبداعي بغض النظر عما تريده المرأة أو تحلم به«
في الحقيقة أن جبران لم يَعِد ميَّ بالزواج، وهي لم تكن ضحيته بالمعنى المباشر، لتكون امرأةً ما ضحية وعودٍ كاذبةٍ لرجلٍ مخادع، لكنه كان منتفعًا من هذا الإلهام الشاعري لقصة الحب الغريبة تلك، والتي توازيها علاقات نسويةٌ أخرى، بينما كانت مي تعاني شوقًا ومحبةً من نوعٍ آخر، كانا يغذيان إلهامه بتلذذ.
لقد بقي جبران أعزبًا؛ إذ كانت له آراؤه الواضحة في التفريق بين المحبة والزواج؛ يقول جبران »ولدتما معًا، وتظلان معًا. حتى في سكون تذكارات الله، ومعًا حين تبددكما أجنحة الموت البيضاء، ولكن، فليكن بين وجودكم معًا فسحات تفصلكم بعضكم عن بعض، حتى ترقص أرياح السموات بينكم. أحبوا بعضكم بعضًا؛ ولكن لا تقيدوا المحبة بالقيود، بل لتكن المحبة بحرًا متموجًا بين شواطئ نفوسكم، ليملأ كل واحد منكم كأس رفيقه؛ ولكن، لا تشربوا من كأس واحدة».
ولعلَّ هذه الرؤية المتعالية للحب تشبه رؤيته السابقة للفقر، إنها رؤيةُ مرحلة الرفاه، التي يحتاج فيها كأديب إلى ملهم، إلى إبقاء جذوة روحه مشتعلة غير متخمة بالمزيد من الإشباع.
هل كان جبران شاعرًا رومانتيكيًا؟
لابدَّ أن أبرز السمات التي يوصف بها نتاج جبران الأدبي هي صفته الرومانتيكية ذات النزعة الإنسانية المحبة للطبيعة والوجود، والمشرقة بروحٍ إلهيةٍ حاضرةٍ في الذات تمنحها شيئًا من الطهر والقداسة، ولكن الأمر لا يبدو بهذه الصورة بالنسبة للشاعر الباحث خليل حاوي، والذي يرى أن رومانتيكة جبران كانت هروبًا، وتمثِّل مخرجًا وهميًا من واقعٍ عجز عن حل تعقيداته؛ فلا هو استطاع التفهم والتكيُّف، ولا هو استطاع الفعل والتغيير.
وحسب هذه الرؤية لا يكون الجمال الروحي الذي تتردد أصداؤه في »مواكب» جبران ناجمًا عن روحه السامية، بل عن ضعفه في غربةٍ قاسية لم يستطع مواجهتها، فهجرها إلى الغاب ليغنيَ أغانيه ويشدو بأحلامه، فهل يكون أدبه ملاذَ الضعفاء الهاربين؟
هذا هو جبران بتناقضاته، بين طموحاته في استغلال أدبه من أجل الثروة والشهرة وبين مؤلفاته الرومانسية السامية. بين رسائله الغرامية، وما خلَّفه وراءه من عذاب امرأة ارتضت لنفسها هذا العذاب الحر. بين صورته الأصلية كطفلٍ فقير أبوه سكيرٌ مقامر، وبين صورته التي أرادها له طموحه السامي الاستعلائي كابن مرفَّه تأتيه المربية بالهدايا.
ومهما يكن من أمر هذه الروايات، يبقى السؤال عن حق الإنسان في الاستمتاع بالجمال بغض النظر عن مدى إمكانية تحققه في الواقع، أو صدق قائله، هذا الذي يراه البعض حقًا يلوذ به البشر من قسوة العالم ووحشته.